تفسير سورة التحريم

تفسير السمرقندي

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي.
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة التحريم مدنية وهي اثنتا عشرة آية.

سورة التحريم
وهي اثنتا عشرة آية مدنية
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خلا في يوم لعائشة- رضي الله عنها- مع جاريته مارية القبطية، فوقعت حفصة على ذلك، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تُعْلِمِي عَائِشَةَ» وحرم مارية على نفسه، فأخبرت حفصة عائشة بذلك، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، فطلق النبيّ صلّى الله عليه وسلم حفصة، فأمر الله تعالى رسوله بكفارة اليمين، لتحريم جاريته على نفسه، وأمره بأن يراجع حفصة، فقال له جبريل: راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، ونزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يعني: مارية تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ يعني: تطلب رضا زوجتك عائشة. وَاللَّهُ غَفُورٌ فيما حرم على نفسه.
ويقال: غفور لذنب حفصة. رَحِيمٌ حيث لم يعاقبها.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ يعني: بيَّن الله لكم كفارة أيمانكم. ويقال: أوجب الله عليكم كفارة أيمانكم. وفي الآية وجه آخر روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب الحلو والعسل، وكان إذا صلى العصر، دار على نسائه، فيدنو منهن فدخل على حفصة، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عائشة عن ذلك، فقيل لها: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منه. فقالت: أما والله لنحتالن. فذكرت ذلك لسودة، وقالت: إذا دخل فإنه سيدنو منك، فقولي له: أكلت المغافير؟ فإنه سيقول لك: لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشتد عليه إذا وجد منه الريح، فإنه سيقول لك: حفصة سقتني شربة عسل.
فقولي له: جرست نحلة العُرْفُط يعني: أن تلك النحلة أكلت العرفط، وهو نبات به رائحة منكرة. وسأقول له ذلك، وقولي له أنت يا صفية. فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سودة، قالت
سودة: لقد كدت أن أناديه وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا مني، قلت: أكلت المغافير؟
قال: لا، قالت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قلت: جرست نحلة العرفط. فلما دخل على صفية، قالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة، قالت له: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به.
وروى ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة، فقالت له: إني أجد منك ريحاً. ثم دخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحاً. قال: أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ يعني: أوجب عليكم كفارة أيمانكم. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ يعني: ناصركم وحافظكم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما قالت حفصة لعائشة في أمر مارية. الْحَكِيمُ حكم بكفارة اليمين.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٣ الى ٤]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
ثم قال عز وجل: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ يعني: أخفى النبي إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني: كلاماً. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ يعني: أخبرت بذلك الخبر حفصة عائشة، وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني: أظهر الله قولها لرسوله صلّى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم حفصة، فأخبرها ببعض ما أخبرت عائشة، ولم يخبرها عن الجميع، فذلك قوله: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ يعني:
سكت عن بعض. ومن هذا قيل: إن الكريم لا يبالغ في العتاب. قرأ الكسائي: عَرَّفَ بالتخفيف يعني: جازاها ببعضه، والباقون عَرَّفَ بالتشديد يعني: عرف حفصة. فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ
يعني: لما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك الخبر حفصة، قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا يعني: من أخبرك بهذا. قالَ نَبَّأَنِيَ يعني: أخبرني الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.
قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ يعني: عائشة وحفصة، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما يعني:
مالت قلوبكما عن الحق. وذكر عن الفراء أنه قال: معناه إن لا تتوبا إلى الله، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما عن الحق، ويقال: فيه مضمر، ومعناه: إن تتوبا إلى الله يقبل الله توبتكما، ويقال معناه إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما يعني: مالت إلى الحق. وروى الزهري، عن
467
عبد الله بن عباس قال: كنت مع عمر- رضي الله عنه- حين حج، فلما كنا في بعض الطريق، نزل في موضع، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ؟ فقال عمر- رضي الله عنه- وا عجبا لك يا ابن عباس. قال الزهري: كأنه كره ما سأله عنه، ولم يكتمه. قال: هي حفصة وعائشة- رضي الله عنهما- ثم قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفقن نساؤنا يتعلمن من نسائهم.
فغضبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني. فأنكرت أن تراجعني، فقالت ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم لتراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فدخل على حفصة، فذكرت لها، فقالت: نعم. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تسأليه شيئاً، واسأليني ما بدا لك.
قال: كان لي جار من الأنصار يأتيني بخبر الوحي، وأتاه بمثل ذلك. قال: فأتاني يوماً فناداني، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: ماذا؟ قال: طلق النبيّ صلّى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت. فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري، هو ذا معتزلاً في هذه المشربة. فأتيته، فدخلت فسلمت عليه، فإذا هو متكئ على رمل حصير. قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا.
فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن. فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أقسم أن لا يدخل شهراً عليهن، حتى نزل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إلى قوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.
ثم قال: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ يعني: تعاونا على أذاه ومعصيته، فيكون مثلكما كمثل امرأة نوح وامرأة لوط، تعملان عملاً تؤذيان بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي تظاهر بالتخفيف، وقرأ نافع وأبو عمرو بالتشديد، وكذلك ابن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين، لأن أصله تتظاهر. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ يعني: وليه وناصره. وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحابه- رضي الله عنهم- قال: حدثنا الفقيه ابن جعفر قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن حمدان قال: حدثنا أحمد بن جرير قال: حدثنا سعيد بن هشام قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، عن محمد بن أبان، عن عبد الله بن عثمان، عن عكرمة في قوله: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال أبو بكر، وعمر- رضي الله عنهما- قال عبد الله: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، قال: صدق عكرمة. ويقال: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ يعني: خيار أصحابه. ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ يعني: الملائكة أيضاً أنصار النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك يعني: مع ذلك أعوان النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
468

[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٥ الى ٨]

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
ثم قال: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ، فخوفهن الله تعالى بفراق النبيّ صلّى الله عليه وسلم إياهن، وعسى من الله واجب إِنْ طَلَّقَكُنَّ عسى ربه أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً. قرأ نافع، وأبو عمرو يُبْدِلَهُ بتشديد الدال، والباقون بالتخفيف ومعناهما واحد. يقال: بدَّل وأبدل. خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ يعني:
مستسلمات لأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ويقال: يعني: معينات. ثم قال: مُؤْمِناتٍ يعني: مصدقات في إيمانهن، قانِتاتٍ يعني: مطيعات لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، تائِباتٍ يعني: راجعات عن الذنوب، عابِداتٍ يعني: موحدات مطيعات، سائِحاتٍ يعني: صائمات. وقال أهل اللغة: إنما سمي الصائم سائحاً، لأن الذي يسيح للعبادة لا زاد معه، يمضي نهاره لا يطعم شيئاً ولذلك سمي الصائم سائحاً، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً. الثيبات: جمع الثيب والأبكار: جمع البكر. وهن العذارى. ويقال: هذا وعد من الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم بأن يزوجه في الجنة، والثيب: هي آسية امرأة فرعون، والبكر: هي مريم أم عيسى- عليه السلام- وهي ابنة عمران تكون وليته في الجنة، ويجتمع عليها أهل الجنة فيزوج الله تعالى هاتين المرأتين محمدا صلّى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: بعدوا أنفسكم عن النار بطاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وَأَهْلِيكُمْ يعني: أهليكم نَارًا بتعليمهم ما ينجيهم منها. وقال قتادة:
مروهم بطاعة الله تعالى، وانهوهم عن معصية الله. وقال مجاهد: يعني: أوصوا أهليكم بتقوى الله ويقال: أدبوهم وعلموهم خيراً، تقوهم بذلك ناراً وَقُودُهَا يعني: حطبها. والوقود: ما توقد به النار يعني: حطبها النَّاسُ إذا صاروا إليها وحطبها، وَالْحِجارَةُ قبل أن يصير الناس إليها، وهي حجارة الكبريت.
ثم قال: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ يعني: على النار ملائكة موكلين غلاظ يعني:
أقوياء يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ يعني: ليسوا كأعوان ملوك الدنيا يمتنعون بالرشوة، ولكن يفعلون مَا يُؤْمَرُونَ يعني: لا يفعلون غير ما أمرهم الله تعالى.
ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يعني: يقول لهم الملائكة يوم القيامة حين يعتذرون: لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يعني: لا يقبل منكم العذر. إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: تعاقبون بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي. ثم أمر المؤمنين بالتوبة عن الذنوب. فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً يعني: صادقاً في توبته، ويقال: تنصحون لله فيها من غير مداهنة.
وروى سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير قال: سئل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- عن التوبة النصوح، فقال: هو الرجل يتوب من عمل السوء، ثم لا يعود إليه أبداً.
وروي، عن ابن عباس أنه قال: توبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإضمار أن لا يعود إليها. قرأ نافع، وعاصم في إحدى الروايتين تَوْبَةً نَصُوحاً بضم النون، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالنصب، فهو صفة التوبة يعني: توبة بالغة في النصح، كما يقال: رجل صبور وشكور. ومن قرأ بالضم، يعني: ينصحوا بها نصوحاً، كما يقال: نصحت له نصحاً ونصوحاً.
ثم قَالَ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني: يغفر لكم ما مضى من ذنوبكم إن تبتم. وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ صار اليوم نصاً لنزع الخافض يعني. يكفر عنكم في يوم لا يخزي الله النبي. قال الكلبي: يعني: لا يعذب الله النبي، ويقال: يوم لا يخزيه فيما أراد من الشفاعة. وغيره، وتم الكلام.
ثم قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني: على الصراط. وروى الحسن، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْ نُورُهُ أَبْعَدُ ما بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدنِ أبْيَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُوُرُه لَا يُجَاوِزُ قَدَمَيْهِ»، فقال: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني: يضيء بين أيديهم.
وَبِأَيْمانِهِمْ يعني: عن أيمانهم وعن شمائلهم على وجه الإضمار. يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، ذلك حين طفئت أنوار المنافقين، أشفق المؤمنون على نورهم، ويتفكرون فيما مضى منهم من العذاب، فيقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا يعني: احفظ علينا نورنا، وَاغْفِرْ لَنا ما مضى من ذنوبنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من إتمام النور والمغفرة.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٩ الى ١٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
470
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالقول والتهديد. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يعني: اشدد عليهم، يعني: على كلا الفريقين، يعني: على الكفار بالسيف، وعلى المنافقين باللسان. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني: إن لم يرجعوا ولم يتوبوا، فمرجعهم إلى جهنم، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يعني: بئس القرار وبئس المرجع.
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا يعني: وصف الله شبهاً لكفار مكة، وذلك أنهم استهزءوا وقالوا: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم يشفع لنا. فبيّن الله تعالى أن شفاعته- عليه السلام- لا تنفع لكفار مكة، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته. وشفاعة لوط لامرأته. وذلك قوله: لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها واعلة، وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها داهلة. ويقال: فيه تخويف لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ليثبتن على دينه وطاعته.
ثم قال: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ يعني: نوحاً ولوطاً- عليهما السلام- فَخانَتاهُما يعني: خالفتاهما في الدين. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما زنت امرأة نبي قط، وما كانت خيانتهما إلا في الدين. فأما امرأة نوح كانت تخبر الناس أنه مجنون، وأما امرأة لوط كانت تدل على الأضياف. وقال عكرمة: الخيانة في كل شيء ليس في الزنى. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني: لم يمنعهما صلاح زوجيهما مع كفرهما مّنَ الله شيئا، يعني: من عذاب الله شيئاً. وَقِيلَ لهما في الآخرة: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، فكذلك كفار مكة، وإن كانوا أقرباء النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لا ينفعهم صلاح النبي صلّى الله عليه وسلم. وكذلك أزواجه، إذا خالفنه.
ثم ضرب الله مثلاً للمؤمنين، فقال عز وجل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني: بيَّن الله شبهاً وصفة للمؤمنين الذين آمنوا. امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، فإنها كانت صالحة، لم يضرها كفر فرعون، فكذلك من كان مطيعاً لله لا يضره شر غيره ويقال: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، يعني: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون، صبرت على إيذاء
471
فرعون. إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وذلك أن فرعون لما علم بإيمانها، فطلب منها أن ترجع، فأبت ولم ترجع عن إيمانها، فوتدها بأربعة أوتاد في يديها ورجليها، وربطها وجعل على صدرها حجر الرحى، وجعلها في الشمس. فأراها الله تعالى بيتها في الجنة، ونسيت ما هي فيه من العذاب، وضحكت، فقالوا عند ذلك: هي مجنونة تضحك، وهي في العذاب.
وروى أبو عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا ذرت، أي: طلعت الشمس وارتفعت، أظلتها الملائكة بأجنحتها، وأريت مقعدها من الجنة. وروى قتادة، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ».
ثُمّ قال الله عزّ وجلّ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ يعني: ارزقني في الجنة.
وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني: من عذاب فرعون وظلمه. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني: مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ، يعني: من تعييرهم وشماتتهم.
ثم قال عز وجل: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ يعني: واذكر مريم، ويقال: معناه: وضرب الله مثلاً مريم ابنة عمران وصبرها على إيذاء اليهود، الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها يعني: عفت نفسها عن الفواحش. فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا يعني: أرسلنا جبريل- عليه السلام- فنفخ في جيب درعها، وذلك قوله: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا أي: في جيبها، أي روحاً من أرواحنا، وهي روح عيسى- عليه السلام- وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي: صدقت بعيسى- عليه السلام- ويقال: صدقت بالبشارات التي بشرها بها جبريل. وَكُتُبِهِ يعني: آمنت بكتاب الله تعالى وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وَكُتُبِهِ يعني: الكتب التي أنزلت على الأنبياء، والباقون بكتابه يعني: الإنجيل. وقرأ بعضهم وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يعني: صار عيسى مخلوقاً بكلمة الله، فصدقت بذلك. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ يعني: المطيعين لله.
472
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).