تفسير سورة التحريم

تفسير ابن كثير ط العلمية

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير ط العلمية.
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ

تَفْسِيرُ
سُورَةِ التَّحْرِيمِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سُورَةٌ التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَهَا، فَنَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ:
أَيْ رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ الْحَلَالُ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لا يصيبها فأنزل الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: فَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَغْوٌ وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» أَيْضًا: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
قال لها: «أنت علي حرام وو الله لَا أَطَؤُكِ» وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَّمَ، فَعُوتِبَ فِي التَّحْرِيمِ وأمر بالكفارة في
(١) تفسير الطبري ١٢/ ١٤٧.
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ١٤٧، ١٤٨.
180
الْيَمِينِ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ؟
قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. وَكَانَ بَدْءُ الْحَدِيثِ فِي شأن أم إبراهيم مارية الْقِبْطِيَّةِ أَصَابَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فِي نَوْبَتِهَا، فَوَجَدَتْ حَفْصَةُ: فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَقَدْ جِئْتَ إِلَيَّ شَيْئًا مَا جِئْتَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي يَوْمِي وَفِي دَوْرِي وَعَلَى فِرَاشِي قَالَ: «أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أُحَرِّمَهَا فَلَا أَقْرَبَهَا» قَالَتْ: بلى فحرمها وقال لها «لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ» فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ فَأَظْهَرَهُ الله عليه فأنزل الله تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ الآيات كلها. فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَأَصَابَ جَارِيَتَهُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَفْصَةَ: «لَا تُخْبِرِي أَحَدًا وَإِنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِيَّ حَرَامٌ» فَقَالَتْ: أَتُحَرِّمُ مَا أحل الله لك؟ قال: «فو الله لَا أَقْرَبُهَا» قَالَ: فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عائشة. قال: فأنزل الله تعالى:
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَخْرَجِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» أَيْضًا: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى يُحَدِّثُ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَابِ: ٢١] يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فَكَفَّرَ يَمِينَهُ فَصَيَّرَ الْحَرَامَ يَمِينًا، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ «٣» عَنْ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ عن هشام الدستوائي عن يحيى، هو ابن أبي كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ وَهُوَ يَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْحَرَامِ يَمِينٌ تُكَفَّرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ورواه مسلم «٤» من حديث هشام الدستوائي
(١) تفسير الطبري ١٢/ ١٤٩.
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ١٤٩.
(٣) تفسير سورة ٦٦، باب ١.
(٤) كتاب الطلاق حديث ٢٠.
181
به. وقال النسائي «١» : أنبأنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، حدثنا مخلد وهو ابْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حراما، قال: كذبت ليست عَلَيْكَ بِحَرَامٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَاتِ عِتْقُ رَقَبَةٍ، تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم سريته ومن هاهنا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ مَلْبَسًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَدَا الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ إِذَا حَرَّمَ عَيْنَيْهِمَا أَوْ أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى بِالتَّحْرِيمِ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ أَوْ عِتْقَ الْأَمَةِ نَفَذَ فِيهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ أنبأنا حفص بن عمر العدني أنبأنا الحكم بن أبان أنبأنا عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تَحْرِيمِهِ الْعَسَلَ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ «٢» عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن موسى أنبأنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ: «لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أحدا» تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ «٣» : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عندها عسلا، فتواطأت أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فلتقل له إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى- إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً لِقَوْلِهِ: «بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا» وقال
(١) كتاب الطلاق باب ١٦.
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٦٦، باب ١.
(٣) كتاب الأيمان والنذور، باب ٢٥. [.....]
182
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ: «وَلَنْ أَعُودَ لَهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا».
وَهَكَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ «١» بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: الْمَغَافِيرُ شَبِيهٌ بِالصَّمْغِ يَكُونُ فِي الرَّمَثِ فِيهِ حَلَاوَةٌ، أَغْفَرَ به الرَّمَثُ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ، وَاحِدُهَا مَغْفُورٌ وَيُقَالُ مَغَافِيرُ، وَهَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الْمَغْفُورُ أَيْضًا لِلْعُشْرِ وَالثُّمَامِ وَالسَّلَمِ وَالطَّلْحِ، قَالَ والرِّمْثُ بِالْكَسْرِ مَرْعَى مِنْ مَرَاعِي الْإِبِلِ وَهُوَ من المحض، قَالَ وَالْعُرْفُطُ شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ يَنْضَحُ الْمَغْفُورُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «٢» هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ بِهِ، وَلَفْظُهُ كَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ «٣» فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ، فَسَقَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ، فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سيقول لك لَا، فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عسل، فقولي جرست نحله العرفط وسأقول لك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت: تقول سودة فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ:
«لَا» قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ» قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي، هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «٤» عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ وَعَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَهَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ بْنِ بِشْرٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ، وَعِنْدَهُ قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، يَعْنِي الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَ لَهُ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ لِأَنَّ رِيحَهَا فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا قَالَ: «بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا» قُلْنَ جَرَسَتْ نحله العرفط أي
(١) كتاب الطلاق باب ٨.
(٢) كتاب الطلاق حديث ٢١.
(٣) كتاب الطلاق باب ٨.
(٤) كتاب الطلاق حديث ٢٢.
183
رَعَتْ نَحْلُهُ شَجَرَ الْعُرْفُطَ الَّذِي صَمْغُهُ الْمَغَافِيرُ، فَلِهَذَا ظَهَرَ رِيحُهُ فِي الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتَهُ. قال الجوهري: جرست النحل الْعُرْفُطَ تَجْرِسُ إِذَا أَكَلَتْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّحْلِ جوارس، قال الشاعر:
[الطويل]
تَظَلُّ عَلَى الثَّمْرَاءِ مِنْهَا جَوَارِسُ «١»
وَقَالَ الْجَرْسُ وَالْجِرْسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَيُقَالُ: سَمِعْتُ جَرْسَ الطَّيْرِ إِذَا سَمِعْتُ صَوْتَ مَنَاقِيرِهَا عَلَى شَيْءٍ تَأْكُلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «فَيَسْمَعُونَ جَرْسَ طَيْرِ الْجَنَّةِ» قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ شُعْبَةَ، قَالَ: فَيَسْمَعُونَ جرش طير الجنة بالشين فَقُلْتُ جَرْسَ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: خُذُوهَا عَنْهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنَّا، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ فِيهِ أَنَّ حَفْصَةَ هِيَ السَّاقِيَةُ لِلْعَسَلِ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عن خالته عَائِشَةَ، وَفِي طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنِ عَائِشَةَ أَنَّ زينب بنت جحش هي التي سقته الْعَسَلَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَوَاطَأَتَا وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمَا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما حَتَّى حَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ فَتَبَرَّزَ، ثُمَّ أَتَانِي فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فقال عمر: وا عجبا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ:
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ قَالَ: هي عائشة وحفصة.
قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي دار أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي، قَالَ: فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تراجعني فقالت:
(١) عجزه:
مراضيع صهب الرّيش زغب رقابها والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ٥١، ولسان العرب (رقب)، (زغب)، (ثمر)، (جرس)، (ريش)، (رضع)، والمخصص ١١/ ٦، والتنبيه والإيضاح ٢/ ٩٣، ٢٦٣، وتاج العروس (ثمر)، (خرس)، (رضع)، وتهذيب اللغة ١٠/ ٥٧٩، ١٥/ ٨٥، وأساس البلاغة (جرس)، وللهذلي في مجمل اللغة ١/ ٤٢١، وبلا نسبة في المخصص ٨/ ١٨١، ١٦/ ٤٢.
(٢) المسند ١/ ٣٣، ٣٤.
184
ما تنكر أن أراجعك فو الله إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ.
قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقالت: نَعَمْ. قُلْتُ:
وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا وَسَلِينِي مِنْ مَالِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ إِنْ كانت جارتك هي أوسم- أي أجمل- وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكِ- يُرِيدُ عَائِشَةَ- قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمًا ثُمَّ أَتَى عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ثُمَّ نَادَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ:
لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ. فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدُ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يبكي بعضهم، فجلست عنده قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَخَرَجْتُ، فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ: ادْخُلْ قَدْ أَذِنَ لَكَ، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رمال الحصير- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَاهُ يَعْقُوبُ فِي حَدِيثِ صالح قال: رمال حصير- وقد أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْتُ: أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: «لَا» فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. وَلَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تراجعني فقالت:
ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رسول الله فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ.
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله قد دخلت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ أَوْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكِ. فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «نعم» فجلست فرفعت رأسي في البيت، فو الله مَا رَأَيْتُ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إلا أهبة مقامه، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ
185
وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: «أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ. أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» «١» فَقُلْتُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مُوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ إِلَى الْأَرَاكِ لِحَاجَةٍ لَهُ، قَالَ: فَوَقَفْتُ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ:
مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ قَالَ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ «٢» أَيْضًا: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ أَبِي زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْحِجَابِ فَقُلْتُ لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَوَعْظِهِ إِيَّاهُمَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ، فَنَادَيْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ- إِلَى أَنْ قَالَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ- وَأَحْمَدُ اللَّهَ- بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أن يكون الله يصدق قولي، فنزلت هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ فَقُلْتُ: أَطَلَّقَتْهُنَّ؟ قَالَ: «لَا» فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ. وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النِّسَاءِ: ٨٣] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ.
وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، زَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُثْمَانُ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ٨٣، والمظالم باب ٢٥، ومسلم في الطلاق حديث ٣٦، والترمذي في تفسير سورة ٦٦.
(٢) كتاب الطلاق حديث ٣٠.
186
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ ثِقَةٌ يَرْفَعُهُ إِلَى عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في قوله تعالى: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: «هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ» إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ مُنْكَرٌ جَدًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «١» : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ فِي أَمَاكِنَ: مِنْهَا فِي نُزُولِ الْحِجَابِ، وَمِنْهَا فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: بَلَغَنِي شَيْءٌ كَانَ بَيْنَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ أَقُولُ: لَتَكُفُّنَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ، فَأَمْسَكْتُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَدَّتْهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ وَعْظِ النِّسَاءِ هِيَ أُمُّ سَلَمَةَ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قَالَ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا وَهُوَ يَطَأُ مَارِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ حَتَّى أُبَشِّرَكِ بِبِشَارَةٍ. إن أَبَاكِ يَلِي الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ أَبِي بَكْرٍ إِذَا أَنَا مِتُّ» فَذَهَبَتْ حَفْصَةُ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ قَالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تحرم مارية، فحرمها، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ إِسْنَادُهُ فِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ ظاهر. وقوله تعالى:
سائِحاتٍ أَيْ: صَائِمَاتٍ، قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو مَالِكٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ والسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَتَقَدَّمَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: السَّائِحُونَ في سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَلَفْظُهُ «سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ» وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سائِحاتٍ أَيْ مُهَاجِرَاتٍ، وَتَلَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّائِحُونَ، أي المهاجرون،
(١) كتاب التفسير سورة ٦٦، باب ١.
187
والقول الأول أولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً أَيْ مِنْهُنَّ ثَيِّبَاتٍ وَمِنْهُنَّ أَبْكَارًا ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يَبْسُطُ النَّفْسَ، وَلِهَذَا قَالَ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ عَنْ صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً قَالَ:
وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَبِالْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فمرت خَدِيجَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُهَا السَّلَامَ وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ جَوْفَاءَ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ.
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ»، فقالت:
يا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلِ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَكُلْثُمَ أُخْتَ مُوسَى» ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ النور بن عبد الله، حدثنا يوسف بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَعَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَكُلْثُمَ أُخْتَ مُوسَى وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ؟» فَقُلْتُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنِ ابْنِ أَبِي داود.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٦ الى ٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً يقول: أدبوهم وعلموهم «١». وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا يَقُولُ اعْمَلُوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجكم اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بتقوى الله، وقال قتادة تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله
(١) انظر تفسير الطبري ١٢/ ١٥٧.
188
وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عَنْهَا وَزَجَرْتَهُمْ عَنْهَا، وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ مِنْ قَرَابَتِهِ وَإِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الآية الحديث الذي رواه أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الملك ابن الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» «١» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ الْفُقَهَاءُ وَهَكَذَا فِي الصَّوْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْرِينًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَبْلُغَ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ المعصية وترك المنكر، والله الموفق.
وقوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَقُودُهَا أَيْ حَطَبُهَا الَّذِي يُلْقَى فِيهَا جُثَثُ بَنِي آدَمَ وَالْحِجارَةُ قِيلَ المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَالسُّدِّيُّ، هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ، زَادَ مُجَاهِدٌ: أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِنَانٍ الْمِنْقَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ- يَعْنِي ابْنَ أَبِي روّاد- قَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ شَيْخٌ فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِجَارَةُ جَهَنَّمَ كَحِجَارَةِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَصَخْرَةٌ مِنْ صَخْرِ جَهَنَّمَ أَعْظَمُ مِنْ جِبَالِ الدُّنْيَا كُلِّهَا» قَالَ: فَوَقَعَ الشَّيْخُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِهِ فَإِذَا هُوَ حَيٌّ فَنَادَاهُ قَالَ: «يَا شَيْخُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَقَالَهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ بَيْنِنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ [إِبْرَاهِيمَ: ١٤] هَذَا حديث مرسل غريب.
وقوله تعالى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ أَيْ طِبَاعُهُمْ غَلِيظَةٌ قَدْ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةُ بِالْكَافِرِينَ بِاللَّهِ شِدادٌ أَيْ تَرْكِيبُهُمْ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْكَثَافَةِ والمنظر المزعج. كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَصَلَ أَوَّلُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ لَيْسَ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَوْ طُيِّرَ الطَّيْرُ مِنْ مَنْكِبِ أَحَدِهِمْ لَطَارَ شَهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَنْكِبَهُ الْآخَرَ ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى الْبَابِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، عَرْضُ صَدْرِ أَحَدِهِمْ سَبْعُونَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوُونَ مِنْ باب إلى باب خمسمائة سنة
(١) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٢٦، والترمذي في المواقيت باب ١٨٢، والدارمي في الصلاة باب ١٤١، وأحمد في المسند ٣/ ٤٠٤.
189
ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى آخِرِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أَيْ مَهْمَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى يُبَادِرُوا إِلَيْهِ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ لَيْسَ بِهِمْ عَجْزٌ عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الزَّبَانِيَةُ- عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُمْ- وَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَيْ يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون، وَإِنَّمَا تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ بِأَعْمَالِكُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أَيْ تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الدَّنَاءَاتِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا ابْنُ مُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قَالَ: يُذْنِبُ الذَّنْبَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ فِيهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ أَوْ لا يريد أن يَعُودُ فِيهِ.
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ وَغَيْرُهُ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ النُّعْمَانِ: سُئِلَ عُمَرَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: أَنْ يَتُوبَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قَالَ: يَتُوبُ ثُمَّ لَا يَعُودُ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمُ الْهِجْرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِرِ وَيَنْدَمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي ويعزم على أن لا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ رَدَّهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ؟» قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ مَرَّةً: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» «٤» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ بِهِ.
(١) تفسير الطبري ١٢/ ١٥٨.
(٢) المسند ١/ ٤٤٦.
(٣) المسند ١/ ٣٧٦. [.....]
(٤) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٠.
190
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْرٍ أَبُو خَبَّابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لَنَا أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، مِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، وَذَلِكَ مما حرم الله عليه وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ وَمِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.
قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: فَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فَقَالَ: «هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا». وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ تُبْغِضَ الذَّنْبَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ وَتَسْتَغْفِرَ منه إذا ذكرته، فأما إذا جزم بِالتَّوْبَةِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَطِيئَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» «١» وَهَلْ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وفي الأثر- ثم لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَدًا. أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ على أن لا يَعُودَ فِي تَكْفِيرِ الْمَاضِي بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِيرِ مَا تَقَدَّمَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا؟» وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» «٢» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ التَّوْبَةِ فالتوبة بطريق الأولى، والله أعلم.
وقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وعسى مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أَيْ وَلَا يُخْزِيهِمْ مَعَهُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: ٨] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هَذَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورَ المنافقين قد طفئ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تخزني يوم القيامة».
(١) أخرجه أحمد في المسند ٤/ ١٩٩، ٢٠٤، ٢٠٥.
(٢) أخرجه البخاري في المرتدين باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ١٨٩، ١٩٠.
(٣) المسند ٤/ ٢٣٤.
191
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن مقاتل المروزي، حدثنا ابن المبارك، أنبأنا ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ذَرٍّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ، فَأَنْظُرُ بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ وَأَنْظُرُ عَنْ يَمِينِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ؟ قَالَ: غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ ولا يكون مِنَ الْأُمَمِ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» «١».
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٩ الى ١٠]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، هَؤُلَاءِ بِالسِّلَاحِ وَالْقِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَيْ فِي الْآخِرَةِ ثم قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ حَاصِلًا فِي قُلُوبِهِمْ، ثم ذكر المثل فقال: امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا يؤاكلان وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ فَخانَتاهُما أَيْ فِي الْإِيمَانِ لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا صَدَّقَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمْ يُجْدِ ذَلِكَ كُلُّهُ شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ لِكُفْرِهِمَا وَقِيلَ أَيْ لِلْمَرْأَتَيْنِ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وليس المراد بقوله:
فَخانَتاهُما فِي فَاحِشَةٍ بَلْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَخانَتاهُما قَالَ: ما زنتا، أما خيانة امْرَأَةُ نُوحٍ فَكَانَتْ تُخْبِرُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ نُوحٍ فَإِذَا آمَنَ مَعَ نُوحٍ أَحَدٌ أَخْبَرَتِ الْجَبَابِرَةَ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ بِهِ، وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ فَكَانَتْ إِذَا أَضَافَ لُوطٌ أَحَدًا أَخْبَرَتْ بِهِ أهل المدينة ممن يعمل السوء.
(١) أخرجه أحمد في المسند ٥/ ١٩٩.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدين، وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَأْثِرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ قُلْتَ مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ؟ قَالَ: لا ولكني الآن أقوله.
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَا تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الْكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آلِ عِمْرَانَ: ٢٨] قَالَ قَتَادَةُ: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فو الله مَا ضَرَّ امْرَأَتَهُ كُفْرُ زَوْجِهَا حِينَ أَطَاعَتْ ربها، ليعلموا أن الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الإربليّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عن سليمان قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ فِي الشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْأَلُ مَنْ غَلَبَ؟ فَيُقَالُ: غَلَبَ مُوسَى وَهَارُونُ، فَتَقُولُ: آمَنْتُ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فِرْعَوْنُ فَقَالَ: انْظُرُوا أَعْظَمَ صَخْرَةٍ تَجِدُونَهَا، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى قَوْلِهَا فَأَلْقُوهَا عَلَيْهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ قَوْلِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا أَتَوْهَا رَفَعَتْ بَصَرَهَا إِلَى السَّمَاءِ فَأَبْصَرَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، فمضت على قولها وانتزعت رُوحُهَا وَأُلْقِيَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى جَسَدٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، فَقَوْلُهَا رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ قالت الْعُلَمَاءُ:
اخْتَارَتِ الْجَارَ قَبْلَ الدَّارِ، وَقَدْ وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أَيْ خَلِّصْنِي مِنْهُ فَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ عَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ إِيمَانُ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ قَبْلِ إِيمَانِ امْرَأَةِ خَازِنِ فِرْعَوْنَ، وَذَلِكَ أَنَّهَا جَلَسَتْ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا
(١) تفسير الطبري ١٢/ ١٦٢.
(٢) تفسير الطبري ١٢/ ١٦٢.
193
فَقَالَتْ: تَعِسَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ! فَقَالَتْ لَهَا بنت فِرْعَوْنَ: وَلَكِ رَبٌّ غَيْرُ أَبِي؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ، فَلَطَمَتْهَا بنت فرعون وضربتها وأخبرت أباها، فأرسل فرعون إليها فَقَالَ:
تَعْبُدِينَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ وَإِيَّاهُ أَعْبُدُ، فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادا فشد يديها ورجليها وأرسل عليها الحيات، فكانت كَذَلِكَ، فَأَتَى عَلَيْهَا يَوْمًا فَقَالَ لَهَا:
مَا أَنْتِ مُنْتَهِيَةٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ: رَبِّي وَرَبُّكَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ.
فَقَالَ لَهَا: إِنِّي ذَابِحٌ ابْنَكِ فِي فِيكِ إِنْ لَمْ تَفْعَلِي فَقَالَتْ لَهُ: اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ، فَذَبَحَ ابْنَهَا فِي فِيهَا، وَإِنَّ رُوحَ ابْنِهَا بَشَّرَهَا فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي يَا أُمَّهْ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا، فَصَبَرَتْ ثُمَّ أَتَى عَلَيْهَا فِرْعَوْنُ يَوْمًا آخَرَ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَذَبَحَ ابْنَهَا الْآخَرَ فِي فِيهَا، فَبَشَّرَهَا رُوحُهُ أَيْضًا وَقَالَ لَهَا: اصْبِرِي يَا أُمَّهْ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:
وَسَمِعَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ كَلَامَ رُوحِ ابْنِهَا الْأَكْبَرِ ثُمَّ الْأَصْغَرِ، فَآمَنَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَ امْرَأَةِ خَازِنِ فِرْعَوْنَ، وَكَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ ثوابها وَمَنْزِلَتِهَا وَكَرَامَتِهَا فِي الْجَنَّةِ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ حَتَّى رأت، فازدادت إيمانا ويقينا وتصديقا فأطلع الله فِرْعَوْنُ عَلَى إِيمَانِهَا فَقَالَ لِلْمَلَإِ: مَا تَعْلَمُونَ مِنْ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا تَعْبُدُ غَيْرِي، فَقَالُوا لَهُ: اقْتُلْهَا.
فَأَوْتَدَ لَهَا أَوْتَادًا فَشَدَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا فَدَعَتْ آسِيَةُ رَبَّهَا فَقَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فَوَافَقَ ذَلِكَ أَنْ حَضَرَهَا فِرْعَوْنُ، فَضَحِكَتْ حِينَ رَأَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا إِنَّا نعذبها وهي تضحك، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها.
وقوله تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أَيْ حَفِظَتْهُ وَصَانَتْهُ، وَالْإِحْصَانُ هُوَ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا أَيْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَهُوَ جِبْرِيلُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْهَا فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ بَشَرٍ سَوِيٍّ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفُخَ بِفِيهِ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ فَوَلَجَتْ فِي فَرْجِهَا فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بعيسى عليه السّلام، ولهذا قال تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ أَيْ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «١» : حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عِلْبَاءَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ وَقَالَ: «أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
وقد ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على
(١) المسند ١/ ٢٩٣.
194
سَائِرِ الطَّعَامِ» «١». وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا وَالْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي كِتَابِنَا [الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ] وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ عند قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً.
آخر تفسير سورة التحريم، ولله الحمد والمنة.
تفسير
سورة الملك
وهي مكية قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ جَعْفَرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»
وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ زِيَادٍ أَبِي عَبْدِ الله القرشي النيسابوري المقري الزَّاهِدِ الْفَقِيهِ، أَحَدِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمُ البخاري ومسلم لكن فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ.
وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَعَلَيْهِ تَفَقَّهَ فِي مَذْهَبِ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، سَاقَ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ فُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَاتَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا تَبَارَكَ، فَلَمَّا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ أَتَاهُ الْمَلَكُ فَثَارَتِ السُّورَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهَا إِنَّكِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَكِ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ وَلَا لَهُ وَلَا لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِنْ أَرَدْتِ هَذَا بِهِ فَانْطَلِقِي إِلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاشْفَعِي لَهُ، فَتَنْطَلِقُ إِلَى الرَّبِّ فَتَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلَانًا عَمَدَ إِلَيَّ مِنْ بَيْنِ كِتَابِكَ فتَعَلَّمَنِي وَتَلَانِي، أَفَتُحَرِّقُهُ أَنْتَ بِالنَّارِ وَتُعَذِّبُهُ وَأَنَا فِي جَوْفِهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا ذَاكَ بِهِ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ فَيَقُولُ أَلَا أَرَاكِ غَضِبْتِ، فَتَقُولُ وَحُقَّ لِي أَنْ أَغْضَبَ فَيَقُولُ اذْهَبِي فَقَدْ وَهَبْتُهُ لك وشفعتك فيه- قال- فتجيء فتزجر الْمَلَكُ، فَيَخْرُجُ كَاسِفَ الْبَالِ لَمْ يَحْلَ مِنْهُ بِشَيْءٍ- قَالَ- فَتَجِيءُ فَتَضَعُ فَاهَا عَلَى فِيهِ فتقول مرحبا بهذا الفم فربما تلاني، مرحبا بِهَذَا الصَّدْرِ فَرُبَّمَا وَعَانِي، وَمَرْحَبًا بِهَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ فَرُبَّمَا قَامَتَا بِي، وَتُؤْنِسُهُ فِي قَبْرِهِ مَخَافَةَ الْوَحْشَةِ عَلَيْهِ» قَالَ:
فَلَمَّا حَدَّثَ بِهَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ إِلَّا تَعَلَّمَهَا وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم المنجية.
(١) أخرجه البخاري الأنبياء، باب، ٣٢، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٧٠.
(٢) المسند ٢/ ٢٩٩، ٣٢١.
(٣) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٩، وابن ماجة في الأدب باب ٥٢.
195
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).