تفسير سورة التحريم

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة.
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ التَّحْرِيمِ
[(١)]
السؤال بـ (لم) عن صلة الحكم والعادة في خطاب الأشراف تقديم لفظ المخاطب أو زوال ما [يتوقَّاه*] ويخافه، كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ) [التوبة: ٤٣]، وكذلك تصدير الخطاب هنا ب (أَيُّهَا النبِيِّ)، دال على الاعتناء بشأنه عظيم [تُحَرِّمُ*] وعبر هنا عن ما وقع العتب عليه بالمضارع، وفي قوله تعالى: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُم)، بالماضي لدوام متعلق التحريم، وانقطاع [تعلق*] الإذن والتحريم قسمان حكمي والتزامي، [فقولك*] حرم أبو حنيفة هندا، أي أفتى أو حكم بتحريمها لا على بعلها، وحرم زيد هندا، أي التزم تحريمها، وهذه الآية من القسم الثاني، فإِن قلت: الاستمتاع بها جائز له فعله وتركه، فإذا حرمه فقد أخذ الجائزين فلم عوتب؟ قلنا: لَا تسلم أنه يجوز تركه بالتحريم، بل الفعل والترك من غير إضافة تحريم إليه هو المباح.
قوله تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ).
مفهومه منع التحريم لغير مرضاتهن من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ... (٢)﴾
الأصل [استعمال*] اللفظ في مفهومه الحقيقي، وتقرر أن الكلام لَا يتركب مع أجزاء متنافية، ومفهوم فرض الحقيقة [... ] مفهوم الحلية إما للإباحة أو ما هو أخص منها، فلو كان المراد [بالفرض*] والحلية مفهوميهما [الحقيقيين*]، للزم منه تنافي الكلام لتنافي أجزائه، فيكون واجبا مباحا، هذا [**خلف فلأجل دليلته] ما أريد بهما [مفهومهما الحقيقيان*]، بل أريد [بالفرض*] البيان، وبالحلية حلية العقد، أي قد بين الله لكم حل عقد أيمانكم، ويصح أن يقال للمباح واجب، لأنه قد يلحقه الوجوب لعارض، وإنما يمتنع ذلك في الواجب لذاته لَا لعارض، كما تقول أكل الجراد مباح، والمباح واجب على أنه محصل للواجب، وهو مدخلة الجوع، وفي الآية التفات لقوله تعالى: (لَكُمْ)، ولم يقل ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا... (٤)﴾
الأكثر في الخطاب التكليفي، أن يؤتى فيه بصيغة الأمر، كقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا)، فأجيب: بأن الخطاب إن كان لمن يتأثر [به*] أتى به في سياق الشرط تشريفا له وتلطفا في الخطاب، وإن كان بحيث لَا يتأثر، أتى أمرا صريحا [نقض*] عليه بقوله تعالى في براءة (فَإِنْ تُبْتُم فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ)
وفي التنبيه في سماع ابن القاسم من كتاب الغائب، قال مالك: [فيمن*]، قال: إن فعلت كذا زوجتك ابنتي أو بعتك سلعتي، هذه فإِنه لَا يلزمه شيء، وكأنه قال: إن فعلت كذا، زوجتك، فهو وعد بالتزويج لَا [التزاما*]، وهذا عند النحويين أعني قوله: (قُلُوبُكُمَا) ما ورد في التشبيه بلفظ الجمع، قاله سيبوبه وغيره، وجعله الفخر جمعا حقيقة باختلاف حالات القلب وتبدلها وتقلبها فكأنها قلوب.
قوله تعالى: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).
قيل: المراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا عكس ما يقولون في الخبر والشهادة من أن متعلق الشهادة قاصر على المشهود، فلا يقبل فيه شهادة الرجل لنفسه، ومتعلق الخبر عام وجاء هذا الخبر بجر النفع للمخبر فقط، وقيل: المراد بصالحهم الأنبياء المتقدمون ونصرتهم النبي صلى الله عليه وسلم، بدعائهم له كما دعا له إبراهيم.
قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ... (٥)﴾
ابن عصفور: كل ما في القرآن من عسى [فهي*] واجبة، لأن وعد الله تعالى حق لا بد من وقوعه، إلا هذه، فإنها على بابها من الترجي، انتهى، يرد بأنها هنا واجبة، وجوبا متوقفا على حصول ذلك الأمر المقدر وقوعه بإرادة الشرط، فلم يقع الطلاق فلم يقع التبديل، وانظر ما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وقوله تعالى: (إِنْ طَلَّقَكُنَّ)، ولم يقل: حرمكن، فيه ترجية لأزواجه، والمراد أنه مستغني عنكن، فلا تعودن لمثل ما فعلتن من إفشاء سره، فهو عتب لأزواجه.
قوله تعالى: (مُسْلِمَاتٍ).
قدم الإسلام على الإيمان، لأن القصد الترقي، والإيمان أعم؛ لأنه من أفعال القلوب، والإسلام من أفعال الجوارح، فقد يظهر من الشخص أنه مسلم وهو منافق، والعبادة أخص مما قبلها، [وهي*] بمادتها تدل على الكثرة والملازمة، وجواب الزمخشري عن إدخال الواو في (وَأَبْكَارًا)، دون ما قبلها [منقوض*] بقوله تعالى: (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، الأمر والنهي صفتان لَا يستحيل احتمالهما في موصوف واحد.
قوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)﴾
يحتمل أن يراد بالأول: طاعتهم له في اجتناب ما نهاهم عنه، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وبالثاني: طاعتهم في فعل يأمرهم به، وقال الفخر في المحصول: إن قال قائل: إن قوله (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، تكرار؟ فالجواب: أن الأول: ماض، والثاني: مستقبل أي لَا يعصونه فيما أمرهم في الماضي، وهو في الحال (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ)، ورده عليه القرافي: بأن (لَا) إنما تنفي المستقبل، فالأول مستقبل، والثاني كذلك، ويجاب: بأن الأول إخبار عن عدم عصيانهم فيما سيؤمرون به في المستقبل، ولم يقع منهم عصيان لما أمروا به، وهم من شأنهم أن لَا يعصون فيما سيأمرهم به.
قوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)﴾
إن قلت: ما وجه المناسبة بين هاتين الجملتين مع أن [المتبادر*] للفهم أن يقال: لا يظلمون اليوم؟ فالجواب: أن العفو هو ترك المؤاخذة [بالذنب*] [... ] موجبا، والمعذرة هي إلقاء كلمة تمهيدا لرجاء عدم المؤاخذة بالذنب لعدم [**مزجها]، فالمراد أنا لم [نجركم*] إلا بما كسبتم وجنيتم، وجواب [آخر*]: وهو أن المعذرة تارة تكون لإسقاط المؤاخذة، [وتارة*] تكون لتخفيف العقوبة، فالآية كأنها أتت على قسم ثالث، وهو ليس بتخفيف، حتى [**ما جاز على بعض الذنب ولا الإسقاط؛ بل على العمل فقط]، ويصح أن [يكون*] الوقف على (لَا تعتذروا) ويتعلق (اليوم) بما بعده.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ... (٨)﴾
جعله المفسرون (يَوْمَ) متعلقا بـ (يُدْخِلَكُمْ)، والأولى أن يكون العامل فيه (اذكر) [مقدرا*]، فإن قلت: الإضمار على خلاف الأصل؟ قلت: فيه سلامة الآية من التكرار المعنوي، لأن قوله (عَسَى رَبُّكُمْ)، إلى آخره ملزوم لنفي الخزي، وقد [شرع*] به ثانية فيؤول إلى قولنا (عَسَى رَبُّكُمْ)، أن لَا [يخزيكم*] واحتج بها المعتزلة على أن [العاصي*] مخلد في نار جهنم بعد الجمع [بينها*]، وبين قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، حسبما قرره ابن الحاجب، ووجه الدليل أن يقال: كل من دخل النار مخزي بآية آل عمران، ولا شيء من المؤمنين مخزي؛ عملا بهذه الآية فلا شيء ممن يدخل النار بمؤمن، ثم تنعكس [... ] فتقول لا شيء من المؤمن بداخل النار، وأجاب الشيرازي وغيره بوجهين:
أحدهما: أن المراد بالذين آمنوا معه الصحابة فقط.
والثاني: أن [(الذين آمنوا معه) *] مستأنف، وليس معطوفا على ما قبله بوجه، ويجاب أيضا بوجه ثالث: وهو أن الخزي مقيد بذلك اليوم، فيكون ذلك اليوم هو وقت دخولهم الجنة، فإنهم غير [مخزيين*] حينئذ، وأما قبل ذلك حين دخولهم النار فهو يوم آخر.
قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
إن قلت: المناسب إنك غفور رحيم؟ قلت: هو مرتب على [محذوف*] وهو قوله تعالى: (يَسْعَى نُورُهُم)، إلى آخره. في الآية معنى القلب أي يسعون بنورهم، فإِن سعي النور [إنما هو بقتال*] الكفار بالسيف والمنافقين بالاحتجاج. انتهى، فجيء فيه استعمال اللفظ الواحد يتبع انتقالهم إذ هو صفة لهم.
قوله تعالى: [(جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ... (٩) *]
الزمخشري: [جاهد*] الكفار بالسيف، والمنافقين بالاحتجاج انتهى، [جيء*] فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، [... ] بأن يكون من باب علفتها تبنا وماء باردا، أي جاهد الكفار وعارض المنافقين بالاحتجاج، وهو من عطف الخاص على العام، والجهاد أربعة أنواع: أحدها: قتال الكفار، والثاني: حضور معركة القتال للقتال، وإن لم يقاتل كما فعل كثير من أكابر الصحابة، والثالث: الدخول لأرض العدو للمقاتلة، كما قال مالك: فيمن دخل أرض العدو للإغارة عليهم، [وإضعافهم*] أنه مجاهد، فهذا كله جهاد، [**وغائر تلك بينه وبين الرباط بأرض الإسلام لحراسة الإسلام من العدو]، الرابع: الخروج برسم الجهاد، فقد قال مالك: فيمن خرجوا للجهاد [فتفرقوا*] فحضر بعضهم الغنيمة إن الجميع يشتركون فيها، وكذلك قال في السفن [إذا غمرتهم الريح*]، أن الغائبين عن الغنيمة يشاركون من [حضر*] فيها، فإن قلت: أعيان المنافقين من أين نعلمهم، فإن كانوا معلومين عنده، فليسوا بمنافقين، لأن المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإن لم يكونوا معلومين عنده فيلزمه تكليف ما لَا يطاق؟ فالجواب: إنما ذلك في التكليف التأثيري، كما لو أمر بقتالهم، فيقول: لَا يقاتلهم خشية أن [يقع*] في المؤمنين منهم [وهن*]، إنما أمر بإقامة الحجة [فيلقيها*] على الجميع يسمعها المنافق وغيره، لعلها تنفع المنافقين من باب ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.
قوله تعالى: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).
إن قلت: ما فائدة التغليظ عليهم، مع [عدم*] الامتثال؟ قلت: هو قطع لحجتهم وتعذرهم.
قوله تعالى: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
إن قلت: ما السر في العدول عن المشاكلة اللفظية إلى المنصوب، ولم يقل: وبئس المأوى؟ فالجواب: أنه علقه على الأعم، فيلزم ثبوته للأخص على [أن*] المصير أعم من المأوى.
قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا... (١٠)﴾
المثل مضروب للجميع، لكن خص بالأول الكافر؛ ولكونه مثلا لمن هو كافر من جنسهم، وخصص الآخر بالمؤمنين؛ لكونه مثلا لمن هو من جنسهم.
قوله تعالى: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ).
أفاد ذكر هذا [التشريف بوصفي العبودية والصلاح*].
قوله تعالى: (فَخَانَتَاهُمَا).
ابن عطية: اختلفوا في خيانة هاتين المرأتين، فقال ابن عباس: ما بغت زوجة نبي قط، ولا ابتلى الأنبياء في نسائهم لهذا، وإنما خانتاهما في الكفر، وكانت زوجة نوح تقول إنه مجنون، وامرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى أتاه ضيف، وقال الحسن: خانتاهما في الكفر والزنا وغيره. انتهى، وهذا خلاف في حال، فابن عباس رأى أن الزنا منهن [نقص*] في أزواجهن، فمنع من ذلك، وأما الحسن فلم ير ذلك موجبا للنقص في الأزواج.
وقوله تعالى: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا)، يدل على ما قال ابن عباس: لأن تلك الفاحشة ليست [مشروعة*]، [فلا يغني فيها*] أحدٌ عن أحدٍ.
قوله تعالى: (مَعَ الدَّاخِلِينَ).
إشارة إلى كونهما في منزلتهم، وإن قرابتهما لَا تخفف عنهما شيئا.
* * *
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).