ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة، ودل السياق فيه على الحصر، أتبعه ما بين المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه، فقال دالاً على عظمه بمظهر العظمة:
﴿وجعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿فيها﴾ أي الأرض
﴿جنات﴾ أي بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة. ولما كان النخل - مع ما فيه من النفع - زينة دائماً بكونه لا يسقط ورقه، قدمه وسماه باسمه فقال:
124
﴿من نخيل﴾ وفيه أيضاً إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وجماراً وبسراً ورطباً وتمراً، ولذلك - والله أعلم - أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائماً قال:
﴿وأعناب﴾ ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك.
ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل، فكان فورانه إلى جهة العلو أمراً باهراً للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال:
﴿وفجرنا﴾ أي فتحنا تفتيحاً عظيماً
﴿فيها﴾ ودل على تناهي عظمته وتعاليها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله:
﴿من العيون *﴾ والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالباً على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعاً للسكن، ولو شاء لفجر الأرض عيوناً كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها.
125
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء، أشار إلى ذلك بقوله:
﴿ليأكلوا من﴾ وأشارت قراءة حمزة والكسائي بصيغة الجمع مع إفراد الضمير إلى أن الشجرة الواحدة تجمع بالتطعيم أصنافاً من الثمر
﴿ثمره﴾ أي من ثمر ما تقدم، ولولا الماء لما طلع، ولولا أنه بكثرة لما أثمر بعد الطلوع.
ولما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسبباً، ونبه على أن الكل بخلقه فقال:
﴿وما عملته﴾ أي ولم تعمل شيئاً من ذلك
﴿أيديهم﴾ أي عملاً ضعيفاً - بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد. ولما كان السياق ظاهراً في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصراً للفعل تعميماً للمفعول رداً لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب، أي ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء لا لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله:
﴿أفلا يشكرون *﴾ أي يدأبون دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار.
126
ولما كان السياق لإثبات الوحدانية والإعلام بأن ما عبد من دونه لا استحقاق له في ذلك بوجه، ولا نفع بيده ولا ضر، وأنتج هذا السياق بما دل عليه من تفرده بكل كمال وأنه لا أمر لأحد معه بوجه من الوجوه - تنزهه عما ادعوه من الشرك غاية التنزه، قال لافتاً للكلام عن مظهر العظمة لأن إثباتها بالرحمة الدال عليها أدخل في التعظيم:
﴿سبحان الذي﴾ ووصفه بما أكد ما مضى من إسناد الأمور كلها إليه ونفى كل شيء منها عمن سواه فقال:
﴿خلق الأزواج﴾ أي الأنواع المتشاكلة المتباينة في الأوصاف وفي الطعوم والأرابيح والأشكال والهيئات والطبائع وغير ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله تدل أعظم دلالة على كمال القدرة وعظيم الحكمة والاختيار في الإرادة، وأكد بقوله:
﴿كلها﴾ لإفادة التعميم؛ ثم زاد الأمر تصريحاً بالبيان بقوله:
﴿مما تنبت الأرض﴾ فدخل فيه من كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها، وأشار - لكونه في سياق تكذيبهم - إلى تأديبهم بتحقيرهم بجمع القلة والتعبير بالنفس التي تطلق في الغالب على ما يذم به فقال:
﴿ومن أنفسهم﴾ وبين أن وراء ذلك أموراً لا يعلمها إلا هو سبحانه فقال:
﴿ومما لا يعلمون *﴾ أي ومما لا يحتاجون إليه
127
في دينهم ولا دنياهم، ولا توقف لشيء من إصلاح المعاش والمعاد عليه، ولو كان ذلك لأعلم به كما أعلم بأحوال الآخرة وغيرها مما لم نكن نعلمه.
ولما دربهم على النظر بآيات الأعيان الحسية الدالة على القدرة الباهرة لا سيما على البعث، رقاهم إلى المعاني على ذلك النحو، فإن إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه أدل دليل على البعث، فقال ناقلاً لهم من المكان الكلي إلى الزمان الكلي الجامعين للجواهر والأعراض:
﴿وآية لهم﴾ أي على إعادة الشيء بعد إفنائه
﴿الّيل﴾ أي الذي يشاهدونه لا شك عندهم فيه ولا حيلة بوجه في رفعه؛ ثم استأنف قوله:
﴿نسلخ﴾ عائداً إلى مظهر العظمة دلالة على جلالة هذا الفعل بخصوصه.
ولما كان الأصل في هذا الوجود الظلام، والضياء حادث، وكان ضياؤه ليس خالصاً، عبر ب
«من» التي تصلح للملابسة مع التخلل في الأجزاء فقال:
﴿منه النهار﴾ أي الذي كان مختلطاً به بإزالة الضوء وكشفه عن حقيقة الليل
﴿فإذا هم﴾ بعد إزالتنا للنهار الذي سلخناه من الليل
﴿مظلمون *﴾ أي داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً كما يستر الجلد الشاة، قال الماوردي: وذلك أن ضوء
128
النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم - نقله ابن الجوزي عنه، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون.
ولما ذكر الوقتين، ذكر آيتيهما فقال:
﴿والشمس﴾ أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها
﴿تجري﴾ ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج، قال:
﴿لمستقر﴾ أي عظيم
﴿لها﴾ وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة، وهي فيه مسرعة - بدليل التعبير باللام في موضع
«إلى» ويدل على هذا قراءة
«لا مستقر لها» بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«مستقرها تحت العرش، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها» - هذا لفظ مسلم،
129
وسيأتي لفظ البخاري، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود.
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، عظمه بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر الباهر للعقول؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله:
﴿تقدير﴾ وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال:
﴿العزيز﴾ أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة، وهو غالب على كل شيء
﴿العليم *﴾ أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر! أتدري أين تذهب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد
130
تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فذلك قوله تعالى:
﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾ ».
131
ولما ذكر آية النهار، أتبعها آية الليل فقال:
﴿والقمر﴾ ومعناه في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وروح عن يعقوب بالرفع: يجري لمستقر له، ونصبه الباقون دلالة على عظمة هذا الجري لسرعته بقطعه في شهر ما تقطعه الشمس في سنة، ولذلك ضعف الفعل المفسر للناصب وأعمله في ضمير القمر ليكون مذكوراً مرتين فيدل على شدة العناية تنبيهاً على تعظيم الفعل فيه، وأعاد مظهر العظمة فقال مستانفاً في قراءة الرفع:
﴿قدرناه﴾ أي قسناه قياساً عظيماً أي قسنا لسيره
﴿منازل﴾ ثمانية وعشرين، ثم يستسر ليلتين: عند التمام وليلة للنقصان لا يقدر يوماً أن يتعداه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى.
﴿حتى عاد﴾ أي بعد أن كان بدراً عظيماً
﴿كالعرجون﴾ من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة
131
دقيقاً منحنياً، وهو فعلول ذكره أهل اللغة في النون وقالوا: عرجن الثوب: صور فيه صور العراجين، وقال المفسرون: إنه من عرج، أي أعوج. ولما كانت حمرته آخذة إلى صفرة قال:
﴿القديم *﴾ أي المحول، فإن العرجون إذا طال مكثه صار كذلك، فدق وانحنى واصفر.
ولما تقرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها، فلا يغلب ما هو آيته ما هو آية الآخر، بل إذا جاء سلطان هذا ذهب ذاك، وإذا جاء ذاك ذهب هذا، فإذا اجتمعا قامت الساعة، تحرر أن نتيجة هذه القضايا:
﴿لا الشمس﴾ أي التي هي آية النهار
﴿ينبغي لها﴾ أي ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب
﴿أن تدرك﴾ أي لأن حركتها بطيئة
﴿القمر﴾ أي فتطمسه بالكلية، فما النهار سابق الليل
﴿ولا الّيل سابق النهار﴾ أي حتى ينبغي للقمر مع سرعة سيره أن يدرك الشمس ويغلبها فلا يوجد نهار أصلاً، ولو قيل: يستبق لاختل المعنى لإيهامه أنه لا يتقدمه أصلاً فالآية من الاحتباك: نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها دليلاً على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة
132
بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً
﴿وكل﴾ أي من المذكورات حقيقة ومجازاً
﴿في فلك﴾ محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال: آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم دائماً:
﴿يسبحون *﴾ حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها - لشدة الإلف لها - الجاهلون.
ولما ذكر ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك لو تعداها لاختل النظام، ذكر ما هيأه من الفلك للسباحة على وجه الماء الذي طبق الأرض في زمن نوح عليه السلام حتى كانت كالسماء، ولو تعدت السفينة ما حد لها سبحانه من المنازل فنفذت إلى بحر الظلمات لفسد الشأن، وكانوا فيها كأنهم في الأرض، وبسيرها كأنهم يخترقون الجبال والفيافي والقفار - كل ذلك تذكيراً بأيام الله، وتنبيهاً على استدرار نعمه، وتحذيراً من سطواته ونقمه، ومنّاً عليهم بما يسر لهم من سلوك البحر والتوصل به إلى جليل المنافع فقال:
﴿وآية لهم﴾ أي
133
على قدرتنا التامة الشامل
﴿أنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿حملنا﴾.
ولما كان من قبل نوح عليه السلام من أصول البشر لم يحملوا في الفلك، عدل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله:
﴿ذريتهم﴾ أي ذرية البشر التي ذرأناها وذروناها وذررناها حتى ملأنا بها الأرض من ذلك الوقت إلى آخر الدهر، ولهذا التكثير المفهوم من هذا الاشتقاق البليغ اغتنى ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون فقرؤوا بالإفراد، وزادت في الإيضاح قراءة الباقين بالجمع، بعضهم ظاهراً وبعضهم في ظهر أبيه
﴿في الفلك﴾ عرفه لشهرته بين جميع الناس
﴿المشحون *﴾ أي الموقر المملوء حيواناً وزاداً، وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير قط مثلها ولا يرى أبداً، ومع ذلك فسلمه الله.
ولما كانت هذه الآية لم تنقطع بل عم سبحانه بنفعها:
﴿وخلقنا﴾ أي بعظمتنا الباهرة
﴿لهم من مثله﴾ أي من مثل ذلك الفلك من الإبل والفلك
﴿ما يركبون *﴾ أي مستمرين على ذلك على سبيل التجدد ليقصدوا منافعهم، ولو شئنا لمنعنا ذلك.
ولما كان قد أنجى سبحانه آباءنا حين حمله في ذلك الماء الذي لم يكن مثله قط، وكان ربما ظن أن الإنجاء لسر من الأسرار غير
134
إرادته، جعل أمر ما خلق من مثله تارة وتارة ليعرف أن ذلك هو بصنعه فتشكر نعمته أولاً وآخراً فقال:
﴿وإن نشأ﴾ أي لأجل ما لنا من القوة الشاملة
﴿نغرقهم﴾ أي مع أن هذا الماء الذي يركبونه لا يعشر ذلك الذي حملنا فيه آباءهم
﴿فلا صريخ لهم﴾ أي مغيث ينجيهم مما نريد بهم من الغرق
﴿ولا هم﴾ أي بأنفسهم من غير صريخ
﴿ينقذون *﴾ أي يكون لهم إنقاذ أي خلاص بأنفسهم أو غيرها.
ولما كان هو سبحانه يصرخ من يشاء فينجيه وكانت
«لا» نافية نفياً مستغرقاً، استثنى ما كان منه سبحانه فقال:
﴿إلا رحمة﴾ أي إلا نحن فننقذهم إن شئنا رحمة
﴿منا﴾ أي لهم، لا وجوباً علينا، ولا لمنفعة تعود منهم إلينا
﴿ومتاعاً﴾ أي لهم
﴿إلى حين *﴾ أي وهو حين انقضاء آجالهم.
ولما كان هذا الحال معلوماً لهم لا ينازعون فيه بوجه، بل إذا وقعوا فيه أخلصوا الدعاء وأمروا به وخلعوا الأنداد، وكان علم ذلك موجباً لصاحبه أن لا يغفل عن القادر عليه وقتاً ما، بل لا يفتر عن شكره خوفاً من مكره، وكان العاقل إذا ذكر بأمر فعلمه يقيناً كان جديراً بأن يقبله، فإذا لم يقبله وخوف عاقبته بأمر محتمل جد في الاحتراز منه، عجب منهم في إعراضهم عنه سبحانه مع قيام الأدلة القاطعة على
135
وحدانيته وأنه قادر على ما يريد من عذاب وثواب، وإقبالهم على ما لا ينفعهم بوجه، فقال:
﴿وإذا قيل﴾ أي من أي قائل كان
﴿لهم اتقوا﴾ أي خافوا خوفاً عظيماً تعالجون فيه أنفسكم
﴿ما بين أيديكم﴾ أي بما يمكن أن تقعوا فيه من العثرات المهلكة في الدارين
﴿وما خلفكم﴾ أي ما فرطتم فيه ولم تجاروا به ولا بد من المحاسبة عليه لأن الله الذي خلقكم أحكم الحاكمين
﴿لعلكم ترحمون *﴾ أي تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام.
136
ولما كان التقدير: أعرضوا لأن الإعراض قد صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك من أسره، عطف عليه قوله إشارة إليه:
﴿وما تأتيهم﴾ وعمم بقوله:
﴿من آية﴾ وبين قوله:
﴿من آيات﴾ ولفت الكلام للتذكير بالإنعام تكذيباً لهم في أنهم أشكر الناس للمنعم فقال:
﴿ربهم﴾ أي المحسن إليهم
﴿إلا كانوا عنها﴾ أي مع كونها من عند من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه
﴿معرضين *﴾ أي دائماً إعراضهم.
ولما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء
«هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»
136
وكان الإنفاق خلق المؤمنين، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة فلا يخافون ما يجوز وقوعه من العذاب، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب:
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي من أيّ قائل كان:
﴿أنفقوا﴾ أي على من لا شيء، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع خلقه الذين هم عياله، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل ببعضه فقال:
﴿مما رزقكم﴾ وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه، وزاد في تقريعهم بجعل ذلك الظاهر اسم الذات لأنه لا ينبغي أن يكون عطاء العبد على قدر سيده فقال:
﴿الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿قال﴾ وأظهر تبكيتاً لهم بالوصف الحامل لهم على البخل فقال:
﴿الذين كفورا﴾ أي ستروا وغطوا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات
﴿للذين آمنوا﴾ أي القائلين بذلك المعتقدين له سواء كانوا هم القائلين لهم أو غيرهم منكرين عليهم استهزاء بهم عادلين عما اقتضى السؤال عن ذكر الإنفاق إلى ما يفيد التقريع بالفقر والحاجة إلى الأكل:
﴿أنطعم﴾ وعدلوا عن التعبير بالماضي لئلا يقال لهم: قد تولى سبحانه إطعامه من حين خلقه إلى الآن، فقالوا:
﴿من لو يشاء﴾ وأظهروا حدّاً له ومساعيه فقالوا:
137
﴿الله﴾ أي الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده
﴿أطعمه﴾ أي لكنا ننظره لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم لما نرى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه فتركوا التأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير على طريق النتيجة لما تقدم:
﴿إن﴾ أي ما
﴿أنتم إلا في ضلال﴾ أي محيط بكم
﴿مبين *﴾ أي في غاية الظهور، وما دروا أن الضلال إنما هو لهم لأنه سبحانه إنما جعل إطعام بعض خلقه بلا واسطة وبعضهم بواسطة امتحاناً منه للمطيع والعاصي والشاكر والكافر والجزع والصابر - وغير ذلك من حكمه.
ولما ذكر قلة خيرهم المستندة إلى تهكمهم باليوم الذي ذكروا به بالأمر بالاتقاء والتعليل بترجي الرحمة، أتبعه حكاية استهزاء آخر منهم دال على عظيم جهلهم بتكذيبهم بما يوعدون على وجه التصريح بذلك اليوم والتصوير له بما لا يسع من له أدنى مسكة غير الانقياد له فقال:
﴿ويقولون﴾ أي عادة مستمرة مضمونة إلى ما تقدم مما يستلزم تكذيبهم، وزادوا بالتعبير بأداة القرب في تقريعهم إشارة إلى أنكم زدتم علينا
138
في التهديد به والتقريب له حتى ظن أنه مصبحنا أو ممسينا ولم نحس منه عيناً ولا أثراً:
﴿متى هذا﴾ وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا:
﴿الوعد﴾ أي الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً، عجلوه لنا. وألهبوا وهيجوا زيادة في التكذيب بقولهم:
﴿إن كنتم صادقين *﴾ ولما كان الحازم من لا يتهكم بشيء إلا إذا استعد له بما هو محقق الدفع، بين سفههم بإتيانها بغتة وبأنه لا بد من وقوعها، وأنها بحيث تملأ السماوات والأرض، فكأنه لا شيء فيهما غيرها بقوله:
﴿ما ينظرون﴾ أي مما يوعدون ويجوز أن يكون بمعنى
«ينتظرون» لأن استبطاءهم لها في صورة الانتظار وإن أرادوا به الاستهزاء وجرد الفعل تقريباً لها لتحقق وقوعه
﴿إلا صيحة﴾ وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله:
﴿واحدة﴾ وهي النفخة الأولى المميتة، واقتصر في تأكيد الوحدة على هذا بخلاف ما يأتي في المحيية لأنهم لا ينكرون أصل الموت
﴿تأخذهم﴾ أي تهلكهم؛ وبين غرورهم بقوله:
﴿وهم يخصمون *﴾ أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم على غاية من الغفلة، ولعله عبر بذلك إشارة بالإدغام اللازم عنه التشديد إلى تناهي الخصام بإقامة أسبابه أعلاها وأدناها
139
إلى حد لا مزيد عليه لأن التاء معناه عند أهل الله انتهاء التسبيب إلى أدناه وكل ذلك إشارة إلى أنهم في وقت الصعق يكونون في أعظم الأمان منها لأن إعراضهم عنها بلغ إلى غاية لا مزيد عليها، ويشير الإدغام أيضاً إلى أن خصومتهم في غاية الخفاء بالنسبة إلى الصيحة، وأن بلغت الخصومة النهاية في الشدة، ولم يقرأ أحد
«يختصمون» بالإظهار إشارة إلى أنه لا يقع في ذلك الوقت خصومه كاملة حتى تكون ظاهرة بل تهلكهم الصيحة قبل استيفاء الحجج وإظهار الدلائل، فمنها ما كان ابتدأ فيه اصحابه فأوجزوا - بما أشارت إليه قراءة حمزة بإسكان الخاء وكسر الصاد مخففاً، ومنها ما كان متوسطاً وفيه خفاء وعلو - بما أشار إليه تشديد الصاد مع اختلاس فتحة الخاء، ومنها ما هو كذلك وهو إلى الجلاء أقرب - بما أشار إليه إخلاص فتحة الخاء مع تشديد الصاد، وأشار من قرأه كذلك مع كسر الخاء إلى التوسط مع الخفاء والسفول، والله أعلم.
ولما كانت هذه النفخة المميتة، سبب عنها قوله:
﴿فلا يستطيعون توصية﴾ أي أن يوجدوا الوصية في شيء من
140
الأشياء، والاستفعال والتفعيل يدلان على أن الموت ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما.
ولما كان ذلك ليس نصّاً في نفي المشي قال:
﴿ولا إلى أهلهم﴾ أي فضلاً عن غيرهم
﴿يرجعون *﴾ بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة، وربنا أفهم التعبير ب
«إلى» أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث
«ليقومن من الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها».
ولما دل ذلك على الموت قطعاً، عقبه بالبعث، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه معروف في إفاضة الروح فقال:
﴿ونفخ في الصور﴾ أي الذي أخذتهم صيحته، وجهله إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من الأثر، بل من أذن له الله كائناً من كان تأثر عن نفخه ما ذكر، وإن كنا
141
نعلم أن المأذون له إسرافيل عليه السلام.
ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده سواء من غير تخلف، عبر سبحانه بما يدل على التعقب والتسبب والفجاءة فقال:
﴿فإذا هم﴾ أي في حين النفخ
﴿من الأجداث﴾ أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ
﴿إلى ربهم﴾ أي الذي أحسن إليهم بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه، لا إلى غيره
﴿ينسلون *﴾ أي يسرعون المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة، حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة.
142
ولما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون، استأنف قوله:
﴿قالوا﴾ أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين الذين قاموا بالنفخة وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك. ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي، اتبعوه قولهم حاكياً سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم:
﴿يا ويلنا﴾ أي ليس
142
بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل، ثم استفهموا جرباً على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين لضميرهم تخصيصاً للويل بهم لأنهم في معرض الشك:
﴿من بعثنا من مرقدنا﴾ عدوا مكانهم الذين كانوا به - مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ - مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً:
﴿هذا ما﴾ أي الوعد الذي
﴿وعد﴾ أي به، وحذفوا المفعول تعميماً لأنهم الآن في حيز التصديق
﴿الرحمن﴾ أي العام الرحمة الذي رحمانيته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه، ويجازي كلاًّ بعمله من غير حيف، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك، وطال ما أنذرونا حلوله، وحذرونا صعوبته وطوله. ولما كان التقدير: فصدق الرحمن، عطف عليه قوله:
﴿وصدق﴾ أي في أمره
﴿المرسلون *﴾ أي الذين أتونا بوعده ووعيده، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به ورسله هو الذي بعثنا تصديقاً لوعده ورسله.
143
ولما كان الإخبار بالنفخ لا ينفي التعدد، قال محقراً لأمر البعث بالنسبة إلى قدرته مظهراً للعناية بتأكيد كونها واحدة بجعل الخبر عنه أصلاً مستقلاً بفضله عن النفخ والإتيان فيه بفعل الكون و
«إن» النافية لأدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه دون
«ما» التي إنما تنفي التمام:
﴿إن﴾ أي ما
﴿كانت﴾ أي النفخة التي وقع الإحياء بها مطلق كون
﴿إلا صيحة واحدة﴾ أي كما كانت نفخة الإماتة واحدة
﴿فإذا هم﴾ أي فجأة من غير توقف أصلاً
﴿جميع﴾ أي على حالة الاجتماع، لم يتأخر منهم أحد، يتعللون به في ترك الانتصار، ودوام الخضوع والذل والصغار، ولما كان ذلك على هيئات غريبة لا يبلغ كنهها العقول، قال لافتاً القول إلى مظهر العظمة معبراً بما للأمور الخاصة:
﴿لدينا﴾ ولما كان ذلك أمراً لا بد منه، ولا يمكن التخلف عنه، عبر بصيغة المفعول وأكد معنى الاجتماع بالجمع نظراً إلى معنى جميع ولم يفرد اعتباراً للفظها لما ذكر من المعنى فقال:
﴿محضرون *﴾ أي بغاية الكراهة منهم لذلك بقادة تزجرهم وساقة تقهرهم.
ولما كان هذا الإحضار بسبب العدل وإظهار جميع صفات الكمال قال:
﴿فاليوم﴾ ولما كان نفي الظلم مطلقاً أبلغ من نفيه عن أحد بعينه، وأدل على المراد وأوجز، قال لافتاً القول عن الإظهار أو الإضمار بمظهر العظمة أو غيره!
﴿لا تظلم﴾ ولما كان التعبير
144
بما كثر جعله محط الرذائل والحظوظ والنقائص أدل على عموم نفي الظلم قال:
﴿نفس﴾ أي أيّ نفس كانت مكروهة أو محبوبة
﴿شيئاً﴾ أي لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شي ما. ولما كانت المجازاة بالجنس أدل على القدرة وأدخل في العدل، قال محققاً بالخطاب والجمع أن المنفي ظلمه كل من يصلح للخطاب لئلا يقع في وهم أن المنفي ظلمه نفوس مخصوصة أو نفس واحد:
﴿ولا تجزون﴾ أي على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد ما
﴿إلا ما كنتم تعملون *﴾ ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم.
ولما قرر أن الجزاء من جنس العمل، شرع في تفصيله، وبدأ بأشرف الحزبين في جواب من سأل عن هذا الجزاء فقال مؤسفاً لأهل الشقاء بالتذكير بالتأكيد بما كان لهم من الإنكار في الدنيا وإظهار للرغبة في هذا القول والتبجح به لما له من عظيم الثمرة:
﴿إن اصحاب الجنة﴾ أي الذين لا حظ للنار فيهم، وكرر التعبير باليوم تعظيماً لشأنه وتهويلاً لأمره على إثر نفختيه المميتة والمقيمة بذكر بعض ثمراته، وجمل من عظائم تأثيراته، فقال:
﴿اليوم﴾ أي يوم البعث، وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم أو دخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعة ونحوها من الكرامات عن دخول أهل النار النار، وعبر بما يدل على أنهم
145
بكلياتهم مقبلون عليه ومظروفون له مع توجههم إليه فقال:
﴿في شغل﴾ أي عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات. ولما تاقت النفوس إلى تفسير هذا الشغل قال:
﴿فاكهون *﴾ أي لهم عيش المتفكة، وهو الأمن والنعمة والبسط واللذة وتمام الراحة كما كانوا يرضوننا بإجهاد أنفسهم وإتعابها وإشقائها وإرهابها، وقراءة أبي جعفر بحذف الالف أبلغ لأنها تدور على دوام ذلك لهم وعلى أنهم في أنفسهم في غاية ما يكون من خفة الروح وحسن الحديث.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال:
﴿هم﴾ أي بظواهرهم وبواطنهم
﴿وأزواجهم﴾ أي أشكالهم الذين هم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون، ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون
﴿في ظلال﴾ أي يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد، كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام، وتجرع مرارات الأوام، والصبر في مرضاتنا على الآلام، ويقرون أيديهم وقلوبهم عن الأموال، ببذل الصدقات في سبلنا على مر الأيام وكر الليال، وقراءة حمزة والكسائي بضم الظاء وحذف
146
الألف على أنه أشد امتداداً، ويدل اتفاقهما في الجمع على أن الظل فيها مختلف باختلاف الأعمال.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر، قال:
﴿على الأرائك﴾ أي السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجل، قال البغوي: قال ثعلب: لا يكون أريكة حتى يكون عليها حجلة، وقال ابن جرير: الأرائك: الحجال فيها السرر، وروى أبو عبيد في كتاب الفضائل عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير. وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون الأبصار ويضعون نفوسهم لأجلنا
﴿متكئون *﴾ كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء: الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه، أو الجلوس مع التكمن على هيئة المتربع، وقراءته بضم
147
الكاف وحذف الهمزة أدل على التربع وما قاربه، وقراءة كسر الكاف وضم الهمزة أدل على القرب من التمدد لما فيها من الكسرة، فإنه يقال كما نقله أبو عبد الله القزاز: اتكأت الرجل اتكاء - إذا وسدته أي جعلت له وسادة، أي محذة يستريح عليها.
148
ولما قدم المعاني التي توجب أكل الفاكهة، أتى بها فقال:
﴿لهم﴾ أي خاصة بهم
﴿فيها فاكهة﴾ أي لا تنقطع أبداً، فلا مانع لهم من تناولها، ولا يوقف ذلك على غير الإرادة. ولما كانت الفاكهة قد تطلق على ما يلذذ، صرح بأن ذلك هو المراد، فقال معبراً بالعطف لتكون الفاكهة مذكورة مرتين خصوصاً وعموماً:
﴿ولهم﴾ ولما كان السياق لأصحاب الجنة الذين تفهم الصيحة أنهم فيها دائماً وإن كانوا في الدنيا، أعري الكلام من الظرف ليفهم إجابة دعائهم في الدنيا وإنالتهم جميع مرادهم في الدارين فقال:
﴿ما يدعون﴾ أي الذي يطلبون طلباً أما إخراجاً لما قد يهجس في النفس من غير عزم عليه إن كان المراد في الجنة من غير كلام الله كالمآكل والمشارب ونحوها، وإما إظهاراً للاهتمام إن كان المراد أنه كلامه سبحانه، وذلك
148
لأجل ما كانوا في الدنيا يفطمون أنفسهم عن الشهوات عزوفاً عما يفنى، وطموحاً إلى ما عندنا من الباقيات الصالحات، ثم فسر الذي يدعونه - أي يطلبونه - بغاية الاشتياق إليه أو استأنف الإخبار عنه بقوله:
﴿سلام﴾ أي عظيم جداً لا يكتنه وصفه، عليكم يا أهل الجنة، كائن هو أو مقول هو، والسلام يجمع جميع النعم، ثم بين حال هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله:
﴿قولاً من رب﴾ أي دائم الإحسان
﴿رحيم *﴾ أي عظيم الإكرام بما ترضاه الألهية، كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا، فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذة الرؤية مع التقوية عن الدهش والصعق لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه، وقد أوضح هذا السياق أنه من الله تعالى بلا واسطة، فإنه أكده بالقول وحرف الابتداء، وذكر صفات الإحسان كما قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولا ارتياب في أنه لا شيء يعدل هذا في النعيم وقرة العين والشرف وعلو القدر، ولا شك أن هذا هو المقصود بالحقيقة، فهو قلب النعيم في ذلك اليوم الذي هو قلب الوجود حقاً خفاء وصلاحاً وفساداً، فصح أن هذه
149
الآية قلب هذه السورة كما كانت هذه السورة قلب القرآن، وقد ورد حديث في تفسير البغوي وكتاب المائتين للأستاذ أبي عثمان الصابوني أنه من الله تعالى بلا واسطة عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم با أهل الجنة، وذلك قوله تعالى ﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم»
قال الأستاذ أبو عثمان: هذا حديث غريب الإسناد والمتن لا أعلم إني كتبته إلا من هذا الوجه.
ولما كان التقدير: فانظروا وازدادوا حسرة أيها المجرمون، عطف عليه قوله:
﴿وامتازوا﴾ أي انفردوا انفراداً هو بغاية القصد، وجرى على النمط الماضي من زيادة التهويل لذلك الموقف بإعادة قوله:
﴿اليوم﴾ أي عن عبادي الصالحين أو عمن بقي منهم معكم في الموقف ليظهروا من أوضارهم، ويشفوا من مضارهم، لأن غيبة الرقيب أتم النعيم، وإبعاد العدو أعلى السرور، وحذف أداة النداء لا لقرب الكرامة بل للدلالة
150
على أنهم في القبضة لا مانع من غاية التصرف فيهم لكل ما يراد لأنه لا حائل دونهم
﴿أيها المجرمون *﴾ أي العريقون في الإجرام، فلا يقع في أوهامكم أنكم تخالطونهم اليوم أصلاً، وهذا ما كنتم تمتازون عنهم في الدنيا وتقاطعونهم ترفعاً واستكباراً، فهذا قوله للمجرمين وذلك قوله للمؤمنين، فصح أنه قلب لأنه به صلاح بعض المكلفين وفساد الآخرين الذي هو تمام صلاح الأولين، وقد تقدم في أوائل سورة الروم منام ينفع استحضاره هنا.
ولما أمرهم بالامتياز أمراً إرادياً حكمياً، فامتازوا في الحال، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل، وصروا بالأسنان، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت الوجوه، وتقلصت الشفاه، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان، وسحبوا على الوجوه، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول، وتذوب من ذكره النفوس، وتنخلع القلوب، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم
151
إلى ذلك، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً:
﴿ألم أعهد﴾ أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس، ثم أشار إلى علوه وجلاله، وعظمه وسمو كماله فقال:
﴿إليكم﴾.
ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتوبيخهم وتبكيتهم، وكانت هذه السورة القلب، وكان القلب أشرف الأعضاء، وكان الإنسان أشرف الموجودات، خصه بالخطاب لأنه خطابه خطاب للجن فقال مؤكداً ما أفهمه حرف الغاية من علو رتبته، وعظيم منزلته بما أشارت إليه أداة البعد:
﴿يا بني آدم﴾ أي فلم أخصكم بذلك عن أبناء غير نوعكم ليكون ذلك التخصيص حاملاً لكم على العصيان بل ليكون موجباً للطاعات والعرفان:
﴿أن لا تعبدوا الشيطان﴾ أي البعيد المحترق بطاعتكم له فيما يوسوس لكم به، ثم علل النهي عن عبادته بما يقتضي
152
شدة النفرة منه بعد أن لوّح إلى ذلك بوصفه فقال:
﴿إنه لكم﴾ والتأكيد لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته
﴿عدو مبين *﴾ أي ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم العداوة التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشف منها، ومن جهة أمره لكم بما يبغض الدنيا من التخالف والتخاصم، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه، فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً وأوضاراً، فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي، فكيف إذا كان عائقاً عن المولى، فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه.
ولما بكتهم بالتذكير بما ارتكبوا مع النهي عن عبادة العدو تقديماً لدرء المفاسد، وبخهم بالتذكير بما ضيعوا مع أخذ العهود من واجب الأمر بعبادة الولي فقال عاطفاً على
«أن لا» :
﴿وأن اعبدوني﴾ ولما ذكر سبحانه بالأمر بعبادته، عرف بحسنها حثاً على لزومها قبل ذلك اليوم قائلاً:
﴿هذا﴾ أي الأمر بعبادتي
﴿صراط مستقيم *﴾ أي بليغ القوم، وعبادة الشيطان صراط ضيق معوج غاية الضيق والعوج.
ولما كان التقدير: فاتبعتموه وسلكتم سبيله مع اعوجاجه، وتركتم سبيلي مع ظهور استقامته، عطف عليه قوله:
﴿ولقد أضل منكم﴾ أي عن الطريق الواضح السوي بما سلطته به من الوسوسة، وأكده
153
إشارة إلى أنه أمر لا يكاد أن يصدق به لما يبعد ارتكابه في العادة من اتضاح أمره وظهور فساده وضره. ولما كان الآدمي شديد الشكيمة عالي الهمة إذا أراد، عبر بقوله:
﴿جبّلاً﴾ أي أمما كباراً عظاماً كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد، ومع ذلك فكان يتلعب بهم تلعباً، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً، قال في القاموس: الجبل - بالضم: الشجر اليابس والجماعة منا كالجبل كعنق وعدل وعتل وطمر وطمرة وأمير، ثم قال: وبالكسر وبالضم وكطمرة: الأمة والجماعة، ثم قال: والجبلة مثلثة ومحركة وكطمرة: الخلقة والطبيعة. ودلت قراءة أبي عمرو وابن عامر بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام على الذين هم في أول مراتب الشدة والقوة، وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ورويس عن يعقوب بضمتين وتخفيف على ما فوق ذلك مما يقرب من الوسط مع الظهور والعلو للضم من القوة، وقراءة روح كذلك مع
154
تشديد على ما فوق الوسط - بما أشارت إليه الحركات والتشديد، ولكنه مع خفاء، وكأنه بالمكر بما أشار إليه كون الحركتين بالكسر، وعظم سبحانه الأمر بقوله:
﴿كثيراً﴾ ثم زاد في التوبيخ والإنكار بما أنتجه المقام وسببه إضلاله لهم مع ما أوتوا من العقول من قوله:
﴿أفلم﴾ ولما كان سبحانه قد آتاهم عقولاً وأيّ عقول، عبر بالكون فقال:
﴿تكونوا تعقلون *﴾ أي لتدلكم على ما فيه النجاة عقولكم بما نصبت من الأدلة، ومع ما نبهت عليه الرسل، وحذرت منه من إهلاك الماضين، بسبب اتباع الشياطين، وغير ذلك من كل أمر واضح مبين.
ولما أنكر عليهم أن يفعلوا فعل من لا عقل له، قال متمماً للخزي:
﴿هذه﴾ إشارة لحاضر أما حال الوقوف على شفيرها أو الدّع فيها
﴿جهنم﴾ أي التي تستقبلكم بالعبوسة والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين:
﴿التي كنتم﴾ أي كوناً هيأتكم به لقبول ما يمكن كونه بما غرزته فيكم من العقول. ولما كان المحذور الإيعاد بها، لا كونه من معين، قال بانياً للمفعول:
﴿توعدون *﴾ أي إن لم ترجعوا عن غيّكم
﴿اصلوها﴾ أي قاسوا حرها وتوقدها واضطرامها،
155
وهوّل أمر ذلك اليوم بإعادة ذكره على حد ما مضى فقال:
﴿اليوم﴾ لتكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة، وشتان ما بين الشغلين
﴿بما﴾ أي بسبب ما. ولما كانوا قد تجلدوا على الطغيان تجلد من هو مجبول عيله، بيّن ذلك بذكر الكون فقال:
﴿كنتم تكفرون *﴾ أي تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي مجددين ذلك مستمرين عليه.
156
ولما كان كأنه قيل: هل يحكم فيهم بعلمه أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة لأنه أليق بالتهويل:
﴿اليوم نختم﴾ أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال:
﴿على أفواههم﴾ أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال:
﴿وتكلمنا أيديهم﴾ أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة
﴿وتشهد أرجلهم﴾
156
أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار
﴿بما كانوا﴾ أي في الدنيا بجبلاتهم
﴿يكسبون *﴾ فالآية من الاحتباك: أثبت الكلام للأيدي أولاً لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً، وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً، وبقرينه أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:
«يقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم، قال: فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» وبالظاهر أن السر في الختم على فيه منعه من أن يلغط حال شهادتها عليه لئلا يسمع قولها، وكما هو دأب أهل العناد عند الخصام.
ولما أتم بضرب المثل وما بعده الدلالة على مضمون
﴿إنما تنذر من اتبع الذكر﴾ وما عللت به من إحياء الموتى، ودل على ذلك بما تركه كالشمس ليس فيه لبس، وزاد من بحو الفوائد وجميل العوائد ما ملأ الأكوان من موجبات الإيمان، وذكر ما في فريقي
157
المتبعين والممتنعين يوم البعث، وختم بالحتم على الأفواه بعد البعث، أتبعه آية الختم بالطمس والمسخ قبل الموت تهديداً عطفاً على ما رجع إليه المعنى مما قبل أول ذلك الخطاب من قوله
﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً﴾ الآية، دفعاً لما ربما وقع في وهم أحد أن القدرة لا تتوجه إلى غير الطمس في المعاني بضرب السد وما في معناه، فأخبر أنه كما أعمى البصائر قادر على إذهاب الأبصار، فقال مؤكاً لما لهم من الإنكار أو الأفعال التي هي فعل المنكر:
﴿ولو﴾ وعبر بالمضارع في قوله:
﴿نشآء﴾ ليتوقع في كل حين، فيكون أبلغ في التهديد
﴿لطمسنا﴾ وقصر الفعل إشارة إلى أن المعنى: لو نريد لأوقعنا الطمس الذي جعلناه على بصائرهم
﴿على أعينهم﴾ فأذهبنا عينها وأثرها، وجعلناها مساوية للوجه بحيث تصير كأنها لم تكن أصلاً، وقد تقدم في النساء نقل معنى هذا عن ابن هشام.
ولما كان الجالس مع شخص في مجلس التنازع وهو يهدده إن لم يرجع عن غيه بقارعة يصيبه بها يبادر الهرب إذا فاجأته منه مصيبة كبيرة خوفاً من غيرها جرياً مع الطبع لما ناله من الدهش، ومسه من
158
عظيم الانزعاج والوجل، كما اتفق لقوم لوط عليه السلام لما مسح جبريل عليه السلام أعينهم فأغشاها حين بادروا الباب هراباً يقولون: عند لوط أسحر الناس، سبب عن ذلك قوله:
﴿فاستبقوا﴾ أي كلفوا أنفسهم ذلك وأوجدوه. ولما كان المقصود بيان إسراعهم في الهرب، عدى الفعل مضمناً له معنى
﴿ابتدروا﴾ كما قال تعالى:
﴿واستبقوا الخيرات﴾ [البقرة: ١٤٨] فقال:
﴿الصراط﴾ أي الطريق الواضح الذي ألفوه واعتادوه، ولهم به غاية المعرفة. ولما كان الأعمى لا يمكنه في مثل هذه الحالة المشي بلا قائد فضلاً عن المسابقة، سبب عن ذلك قوله منكراً:
﴿فأنى﴾ أي كيف ومن أين
﴿يبصرون *﴾ أي فلم يهتدوا للصراط لعدم إبصارهم بل تصادموا فتساقطوا في المهالك وتهافتوا.
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال:
﴿ولو نشاء﴾ أي أن نمسخهم
﴿لمسخناهم﴾ أي حولناهم إلى الجمادية فأبطلنا منهم الحركة الإرادية. ولما كان المقصود المفاجأة بهذه المصائب بياناً لأنه سبحانه لا كلفة عليه في شي من ذلك قال:
﴿على مكانتهم﴾ أي المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منه شاغلاً له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وهو معنى قراءة شعبة عن عاصم
«مكانتهم» ودل على أن المراد التحويل إلى أحوال الجمادية بما سبب عن ذلك من قوله:
﴿فما استطاعوا﴾ أي بأنفسهم
159
بنوع معالجة
﴿مضيّاً﴾ أي حركة إلى جهة من الجهات؛ ثم عطف على جملة الشرط قوله:
﴿ولا يرجعون *﴾ أي يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر، بل ثباتها لا يمكن أحداً من الخلق رفعه ولا تغيره بنوع تغيير هذا المراد إن شاء الله، ولو قيل: ولا رجوعاً - كما قال بعضهم إنه المراد، لم يفد هذا المعنى النفيس.
ولما كانت هذه أموراً فرضية يتأتى لبعض المعاندين اللد الطعن فيها مكابرة، وكان كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة مانعاً من المفأجاة بالتعذيب بعذاب الاستئصال بها، دل عليها بما يشاهدونه من باهر قدرته وغريب حكمته في صنعته، فقال دالاً بالعاطف على غير معطوف عليه ظاهر على أن التقدير: فقد خلقناهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أولدناهم لا يعلمون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ثم درجناهم في أطوار الأسنان معلين لهم في معارج القوى الظاهرة والباطنة إلى أن صاروا إلى حد الأشد - وهو استكمال القوى البشرية - فأوقفنا قواهم الظاهرة والباطنة، فلم نجر العادة بأن نحدث فيهم إذ ذاك قوة لم تكن أيام
160
الشباب:
﴿ومن نعمره﴾ أي نطل عمره إطالة كبيرة منهم بعد ذلك
﴿ننكسه﴾ وقراءة عاصم وحمزة بضم أوله وفتح ثانيه وكسر الكاف مشددة دالة على تفاوت الناس في النكس، ولم يقل
«في خلقه» لئلا يظن أن المراد أن المعمر له خلق أنشأه وأبدعه
﴿في الخلق﴾ أي فيما أبدعناه من تقدير بدنه وروحه أي نرده على عقبه نازلاً في المدارج التي أصعدناه فيها إلى أن تضمحل قواه الحسية فيكون كالطفل فلا يقدر على شيء والمعنوية فلا يعلم شيئاً، ومن قدر على مثل هذا التحويل من حالة إلى أخرى لم تكن طرداً وعكساً قدر على مثل ما مضى من التحويل بلا فرق، غير أنهم لكثرة إلفهم لذلك صيره عندهم هيناً، ولقلة وجود الأول صيره عندهم بعيداً، ولذلك سبب عن الكلام قوله: على الأسلوب الماضي في قراءة الجماعة ولفتاً إلى الخطاب عند المدنيين ويعقوب لأنه أقرب إلى الاستعطاف وإعلاماً بأن الوعظ عام لكل صالح للخطاب:
﴿أفلا يعقلون *﴾ وقال بعض العارفين: قيد بالخلق احترازاً عن الأمر، فإن المؤتمر كلما زاد سنّاً ازداد لربه طاعة وبه علماً، يعني أن النكس في البدن أمر لا بد منه، وأما في المعارف فتارة وتارة.
ولما أتم سبحانه الدليل على آية
﴿لقد حق القول على أكثرهم﴾
161
بأن التكذيب بالأصلين التوحيد والحشر، وبينهما غاية البيان، رجع إلى تثبيت الأصل الثالث وهو أمر الرسول والتنزيل، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلم يزد فيه غريزة، ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء، أما المعاني الحسية فمطلقاً، وأما المعنوية فلا تزيد إلا بالتجربة والكسب، ولذلك قالوا:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً | فمطلبها كهلاً عليه شديد |
وكان من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام تظهر عليهم غرائز العلوم والحكم وغير ذلك مما يجريه الله على أيديهم، ولا ينقص شيء من قواهم بل تزاد كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمشي غير مكترث، وأن الصحابة رضي الله عنهم ليجهدون أنفسهم، فيكون جهدهم أن يدركوا مشية الهوينا، وأنه صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقاً من نفسه بأنه يصرع من صارعه، فلم يملكه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، وعاد إلى ذلك ثلاث مرات، كل ذلك لا يستمسك في يده حتى شرع يقول: أن هذا لعجب يا محمد! أتصرعني، وحتى أنه دار على نسائه - وهن تسع - كل واحدة منهن تسع مرات في طلق
162
واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس، ولم يحك عن نبي من الأنبياء ممن عاش منهم ألفاً ومن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه، بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
«أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صكه ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت، قال فالآن» وفي آخر التوراة: وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب، فدفن حذاء بيت فاغورا، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا، وكان موسى يوم قضي ابن مائة وعشرين سنة، لم يضعف سني الوقوف في الغرائز والضعف في القوى خرقاً للعادة إكراماً لهم وتنبيهاً للناس على صدقهم، علم من العطف على غير معطوف عليه ظاهر ومن الإتيان بضميره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تقدم ذكر له أن التقدير: لكن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرناه وما
163
نكسناه بل منحناه غرائز من الفضائل عجز عنها الأولون والآخرون، فأتى بقرآن أعجز الإنس والجن، وعلوم وبركات فاتت القوى، ومعلوم قطعاً أن الذي أتى به ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وعدواناً، وكذباً على جنابه وافتراء وتجاوزاً في البهت وطغياناً، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعاً ولم يقل بيت شعر مع ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة، وبه من المكاثرة، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعاً أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها:
﴿وما علمناه﴾ أي نحن
﴿الشعر﴾ فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات
﴿وما أنا من المتكلفين﴾ [ص: ٨٦] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإتيان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه، وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه
164
هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام، فلا تكلف عنده أصلاً، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله:
متى ما يرى الناس الغني وجاره | فقير يقولوا عاجز وجليد |
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى | ولكن أحاظ قسمت وجدود |
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً | فمطلبها كهلاً عليه شديد |
وكائن رأينا من غنى مذمم | وصعلوك قوم مات وهو حميد |
والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه، بدليل أنا كثيراً ما رأينا من فاته الغنى شاباً جلداً وناله شيخاً ضعيفاً، وما رأينا
165
من أخطأته المروءة شاباً نالها شيخاً، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة، والمروءة هي الإنسانية، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة، وهذا هو السيادة، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنياً كان أو فقيراً، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال، فلله درهم! ما كان أحكمهم وأدراهم بالدقائق وأعلمهم، ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم، فملأت معارفه الأكوان، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان.
ولما كان الشعر مع ما بني عليه من التكلف الذي هو بعيداً جداً عن سجايا الأنبياء فكيف بأشرفهم مما يكتسب به مدحاً وهجواً، فيكون أكثره كذباً - إلى غير ذلك من معايبه، قال سبحانه وتعالى:
﴿وما ينبغي له﴾ أي وما يصح ولا ينطلب ولا يتأتى أصلاً، لأن منصبه أجل، وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً، أو أن يتقيد بما قد يجر إلى نقيصة في المعنى، وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة.
166
ولما تمت الدلالة على أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتضمنت أن الشعر - وهو تعمد صوغ الكلام على وزن معلوم وقافية ملتزمة - نقيصة لما ذكر ولما يلزمه التقيد بالوزن والروي والقافية من التقديم والتأخير والتحويم على المعاني من غير إفصاح ولا تبيين فيصير عسر الفهم مستعصي البيان، ونفى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك النقيصة، فتضمن ذلك تنزيه ما أنزل عليه عنها - كما أشارت إليه نون العظمة في
«علمنا» - أثبت له ما ينبغي له فقال كالتعليل لما قبله:
﴿إن﴾ أي ما
﴿هو﴾ أي هذا الذي أتاكم به
﴿إلا ذكر﴾ أي شرف وموعظة
﴿وقرآن﴾ أي جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين مع الفصل بين الملبسات
﴿مبين *﴾ أي ظاهر في ذلك مطلق لكل ما فيه لمن يرومه حق رومه، ويسومه بأغلى سومه، بعد أن يشترط في مطلق فهمه ومجرد اللذة به الذكي والغبي والحديد والبليد، وليس هو بشعر متكلف يتقدم فيه - بحكم التزام الوزن والروي والقافية - الشيء عن حاق موضعه تارة ويتأخر أخرى، ويبدل بما لا يساويه فتنقص معانيه وتنعقد فتشكل فلا يفهمه إلا ذاك وذاك
167
مع أنه من همزات الشياطين فيا بعد ما بينهما، ويبين هذا المعنى غاية البيان آخر
«ص» ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين﴾ ﴿إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ أي كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما هو ذكر للأذكياء جداً.
168