تفسير سورة التحريم

تفسير آيات الأحكام للسايس

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس.
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة التحريم
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)
ذهب العلماء في سبب نزول الآيتين مذاهب مروية: فروى عكرمة عن ابن عباس أنّها نزلت في الواهبة التي جاءت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: إنّي وهبت لك نفسي، فلم يقبلها.
وقال الحسن وقتادة: بل نزلت في شأن مارية القبطية أمّ إبراهيم، «١» حيث خلا بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في منزل حفصة، وكانت هذه خرجت إلى منزل أبيها في زيارة، فلما عادت، وعلمت، عتبت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فحرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم مارية على نفسه إرضاء لحفصة، وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه، فأخبرت بذلك عائشة، لمصافاة كانت بينهما، فطلّق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حفصة، واعتزل نساءه شهرا، وكان جعل على نفسه أن يحرمهن شهرا، فأنزل الله هذه الآية، فراجع حفصة.
واستحل مارية، وعاد إلى نسائه.
وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم: هل كان تحريم مارية بيمين؟
فقال قتادة والحسن والشعبي: حرمها بيمين.
وقال غيرهم: حرمها بغير يمين، وهو عن ابن عباس.
وثالث الأقوال: ما
ثبت في «الصحيح» «٢» عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير- وهو نبت كريه الرائحة- قال: «لا ولكنّي شربت عسلا عند
(١) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٢٨/ ١٠٠).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢/ ١١٠٠)، ١٨- كتاب الطلاق، ٣- وجوب الكفارة، حديث رقم (٢٠/ ١٤٧٤)، والبخاري في الصحيح (٦/ ٨١)، ٦٥- كتاب التفسير، ١- باب (يا أيها النبي... )
حديث رقم (٤٩١٢). [.....]
799
زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفت لا تخبري أحدا. يبتغي مرضاة أزواجه».
وقد روى مسلم، وأشهب عن مالك أنّ النبي شرب العسل عند حفصة، وروي أنّه كان عند أم سلمة، والأكثر أنّه كان عند زينب بنت جحش، ولعلّ الحادثة تكررت قبل النزول.
وبعد فيرى ابن العربي «١» أن ما قيل من أنّ الآية نزلت في الواهبة فهو ضعيف من حيث السند، وضعيف من حيث المعنى:
فأما السند: فرواته غير عدول.
وأما المعنى: فما يصحّ أن يقال: إن رد النبي صلّى الله عليه وسلّم للهبة كان تحريما، بل هو رفض لها، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة.
وأما ما روي من أنه حرم مارية فهو أمثل في السند وإن قرب من حيث المعنى، لكنّه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل. قال ابن العربي: إنما الصحيح أنّه كان في العسل، وأنّه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة، وجرى ما جرى، فحلف ألّا يشرب، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع.
وبعد، فقد اختلف العلماء في أنّ تحريم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما حرّم أكان بيمين، أم لم يصحبه يمين، وقد جرى بناء على ذلك خلاف بين العلماء في أنّ الرجل إذا حرّم شيئا ولم يحلف أيكون ذلك يمينا، فيجب فيه ما يجب في اليمين، أم لا يكون؟ وتشعبت أطراف الخلاف بينهم إلى حدّ كبير، سنقفك على شيء منه بعد التفسير.
لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمنع نفسك من شيء أباح الله لك الانتفاع به تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ الابتغاء: الطلب، والجملة حال من فاعل تحرّم. فيكون قيدا للعامل. وقد قال العلماء: إنّ العتاب موجّه إلى هذا القيد، لأنّ الكلام إذا كان مقيّدا بقيد إثباتا أو نفيا، فالنظر فيه إلى القيد، ولا مانع من أن يكون العتاب موجها إلى المقيّد مع قيده.
ويرى البعض أنّ الجملة استئناف، وذلك أنّ الاستفهام ليس على حقيقته، بل هو معاتبة على أنّ التحريم لم يكن عن باعث صحيح، وحينئذ
(١) انظر أحكام القرآن لابن العربي (٤/ ١٨٣٣).
800
يكون الاستفهام منشأ لأن يسأل فيقال: وما ينكر منه في التحريم وقد كان الأنبياء يحرّمون كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: ٩٣] فقيل في جواب هذا السؤال: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ فكأنّ التحريم لم ينكر لذاته، وإنّما لما اشتمل عليه من الحرص على مرضاة الأزواج، ومثل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجلّ من أن يقدم على ما يقدم عليه، ويمتنع عما يمتنع منه تبعا لإرضاء النساء.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقارف ذنبا، والذي كان منه إنما هو خلاف الأولى، فالإتيان بالغفران والرحمة هنا تكريم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث جعل ما لا يعدّ ذنبا كأنه ذنب، ولا يكون ذلك إلا لمن سمت منزلته.
وقد رأيت أنّا فسرنا التحريم هنا بالامتناع، وامتناعه عن شرب العسل أو غيره إنما كان كامتناعه عن أكل الضب، وهو بهذه المثابة لا شيء فيه، وإنما عوتب من أجل أنّ الباعث كان الحرص على مرضاة الأزواج.
وقد أراد الزمخشريّ «١» أن يقول: بل هو قد قال: إنّ الذي وقع هنا هو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّم من عند نفسه ما أحل الله، فيكون قد غيّر الحكم ابتغاء مرضاة الأزواج فآخذه الله به، وأنكره عليه، وغفر له ما وقع منه من الزلة، وقد شنع العلماء على الزمخشري في قوله هذا.
وذلك أن تحريم الحلال ينتظم معنيين:
فقد يراد منه اعتقاد حكم التحريم فيما جعله الله حلالا، وذلك تغيير لحكم الله، وتبديل له على نحو الذي كان من الكفار من تحريمهم البحائر والسوائب والوصائل وغيرها، وكقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: ١٣٨] وعلى نحو ما حكى الله عنهم في قوله: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: ٣٥] وتحريم الحلال بهذا المعنى كفر لا يكون إلا من الكافرين.
والمعنى الثاني: الامتناع من الحلال امتناعا مطلقا، أو مؤكّدا باليمين مع اعتقاد حل الفعل الذي امتنع منه، وهذا شيء لا خطر فيه، ولا شيء، وقد امتنع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أكل الضب،
وقال: «إنّه لم يكن بأرض
(١) انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (٤/ ٥٦٤).
801
قومي» «١»
. والذي وقع من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان من هذا النوع، وإنما عوتب على ما صاحب الامتناع من الحرص على مرضاة الأزواج، خصوصا بعد المظاهرة التي كانت منهنّ، ومرضاة مثل هؤلاء ينبغي ألا يحرص عليها.
وقد اعتذر بعض العلماء عن الزمخشري، وأوّل كلامه.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الفرض: التقدير، والمراد منه هنا: جعل تحلة اليمين شريعة، والمراد من التحلة الكفارة، والتحلة مصدر حلّل، كالتكرمة مصدر كرّم، وهو مصدر غير قياسي، إذ المصدر القياسي في كلّ منهما: التحليل والتكريم.
وأصله من الحلّ ضدّ العقد، وذلك أنّ من حلف على شيء فكأنّه قد عقد عليه، لأنّه التزمه. وقد جعل الله الكفارة حلّا لهذا الالتزام.
وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ هو سيدكم، ومتولي أموركم، وهو العليم بشأنكم، يعلم ما فيه مصلحتكم، فيشرع لكم ما تقضي به هذه المصلحة، وهو الحكيم الذي لا يصدر عنه إلا كل متقن محكم.
اختلف العلماء في أنّ التحريم الذي كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم هل كان مقترنا بيمين، وظاهر الآية قد يؤيّد القول بالإيجاب، لقوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ إذ هو مشعر بأن ثمة يمينا تحتاج إلى التحلة، وقد جاء في بعض الروايات ما يؤيده.
واختلفوا أيضا في أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعطى كفارة، أو لم يفعل.
وقد ذهب الحسن إلى أنه لم يعط كفارة، ويقول في التوجيه: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو توجيه لا يخلو من شيء، وقد نقل عن الإمام مالك رحمه الله في «المدونة» أنّه أعطى الكفارة.
وقد اختلف العلماء بعد ذلك في الرجل يحرّم شيئا، كأن يقول لزوجته: أنت عليّ حرام، أو الحلال عليّ حرام، ولم يستثن شيئا.
ويقول ابن العربي «٢» : بأنّ للعلماء في تحريم الرجل لزوجته خمسة عشر قولا، يجمعها ثلاثة مقامات:
المقام الأول: في جمع الأقوال.
الثاني: في التوجيه.
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٤٣)، ٣٤- كتاب الصيد، ٧- باب إباحة الضب حديث رقم (٤٣/ ١٩٤٥)، والبخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٨)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٣٣- باب النصب حديث رقم (٥٥٣٧).
(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي (٤/ ١٨٣٥).
802
المقام الثالث: في عد الصور في ذلك.
ونحن نقتصر هنا على جمع الأقوال، ونترك المقامين الآخرين إلى الفقه وعلم الخلاف، فإنّ الآية لا تحتمل كلّ ما قال الفقهاء.
القول الأول: روي عن أبي بكر وعائشة والأوزاعي أنّ تحريم الزوجة يمين تلزم فيها الكفارة.
القول الثاني: قال ابن مسعود: ليس تحريم الزوجة بيمين، وتلزم فيه الكفارة.
القول الثالث: قال عمر بن الخطاب: إنّ تحريم الزوجة طلقة رجعية، وهو رأي الزهري.
القول الرابع: أن تحريم الزوجة ظهار، وهو رأي عثمان البتي وأحمد بن حنبل.
القول الخامس: قال حماد بن سلمة «١»، وهو رواية عن مالك: أنه طلقة بائنة.
القول السادس: أنّه ثلاث تطليقات، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة، ومالك.
القول السابع: قال أبو حنيفة: إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى، وإلّا كانت يمينا، وكان الرجل موليا من امرأته.
القول الثامن: قال ابن القاسم «٢» : إنّ من حرّم زوجته لا تنفعه نية الظهار، وإنما يكون طلاقا.
القول التاسع: قال يحيى بن عمر «٣» : يكون طلاقا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفارة الظهار.
القول العاشر: هو ثلاث قبل الدخول وبعده، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها إذا قال: نويت الواحدة، وهو عن مالك وابن القاسم.
القول الحادي عشر: هو ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، قال ابن العربي هو قول عبد الملك في «المبسوط».
(١) ابن دينار البصري أبو سلمة، مفتي البصرة، وأحد رجال الحديث ومن النحاة كان حافظا ثقة مأمونا، وكان إماما في العربية، شديدا على المبتدعة، انظر الأعلام للزركلي (٢/ ٢٧٢).
(٢) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري أبو عبد الله، فقيه، ولد في مصر سنة (١٩١ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٣/ ٣٢٣).
(٣) يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني الأندلسي أبو زكريا فقيه مالكي عالم بالحديث نشأ بقرطبة، وسكن القيروان توفي سنة (٢٨٩ هـ) انظر الأعلام للزركلي (٨/ ١٦٠).
803
القول الثاني عشر: هو في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، وهو رأي أبي مصعب، ومحمد بن عبد الحكم.
القول الثالث عشر: أنّه إن نوى الظهار- وهو أن ينوي أنّها محرمة كتحريم أمه- كان ظهارا، وإن نوى تحريم عينها بجملته بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، وهو عن الشافعي.
القول الرابع عشر: أنّه إن لم ينو شيئا لا يلزمه شيء.
القول الخامس عشر: أنّه لا شيء عليه أصلا، قاله مسروق، وربيعة من أهل المدينة.
وبعد فإنّك ترى أنّ الآية الكريمة ليس فيها أكثر من أنّ الله سبحانه عاتب نبيّه على أنّ منع نفسه شيئا أباحه الله له، والظاهر أنّ هذا المنع كان مصحوبا باليمين، فقال الله: لا تمتنع، وكفّر عن يمينك بالتحلة، وإذا جرينا على ما هو الصحيح من أنّ الحادثة كانت في شرب العسل ازددت يقينا بأنّ كلّ هذه الأقوال التي قبلت في تحريم الزوجة من غير يمين تحتاج إلى أدلتها من غير الآية، فلتطلب في أماكنها، والله المستعان، وبه التوفيق.
804
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).