تفسير سورة التحريم

فتح الرحمن في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة التحريم من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن.
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة التحريم
مدنية بالإجماع، وآيها: اثنتا عشرة آية، وحروفها: ألف ومئة وستون حرفًا، وكلمها؛ مئتان وسبع وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)﴾.
[١] كان رسول الله - ﷺ - قد خلا بسُرِّيته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في بيت حفصة، وقد مرت لزيارة أبيها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فجاءت حفصة، فوجدتهما، فأقامت خارج البيت حتى أَخرجَ رسولُ الله - ﷺ - مارية، وذهبت، فدخلت حفصة غَيْرى متغيرة، فقالت: يا رسول الله! أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ في بيتي وعلى فراشي! فقال لها رسول الله - ﷺ - متراضيًا لها: "هي حرامٌ عليَّ"، وقال مع ذلك: "والله لا أطؤها أبدًا، فلا تخبري عائشة"، وقال: "أبوك وأبو عائشة الخليفتان بعدي" (١)، ثم إن حفصة -رضي الله عنها- قرعت
(١) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٦٤٠)، والدارقطني في "سننه" (٤/ ١٥٣)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما باختلاف يسير.
93
الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها لتسرها بالأمر، ولم تر في إفشائها إليها حرجًا، واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه ونزل:
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيّ﴾ (١) تقدم مذهب نافع في المد والهمز في أول سورة الطلاق.
﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.
وقيل: شرب عسلًا عند حفصة، فواطأت عائشة سودة وصفية، فقلن له: إنا نشم منك ريحَ المغافير (٢) -وهو صمغ له ريح منكرة، وكان - ﷺ - يشتد عليه أن يُشم منه ما يكره، فحرم العسل، فنزلت.
قال ابن عطية (٣): والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصحُّ وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية (٤).
فإذا قال الرجل لزوجته: أنت عليَّ حرام، أو ما أحلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ، فقال أبو حنيفة: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد الطلاق، فليس بشيء، وقال مالك: هو ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها، فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنتين أو الثلاث، ومتى حرم مالًا أو جارية دون أن يعتق، أو يشترط عتقًا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء، وقال الشافعي: إن نوى طلاقًا أو ظهارًا، حصل، أو نواهما، تخير، وثبت ما اختاره، وإن
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤٢٤).
(٢) رواه البخاري (٤٦٢٨)، كتاب: التفسير، باب: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، ومسلم (١٤٧٤)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٣٣٠).
(٤) "في الآية" زيادة من "ت".
94
نوى تحريم عينها، لم تحرم عليه (١)، وعليه كفارة يمين، وكذا إن لم تكن له نية، وإن قاله لأمة، ونوى عتقًا، ثبت، أو تحريمَ عينها، أو لا نية فكالزوجة، وقال أحمد: هو ظهار مطلقًا، ولو نوى الطلاق أو اليمين؛ لأنه صريح في الظهار، فلو قاله لأمته، أو أم ولده، فعليه كفارة يمين كما تقدم في سورة المجادلة في حكم الظهار.
﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ تفسير لـ (تُحَرِّمُ)، والمرضاة مصدر كالرضا؛ أي: تبتغي رضاهن بتحريم المحلَّل، وليس لأحد تحريم ما أحل. قرأ الكسائي: (مَرْضَاتَ) بالإمالة، ووقف عليها بالهاء (٢).
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ سَتور للذنب ﴿رَحِيمٌ﴾ عطوف بالرحمة، غفر تعالى لنبيه - ﷺ - ما عاتبه، ورحمه.
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)﴾.
[٢] ثم أمره أن يكفِّر عن يمينه، فقال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ﴾ أي: بَيَّنَ ﴿اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ﴾ أي: تحليل ﴿أَيْمَانِكُمْ﴾ وهو الكفارة، وتقدم حكمها مستوفىً في سورة المائدة.
﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ ناصركم ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بما يصلحكم ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله.
(١) "عليه" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٥).
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ﴾ أي: واذكر يا محمد ذلك على جهة التأنيب والتعتب لهن.
﴿إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ﴾ هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. واختلاف القراء في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِلَى) كاختلافهم فيهما من (يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا) أول سورة الطلاق [الآية: ١] ﴿حَدِيثًا﴾ هو تحريم مارية، وخلافة أبي بكر وعمر.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ﴾ حفصةُ ﴿بِهِ﴾ عائشةَ ﴿وَأَظْهَرَهُ﴾ أطلعه ﴿اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ بوحي منه.
﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ قرأ الكسائي: (عَرَفَ) بتخفيف الراء؛ أي: عرف بعضَ الفعل الذي فعلته من إفشاء سره؛ أي: غضب من ذلك، وجازاها عليه بأن طلقها، فلما بلغ ذلك عمر، قال: "لو كان في آل الخطاب خيرٌ لما طلقك رسول الله"، فأمره الله على لسان جبريل بمراجعتها (١). وقرأ الباقون: بتشديد الراء (٢)، أي: أعلم به، وأَنَّبَ عليه.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤٢٦)، و"تفسير القرطبي" (١٨/ ١٨٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٢٥ - ٤٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٥ - ١٧٦).
﴿وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ هو أمر الخلافة؛ لئلا يشتهر.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ أي: نبأ حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فَثَمَّ ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾ على جهة التثبت ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)﴾.
[٤] فلما أخبرها أن الله أخبره، سكتت، وسلمت، واعتزل - ﷺ - نساءه للحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، وحلف ألَّا يدخل عليهن شهرًا، فلما ذهب تسع وعشرون ليلة، بدأ بعائشة، فقالت: أقسمتَ أنك لا تدخل شهرًا، وإنما أصبحتَ من تسع وعشرين، فقال: "الشهر تسع وعشرون ليلة" (١)، وكان الشهر تسعًا وعشرين ليلة.
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ خطاب لحفصة وعائشة من التعاون على رسول الله - ﷺ - بالإيذاء.
﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾ مالت ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ أي: وُجد منكما ما يوجب التوبة بأن سَرَّكما ما كرهه النبي - ﷺ - من تحريم مارية، وجمع القلوب؛ لئلا يجمع بين تثنيتين في كلمة؛ فرارًا من اجتماع المتجانسين، وربما جمع، وتقديره: إن تبتما، قُبلت توبتكما.
(١) رواه البخاري (٤٨٩٥)، كتاب: النكاح، باب: موعظة الرجل ابنته، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ومسلم (١٠٨٣)، كتاب: الصيام. باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ قرأ الكوفيون: بتخفيف الظاء، والباقون: بتشديدها (١)، ومعناهما: تتعاونا على إيذائه.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ أي: ناصره ﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطفًا على الضمير في (مَوْلاَهُ) (وَصَالح الْمُؤْمِنِينَ) واحد يُراد به الجمع، وهم من صلح من المؤمنين. قرأ ابن كثير: (جَبْرِيلُ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز (٢)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة، وقرأ أبو بكر عن عاصم كذلك، إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة، وقرأ الباقون: بكسر الجيم والراء من غير همز.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير﴾ أعوان، المعنى: كلُّ المذكورين ينصرون محمدًا ويعينونه، وتخصيص جبريل لتعظيمه.
﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥)﴾.
[٥] ﴿عَسَى رَبُّهُ﴾ و (عسى) تكون للوجوب في ألفاظ القرآن إلا في موضعين: أحدهما في سورة محمد - ﷺ - (فَهَلْ عَسَيْتُمْ)؛ أي: علمتم وتمنيتم، والثاني: هنا ليس بواجب؛ لأن الطلاق معلق بالشرط، فلما لم يوجد الشرط، لم يوجد التبديل.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٤)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٧).
98
﴿إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ رسولُه ﴿أنَّ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ قرأ أبو عمرو: (طَلَّقكُنَّ) بإدغام القاف في الكاف، والباقون: بالإخلاص، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يُبَدِّلَهُ) بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون: بإسكان الباء وتخفيف الدال (١).
﴿مُسْلِمَاتٍ﴾ خاضعات له بالطاعة ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ مخلصات ﴿قَانِتَاتٍ﴾ طائعات ﴿تَائِبَاتٍ﴾ عن الذنوب ﴿عَابِدَاتٍ﴾ متذللات لأمر الرسول ﴿سَائِحَاتٍ﴾ صائمات.
﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ أي: مشتملات على الثيبات والأبكار، والآية واردة في الإخبار عن القدرة، لا عن الكون في الوقت؛ لأنه تعالى قال: ﴿إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾، وهو علم أنه لا يطلقهن، وهذا كقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهم؛ لأنه ليس في الوجود خير من أمة محمد - ﷺ -.
روي عن أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للنبي - ﷺ -: "يا رسول الله! لا تكترثْ بأمر نسائك، والله معك، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك"، فنزلت الآية موافقة نحوًا من قول عمر (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٠)، وقراءة (يبدله) في "التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٨).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٣٣٢)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٨/ ٢٨٧). وأصله في "الصحيح".
99
وروي أيضًا: أن عمر قال الزوجات النبي - ﷺ -: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن"، فنزلت الآية على نحو قوله (١).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا﴾ جَنِّبوا.
﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بترك المعاصي ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ بالنصح والتأديب.
﴿نَارًا وَقُودُهَا﴾ حطبها (٢) ﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وهي حجارة الكبريت، وقيل: الأصنام، وقرن الناس بالحجارة؛ لأنهم نحتوها واتخذوها أربابًا من دون الله، وقيل من النار نوع لا يتقد إلا بالناس والحجارة كاتقاد هذه النار بالحطب.
﴿عَلَيْهَا﴾ ولاة يعذبون بها الناس ﴿مَلَائِكَةٌ﴾ هم الزبانية ﴿غِلَاظٌ﴾ فظاظ على أهل النار ﴿شِدَادٌ﴾ أقوياء، بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبعين ألفًا، فيهوون في النار.
﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ به ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ بمحبة وإسراع، وهذه الآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد.
(١) رواه البخاري (٤٦٣٢)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾.
(٢) "حطبها" زيادة من "ت".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧)﴾.
[٧] ويقال للكفار عند دخولهم النار ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ونهيهم عن الاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)﴾.
[٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ هي ألَّا يعود إلى الذنب. قرأ أبو بكر عن عاصم: (نُصُوحًا) بضم النون، مصدر كالقعود، وقرأ الباقون: بفتحها (١)، مصدر واسم فاعل بمعنى ناصحة، وصف التوبة بالنصح مجازًا، وإنما هو وصف للتائبين؛ لأنهم ينصحون نفوسهم.
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ ترجية، وروي أن (عَسَى) هنا للوجوب.
﴿وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ عطف على ﴿يُكَفِّرَ﴾.
﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ﴾ ظرف لـ (يُدْخِلَكُم) ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ عطف على (النبي).
﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ على الصراط.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤١)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٨ - ١٧٩).
﴿يَقُولُونَ﴾ إذا طَفِئَ نْور المنافقين: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يقولون ذلك إشفاقًا على عادة البشرية.
وعن الحسن: مُتَمِّمة لهم، ولكنهم يدعون تقربًا إلى الله؛ كقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، وهو مغفور له.
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)﴾.
[٩] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ بالسيف ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ بالحجة وإقامة الحدود ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ في ذلك ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ جهنمُ.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿ضَرَبَ﴾ أي: مَثَّلَ ﴿اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ﴾ واسمها واعلة ﴿وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ واسمها واهلة.
﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾ أي: زوجيهما ﴿مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ﴾ هما نوح ولوط عليهما السلام.
﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ بأن أشركتا، لا في الفراش، فقد روي: ما زنت امرأة
نبي قط (١)، وخيانتهما أن كانت امرأة نوح تقول: إنه مجنون، وامرأة لوط تدل على أضيافه.
﴿فَلَمْ يُغْنِيَا﴾ أي: زوجاهما ﴿عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من عذابه.
﴿شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ الكافرين من أمة نوح ولوط، قطع الله بهذه الآية طمع من يركب المعصية أن ينفعه صلاحُ غيره.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
[١١] ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾ واسمها آسية بنت مزاحم.
﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ قريبًا من رحمتك، وذلك أنها آمنت، فعلم فرعون، فأوتد يدها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقى على صدرها رحى عظيمة (٢)، واستقبل بها الشمس، فقالت: ﴿رَبِّ ابنِ لِى عِندَكَ بها فِى الجَنَّةِ﴾، فكشف لها فرأت بيتها، فسهل الله عليها تعذيبها (٣)، وفي معنى
(١) جاء من قول ابن عباس وغير واحد من السلف، كما ذكر ابن كثير في "تفسيره" (٢/ ٤٤٩).
(٢) "عظيمة" زيادة من "ت".
(٣) رواه أبو يعلى في "مسنده" (٦٤٣١)، عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٩/ ٢١٨): رجاله رجال الصحيح.
قولها: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾، من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: الجارُ قبلَ الدار.
﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ هو الكفرُ، وتعذيبه إياها.
﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القبط.
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾ عطف على (امرأةَ فرعون) تسلية للأرامل.
وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (امْرَأَة) و (ابْنَهْ) بالهاء في الأحرف الأربعة، وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (عِمْرَانَ) بالإمالة (١).
﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ من الرجال ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ أي: الفرج.
﴿مِنْ رُوحِنَا﴾ والمراد: قولُ جبريل -عليه السلام- لها: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ الآية [مريم: ١٩].
﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ شرائعه، و (بِكَلِمَةِ رَبِّهَا)؛ أي: بعيسى، والتلاوة بالأول ﴿وَكُتُبِهِ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: بضم الكاف والتاء بغير ألف على الجمع؛ أي: كتبه المنزلة على إبرإهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٩)، الإمالة في "غيث النفع" للصفاقسي (ص: ٣٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٩).
104
التاء وألف بعدها على التوحيد (١)، والمراد: جنس الكتب المنزلة.
﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ المطيعين لربها، ولم يقل: من القانتات؛ لأن القنوت يعم الذكر والأنثى، فغلب الذكر.
قال - ﷺ -: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسيةُ بنتُ مزاحِم امرأةُ فرعون، ومريمُ بنتُ عمران، وخديجةُ بنتُ خويلد، وفاطمةُ بنتُ محمد، وفضل عائشةَ على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (٢)، والله أعلم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤١)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٨٠ - ١٨١).
(٢) رواه البخاري (٣٢٣٠)، كتاب: الأنبياء، باب قوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومسلم (٢٤٣١)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل خديجة رضي الله عنها، من حديث أبي موسى الأشعري، بلفظ: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد رواه الثعلبي في "تفسيره" (٩/ ٣٥٣) من حديث أبي موسى رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره المصنف رحمه الله.
105
سورة التحريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (التحريم) من السُّوَر المدنيَّة، نزلت بعد سورة (الحُجُرات)، وقد عاتَبَ اللهُ فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بسبب تحريمه العسلَ على نفسه إرضاءً لزوجاته، وورَد فيها النهيُ عن أن يُحرِّمَ أحدٌ شيئًا على نفسه لإرضاء أحدٍ؛ فلا قُرْبةَ في ذلك، وكذا فيها تنبيهٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكل المؤمنين على التزام الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم.

ترتيبها المصحفي
66
نوعها
مدنية
ألفاظها
254
ترتيب نزولها
107
العد المدني الأول
12
العد المدني الأخير
12
العد البصري
12
العد الكوفي
12
العد الشامي
12

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١ قَدْ فَرَضَ اْللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَٰنِكُمْۚ وَاْللَّهُ مَوْلَىٰكُمْۖ وَهُوَ اْلْعَلِيمُ اْلْحَكِيمُ ٢ وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ حَدِيثٗا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِۦ وَأَظْهَرَهُ اْللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُۥ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ اْلْعَلِيمُ اْلْخَبِيرُ ٣ إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1-4]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يمكُثُ عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ويَشرَبُ عندها عسَلًا، فتواصَيْتُ أنا وحَفْصةُ: أنَّ أيَّتَنا دخَلَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتقُلْ: إنِّي أجدُ منك رِيحَ مَغافيرَ، أكَلْتَ مَغافيرَ؟! فدخَلَ على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا، بل شَرِبْتُ عسَلًا عند زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولن أعُودَ له»؛ فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ} [التحريم: 1] إلى {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ} [التحريم: 4] لعائشةَ وحَفْصةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ اْلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِۦ} [التحريم: 3] لقوله: «بل شَرِبْتُ عسَلًا»». أخرجه البخاري (٥٢٦٧).

* قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «اجتمَعَ نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيْرةِ عليه، فقلتُ لهنَّ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٩١٦).

وعنه رضي الله عنه، قال: «لمَّا اعتزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: دخَلْتُ المسجدَ، فإذا الناسُ ينكُتون بالحصى، ويقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، وذلك قبل أن يُؤمَرْنَ بالحِجابِ، فقال عُمَرُ: فقلتُ: لَأعلَمَنَّ ذلك اليومَ، قال: فدخَلْتُ على عائشةَ، فقلتُ: يا بنتَ أبي بكرٍ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما لي وما لك يا بنَ الخطَّابِ؟! عليك بعَيْبتِك، قال: فدخَلْتُ على حَفْصةَ بنتِ عُمَرَ، فقلتُ لها: يا حَفْصةُ، أقَدْ بلَغَ مِن شأنِكِ أن تُؤذِي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ، لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لطلَّقَكِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبكَتْ أشدَّ البكاءِ، فقلتُ لها: أين رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانتِه في المَشْرُبةِ، فدخَلْتُ، فإذا أنا برَباحٍ غلامِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قاعدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبةِ، مُدَلٍّ رِجْلَيهِ على نَقِيرٍ مِن خشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرقَى عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وينحدِرُ، فنادَيْتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم قلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفةِ، ثم نظَرَ إليَّ، فلَمْ يقُلْ شيئًا، ثم رفَعْتُ صوتي، فقلتُ: يا رَباحُ، استأذِنْ لي عندَك على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنِّي أظُنُّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنِّي جِئْتُ مِن أجلِ حَفْصةَ، واللهِ، لَئِنْ أمَرَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها، لَأَضرِبَنَّ عُنُقَها، ورفَعْتُ صوتي، فأومأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو مضطجِعٌ على حصيرٍ، فجلَسْتُ، فأدنى عليه إزارَه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِه، فنظَرْتُ ببصَري في خِزانةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقَبْضةٍ مِن شَعِيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا، في ناحيةِ الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ معلَّقٌ، قال: فابتدَرتْ عَيْناي، قال: «ما يُبكِيك يا بنَ الخطَّابِ؟»، قلتُ: يا نبيَّ اللهِ، وما ليَ لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيْصَرُ وكِسْرَى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: «يا بنَ الخطَّابِ، ألَا تَرضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا؟»، قلتُ: بلى، قال: ودخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهِه الغضَبَ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما يشُقُّ عليك مِن شأنِ النِّساءِ؟ فإن كنتَ طلَّقْتَهنَّ، فإنَّ اللهَ معك وملائكتَه وجِبْريلَ وميكائيلَ، وأنا وأبو بكرٍ والمؤمنون معك، وقلَّما تكلَّمْتُ - وأحمَدُ اللهَ - بكلامٍ إلا رجَوْتُ أن يكونَ اللهُ يُصدِّقُ قولي الذي أقولُ، ونزَلتْ هذه الآيةُ آيةُ التخييرِ: {عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرٗا مِّنكُنَّ} [التحريم: 5]، {وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اْللَّهَ هُوَ مَوْلَىٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَٰلِحُ اْلْمُؤْمِنِينَۖ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحَفْصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أطلَّقْتَهنَّ؟ قال: «لا»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي دخَلْتُ المسجدَ والمسلمون ينكُتون بالحَصى، يقولون: طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، أفأنزِلُ فأُخبِرَهم أنَّك لم تُطلِّقْهنَّ؟ قال: «نعم، إن شِئْتَ»، فلَمْ أزَلْ أُحدِّثُه حتى تحسَّرَ الغضَبُ عن وجهِه، وحتى كشَرَ فضَحِكَ، وكان مِن أحسَنِ الناسِ ثَغْرًا، ثم نزَلَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونزَلْتُ، فنزَلْتُ أتشبَّثُ بالجِذْعِ، ونزَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرضِ، ما يَمَسُّه بيدِه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّما كنتَ في الغُرْفةِ تِسْعةً وعِشْرينَ؟ قال: «إنَّ الشهرَ يكونُ تِسْعًا وعِشْرينَ»، فقُمْتُ على بابِ المسجدِ، فنادَيْتُ بأعلى صوتي: لم يُطلِّقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، ونزَلتْ هذه الآيةُ: {وَإِذَا ‌جَآءَهُمْ ‌أَمْرٞ مِّنَ اْلْأَمْنِ أَوِ اْلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى اْلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اْلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۗ} [النساء: 83]، فكنتُ أنا استنبَطْتُ ذلك الأمرَ، وأنزَلَ اللهُ عز وجل آيةَ التخييرِ». أخرجه مسلم (١٤٧٩).

* سورة (التحريم):

سُمِّيت سورة (التحريم) بهذا الاسم؛ لِما ذُكِر فيها من تحريمِ النبي صلى الله عليه وسلم على نفسِه ما أحلَّ اللهُ له؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اْللَّهُ لَكَۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَۚ وَاْللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [التحريم: 1].
* سورة (اْلنَّبِيِّ):
للسبب السابق نفسه.

* سورة {لِمَ تُحَرِّمُ}:
وتسميتها بهذا الاسمِ من قبيل تسمية السورة بأولِ كلمة فيها.

1. عتابٌ ومغفرة (١-٢).

2. إفشاء سرِّ الزوجية، وعواقبه (٣-٥).

3. الرعاية مسؤولية ومكافأة (٦-٩).

4. العِظات من سِيَر الأقدمين (١٠-١٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /245).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على تقديرِ التدبير في الآداب مع الله ومع رسوله، لا سيما للنساء؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في حُسْنِ عِشْرته، وكريم صُحْبته، وبيان أن الأدبَ الشرعي تارة يكون باللِّين، وأخرى بالسوط وما داناه، ومرة بالسيف وما والاه.

واسماها (التحريم، والنبيُّ): موضِّحٌ لذلك». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /99).