تفسير سورة التحريم

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة التحريم
هذه السورة مدنية، وسبب نزولها ما يأتي ذكره في تفسير أوائلها، والمناسبة بينها وبين السورة قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين، ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سورة التّحريم
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
206
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ، عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي تَفْسِيرِ أَوَائِلِهَا، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السُّورَةِ قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ زَوْجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ هُنَا مَا جَرَى مِنْ بَعْضِ زَوْجَاتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ: نِدَاءُ إِقْبَالٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَنْبِيهٍ بِالصِّفَةِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لِمَ تُحَرِّمُ: سُؤَالُ تَلَطُّفٍ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ قَبْلَهُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «١». وَمَعْنَى تُحَرِّمُ: تَمْنَعُ، وَلَيْسَ التَّحْرِيمُ
(١) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.
207
الْمَشْرُوعُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ لِتَطْيِيبِ خَاطِرِ بَعْضِ مَنْ يُحْسِنُ مَعَهُ الْعِشْرَةَ.
مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ: هُوَ مُبَاشَرَةُ مَارِيَةَ جَارِيَتِهِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألم بِهَا فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَغَارَتْ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَةُ الْبَيْتِ، فَطَيَّبَ خَاطِرَهَا بِامْتِنَاعِهِ مِنْهَا، وَاسْتَكْتَمَهَا ذَلِكَ، فَأَفْشَتْهُ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَسَلٌ كَانَ يَشْرَبُهُ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَكَانَ يَنْتَابُ بَيْتَهَا لِذَلِكَ، فَغَارَ بَعْضُهُنَّ مِنْ دُخُولِهِ بَيْتَ الَّتِي عِنْدَهَا الْعَسَلُ، وَتَوَاصَيْنَ عَلَى أَنْ يَذْكُرْنَ لَهُ عَلَى أَنَّ رَائِحَةَ ذَلِكَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِطَيِّبٍ، فقال: «لا أشربه».
وللزمخشري هُنَا كَلَامٌ أَضْرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا، كَمَا ضَرَبْتُ عَنْ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «١»، وَكَلَامُهُ هَذَا وَنَحْوُهُ مُحَقَّقٌ قَوِيٌّ فِيهِ، وَيَعْزُو إِلَى الْمَعْصُومِ مَا لَيْسَ لَائِقًا.
فَلَوْ حَرَّمَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ، كَشُرْبِ عَسَلٍ، أَوْ وَطْءِ سُرِّيَّةٍ وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوِ الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَلَا يَسْتَثْنِي زَوْجَتَهُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَأَصْبَغُ: هُوَ كَتَحْرِيمِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ. وَقَالَ تَعَالَى:
لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «٢»، وَالزَّوْجَةُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَمِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَزَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ والأوزاعي وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ: هُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس أيضا فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: فِيهِ تَكْفِيرُ يَمِينٍ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَالْكُوفِيُّونَ: هَذَا مَا أَرَادَ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ طَلَاقَهَا فَهُوَ لَا شَيْءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ فَهُوَ يَمِينٌ. وَفِي التَّحْرِيرِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، أَوِ اثْنَيْنِ فَوَاحِدَةٌ، أَوْ ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَيَمِينٌ وَهُوَ مُولٍ، أَوِ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الظِّهَارِ وَيَكُونُ طَلَاقًا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: يَكُونُ، فَإِنِ ارْتَجَعَهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْئُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ فَمَا زَادَ مِنْ أَعْدَادِهِ، فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَرَجْعِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ وَأَبُو ثَوْرٍ: أَيْ أَيُّ شَيْءٍ نَوَى بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، فَقَالَ سُفْيَانُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَهُ نِيَّتُهُ وَلَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَا شَيْءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَعُثْمَانُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: التَّحْرِيمُ ظِهَارٌ، فَفِيهِ كَفَّارَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ نَوَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَظَهْرِ أُمِّهِ، فَظِهَارٌ أَوْ تَحْرِيمٌ عَيَّنَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، أَوْ لَمْ يَنْوِ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ ثَلَاثٌ في
(١) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٨٧.
208
الْمَدْخُولِ بِهَا، وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، فَهُوَ مَا أَرَادَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. وَقَالَهُ عَلِيٌّ
وَزَيْدٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقِيلَ: فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ
أيضا وزيد بْنُ أَسْلَمَ وَالْحَكَمُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: هِيَ ثَلَاثٌ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا يَنْوِي فِي شَيْءٍ. وَرَوَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنْ مَالِكٌ، وَقَالَهُ زَيْدٌ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ:
هِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا وَاحِدَةٌ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثٌ. وَفِي الْكَشَّافِ لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ يَمِينًا، وَلَكِنْ سَبَبًا فِي الْكَفَّارَةِ فِي النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ. وَعَنْ عُمَرَ: إِذَا نَوَى الطَّلَاقَ فَرَجْعِيٌّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: ثَلَاثٌ
وَعَنْ زَيْدٍ: وَاحِدَةٌ وعن عثمان: ظهارا. انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا: وَلَمْ يَثْبُتْ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمَا أَحَلَّهُ: «هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ»
، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ مَارِيَةَ لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: «وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا بَعْدَ الْيَوْمِ»
، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ: أَيْ لِمَ تَمْتَنِعُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ؟ يَعْنِي أَقْدِمْ عَلَى مَا حَلَفْتَ عَلَيْهِ وَكَفِّرْ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ «١» : أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْهَا. انْتَهَى. وتَبْتَغِي: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَالَ الزمخشري تفسير لتحرم، أو استئناف، مَرْضاتَ: رِضَا أَزْوَاجِكَ، أَيْ بِالِامْتِنَاعِ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْءِ مَارِيَةَ، أَوْ مِنْ شُرْبِ ذَلِكَ الْعَسَلِ، عَلَى الْخِلَافِ فِي السَّبَبِ، وفرض إِحَالَةٌ عَلَى آيَةِ الْعُقُودِ، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيمان. وتحلة: مَصْدَرُ حَلَّلَ، كَتَكْرِمَةٍ مِنْ كَرَّمَ، وَلَيْسَ مَصْدَرًا مَقِيسًا، وَالْمَقِيسُ: التَّحْلِيلُ وَالتَّكْرِيمُ، لِأَنَّ قِيَاسَ فِعْلِ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ غَيْرِ الْمَهْمُوزِ هُوَ التَّفْعِيلُ، وَأَصْلُ هَذَا تَحْلِلَةٌ فَأُدْغِمَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَعْتَقَ رَقَبَةً فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَمْ يُكَفِّرْ. انْتَهَى. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثم يمين. وبَعْضِ أَزْواجِهِ: حَفْصَةُ، وَالْحَدِيثُ هُوَ بِسَبَبِ مَارِيَةَ. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ: أَيْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ.
وَقِيلَ: الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ: «شَرِبْتُ عَسَلًا».
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: هُوَ إِسْرَارُهُ إِلَى حَفْصَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْلِكَانِ إِمْرَتِي مِنْ بَعْدِي خِلَافَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وطلحة: أَنْبَأَتْ، وَالْعَامِلُ فِي إِذَا: اذْكُرْ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْنِيبِ لِمَنْ أَسَرَّ لَهُ فَأَفْشَاهُ. وَنَبَّأَ وَأَنْبَأَ، الْأَصْلُ أَنْ يَتَعَدَّيَا إِلَى وَاحِدٍ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى ثَانٍ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ فَتَقُولُ: نَبَّأَتْ بِهِ، الْمَفْعُولُ الأول
(١) سورة القصص: ٢٨/ ١٢.
209
محذوف، أي غيرها. ومَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا: أَيْ بِهَذَا، قالَ نَبَّأَنِيَ أَيْ نَبَّأَنِي بِهِ أَوْ نَبَّأَنِيهِ، فَإِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى أَعْلَمَ، تَعَدَّتْ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
نُبِّئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا تُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: أَيْ أَطْلَعَهُ، أَيْ عَلَى إِفْشَائِهِ، وَكَانَ قَدْ تُكُوتِمَ فِيهِ، وَذَلِكَ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجَاءَتِ الْكِنَايَةُ هُنَا عَنِ التَّفْشِيَةِ وَالْحَذْفِ لِلْمُفْشَى إِلَيْهَا بِالسِّرِّ، حِيَاطَةً وَصَوْنًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ غَرَضٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
عَرَّفَ بِشَدِّ الرَّاءِ، وَالْمَعْنَى: أَعْلَمَ بِهِ وَأَنَّبَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وقتادة وطلحة وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ هَارُونَ عَنْهُ: بِخَفِّ الرَّاءِ، أَيْ جَازَى بِالْعَتَبِ وَاللَّوْمِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُؤْذِيكَ: لَأَعْرِفَنَّ لَكَ ذَلِكَ، أَيْ لَأُجَازِيَنَّكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَأُمِرَ بِمُرَاجَعَتِهَا. وَقِيلَ: عَاتَبَهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا. وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةُ: عَرَّافٌ بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَهِيَ إِشْبَاعٌ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: وَيُقَالُ إِنَّهَا لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، وَمِثَالُهَا قَوْلُهُ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ الشَّائِلَاتِ عُقَدَ الْأَذْنَابِ
يُرِيدُ: مِنَ الْعَقْرَبِ. وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ: أَيْ تَكَرُّمًا وَحَيَاءً وَحُسْنَ عِشْرَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ. وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا زَالَ التَّغَافُلُ مِنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، وَمَفْعُولُ عَرَّفَ الْمُشَدَّدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَرَّفَهَا بَعْضَهُ، أَيْ أَعْلَمَ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ: الْمُعَرَّفُ خِلَافَةُ الشَّيْخَيْنِ، وَالَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ حَدِيثُ مَارِيَةَ.
وَلَمَّا أفشت حفصة الحديث لعائشة وَاكْتَتَمَتْهَا إِيَّاهُ، وَنَبَّأَهَا الرَّسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، ظَنَّتْ أَنَّ عَائِشَةَ فَضَحَتْهَا فَقَالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّثَبُّتِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي نَبَّأَهُ بِهِ، فَسَكَنَتْ وَسَلَّمَتْ.
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ: انْتِقَالٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَيُسَمَّى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة. فَقَدْ صَغَتْ: مَالَتْ عَنِ الصَّوَابِ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: رَاغَتْ، وَأَتَى بِالْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ:
قُلُوبُكُما، وَحَسَّنَ ذَلِكَ إِضَافَتُهُ إِلَى مُثَنَّى، وَهُوَ ضَمِيرَاهُمَا، وَالْجَمْعُ فِي مِثْلِ هَذَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْمُثَنَّى، وَالتَّثْنِيَةُ دُونَ الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوَافِذَ كَنَوَافِذِ الْعُبُطِ الَّتِي لَا تُرْفَعُ
وَهَذَا كَانَ الْقِيَاسَ، وَذَلِكَ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْمُثَنَّى عَنِ الْمُثَنَّى، لَكِنْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ تَثْنِيَتَيْنِ فَعَدَلُوا إِلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْإِفْرَادُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ:
210
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ: بَطْنَيِ. وَغَلِطَ ابْنُ مَالِكٍ فَقَالَ فِي كِتَابِ التَّسْهِيلِ: وَنَخْتَارُ لَفْظَ الْإِفْرَادُ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَظَّاهَرَا بِشَدِّ الظَّاءِ، وَأَصْلُهُ تَتَظَاهَرَا، وَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ، وَبِالْأَصْلِ قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَبِتَخْفِيفِ الظَّاءِ قَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَعَاصِمٌ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ، وَبِشَدِّ الظَّاءِ وَالْهَاءِ دُونَ أَلِفٍ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ، وَالْمَعْنَى: وَأَنْ تَتَعَاوَنَا عَلَيْهِ فِي إِفْشَاءِ سِرِّهِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْغَيْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ: أَيْ مُظَاهِرُهُ وَمُعِينُهُ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: مَوْلاهُ. وَيَكُونُ وَجِبْرِيلُ مُبْتَدَأً، وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَالْخَبَرُ ظَهِيرٌ. فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْجُمْلَةِ بِجِبْرِيلَ، وَهُوَ أَمِينُ وَحْيِ الله واختتامه بالملائكة. وبدى بِجِبْرِيلَ، وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِظْهَارًا لِمَكَانَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ. وَيَكُونُ قَدْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِالنَّصِّ وَمَرَّةً فِي الْعُمُومِ. وَاكْتَنَفَ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ جِبْرِيلَ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَاعْتِنَاءً بِهِمْ، إِذْ جَعَلَهُمْ بَيْنَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. فَعَلَى هَذَا جِبْرِيلُ دَاخِلٌ فِي الظُّهَرَاءِ لَا فِي الْوِلَايَةِ، وَيَخْتَصُّ الرَّسُولُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، فَيَدْخُلَانِ فِي الْوَلَايَةِ، وَيَكُونُ وَالْمَلائِكَةُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ ظَهِيرٌ، فَيَكُونُ جِبْرِيلُ دَاخِلًا فِي الْوَلَايَةِ بِالنَّصِّ، وَفِي الظُّهَرَاءِ بِالْعُمُومِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْمَلُ كُلَّ صَالِحٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْعَلَاءُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَتَكُونُ مُظَاهَرَتُهُمْ لَهُ كَوْنَهُمْ قُدْوَةً، فَهُمْ ظُهَرَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ،
وزاد مجاهد: وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَقِيلَ: الصَّحَابَةُ.
وَقِيلَ: الْخُلَفَاءُ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ برىء من النفاق، وصالح يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فَيَكُونُ كَالسَّامِرِ فِي قَوْلِهِ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً «١»، أَيْ سُمَّارًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا حُذِفَتْ مِنْهُ الْوَاوُ خَطَأً لِحَذْفِهَا لَفْظًا، كَقَوْلِهِ: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «٢»، وَأَفْرَدَ الظَّهِيرَ لِأَنَّ الْمُرَادَ فَوْجٌ ظَهِيرٌ، وكَثِيرًا مَا يَأْتِي فَعِيلٌ نَحْوَ: هَذَا لِلْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظٍ الْمُفْرَدِ، كَأَنَّهُمْ فِي الْمُظَاهَرَةِ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَمَا قَدْرُ تَظَاهُرِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى مَنْ هَؤُلَاءِ ظُهَرَاؤُهُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَظَاهُرِهِمَا، أَوْ إِلَى الْوِلَايَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تكثرت بِأَمْرِ نِسَائِكَ، وَاللَّهُ مَعَكَ، وجبريل مَعَكَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَأَنَا مَعَكَ، فَنَزَلَتْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِزَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الْآيَةِ، فَنَزَلَتْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: طَلَّقَكُنَّ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ ابْنِ
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٦٧.
(٢) سورة العلق: ٩٦/ ١٨.
211
عَبَّاسٍ: بِإِدْغَامِهَا فِي الْكَافِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي أَنْ يُبْدِلَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُتَبَدَّلُ بِهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ، لِأَنَّهُنَّ إِذَا طَلَّقَهُنَّ كَانَ طَلَاقُهُنَّ لِسُوءِ عِشْرَتِهِنَّ، وَاللَّوَاتِي يُبَدِّلُهُنَّ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ. وَبَدَأَ فِي وَصْفِهِنَّ بِالْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ ثُمَّ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ ثُمَّ بِالْقُنُوتِ، وَهُوَ الطَّوَاعِيَةُ ثُمَّ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ ثُمَّ بِالْعِبَادَةِ، وَهِيَ التَّلَذُّذُ ثُمَّ بِالسِّيَاحَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّوْمِ، قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ أَيْضًا الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ الفراء والقتيبي:
سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا لِأَنَّ السَّائِحَ لَا زَادَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْ حَيْثُ يَجِدُ الطَّعَامَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَيَمَانٌ: مُهَاجِرَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ سِيَاحَةٌ إِلَّا الْهِجْرَةَ.
وَقِيلَ: ذَاهِبَاتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سائحات، وعمرو بْنُ فَائِدٍ: سَيَّحَاتٍ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ تَجْتَمِعُ، وَأَمَّا الثُّيُوبَةُ وَالْبَكَارَةُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، فَلِذَلِكَ عُطِفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاوِ لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى. وَذَكَرَ الْجِنْسَيْنِ لِأَنَّ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَزَوَّجَهَا بِكْرًا، وَالثَّيِّبُ: الرَّاجِعُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ، يُقَالُ: ثَابَتْ تَثُوبُ ثُوُوبًا، وَوَزْنُهُ فَعْيِلٌ كَسَيِّدٍ.
وَلَمَّا وَعَظَ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً خَاصَّةً، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَوْعِظَةٍ عَامَّةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِيهِمْ، وَعَطَفَ وَأَهْلِيكُمْ عَلَى أَنْفُسَكُمْ، لِأَنَّ رَبَّ المنزل راع وهو مسؤول عَنْ أَهْلِهِ. وَمَعْنَى وِقَايَتِهِمْ: حَمْلُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِلْزَامُهُمْ أَدَاءَ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَقِي أَنْفُسَنَا، فَكَيْفَ لَنَا بِأَهْلِينَا؟ قَالَ: «تَنْهَوْنَهُنَّ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَتَأْمُرُونَهُنَّ بِمَا أَمَرَكُمُ الله به، فتكون ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّارِ»
، وَدَخَلَ الْأَوْلَادُ فِي وَأَهْلِيكُمْ. وَقِيلَ: دَخَلُوا فِي أَنْفُسَكُمْ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْضٌ مِنْ أَبِيهِ، فَيُعَلِّمُهُ الْحَلَالَ والحرام ويجنبه المعاصي. وقرىء: وَأَهْلُوكُمْ بِالْوَاوِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قُوا وَحَسُنَ الْعَطْفُ لِلْفَصْلِ بِالْمَفْعُولِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ التَّقْدِيرُ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَلْيَقِ أَهْلُوكُمْ أَنْفُسَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنَّ الْمَعْطُوفَ مُقَارِنٌ في التقدير للواو وأنفسكم وَاقِعٌ بَعْدَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُوا أَنْتُمْ وَأَهْلُوكُمْ أَنْفُسَكُمْ. لَمَّا جُمِعَتْ مَعَ الْمُخَاطَبِ الْغَائِبِ غَلَبَتْهُ عَلَيْهِ. فَجَعَلَتْ ضَمِيرَهُمَا مَعًا عَلَى لَفْظِ المخاطب. انتهى. وناقض فِي قَوْلِهِ هَذَا لِأَنَّهُ قَدَّرَ وَلْيَقِ أَهْلُوكُمْ فَجَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، لِأَنَّ أهلوكم اسم ظاهرة لَا يُمْكِنُ عِنْدَهُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِفِعْلِ الْأَمْرِ الَّذِي لِلْمُخَاطَبِ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ «١»، ثم قال:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٥. [.....]
212
وَلَكِنَّ الْمَعْطُوفَ مُقَارِنٌ فِي التقدير للواو، فناقض لِأَنَّهُ فِي هَذَا جَعَلَهُ مُقَارِنًا فِي التَّقْدِيرِ لِلْوَاوِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ رَفَعَهُ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ الرَّافِعِ لِلْوَاوِ وهو وليق، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي فَتْحِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَقُودُهَا وَضَمِّهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَتَفْسِيرُ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فِي الْبَقَرَةِ عَلَيْها مَلائِكَةٌ: هِيَ الزَّبَانِيَةُ التِسْعَةَ عَشَرَ وَأَعْوَانُهُمْ. وَوَصَفَهُمْ بِالْغِلَظِ، إِمَّا لِشِدَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّتِهَا، وَإِمَّا لِفَظَاظَتِهِمْ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ «١»، أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ رِقَّةٌ وَلَا حِنَّةٌ عَلَى الْعُصَاةِ. وَانْتَصَبَ مَا أَمَرَهُمْ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ لَا يَعْصُونَ أَمْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي «٢»، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. أَيْ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. قِيلَ: كَرَّرَ الْمَعْنَى تَوْكِيدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَلَيْسَ الْجُمْلَتَانِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لَا فَإِنَّ مَعْنَى الْأُولَى: أَنَّهُمْ يَتَقَبَّلُونَ أَوَامِرَهُ وَيَلْتَزِمُونَهَا وَلَا يَأْبَوْنَهَا وَلَا يُنْكِرُونَهَا، ومعنى الثانية: أنهم يودون مَا يُؤْمَرُونَ، لَا يَتَثَاقَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَتَوَانُونَ فِيهِ.
لَا تَعْتَذِرُوا: خِطَابٌ لَهُمْ عند دخولهم المنار، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمُ الِاعْتِذَارُ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ.
ذَكَرُوا فِي النَّصُوحِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ قَوْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ وَمُعَاذٍ
أَنَّهَا الَّتِي لَا عَوْدَةَ بَعْدَهَا، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، وَرَفَعَهُ مُعَاذٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَصُوحاً بِفَتْحِ النُّونِ، وَصْفًا لِتَوْبَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَضَرُوبٍ وَقَتُولٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَعِيسَى وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وخارجة عَنْ نَافِعٍ: بِضَمِّهَا، هُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَوَصَفَهَا بِالنُّصْحِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ النُّصْحُ صِفَةُ التَّائِبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْصَحَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، فَيَأْتِي بِهَا عَلَى طَرِيقِهَا، وَهِيَ خُلُوصُهَا مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ الْمُفْسِدَةِ لَهَا، من
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٥٩.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٩٣.
213
قَوْلِهِمْ: عَسَلٌ نَاصِحٌ، أَيْ خَالِصٌ مِنَ الشَّمْعِ، أَوْ مِنَ النَّصَاحَةِ وَهِيَ الْخِيَاطَةُ، أَيْ قَدْ أَحْكَمَهَا وَأَوْثَقَهَا، كَمَا يُحْكِمُ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ بِخِيَاطَتِهِ وَتَوْثِيقِهِ.
وَسَمِعَ عَلِيٌّ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا هَذَا إِنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالتَّوْبَةِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، قَالَ: وَمَا التَّوْبَةُ؟ قَالَ: يَجْمَعُهَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ: عَلَى الْمَاضِي مِنَ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ، وَعَلَى الْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ، وَأَنْ يَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا يعودوا، وَأَنْ تُدْئِبَ نَفْسَكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَدْأَبْتَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي
، وَعَنْ حُذَيْفَةَ: بِحَسْبِ الرَّجُلِ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ يَعُودَ فِيهِ. انْتَهَى. ونصوحا مِنْ نَصَحَ، فَاحْتَمَلَ- وَهُوَ الظَّاهِرُ- أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ تَنْصَحُ نَفْسَ التَّائِبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ النُّصْحِ النَّاسَ، أَيْ يَدْعُوهُمْ إِلَى مِثْلِهَا لِظُهُورِ أَمْرِهَا عَلَى صَاحِبِهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَوْبًا بِغَيْرِ تَاءٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وُصِفَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ تُوبُوا لِنُصْحِ أَنْفُسِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَيُدْخِلَكُمْ عَطْفًا عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ عَسَى أَنْ يُكَفِّرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تُوبُوا يُوجِبْ تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ. انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَذْفُ الْحَرَكَةِ تَخْفِيفًا وَتَشْبِيهًا لِمَا هُوَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، تَقُولُ فِي قَمَعٍ وَنَطَعٍ: قَمْعٍ وَنَطْعٍ.
يَوْمَ لَا يُخْزِي منصوب يُدْخِلَكُمْ، وَلَا يُخْزِي تَعْرِيضٌ بِمَنْ أَخْزَاهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ محمد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَمْرِ أُمَّتِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إِلَيْكَ، فَقَالَ: «يَا رَبِّ أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ»، فَقَالَ تَعَالَى: إِذًا لَا أُخْزِيكَ فِيهِمْ.
وَجَازَ أَنْ يَكُونَ: وَالَّذِينَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّبِيَّ، فَيَدْخُلُونَ فِي انْتِفَاءِ الْخِزْيِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ. وَقَرَأَ سَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَأَبُو حَيْوَةَ: وَبِإِيمَانِهِمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ. يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: يَقُولُونَ ذَلِكَ إذا طفىء نُورُ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَدْعُونَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «١»، وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ زَحْفًا وَحَبْوًا. وَقِيلَ: يَقُولُهُ مَنْ يُعْطَى مِنَ النُّورِ مِقْدَارَ مَا يُبْصِرُ بِهِ موضع قدميه. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: تَقَدَّمَ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّوْبَةِ.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٩.
214
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا: ضَرَبَ تَعَالَى الْمَثَلَ لَهُمْ بِامْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فِي أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ لُحْمَةُ نَسَبٍ وَلَا وَصْلَةُ صِهْرٍ، إِذِ الْكُفْرُ قَاطِعُ الْعَلَائِقِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ فِي أَقْصَى دَرَجَاتِ الْعُلَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ «١» ؟ كَمَا لَمْ يَنْفَعْ تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ كَوْنُهُمَا زَوْجَتَيْ نَبِيَّيْنِ.
وَجَاءَتِ الْكِنَايَةُ عَنِ اسْمِهِمَا الْعَلَمَيْنِ بِقَوْلِهِ: عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِالضَّمِيرِ عَنْهُمَا، فَيَكُونُ تَحْتَهُمَا لِمَا قَصَدَ مِنْ ذِكْرِ وَصْفِهِمَا بِقَوْلِهِ: صالِحَيْنِ، لِأَنَّ الصَّلَاحَ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ مَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»
، وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «٣»، وَقَوْلِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «٤». فَخانَتاهُما، وَذَلِكَ بِكُفْرِهِمَا وَقَوْلِ امْرَأَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هُوَ مَجْنُونٌ، وَنَمِيمَةِ امْرَأَةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَضْيَافِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ: لَمْ تَزْنِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَا ابْتُلِيَ فِي نِسَائِهِ بِالزِّنَا. قَالَ فِي التَّحْرِيرِ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي كِتَابِ النَّقَّاشِ: فَخَانَتَاهُمَا بِالْكُفْرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِيَانَةِ الْفُجُورُ، لِأَنَّهُ سَمِجٌ فِي الطِّبَاعِ نَقِيصَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ يَسْتَسْمِجُونَهُ وَيُسَمُّونَهُ حَقًّا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَانَتَاهُمَا بِالنَّمِيمَةِ، كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ أَفْشَتَاهُ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: خَانَتَاهُمَا بِنِفَاقِهِمَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُ امْرَأَةِ نُوحٍ وَالِهَةُ، وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِعَةُ. فَلَمْ يُغْنِيا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَالْأَلِفُ ضمير نوح ولوط: أَيْ عَلَى قُرْبِهِمَا مِنْهُمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْخِيَانَةُ. وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ: أَيْ وَقْتَ مَوْتِهِمَا، أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الدَّاخِلِينَ:
الَّذِينَ لَا وَصْلَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ مَعَ مَنْ دَخَلَهَا مِنْ إِخْوَانِكُمَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ. وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: تُغْنِيَا بِالتَّاءِ، وَالْأَلِفُ ضَمِيرُ الْمَرْأَتَيْنِ، وَمَعْنَى عَنْهُما: عَنْ أَنْفُسِهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْمُضَافِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ عَنْ اسْمًا، كَهِيَ فِي: دَعْ عَنْكَ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَرْفًا، كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَجْرُورِ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ: مَثَّلَ تَعَالَى حَالَ المؤمنين في أن
(١) سورة هود: ١١/ ٤٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ١٠١.
(٤) سورة النمل: ٢٧/ ١٩.
215
وَصْلَةَ الْكُفَّارِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِهِمْ بِحَالِ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَاسْمُهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَلَمْ يَضُرَّهَا كَوْنُهَا كَانَتْ تَحْتَ فِرْعَوْنَ عَدُوِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ، بَلْ نَجَّاهَا مِنْهُ إِيمَانُهَا وَبِحَالِ مَرْيَمَ، إِذْ أُوتِيَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالِاصْطِفَاءِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، مَعَ أَنَّ قَوْمَهَا كَانُوا كُفَّارًا. إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهَا وَتَصْدِيقِهَا بِالْبَعْثِ. قِيلَ: كَانَتْ عَمَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَآمَنَتْ حِينَ سَمِعَتْ بِتَلَقُّفِ عَصَاهُ مَا أَفِكَ السَّحَرَةُ. طَلَبَتْ مِنْ رَبِّهَا الْقُرْبَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَهَمَّ عِنْدَهَا، فَقَدَّمَتِ الظَّرْفَ، وَهُوَ عِنْدَكَ بَيْتاً، ثُمَّ بَيَّنَتْ مَكَانَ الْقُرْبِ فَقَالَتْ: فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: وقد سئل: ابن فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: الْجَارُ قَبْلَ الدَّارِ، قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، فعندك هو المجاورة، وبيتا فِي الْجَنَّةِ هُوَ الدَّارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَكَ عَلَى قَوْلِهِ: بَيْتاً. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ، قِيلَ: دَعَتْ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ حِينَ أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِتَعْذِيبِهَا لَمَّا عَرَفَ إِيمَانَهَا بموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مُضْطَرِبَةً فِي تَعْذِيبِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصًّا أَنَّهَا عُذِّبَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا دَعَتْ بِالنَّجَاةِ، نَجَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمَ نَجَاةٍ، فَرَفَعَهَا إِلَى الْجَنَّةِ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَتَنَعَّمُ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَتْ: ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، أُرِيَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ يُبْنَى، وَعَمَلِهِ، قِيلَ:
كُفْرِهِ. وَقِيلَ: عَذَابِهِ وَظُلْمِهِ وَشَمَاتَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِمَاعُ. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَ: أَهْلُ مِصْرَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْقِبْطُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمِحَنِ وَسُؤَالِ الْخَلَاصِ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ.
وَمَرْيَمَ: مَعْطُوفٌ عَلَى امْرَأَةِ فرعون، ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ فِي سُورَةُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ابنت بفتح التاء وأيوب السَّخْتِيَانِيُّ: ابْنَهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَصْلًا أَجْرَاهُ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَفَخْنا فِيهِ: أَيْ فِي الْفَرْجِ وَعَبْدُ اللَّهِ: فِيهَا، كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ فِي الْجُمْلَةِ. وَجَمَعَ تَعَالَى فِي التَّمْثِيلِ بَيْنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ وَالَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا تَسْلِيَةً لِلْأَرَامِلِ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَدَّقَتْ بشد الدال ويعقوب وَأَبُو مِجْلَزٍ وَقَتَادَةُ وَعِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ: بِخَفِّهَا، أَيْ كَانَتْ صَادِقَةً بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ مِنْ أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَلِمَاتِهِ جَمْعًا، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الصُّحُفَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَسَمَّاهَا كَلِمَاتٍ لِقِصَرِهَا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِكُتُبِهِ: الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ وَغَيْرَهُمْ،
216
وَبِكُتُبِهِ: جَمِيعُ مَا يُكْتَبُ فِي اللَّوْحِ وَغَيْرِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ: مَا صَدَرَ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: بِكَلِمَةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عِيسَى، لِأَنَّهُ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفَصٌ: وَكُتُبِهِ جَمْعًا، وَرَوَاهُ كَذَلِكَ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَكِتَابِهِ عَلَى الْإِفْرَادِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِنْجِيلُ لَا سِيَّمَا إِنْ فُسِّرَتِ الكلمة بعيسى. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: وَكَتْبِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِسُكُونِ التَّاءِ وَكُتْبِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ أَبُو رَجَاءٍ: وَكَتْبِهِ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الاسم. قال سهل: وكتبه أَجْمَعُ مِنْ كِتَابِهِ، لِأَنَّ فِيهِ وَضْعَ الْمُضَافِ مَوْضِعَ الْجِنْسِ، فَالْكُتُبُ عَامٌّ، وَالْكِتَابُ هُوَ الْإِنْجِيلُ فَقَطْ. انْتَهَى.
وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ: غَلَّبَ الذُّكُورِيَّةَ عَلَى التَّأْنِيثِ، وَالْقَانِتِينَ شامل للذكور والإناث، ومن لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ عَلَى أَنَّهَا وُلِدَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَعْقَابِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ يُحَذِّرُ بِهِ عائشة وحفصة مِنَ الْمُخَالَفَةِ حِينَ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلًا بِامْرَأَةِ فرعون ومريم ابنة عِمْرَانَ تَرْغِيبًا فِي التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَاتِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ. انْتَهَى. وَأَخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَ ابْنِ سَلَّامٍ هَذَا وَحَسَّنَهُ وَزَمَكَهُ بِفَصَاحَةٍ فَقَالَ: وَفِي طَيِّ هَذَيْنِ التَّمْثِيلَيْنِ تَعْرِيضٌ بِأُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا فَرَطَ مِنْهُمَا مِنَ التَّظَاهُرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَرِهَهُ، وَتَحْذِيرٌ لَهُمَا عَلَى أَغْلَظِ وَجْهٍ وَأَشَدِّهِ لِمَا فِي التَّمْثِيلِ مِنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ. وَمِنَ التَّغْلِيظِ قَوْلُهُ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «١»، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِمَا أَنْ يَكُونَا فِي الْإِخْلَاصِ وَالْكِتْمَانِ فِيهِ كَمِثْلِ هَاتَيْنِ الْمُؤْمِنَتَيْنِ، وَأَنْ لَا يُشْكِلَا عَلَى أَنَّهُمَا زَوْجَتَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ لَا يَنْقُصُهُمَا إِلَّا مَعَ كونهما مخلصين. والتعريض بحفصة أرج، لِأَنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ أَفْشَتْ عَلَيْهِ كَمَا أَفْشَتْ حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ وَرُمُوزُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بَالِغَةٌ مِنَ اللُّطْفِ وَالْخَفَاءِ حدًّا يَدِقُّ عَنْ تَفَطُّنِ الْعَالِمِ وَيَزِلُّ عَنْ تَبَصُّرِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ فِي الْمَثَلَيْنِ عِبْرَةً لِزَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَقَدَّمَ عِتَابُهُنَّ، وَفِي هَذَا بُعْدٌ، لِأَنَّ النَّصَّ أَنَّهُ لِلْكُفَّارِ يُبْعِدُ هَذَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(١) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ٩٧.
217
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).