تفسير سورة التحريم

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

بالتوبة
[الآيات]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد بالوحي والإلهام من عند العليم العلام القدوس السلام مقتضى نبوتك وتأيدك ان لا تخالف حكم الله ولا تبادر الى الخروج عما قضى لِمَ تُحَرِّمُ وتمنع عن نفسك من عندك بلا ورود نهى من قبل ربك ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ واباحه عليك بمقتضى حكمته وعدالته تَبْتَغِي وتطلب أنت بتحريم الحلال على نفسك باستبدادك بلا ورود وحى ونزول الهام مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وتترك رضاء الله بمخالفة حكمه فارتدع عن فعلك هذا واستغفر الله لزلتك وَاللَّهُ المطلع على نيتك وإخلاصك غَفُورٌ يعفو عنك ما صدر منك من تلقاء نفسك رَحِيمٌ يرحمك ويقبل توبتك. روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا بأمته مارية في يوم حفصة فاطلعت حفصة على ذلك فعاتبته فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت مارية على نفسي لأجلك لا تقولي لواحدة من أزواجي واستكتميها عنهن هذا التحريم واعلمي ايضا ان الخلافة بعدي لأبي بكر وبعده لعمر ولا تفش لاحد قط فأخبرت حفصة عائشة بكلا الخبرين بكونهما صديقتين فأخبرت عائشة رسول الله بها فغضب صلّى الله عليه وسلّم وطلق حفصة طلاقا رجعيا وعزل عن نسائه تسعا وعشرين يوما لأجل هذه الواقعة فانزل الله تعالى يا ايها النبي لم تحرم الآية لما نهى سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه المبالغة والتأكيد أراد سبحانه ان يبين كفارة اليمين الواقعة بين المؤمنين في أمثال هذا فقال
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ المدبر الحكيم وشرع لَكُمْ على سبيل الوجوب تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ اى لتحليل ايمانكم وتكفيرها لتكون كفارة مكفرة عنها وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم مَوْلاكُمْ ومتولى أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بعموم مصالحكم ومفاسدكم الْحَكِيمُ في ضبطها وإصلاحها
وَاذكروا واعتبروا ايها المؤمنون وقت إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعنى حفصة حَدِيثاً وهو حديث تحريم مارية وحديث خلافة ابى بكر وعمر رضى الله عنهما بعده صلّى الله عليه وسلم فَلَمَّا نَبَّأَتْ وأخبرت حفصة بِهِ عائشة رضى الله عنهما وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ واطلع سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم عَلَيْهِ اى على افشاء حفصة الحديث المعهود الذي اوصاها صلّى الله عليه وسلّم بالاسرار فغضب صلّى الله عليه وسلم على حفصة لذلك قد عَرَّفَ بَعْضَهُ اى ذكر صلّى الله عليه وسلّم بعض الحديث وهو حديث مارية وطلقها طلاقا رجعيا انتقاما عنها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وهو قصة الخلافة ولم يعرفها ولم يذكرها لها لئلا تقع الفتنة بين المسلمين ومع ذلك قد وقعت وبعد ما اطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على افشاء الحديث المعهود فَلَمَّا نَبَّأَها وخبر حفصة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِهِ اى بإفشاء الحديث معاتبا لها قالَتْ حفصة ظنا منها انه قد صدر هذا من عائشة مَنْ أَنْبَأَكَ وأخبرك هذا الحديث يا رسول الله قالَ صلّى الله عليه وسلّم في جوابها نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بالسرائر والخفايا الْخَبِيرُ بعموم ما يجرى في ضمائر عباده ونياتهم. ثم قال سبحانه من قبل نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه الخطاب المنبئ عن العتاب
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أنتما يا حفصة وعائشة عما صدر عنكما توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص منبئة عن كمال الموافقة والمخالصة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد جبرتما بما كسرتما والا فَقَدْ صَغَتْ زاغت ومالت قُلُوبُكُما عن موافقة الرسول ومخالصته فجئتما بما يكرهه صلّى الله عليه وسلم بكراهتكما ما يحبه صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تَظاهَرا وتعاونا عَلَيْهِ اى على ما أنتما عليه من مخالفة الرسول فلن تضراه صلّى الله عليه وسلّم شيأ من الضرر وكيف يلحقه صلّى الله عليه وسلم
ضرر منكما فَإِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم أحواله هُوَ مَوْلاهُ وناصره ومعينه وولى عموم أموره وَجِبْرِيلُ رئيس الكروبيين قرينه وملازمه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ اتباعه وأعوانه وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ الملائكة ظهير له بعد أولئك المظاهرين المعاونين. ثم قال سبحانه على وجه التعريض لعموم ازواج النبي صلّى الله عليه وسلم
عَسى رَبُّهُ الذي رباه صلّى الله عليه وسلّم على الكرامة الاصلية والنجابة الجبلية إِنْ طَلَّقَكُنَّ جميعا أَنْ يُبْدِلَهُ بمقتضى قدرته وارادته أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ صورة وسيرة أخلاقا وأعمالا مُسْلِماتٍ في الاعتقاد مسلمات عن العيوب مُؤْمِناتٍ بوحدة الحق مصدقات لعموم ما نزل من عنده قانِتاتٍ راسخات على الطاعات مواظبات على عموم الخيرات خاضعات خاشعات لله في عموم الأوقات تائِباتٍ عن عموم المنكرات والمحظورات عابِداتٍ على وجه التذلل والخضوع وكمال الانكسار والخشوع سائِحاتٍ صائمات ممسكات عن مطلق المحارم او مهاجرات عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب شوقا ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً يعنى سواء كن ثيبات او أبكارا. ثم اوصى سبحانه لعموم المؤمنين بما يصلح لهم ويليق بحالهم فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ انفسكم عن مطلق المهالك الدينية قُوا أَنْفُسَكُمْ واحفظوها عن ارتكاب عموم المعاصي والالتفات الى مطلق المنكرات والتوجه نحو المحظورات وَأَهْلِيكُمْ اى من في حفظكم وحضانتكم من أزواجكم وأولادكم عن الوقوع في المهالك والفتن وانواع الآثام الموجبة للخذلان والحرمان وبالجملة اتقوا واحذروا ناراً وأي نار نارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ اى ما يتقد به النار أجسام الأنام والحجارة وذلك من شدة حرارتها وإحراقها بخلاف سائر النيران فان وقودها الحطب ومع ذلك يوكل عَلَيْها مَلائِكَةٌ يوقدونها وهم الزبانية صفتهم انهم غِلاظٌ في أقوالهم وهياكلهم لا يتأتى منهم الملاينة والملاطفة أصلا شِدادٌ في البطش وعموم التعذيب لا يَعْصُونَ اللَّهَ ولا يتجاوزون عن امره سبحانه في عموم ما أَمَرَهُمْ بل يمضونها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها بعذر او شفاعة او شفقة او مروءة بل وَهم يَفْعَلُونَ عموم ما يُؤْمَرُونَ على وجهه خوفا من غيرته سبحانه وغضبه وبعد ما نادى سبحانه عموم المؤمنين بما نادى نادى ايضا عموم الكافرين على مقتضى المقابلة فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وكذبوا رسله المبعوثين إليكم ليرشدوكم الى سبيل الهداية والسلامة فانكرتموهم وجميع ما جاءوا به بلا تأمل وتوقف فعليكم انه لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ بان أعمالكم دون عذابكم وانقص منها بل إِنَّما تُجْزَوْنَ من العذاب على مقتضى ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والإنكار. ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق من شأن ايمانكم تطهير قلوبكم عن مطلق المعاصي والآثام المنافية لصرافة وحدة الذات ولا يتيسر لكم هذا الا بالتوجه والرجوع على وجه الندم والإخلاص تُوبُوا ايها المخلصون المبتلون بفتنة الذنوب إِلَى اللَّهِ الملك القدوس المنزه ساحة حضوره عن سمة الحدوث والإمكان مطلقا تَوْبَةً نَصُوحاً خالصة لوجه الله قالعة لعرق الالتفات الى غير الله وأنتم نادمون على الذنوب الصادرة عنكم فيما مضى مجتنبين عن التي ستأتى وتوبتكم هذه مخلية مصفية لنفوسكم عن مطلق الكدورات المتعلقة بالغير محلية لها بالتقوى عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الخالص نحو المولى عَسى رَبُّكُمْ بعد ما تبتم ورجعتم نحوه بكمال التبتل والإخلاص أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويعفو عنكم زلاتكم ولم ينتقم منكم وَيُدْخِلَكُمْ تفضلا عليكم وإحسانا جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف والحقائق المتجددة المنتشئة الجارية من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وكيف لا يكفر ولا يدخل سبحانه خلص عباده في جنة وحدته يَوْمَ لا يُخْزِي يعنى سيما في يوم لا يخزى ولا يردى فيه اللَّهِ المنعم المتفضل على خلص عباده المنجذبين اليه سيما النَّبِيَّ المؤيد من عنده بأنواع الكرامة وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واهتدوا بهدايته مع ان شأنهم هكذا نُورُهُمْ الذي قد اقتبسوه من مشكاة النبوة المصطفوية يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ اى محيطا بهم محفوفا عليهم سيما وقت عبورهم من الصراط. ثم لما تفاوتت أنوارهم بحسب الجلاء والخفأ المترتب على أعمالهم واستعداداتهم الفطرية يَقُولُونَ مناجين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد أَتْمِمْ لَنا نُورَنا تفضلا علينا ومزيد احسان بنا وَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا اى استر ذنوب انانياتنا عن عيون بصائرنا إِنَّكَ بمقتضى جودك عَلى كُلِّ شَيْءٍ يدخل في حيطة علمك وارادتك قَدِيرٌ ثم قال سبحانه
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لإعلاء كلمة التوحيد جاهِدِ الْكُفَّارَ الذين ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق وأنكروا وجودها عنادا ومكابرة وقاتلهم بلا مبالاة بشوكتهم وكثرة عددهم وعددهم وَالْمُنافِقِينَ ايضا مع انك مؤيد من لدنا بالحجج القاطعة والبينات الساطعة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالأقوال والأفعال ولا تكن معهم بعد اليوم ملاينتك كما كانت معهم قبله بل اشدد وطأتك عليهم وشرد بهم فان الله معينك وناصرك وهم سيغلبون عن قريب في الدنيا وَفي الآخرة مَأْواهُمْ المعد لهم جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم جهنم وبالجملة قد
ضَرَبَ اللَّهُ العليم الحكيم مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ وشبه حال الكفرة الفجرة بحالهما في عدم نفع صحبتهم مع المؤمنين ومحبتهم لهم واختلاطهم بهم شيأ من عذاب الله إياهم إذ تانك المرأتان قد كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ كاملين مِنْ عِبادِنا وهما نوح ولوط عليهما السلام صالِحَيْنِ لقبولنا مصلحين لاعمالهما وأخلاقهما وعموم اطوارهما فَخانَتاهُما اى تانك المرأتان للكاملين المذكورين بالنفاق فَلَمْ يُغْنِيا ولم يدفعا عَنْهُما اى عن تينك المرأتين بشؤم نفاقهما وشقاقهما مِنْ عذاب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً من الإغناء والدفع بل وَقِيلَ لهما في يوم القيامة على وجه الزجر والتعدي ادْخُلَا النَّارَ المعدة للكفار والعصاة مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ فيها على سبيل التأبيد والخلود
وَضَرَبَ اللَّهُ المدبر الحكيم ايضا مَثَلًا آخر لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وشبه حال المؤمنين في وصلة الكفرة بحال امرأة فرعون وعدم تضررها منه بل تأكد إيمانها بمصاحبة فرعون ومخالطته اذكر إِذْ قالَتْ امرأة فرعون بعد ما انكشفت بالوحدة الذاتية واسرارها مناجية الى ربها رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على توحيدك ابْنِ لِي عِنْدَكَ يا ربي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وذلك لما آمنت رضى الله عنها حين غلب موسى صلوات الله وسلامه عليه على سحرة فرعون فآمنوا له بعد ما غلبوا فقتلهم فرعون وامر بزجرها حتى اوتدها بالأوتاد الاربعة في حر الشمس حتى ترجع عن الايمان والتوحيد ولم ترجع ثم امر اللعين ان يوضع فوقها صخرة عظيمة وقالت حينئذ مناجية مع ربها من كمال تحننها وانكشافها رب ابن لي عندك بيتا في الجنة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ الخبيث وَعَمَلِهِ السيئ وَبالجملة نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتك بايمانهم وانقيادهم بهذا اللعين الطاغي واعتقادهم بألوهيته وربوبيته فماتت قبل وضع الصخرة
وَضرب الله
428
مثلا ايضا للذين آمنوا مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي من كمال نجابتها وكرامتها وطهارة ذيلهما وغاية عصمتها وعفتها قد أَحْصَنَتْ فَرْجَها عن مخالطة الرجال وبالغت في التحصن والتحفظ بحيث قد رضى الله عنها وكرمها وأعطاها ما أعطاها من الارهاصات والكرامات التي قد خلت عنها سائر نساء الدنيا بل رجالها ايضا وبعد ما قد كرمناها كذلك فَنَفَخْنا فِيهِ اى في جوفها من جيب درعها مِنْ رُوحِنا الذي قد كنا نفخنا منه في قالب آدم عليه السلام ومن تلك النفخة قد حبلت بعيسى عليه السلام ولهذا صار عيسى في الصفوة كآدم وظهرت منه عليه السلام معجزات لم تظهر من نبي قط وَبالجملة قد صَدَّقَتْ مريم بِكَلِماتِ رَبِّها اى بعموم كلمات مربيها الذي رباها على كمال العفة والكرامة ومن جملة تلك الكلمات التامة خلق عيسى عليه السلام من ذلك النفخ وَصدقت ايضا بجميع كُتُبِهِ المنزلة من عنده على عموم رسله وَمن كمال مجاهدتها في طريق الحق وإخلاصها في الطاعات والعبادات واتكالها على الله في عموم الملمات وكمال توكلها وتفويضها عليه سبحانه وتسليمها اليه قد كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ اى من عداد الكمل من ارباب القنوت المنجذبين الى حضرة الرحموت بكمال الخضوع والخشوع وفي هذين التمثيلين تعريض لازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وحث لهن الى حسن المعاشرة ومراعاة الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وكمال المصادقة وتبعيد لهن من النفاق والمراء والمجادلة معه صلّى الله عليه وسلم سيما في امر قد اباحه الله له صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى حكمته المتقنة البالغة وانما ضرب سبحانه لهن ووعظهن بأمثال هذه الأمثال لينزجرن بها عما جئن به ولتكون عظة وتذكيرا لسائر المؤمنين المتعظين. جعلنا الله منهم ومن زمرتهم وجملتهم بمنه وجوده
خاتمة سورة التحريم
عليك ايها المحمدي المراقب لكمالات الحق النازلة من عالم الغيب الى الشهادة المتفرعة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ان تترصد في عموم أوقاتك وحالاتك الى ما سيتجدد ويحدث من عالم الخفأ والكمون الى فضاء البروز والظهور ثم منه الى الغيب والبطون بمقتضى التجليات والنشئات الحبية الإلهية فلا بد لك ان تخلى همك وبالك عن مطلق الاشغال الشاغلة لك عن الالتفات والتوجه الى الله والتفرج على عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وإياك إياك ان تغفل عنه سبحانه ساعة فإنها تورثك حسرة طويلة وخسرانا عظيما ان كنت من جملة المستيقظين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب
[سورة الملك]
فاتحة سورة الملك
لا يخفى على من انكشف بوحدة الحق وكثرة شئوناته وتجلياته المترتبة على أسمائه وصفاته الفائتة للحصر والإحصار ان سعة مملكة الحق وملكه وملكوته انما هو بمقتضى رقائق أسمائه وصفاته الغير المتناهية المتجلية بها الظاهرة على مرآة العدم فيلوح منها هياكل الأشباح التي لا غاية لها ولا نهاية تحيطها بعضها مترتب على البعض وبعضها مقابل للبعض متصفا بالشهادة والجلاء وبعضها بالغيب والخفأ وبالجملة جميع ذرائر الكائنات مربوط بعضها ببعض برقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة في عالم الأسماء والصفات لذلك اخبر سبحانه في كتابه عن عظمة ملكه وملكوته وعن كثرة
429
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).