ﰡ
١ - قوله ﴿يس (١)﴾ قرأ الجمهور (١): بسكون النون مظهرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش: بإدغام النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بفتح النون، وقال الزجاج: النصب على أنه مفعول لفعل مقدر، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه، أنه اسم للسورة، أو على البناء، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق أيضًا والسمال ونصر بن عاصم: بكسرها على البناء أيضًا كجير، وقرأ الكلبي وهارون الأعور ومحمد بن السميقع: بضم النون على البناء كمنذ وحيث وقط، وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث، وقال الكلبي: هي بلغة طيء، يا إنسان، وقيل: الحركة لالتقاء الساكنين، الفتح لطلب الخفة كأين وكيف، والضم كحيث، والكسر على أصل التقاء الساكنين كأمسِ.
وإذا قيل إنه قسم.. فيجوز أن يكون معربًا بالنصب على ما قاله أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين، وعبارة (٢) ابن الجوزي هنا: وقرأ الحسن وأبو الجوزاء: ﴿يس (١)﴾ بفتح الياء وكسر النون، وقرأ أبو المتوكل الناجي وأبو رجاء وابن أبي عبلة بفتح الياء والنون جميعًا، وقرأ أبو حصين الأسدي بكسر الياء وإظهار النون. قال الزجاج: والذي عند أهل العربية أن هذا بمنزلة افتتاح السور، وبعض العرب يسن، والقرآن بفتح النون، وهذا جائز في العربية لوجهين:
أحدهما: أن يس اسم للسورة، فكأنه قال: اتل يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف.
والثاني: فتح لالتقاء الساكنين، والتسكين أجود؛ لأنه حرف هجاء. انتهى.
وقال صاحب "الروح": ﴿يس (١)﴾ إما مسرود (٣) على نمط التعديد، فلا حظ له من الإعراب أو اسم للسورة، وعليه الأكثر، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ
(٢) زاد المسير.
(٣) روح البيان.
قال الشوكاني (١): واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل: معناها يا رجل، أو يا إنسان، قال ابن الأنباري: الوقف على يس حسن لمن قال هو افتتاح للسورة، ومن قال معناه: يا رجل، أو يا إنسان.. لم يقف عليه، وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من أسماء محمد - ﷺ - دليله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ قال السيد الحموي:
يَا نَفْسُ لا تَمْحَضِيْ بِالْوِدِّ جَاهِدَةً | عَلَى الْمَوَدَّةِ إلَّا آلَ يَاسِيْنَا |
واختلفوا هل هو عربي، أو غير عربي؟: فقال سعيد بن جبير وعكرمة: حبشي، وقال الكلبي: سرياني، تكلَّمت به العرب.. فصار من لغتهم، وقال الشعبي: هو بلغة طيء، وقال الحسن: هو بلغة كلب، وذهب قوم (٣) إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلًا إلى إدراك معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، وقالوا: إن الله تعالى منفرد بعلمها، ونحن نؤمن بأنها من جملة القرآن العظيم،
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
٢ - ﴿وَالْقُرْآنِ﴾ بالجر على أنه مقسم به ابتداء، والواو فيه واو القسم؛ أي: أقسم بالقرآن الحكيم، وقيل: الواو للعطف على يس إن جعل يس مقسمًا به؛ أي: أقسم بيس، وبالقرآن الحكيم، قال النقاش: لم يقسم الله سبحانه لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا لمحمد - ﷺ - تعظيمًا له وتمجيدًا، فقال في "إنسان العيون". من خصائصه عليه السلام أن الله تعالى أقسم على رسالته بقوله: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾. اهـ.
﴿الْحَكِيمِ﴾؛ أي: الحاكم، كالعليم بمعنى العالم، فإنه يحكم بما فيه من الأحكام، فهو فعيل بمعنى: فاعل، أو المحكم المصفى من التناقض والعيب ومن التغير بوجه ما، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وهو الذي أحكم نظمه وأسلوبه، وأتقن معناه وفحواه، فهو فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل، فهو عقيد؛ أي: معقد، أو (١) ذي الحكمة؛ أي: المتضمن لها والمشتمل عليها، فإنه منبع كل حكمة، ومعدن كل عظة، فيكون بمعنى النسب مثل تأمر بمعنى ذي تمر، أو هو من قبيل وصف الكلام بصفة المتكلم به؛ أي: الحكيم قائله.
٣ - ﴿إِنَّكَ﴾ يا أكمل الرسل، ويا أفضل الكل، وهو خطاب المواجهة بعد شرف القسم به، وهو مع قوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ جواب للقسم، والجملة لرد إنكار الكفرة بقولهم في حقه - ﷺ - لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا.
قال في "بحر العلوم": هو من الإيمان الحسنة البديعة لتناسب بين المرسل به والمرسل إليه اللذين: أحدهما: المقسم به المنزل، والآخر المقسم عليه، المنزل إليه. انتهى.
وهذه الشهادة منه تعالى من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
فإن قلت (٢): أيُّ حاجة إلى قوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾، ومن المعلوم أن الرسل لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟
قلتُ: فائدته وصف الشرع بالاستقامة صريحًا، وإن دل عليه لمن المرسلين التزامًا، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت استقامته، وقد نكره ليدل له على أنه أرسل من بين الصراط على صراط مستقيم لا يوازيه صراط، ولا يكتنه وصفه في الاستقامة، فالتنكير للتفخيم، كما سيأتي.
٥ - ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش: برفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا القرآن هو تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه؛ أي: منزل منه سبحانه وتعالى، عبر عن المنزل بالمصدر مبالغةً حتى كأنه نفس التنزيل، ويجوز أن يكون خبرًا لقوله: يس إن جعل اسمًا للسورة؛ أي: سورة يس منزل من العزيز الرحيم، لا مختلق من عند محمد - ﷺ -، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وطلحة والأشهب وعيسى بخلاف عنهما: بالنصب؛ إما على المصدرية؛ أي: نزَّل الله ذلك تنزيلًا من العزيز الرحيم، أو على المدح؛ أي: أمدح تنزيل العزيز الرحيم؛ أي: أمدح كتابًا منزلًا من العزيز الرحيم، وقرأ (٣) أبو حيوة وأبي بن كعب وأبو رزين وأبو العالية
(٢) روح البيان.
(٣) زاد المسير.
والعزيز (١): هو الغالب على جميع المقدورات، المتكبِّر الغني عن طاعة المطيعين، المنتقم ممن خالفه، ولم يصدق القرآن، وخاصية هذا الاسم وجود الغنى والعز صورة أو حقيقة أو معنى، فمن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة.. أعانه الله تعالى وأعزه، فلم يحوجه إلى أحدٍ من خلقه، والرحيم: هو المتفضل على عباده المؤمنين بإنزال القرآن ليوقظهم من نوم الغفلة، ونعاس النسيان، وخاصية هذا الاسم رقة القلب والرحمة للمخلوقين، فمن دوامه كل يوم مئة مرة.. كان له ذلك، ومن خاف الوقوع في مكروه.. ذكره وقرينه وهو اسم الرحمن.
٦ - قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ متعلق بـ ﴿تَنْزِيلَ﴾؛ أي: نزل عليك القرآن لتنذر، أو بفعل مقدر يدل عليه من المرسلين؛ أي: أرسلناك لتنذر؛ أي: لتخوف بالقرآن، ﴿قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ ﴿مَا﴾: نافية، والجملة صفة مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار، والمعنى: لتنذر قومًا غير منذر آباؤهم الأقربون؛ لتطاول مدة الفترة، ولم يكونوا من أهل الكتاب، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ يعني: العرب، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة على أن تكون الجملة مفعولًا ثانيًا ﴿لِتُنْذِرَ﴾ بحذف العائد، والمعنى: لتنذر قومًا العذاب الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذر قومًا عذابًا أنذره آباؤهم الأبعدون في زمن إسماعيل عليه السلام، وإنما وصف الآباء في التفسير الأول بالأقربين، وفي الثاني بالأبعدين؛ لئلا يلزم أن يكونوا منذرين وغير منذرين، فآباؤهم الأقدمون آتاهم النذير لا محالة، بخلاف آبائهم الأدنين، وهم قريش، فيكون ذلك بمعنى قوله: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾، ويجوز ان تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، فتكون نعتًا لمصدر مؤكد؛ أي: لتنذر قومًا إنذارًا كائنًا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب، ﴿فَهُمْ﴾؛
وعبارة "الشوكاني" قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (٢) متعلق بنفي الإنذار على الوجه الأول؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الأوجه الأخيرة متعلق بقوله ﴿لِتُنْذِرَ﴾؛ أي: فهم غافلون عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله.
وعبارة "الروح": قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ متعلّق (٣) بنفي الإنذار مترتب عليه، والضمير للفريقين: القوم والآباء؛ أي: لم ينذر آباؤهم فهم جميعًا لأجله غافلون عن الإيمان والرشد، وحجج التوحيد وأدلة البعث، والفاء داخلة على الحكم المسبَّب عما قبله، فالنفي المتقدِّم سبب له؛ يعني: أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم، ويجوز أن يكون متعلقًا بقوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ ردًا لتعليل إنذاره، فالضمير للقوم خاصة؛ أي: فهم غافلون عما أنذر به آباؤهم الأقدمون؛ لامتداد المدة، فالفاء داخلة على سبب الحكم المتقدم.
والمعنى (٤): أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر، وإصلاح المجتمع، وذكرهم وحدهم هنا؛ لأن الخطاب كان معهم، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة، كما قال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾،
٧ - واللام في قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: موطئة للقسم؛ أي: لقد حقت كلمة العذاب العاجل ووجبت ﴿عَلَى أَكْثَرِهِمْ﴾؛ أي: على أكثر أهل مكة، كأبي جهل وأصحابه، ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: في علم الله تعالى، وقتلوا يوم بدر على الكفر؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد وجب وثبت قضاؤنا بالعذاب على أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
فمن آمن فقد أعلى الدين، ومن أعلاه فقد تعرض لعلوه وعزه عند الله تعالى، ومن كفر.. فقد أراد إطفاء نور الله، والله متم نوره، ولما قال المشركون يوم أحد: أعل هبل، أعل هبل.. أذلهم الله وهبلهم، وهو صنم كان يعبد في الجاهلية، وهو الحجر الذي يطأه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وهو الآن مكبوب على وجهه، وبلط الملوك فوقه البلاط، فإن كنت تفهم مثل هذه الأسرار، وإلا فاسكت، والله تعالى حكيم يضع الأمور كلها في مواضعها، فكل ما ظهر في العالم فهو حكمة وضعه في محله، لكن لا بد من الإنكار لما أنكره الشارع فإياك والغلط.
ومعنى الآية (٢): وعزتي وجلالي لقد وجب العقاب على أكثرهم؛ لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به ولا يصدقون برسوله، لما علم من
(٢) المراغي.
٨ - ثم ضرب لهم مثلًا، فقال: ﴿إِنَّا﴾ بمقتضى قهرنا وجلالنا ﴿جَعَلْنَا﴾؛ أي: خلقنا، أو صيرنا، ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾؛ أي: في أعناق أكثر أهل مكة، جمع: عنق، ﴿أَغْلَالًا﴾ ثقالًا عظيمة، جمع: غل، وهو ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، سواء كان من الحديد أو غيره، وقال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع من تحرك الرأس. اهـ. والفاء (١) في قوله: ﴿فَهِيَ﴾ للنتيجة، أو التعقيب؛ أي: فالأغلال منتهية، ﴿إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين؛ أي: فالأغلال لعظمها وضخامتها منتهية إلى أذقانهم، بحيث لا يتمكَّن المغلول معها من تحرك الرأس والالتفات، ووجه وصول الغل إلى الذقن، هو إما كونه غلظيًا عريضًا يملأ ما بين الصدر والذقن، فلا جرم يصل إلى الذقن، ويرفع الرأس إلى فوق، وإما كون طوق الغل الذي يجمع اليدين إلى العنق، بحيث يكون في ملتقى طرفين تحت الذقن حلقة يدخل فيها رأس العمود الواصل بين ذلك الطوق وبين قيد اليد خارجًا عن الحلقة إلى الذقن، فلا يخلِّيه يحرِّك رأسه. ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: أكثر أهل مكة بسبب ذلك ﴿مُقْمَحُونَ﴾؛ أي: رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم، فإن الإقماح رفع الرأس إلى فوق مع غض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح قموحًا عند رفع رأسه عند الحوض بعد الشرب؛ إما لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، قال بعضهم: لفظ الآية - وإن كان ماضيًا - لكنه إشارة إلى ما يفعل بهم في الآخرة، كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، ولهذا قال الفقهاء: كره جعل الغل في عنق عبده؛ لأنه عقوبة أهل النار، قال الفقيه: إن في زماننا جرت العادة بذلك إذا خيف من الإباق، بخلاف التقييد، فإنه غير مكروه؛ لأنه سنة المسلمين في المتمردين.
هذا والجمهور (٢) على أن الآية تمثيل لحال الأكثر في تصميمهم على الكفر، وعدم امتناعهم منه، وعدم التفاتهم إلى الحق، وعدم انعطاف أعناقهم، نحوه: بحال الذين غلت أعناقهم، فوصلت الأغلال إلى أذقانهم، وبقوا رافعين رؤوسهم، غاضين أبصارهم، فهم أيضًا لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا
(٢) روح البيان.
قال أبو حيان: والظاهر (١) أن قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ هو حقيقة لا استعارة، لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون.. أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. انتهى. وقرأ ابن عباس (٢): ﴿إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا﴾ قال الزجاج: أي: في أيديهم، قال النحاس: وهذه القراءة تفسير، ولا يقرأ بما خالف المصحف، قال: وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالًا، فهي إلى الأذقان، فلفظ ﴿هي﴾ كناية عن الأيدي، لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾؛ أي: والبرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق.. فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله تعالى: ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾، فقد علم أنه يراد به الأيدي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: ﴿إنا جعلنا في أيديهم أغلالا﴾، وعن ابن مسعود أنه قرأ: ﴿إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا﴾، كما روي سابقًا عن قراءة ابن عباس.
ومعنى الآية: أي إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا، فهي واصلة إلى الأذقان ملصقة بها، فهم من جراء ذلك مقمحون؛ أي: مرفوعو الرؤوس؛ إذ أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجًا من الحلقة إلى الذقن، فلا يمكنه من أن يطأطىء رأسه، فلا يزال مقمحًا.
والمراد: منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر، فهم غاضوا أبصارهم، لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطؤون رؤوسهم له،
٩ - ثم أكد ما سبق، وزاده بيانًا وتفصيلًا، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا﴾ لهم مع ما ذكر سابقًا؛ أي: خلقنا لهم من كمال غضبنا عليهم وصيرنا، ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: من قدامهم ﴿سَدًّا﴾ عظيمًا؛ أي: حاجزًا يحجزهم عن الإبصار، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾؛ أي: من ورائهم ﴿سَدًّا﴾ عظيمًا.
وقرأ عبد الله وعكرمة والنخعي وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وابن كثير وحفص (٣): ﴿سَدًّا﴾ بفتح السين في الموضعين، وقرأ الجمهور: بالضم، وكلاهما
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَالَكَ أَنَّنِيْ | ضُرِبَتْ عَلَى الأَرْضُ بِالأَسْدَادِ |
لَا أَهْتَدِيْ فِيْهَا لِمَوْضِعِ تَلْعَةٍ | بَيْنَ الْعُذِيْبِ وَبَيْنَ أَرْضِ مُرَادِ |
وقرأ الجمهور: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ بالغين المعجمة؛ أي: غطينا أبصارهم، فهو على حذف مضاف، كما مر، وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وأبو حنيفة وابن مقسم: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ بالعين المهملة، من العشاء، وهو ضعف البصر؛ أي: جعلنا عليها غشاوة، ومنه ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾.
والآية إما تتمّة للتمثيل وتكميل له؛ أي: تكميل؛ أي: وجعلنا مع ما ذكر من
(٢) الشوكاني.
قال الإِمام (١): المانع من النظر في الآيات والدلائل قسمان: قسم يمنع من النظر في الآيات التي في أنفسهم، فشبّه ذلك بالغسل الذي يجعل صاحبه مقمحًا لا يرى نفسه، ولا يقع بصره على بدنه، وقسم يمنع من النظر في آيات الآفاق، فشبّه بالسد المحيط، فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق، فلا تتبيّن له الآيات التي في الآفاق، كما أن المقمح لا تتبيّن له الآيات التي في الأنفس، فمن ابتلى بهما حرم من النظر بالكلية؛ لأن الدلائل والآيات مع كثرتها منحصرة فيهما، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ مع قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾. إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله تعالى في الأنفس والآفاق.
وقيل (٢): نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام، وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدًا يصلي.. ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرًا ليرميه، فلما أوما إليه.. رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، قال الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه، قال: واللهِ ما رأيته، ولقد سمعت صوته، فقال الرجل الثالث: واللهِ لأشدخنَّ رأسه، ثم أخد الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه، حتى خرّ على قفاه مغشيًّا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل، فلما دنوت منه.. فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلًا أعظم منه حال بيني وبينه، فواللاتِ والعزى لو دنوت منه.. لأكلني، فأنزل الله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ
(٢) المراح.
والخلاصة: أنهم محبوسون في سجن الجهالة، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية، والتفكر في العواقب المستقبلة،
١٠ - ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أكثر أهل مكة ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾؛ أي: مستو (٢) عند أكثر أهل مكة إنذارك إياهم وعدمه؛ لأن قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وإن كانت جملة فعلية استفهامية، لكنه في معنى مصدر مضاف إلى الفاعل، فصح الإخبار عنه، فقد هجر فيه جانب اللفظ، ونظر إلى المعنى، ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وهمزة الاستفهام وأم لتقرير معنى الاستواء والتأكيد، فإن معنى الاستفهام منسلخ منهما رأسًا بتجريدهما عنه لمجرد الاستواء، كما جرِّد حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. فكما أن هذا جرى على صورة النداء، وليس بنداء، كذلك: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ جرى على صورة الاستفهام، وليس باستفهام. وقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يؤمن أكثر أهل مكة، استئناف مؤكد لما قبله مبيِّن لما فيه من إجمال ما فيه الاستوار.
والمعنى (٣): أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول إنذارك إياهم وتركه، فإنه قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون؛ إذ قد خبثت نفوسهم، وساء
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قَدْ تُنْكِرُ الْعَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ | وَيُنْكِرُ الْفَمُ طَعْمَ الْمَاءِ مِنْ سَقَمِ |
والفاء في قوله (٢): ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ لترتيب البشارة، أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. يقول الفقير: رتّب التبشير بمثنّى على مثنّى، فالتأمل في القرآن، أو التأثر من الوعظ يؤدي إلى الإيمان المؤدي إلى المغفرة؛ لأن الله تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، والخشية تؤدي إلى الحسنات المؤدية إلى الأجر الكريم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ومعنى الآية (٣): أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٢ - ولما ذكر سبحانه وتعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنًا.. ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة، والثالث هو التوحيد، فقال: ﴿إِنَّا﴾ من مقام كمال قدرتنا، والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات، وقال بعضهم: جمع الضمير لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة، وينافيه الحصر الدالة عليه قوله: ﴿نَحْنُ﴾ قال في "البحر": كرّر الضمير لتكرير التأكيد، ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾؛ أي: نبعثهم بعد مماتهم، ونجازيهم على حسب أعمالهم، فيظهر حينئذ كمال الإكرام، والانتقام للمبشّرين والمنذرين من الأنام، وقال الحسن والضحاك: أي: نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وقد أطلق النبي - ﷺ - لفظ الموتى على كل غنيِّ مترف، وسلطان جائر، وذلك في قوله - ﷺ -: "أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق تقول له، ويقول لك، ومجالسة الموتى" قيل: يا رسول الله، وما مجالسة الموتى؛ قال: "كل غني مترف، وسلطان جائر".
وفي "التأويلات النجمية": نحيي قلوبًا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى. فالإحياء إذًا مجاز عن الهداية، ﴿نَكْتُبُ﴾؛ أي: نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ، يدل عليه آخر الآية، أو يكتب رسلنا، وهم الكرام الكاتبون، وإنما أسند إليه تعالى ترهيبًا، ولأنه الآمر به، ﴿مَا قَدَّمُوا﴾؛ أي: ما أسلفوا من خير أو شر، وإنما (١) أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء، ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلًا، ﴿وَآثَارَهُمْ﴾؛ أي: ونكتب آثارهم؛ أي: ما أبقوه من
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَنَكْتُبُ﴾ على البناء للفاعل، وقرأ زر ومسروق: على البناء للمفعول، وقيل: المراد بالآية: آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك، كما مر في أسباب النزول، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية، لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى، سواء كانت في حسنة، أو في سيئة.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء كائنًا ما كان، سواء كان ما يصنعه الإنسان، أو غيره، وهو منصوب بفعل مضمر يفسّره قوله: ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾؛ أي: ضبطناه وبينّاه وكتبناه وحفظناه وعددناه وأثبتناه ﴿فِي إِمَامٍ﴾؛ أي: أصل عظيم الشأن. ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: مظهر لجميع الأشياء مما كان، وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ، سمِّي إمامًا؛ لأنه يؤتم به ويتبع، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال، وفي ذكر الإحصاء ترغيب وترهيب، فإن المحصي لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال، فعلى العاقل أن يراقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكتة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾ بنصب ﴿كل﴾ على الاشتغال، وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء.
(٢) البحر المحيط.
١٣ - قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ إلى قوله: ﴿خَامِدُونَ﴾، يشير (٢) إلى أصناف ألطافه مع أحبائه، وأنواع قهره مع أعدائه، أمر الله تعالى سيد المرسلين - ﷺ - بإنذار مشركي مكة بتذكيرهم قصة أصحاب القرية، ليحترزوا عن أن يحل بهم ما نزل بكفار أهل القرية.
قال في "الإرشاد": ضرب المثل يستعمل على وجهين:
الأول: في تطبيق حال غريبة بحالة أخرى مثلها، والمعنى عليه: واجعل يا محمد أصحاب القرية مثلًا وشبهًا لأهل مكة في الغلو في الكفر، والإصرار على تكذيب الرسل؛ أي: طبِّق حالهم بحالهم؛ أي: شبه حالهم بحالهم على أن ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ثانٍ، و ﴿أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ مفعوله الأول، أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه.
(٢) روح البيان.
وقوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ بدل من أصحاب القرية بدل الاشتمال لاشتمال الظروف على ما حل فيها، كأنه قيل: واجعل وقت مجيء المرسلين مثلًا، أو بدل من المضاف المقدر، كأنه قيل: واذكر لهم وقت مجيء المرسلين، وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية. والمعنى: أي (١): واجعل يا محمد أصحاب قرية أنطاكية مثلًا وشبهًا لهؤلاء المكذبين لك من أهل مكة؛ إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم، كما أصر قومك على تكذيبك عنادًا واستكبارًا، والمشهور لدى المفسرين، ومنهم: قتادة وغيره: أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين، بعثهم إلى أهل أنطاكية، وكان منهم ما قصه الله علينا في كتابه، ويرى ابن عباس، واختاره كثير من أجلة العلماء أن الرسل هم رسل الله تعالى، أرسلهم ردءًا لعيسى عليه السلام، مقررِّين لشريعته، كهارون لموسى عليه السلام، ويؤيد هذا القول:
١ - قولهم: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
٢ - أنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا ولهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾.
٣ - أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح، ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهم بطارقة النصارى، وهن: القدس وأنطاكية والاسكندرية ورومية؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطريق من رومية إليها.
واسم هذه القرية كما ذكرنا أولًا أنطاكية من قرى الروم، بفتح (٢) الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة بلاد يقال لها:
(٢) روح البيان.
ذكر القصة في ذلك
١٤ - قال العلماء بأخبار الأنبياء (١): بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين إلى أهل أنطاكية، فلما قربا من المدينة.. رأيا شيخًا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب يس، فسلما عليه، فقال الشيخ لهما: من أنتما؛ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال الشيخ لهما: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المريض، ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى، قال الشيخ: إن لي ابنًا مريضًا منذ سنين، قالا: فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحًا، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرًا من المرضى، وكان لهم ملك يعبد الأصنام، اسمه: أنطيخا، وكان من ملوك الروم، فانتهى خبرهما إليه، فدعا بهما، وقال: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى عليه السلام، قال: وفيما جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة ما لا يسمع ويبصر، فقال: وهل لنا إله دون آلهتنا؟ قال: نعم، الذي أوجدك وآلهتك، قال لهما: قوما حتى انظر في أمركما، فتبعهما الناس، فأخذوهما
قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم والحسن وأبو حيوة والمفضل وأبان: بتخفيف الزاي، قال الجوهري: ﴿فَعَزَّزْنَا﴾ يخفف ويشدد؛ أي: قوينا وشددنا، فالقراءتان على هذا بمعنًى، وقيل: التخفيف بمعنى:. غلبنا وقهرنا، ومنه: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾، والتشديد بمعنى: قوينا وكثرنا، ﴿بِثَالِثٍ﴾ هو شمعون الصفار، قاله ابن عباس، ويقال له: شمعون الصخرة أيضًا رئيس الحواريين، وقد كان خليفة عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء، وقال كعب ووهب: اسمه شلوم، وقيل: يونس.
قال في "التكملة": اختلف في المرسلين الثلاثة، فقيل: كانوا أنبياء رسلًا، أرسلهم الله تعالى، وقيل: كانوا من الحواريين أرسلهم عيسى بن مريم إلى أهل القرية المذكورة، ولكن لما كان إرساله إياهم عن أمره.. أضاف الإرسال إليه انتهى. علم منه أن الحواريين لم يكونوا أنبياء لا في زمان عيسى ولا بعد رفعه، وإليه الإشارة بقوله - ﷺ -: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: بين عيسى عليه السلام، وان احتمل أن يكون المراد: النبي الذي يأتي بشريعة مستقلة، وهو لا ينافي وجود النبي
وقرأ عبد الله: ﴿بالثالث﴾ بالألف واللام، و ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال الثلاثة جميعًا: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ مؤكدين كلامهم لسبق الإنكار، لما أن تكذيبهما تكذيب للثالث لاتحاد كلمتهم؛ أي: وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكدًا لسبق التكذيب للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث؛ لأنهم أرسلوا جميعًا بشيء واحد، وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه الجملة (١) مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في سؤال مقدر، كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟
ومعنى الآية (٢): أي واذكر لهم حين أرسلنا إلى أهل القرية رسولين من عندنا، فأسرعوا في تكذيبهما، فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، فقالوا لأهل القرية إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم بأن تخلصوا له العبادة، وتتبرّؤوا مما تعبدون من الألهة والأصنام، والمشهور: إن الرسولين الأولين كانا: يوحنا وبولس، والرسول الثالث: شمعون،
١٥ - ثم ذكر شبهةً كثيرًا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية، ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أهل أنطاكية الذين لم يؤمنوا مخاطبين للرسل الثلاثة، وهذه الجملة أيضًا مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال لهم أهل أنطاكية؛ فقيل: قالوا: ﴿مَا أَنْتُمْ﴾ أيها الثلاثة، ﴿إِلَّا بَشَرٌ﴾؛ أي: آدمي ﴿مِثْلُنَا﴾؛ أي: مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها، وهذا من قبيل قصر القلب، فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا، ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدَّعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا، ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا.. لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم، وهذا الموضع قد بسط الكلام فيه في كتب البلاغة فراجعها.
﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾ من وحي سماوي، ومن رسول يبلّغه، فكيف صرتم
(٢) المراغي.
١٦ - فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكّد تأكيدًا بليغًا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية حيث: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)﴾؛ وإن كذبتمونا. فأكَّدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾، وبإن وباللام؛ أي: استشهدوا بعلم الله، وهو يجري مجرى القسم في التوكيد مع ما فيه من تحذيرهم معارضة علم الله، وزادوا اللام لما شهدوا منهم من شدة الإنكار،
١٧ - ﴿وَمَا عَلَيْنَا﴾؛ أي: من جهة ربنا، ﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: إلا تبليغ رسالته تبليغًا ظاهرًا واضحًا مبينًا بالآيات الشاهدة بالصحة، فإنه لا بدّ للدعوى من البينة، وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا، وليس في وسعنا إجباركم على الإيمان، ولا أن نوقع في قلوبكم العلم بصدقنا، فإن آمنتم وإلا فينزل العذاب عليكم، وفيه تعريض لهم بأن إنكارهم للحق ليس لخفاء حاله وصحته، بل هو مبنى على محض العناد والحمية الجاهلية.
١٨ - وهذه الجملة مستأنفة كالتي قلبها، وكذلك قوله: ﴿قَالُوا﴾ لما ضاقت عليهم الحيل، ولم يبقَ لهم علل وحجج، ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ فإنها مستأنفة جوابًا عن سؤال مقدر؛ أي إنا تشاءمنا بكم جريًا على ديدن الجهلة؛ حيث كانوا يتمنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مستجلبًا لكل شرٍّ ووبال، ويتشاءمون بكل ما لا يوافقها، وإن كان مستتبعًا لسعادة الدارين، وقال النقشبندي: قد تشاءمنا بقدومكم؛ إذ منذ قدمتم إلى ديارنا ما نزل القطر علينا، وما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم، أخرجوا من بيننا، واخرجوا إلى أوطانكم سالمين، وانتهوا عن دعوتكم، ولا تتفوّها بها بعد، قيل: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل، وكان - ﷺ - يحب التفاؤل، ويكره التطيُّر، والفرق بينهما (١): أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والتطير إنما هو من طريق الاتكال على شيء سواه.
وفي الفقه: لو صاحت الهامة أو طير آخر، فقال رجل: يموت المريض، يكفر، ولو خرج إلى السفر ورجع فقال: ارجع لصياح العقعق، كفر عند البعض وفي الحديث: "ليس عبد إلا سيدخل في قلبه الطيرة، فماذا أحسَّ بذلك.. فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله لا قوّة إلا بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله، أشهد أن الله على كل شيء قدير، ثم يمضي بوجهه"؛ أي: يمر إلى جهة حاجته، قالوا: من تطير تطيرًا منهيًا عنه حتى منعه مما يريده من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه، كما في "عقد الدر".
﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾؛ أي: والله لئن لم تمتنعوا عن مقالتكم هذه، ولم تسكتوا عنا ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لنرمينكم بالحجارة؛ أي: لئ لم تتركوا هذه الدعوى، وتعرضوا عن هذه المقالة.. لنرجمنكم بالحجارة. ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ﴾؛ أي: وليصيبنكم، ﴿مِنَّا﴾؛ أي: من جهتنا، ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: عذاب شديد وجيع فظيع؛ أي: لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهذا العذاب الأليم، أو ليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب مؤلم. قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم المراد به: القتل: وقال قتادة هو على بابه من الرجم بالحجارة، قيل: ومعنى العذاب: القتل: وقيل: الشتم، وقيل: هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص، وهذا هو الظاهر. وفسر بعضهم الرجم بالشتم، فيكون المعنى: لا نكتفي بالشتم، بل يكون شتمنا مؤديًا إلى الضرب والإيلام الحسي.
والمعنى (١): أي إنا تشاءمنا من تبليغكم ودعوتكم، فقد افتتن بعض القوم بكم، وتفرقت كلمتنا، وانفرط عقد وحدثنا، ولئن لم تنتهوا عن بث هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجمًا، ولنمثلن بكم شر التمثيل، أو لنعذبنكم عذابًا شديدًا، ؤأنتم أحياء.
١٩ - ثم أجاب عليهم الرسل دفعًا لما زعموه من التطير بهم، فـ ﴿قَالُوا﴾؛ أي: المرسلون لأهل أنطاكية، ﴿طَائِرُكُمْ﴾؛ أي: سبب شؤمكم، ﴿مَعَكُمْ﴾؛ في: من جهة أنفسكم لازم في أعناقكم، لا من قبلنا، وليس هو من شؤمنا؛ أي: سوء حالكم وشدتكم، وإصابة الضرر بكم من الله بسببكم، وهو سوء اعتقادكم، وقبح أعمالكم، فالطائر بمعنى ما يتشاءم به مطلقًا، قال الفراء: طائركم؛ أي: رزقكم وعملكم، وبه قال قتادة، وقال أبو حيان؛ أي: حظكم، وما صار لكم من خير أمر شر معكم؛ أي: من أفعالكم ليس هو من أجلنا، بل بكفركم؛ أي: قالوا لهم: سبب شؤمكم من أفعالكم، لا من قبلنا كما تزعمون، فأنتم أشركتم بالله سواه، وأولعتم بالمعاصي، واجترحتم السيئات، أما نحن فلا شؤم من قبلنا، فإنا لا ندعوا إلا إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، والإنابة إليه، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿طَائِرُكُمْ﴾ على وزن اسم الفاعل، وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش: ﴿طيركم﴾ بياء ساكنة بعد الطاء، وقرأ الحسن فيما نقل: ﴿اطيركم﴾ مصدر؛ اطير الذي أصله: تطير، فأدغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر، وقوله: ﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ بهمزتين همزة الاستفهام التوبيخي، وهمزة إن الشرطية، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه؛ أي: هل إن وعظتم بما فيه سعادتكم، وخوفتم.. تطيرتم أو توعدتم بالرجم والتعذيب؟
وقوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ إضراب (٢) عما تقضيه الشرطية من كون التذكير سببًا للشؤوم، أو مصحِّحًا للتوعيد؛ أي: ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتجاوز فيه عن الحد، فلذلك أتاكم الشؤم أو في الظلم والعدوان، ولذلك توعدتم وتشاءمتم بمن يجب إكرامه والتبرك به، وهؤلاء القوم في الحقيقة هم النفس وصفاتها، فإنها أسرفت في موافقة الطبع ومخالفة الحق، فكل من كان في يد مثل هذه النفس.. فهو لا يبالي بالوقوع في المهالك،
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة الله مخلصين له الدين.. تقابلونا بمثل هذا الوعيد، بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف، ومجاوزة الحد في الطغيان، ومن ثَمَّ جاءكم الشؤم، ولا دخل لرسل الله في ذلك.
والخلاصة: أنتم قوم مسرفون في ضلالتكم، متمادون في غيِّكم، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابًا للشقاء، ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد، والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات، ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون: ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم (٢): ﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام التوبيخي، والثانية همزة إن الشرطية، فحققها الكوفيون، وابن عامر، وسهلها باقي السبعة، وقرأ زر بن حبيش وابن السميقع: بهمزتين مفتوحتين ﴿أأن﴾ وهي قراءة أبي جعفر وطلحة، إلا أنهما لينا الثانية بين بين، وقرأ الماجشون، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة المدني: بهمزة واحدة مفتوحة، والحسن بهاء مكسورة، وأبو عمرو في رواية، وزر أيضًا: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضًا والحسن أيضًا وقتادة وعيسى الهمداني والأعمش: ﴿أين﴾ بهمزة مفتوحة وياء ساكنة ونون مفتوحة، ظرف مكان، وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضًا، فالقراءة الأولى على معنى: هل إن ذكرتم تتطيرون؛ بجعل المحذوف مصب الاستفهام على مذهب سيبويه، وبجعله للشرط على مذهب يونس، فإن قدرته مضارعًا كان مجزومًا، والقراءة الثانية على معنى: ألِئن ذُكِّرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة، والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة، وقراءة الهمزة المكسور
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿ذُكِّرْتُمْ﴾ بتشديد الكاف، وأبو جعفر وخالد بن إلياس وطلحة والحسن وقتادة وأبو حيوة والأعمش من طريق زائد والأصمعى عن نافع بتخفيفها.
٢٠ - ثم أبان أن الحق لا يعدم نصيرًا، وأن الله يقيِّض له من يدافع عنه فقال: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾؛ أي: من أبعد جوانب أنطاكية، ﴿رَجُلٌ﴾ عظيمُ الشأن، قويُّ الإيمان، فيه (١) إشارة إلى رجولية الجائي وجلادته، وتنكيره لتعظيم شأنه، لا لكونه رجلًا منكورًا غير معلوم، فإنه معلوم عند الله تعالى، وكان منزله عند أقصى باب المدينة، وفي مجيئه من أقصى المدينة بيان لكون الرسل أتوا بالبلاغ المبين حتى بلغت دعوتهم إلى أقصى المدينة، حيث آمن الرجل، وكان دور السور اثني عشر ميلًا؛ أي: فلما سمع خبر الرسل مع القوم جاء حالة كونه ﴿يَسْعَى﴾؛ أي: يسرع في مشيه، فإن السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، كما في "المفردات".
فإن قلت (٢): لِمَ قدَّم هنا ﴿مِنْ أَقْصَى﴾ على ﴿رَجُلٌ﴾، وأخره عنه في سورة القصص؟.
قلت: خالف بين الموضعين بالتقديم والتأخير تفننًا في البلاغة، وهو من المحسنات البديعية اللفظية، وذلك الرجل هو حبيب بن موسى النجار المشهور عند العلماء بصاحب يس، وفي بعض التواريخ كان من نسل الإسكندر الرومي، وإنما سمي حبيب النجار؛ لأنه كان نجارًا ينحت الأصنام وغيرها. وقيل: كان إسكافًا، وقيل: كان قصارًا، ويمكن أن يكون جامعًا لهذه الصنائع، وقيل: هو حبيب بن
(٢) البحر المحيط بتصرف.
٢١ - ثم أكد ذلك وكرره فقال: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ﴾؛ أي: من لا يسألونكم ﴿أَجْرًا﴾ وجعلًا على ما جاوؤكم به أو الهدى؛ أي: لا يطلبون منكم أجرةً ومالًا على النصح لكم، وتبليغ الرسالة إليكم. ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم مهتدون في أنفسهم إلى خير الدين والدنيا، والمهتدي إلى طريق الحق الموصل إلى هذا الخير إذا لم يكن متهمًا في الدعوة.. يجب اتباعه، وإن لم يكن رسولًا، فكيف وهم ورسل ومهتدون؟! ومن قال: الإيغال هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها.. تكون الآية عنده مثالًا له؛ لأن قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسول مهتدٍ لا محالة إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل، وترغيب فيه، فقوله: ﴿مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ﴾ بدل أو المرسلين معمول لاتبعوا النقول، والثاني: تأكيد لفظي للأول، نظير قوله تعالى: ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ﴾ هذا عند بعض النحويين، وأما عند جمهورهم فلا يجوز أو يعرب بدلًا إذا صُرِّح بالعامل الرافع أو الناصب. قال في "الإرشاد": تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يرغبهم في اتباعهم أو التنزه عن الغرض الدنيوي الاهتداء إلى خير الدنيا والدين.
والمعنى (١): أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعًا لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل، فتقدم للذب عنهم ابتغاء وجه الله ونيل ثوابه، قال: يا قوم، اتبعوا رسول الله الذين لا يطلبون منكم أجرًا على تبليغهم، ولا يطلبون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين
روي: أن هذا الرجل يسمى حبيبًا، وكان نجارًا، قال ابن أبي ليلى: سباقوا الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. ورواه الزمخشري حديثًا، وقال ابن كثير: إنه حديث منكر لا أصل
٢٢ - ثم أبان أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه، فقال: ﴿وَمَا لِيَ﴾؛ أي: وأيُّ شيء ثبت لي، وأي عذر ومانع عرض لي في كوني ﴿لَا أَعْبُدُ﴾ الإله ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وخلقني وطهرني من كتم العدل، ورباني بأنواع اللطف والكرم، وهذا تلطف منه في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح؛ حيث أراهم أنه أختار لهم ما يختار لنفسه، والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره؛ أي: أيُّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؛ أي: لا مانع له من ذلك، فالاستفهام إنكاري.
قرأ غير حمزة (٢): بفتح الياء، وقرأ حمزة بإسكانها، ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ولم يقل: إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد؛ أي: إليه تعالى لا إلى غيره تردون أيها القوم بعد البعث للمجازاة والمحاسبة.
(٢) البيضاوي.
قلت: لأن الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى، توجب الشكر، والبعث بعد الموت للجزاء وعيد من الله يوجب الزجر، فأضاف ما يقتضي الشكر إلى نفسه؛ لأنه أليق بايمانه، وما يقتضي الزجر إليهم؛ لأنه أليق بكفرهم.
والمعنى: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق، وعبادة غيره، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب،
٢٣ - ثم أعاد التوبيخ مرةً أخرى، وساق الكلام المساق الأول، وهو إبراز الكلام في صورة النصيحة لنفسه فقال: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾؛ أي: أأعبد ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى، ﴿آلِهَةً﴾ آلهة لا تملك من الأمر شيئًا، وهي الأصنام، وهو إنكار ونفي لاتخاذ الآلهة على الإطلاق؛ أي: لا أتخذ من دون الذي فطرني آلهة باطلة لا تنفعني ولا تضرني، فجعل الإنكار متوجهًا إلى نفسه، وهم المرادون به؛ أي: لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني، ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارًا عليهم، وبيانًا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ وقرأ طلحة بن مصرف ﴿إن يزدني﴾ بفتح الياء؛ أي: إن أرادني الرحمن بضرر؛ أي: إن أراد الرحمن أن يصيبني بسوء ومكروه ﴿لَا تُغْنِ عَنِّي﴾؛ أي: لا تدفع عني، ﴿شَفَاعَتُهُمْ﴾؛ أي: شفاعة تلك الآلهة، ﴿شَيْئًا﴾ من الضرر؛ أي: لا تنفعني شيئًا من النفع، إذ لا شفاعة لهم فتنتفع، فنصب ﴿شَيْئًا﴾ على المصدرية، وقوله: ﴿لَا تُغْنِ﴾ جواب الشرط، والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَا يُنْقِذُونِ﴾؛ أي: لا يخلصونني من ذلك الضرر والمكروه بالنصرة والمظاهرة، وهو عطف على ﴿لَا تُغْنِ﴾، وعلامة الجزم فيه حذف نون الإعراب؛ لأن أصله لا ينقذونني، وهو تعميم بعد تخصيص مبالغةً بهما في عزهم وانتفاء قدرتهم.
٢٤ - ﴿إِنِّي إِذًا﴾؛ أي: إذا اتخذت من دونه آلهة، ﴿لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: لفي خسران واضح، فإن إشراك ما ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره، ولا خير إلا خيره ضلالٌ بيِّن، لا يخفى على أحدِ ممن له تمييز في الجملة، وهذا تعريض بضلالهم كما سبق.
٢٥ - ثم التفت إلى الرسل، وخاطبهم مصرِّحًا بإيمانه، منيبًا إلى ربه فقال ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ الذي أرسلكم، ﴿فَاسْمَعُونِ﴾؛ أي: فاسمعوا كلامي من الإيمان، فاشهدوا لي بذلك عند ربي، قال المفسرون: أراد قومه قتله، فأقبل هو علي المرسلين فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل، فاسمعوا إيماني، واشهدوا لي به، وقيل: إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبًا في الدين، وتشددًا في الحق، فلما قال هذا القول وصرَّح بالإيمان.. وثبوا عليه فقتلوه؛ وقيل: وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه، وقيل: حرقوه، وقيل: حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل: إنهم لم يقتلوه، بل رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، وروي أنه لما قال ذلك.. وثبوا عليه وثبةَ رجلٍ واحد، فقتلوه، ولم يجد من يدافع عنه، قال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة، والمعنى: على أنه خطاب لقومه: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ الذي خلقكم وربَّاكم بأنواع النعم، وإنما قال: بربكم، ولم يقل: آمنت بربي؛ ليعلموا أن ربهم هو الذي يعبده هو فيعبدوا ربهم، ولو قال: إني آمنت بربي، لعلهم يقولون: أنت تعبد ربك، ونحن نعبد ربنا، وهوآلهتهم. ﴿فَاسْمَعُونِ﴾؛ أي: أجيبوني في وعظي ونصحي، واقبلوا قولي، كما يقال: سمع لمن حمده؛ أي: قبله، فالخطاب للكفرة، شافههم بذلك إظهارًا للتصلب في الدين، وعدم المبالاة بالقتل.
٢٦ - ثم ذكر مآل أمره، وما قاله حين وجد النعيم والكرامة، فقال: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾؛ أي: قيل لحبيب النجار من جهة الرب جل جلاله حين قتلوه: ادخل الجنة إكرامًا له بدخولها حينئذ، كما هي سنة الله سبحانه في عباده الشهداء، وقيل: معناه: البشرى بدخول الجنة، وأنه من أهلها، يدخلها بعد البعث، لا أنه أمر بدخولها في الحال؛ لأن الجزاء بعد البعث، وعلى قول من قال: إنه رفع إلى السماء ولم يقتل.. يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قتله.. نجاه الله من القتل، وقيل له: ادخل الجنة.
وإنما لم يقل: قيل له بزيادة لفظة: له؛ لأن الغرض بيان مقول، لا المقول له؛ لظهوره وللمبالغة في المسارعة إلى بيانه، والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ عن حكاية حاله ومقاله، كأنه قيل: كيف كان بقاؤه عند ربه بعد ذلك التصلب في دينه، والتسخي بروحه لوجهه تعالى، فقيل: قيل له: ادخل الجنة، وكذا قوله تعالى: ﴿قَالَ﴾ الخ مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر نشأ من حكاية حاله، كأنه قيل: فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنية؟ فقيل: قال متمنيًا علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة من الكفر، والدخول في الإيمان والطاعة، جريًا على سنن الصالحين في كظم الغيظ، والترحم على الأعداء، وليعلموا أنهم على خفاء عظيم في أمره، وأنه كان على الحق، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا سعادة؛ أي: فلما دخل الجنة وشاهدها قال حبيب النجار: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي﴾ ﴿يَا﴾ في مثل هذا المقام لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه؛ أي: انتبه أيها المخاطب، أتمنى أن قومي
٢٧ - ﴿يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ ﴿ما﴾: إما موصولة، والباء صلة ﴿يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: أتمنى علم قومي بالأمر الذي بسببه غفر لي ربي ذنوبي، وهو الإيمان به والطاعة أو: مصدرية، والباء: صلة العلم أيضًا؛ أي: أتمنى علم قومي بغفران ربي لذنوبي، أو استفهامية وردت على الأصل، وهو أن لا تحذف الألف بدخول الجار عليها، والباء: صلة غفر على هذا الوجه؛ أي: أتمنى علم قومي بأيِّ شيء غفر لي ربي ذنوبي، يريد تفخيم شأن المهاجرة عن ملتهم،
﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾؛ أي: من المنعمين في الجنة، وإن كان على النصف؛ إذ تمامه إنما يكون بعد تعلق الروح بالجسد يوم القيامة. وفي الحديث المرفوع: "نصح قومه حيًا وميتًا"، وهكذا (١) ينبغي للمؤمن أن يكون ناصحًا للناس، إلى تعصُّبهم وتمردهم، ويستوي حاله في الرضى والغضب. قال حمدون القصار: لا يسقط عن النفس رؤية الخلق بحال، ولو سقط عنها في وقت لسقط في المشهد الأعلى في الحضرة، ألا تراه في وقت دخول الجنة يقول: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ يحدِّث نفسه، إذ ذاك.
وقرىء (٢): من ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ مشدد الراء مفتوح الكاف، وقرأ الجمهور: بإسكان الكاف وتخفيف الراء.
ومعنى الآية: أي قال الله سبحانه له: ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل، وأسلفت من إحسان، فلما دخلها وعاين ما أكرمه الله به لإيمانه وصبره.. قال يا ليت قومي يعلمون بما أنا فيه من نعيم وخير عميم لإيماني بربي، وتصديقي برسله، وصبري على أذى قومي، وإنما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر، والدخول في حظيرة الإيمان والطاعة، اتباعًا لسنن أولياء الله الذي يكظمون الغيظ، ويترحمون على الأعداء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نصح قومه حيًا بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾، وبعد مماته بقوله: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.
الإعراب
﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾.
﴿يس (١)﴾: إن قلنا إنه علم على السورة.. فهو إما خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذه يس، والخبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره على قراءة الرفع،
(٢) البحر المحيط.
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧)﴾.
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ﴾: بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: نزل العزيز الرحيم القرآن تنزيلًا، أو منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره: أمدح تنزيل العزيز الرحيم، وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تنزيل العزيز، وبالجر بدل من ﴿يس (١)﴾، أو صفة له؛ لأنه بمعنى منزل. ﴿الْعَزِيزِ﴾: مضاف إليه، ﴿الرَّحِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾، ﴿لِتُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿تنذر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَنْزِيلَ﴾؛ أي: نزلت عليك لإنذارك قومًا، أو متعلق بمعنى قوله: من المرسلين؛ أي: أرسلت لإنذارك قومًا، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على أنها مفعول ثان لـ ﴿تنذر﴾، وجملة ﴿أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ صلة لها، أو صفة لها، والعائد أو الرابط
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة جعلنا خبره، ﴿فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿أَغْلَالًا﴾: مفعول أول لها، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتمثيل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم عن غيهم، ﴿فَهِيَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: مجموعة أو مرفوعة إلى الأذقان، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿مُقْمَحُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾، ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾ الأول، ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، ﴿سَدًّا﴾: مفعول أول له، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾: معطوف على ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، ﴿سَدًّا﴾: معطوف على ﴿سَدًّا﴾ الأول، ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أغشيناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ﴿أغشينا﴾.
﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)﴾.
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ، ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَنَكْتُبُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿نُحْيِ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نكتب﴾، وجملة ﴿قَدَّمُوا﴾: صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما قدموه ﴿وَآثَارَهُمْ﴾: معطوف على ﴿مَا﴾، ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾: الواو: استننافية، ﴿كل شيء﴾: منصوب بفعل مضمر وجوبًا يفسره ما بعده على سبيل الاشتغال تقديره:
﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿إِذْ﴾ الأولى بدل تفصيل من مجمل، وهو يدخل في نطاق بدل المطابق، أو بدل الكل من الكل، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْهِمُ﴾: متعلق به، ﴿اثْنَيْنِ﴾: مفعول به لـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿فَعَزَّزْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾، ﴿بِثَالِثٍ﴾: متعلق بـ ﴿عززنا﴾، ﴿فَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿عززنا﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿مُرْسَلُونَ﴾، و ﴿مُرْسَلُونَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿بَشَرٌ﴾: خبر أنتم، ﴿مِثْلُنَا﴾: صفة ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، والخطاب فيه للرسل الثلاثة، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ﴾ فعل وفاعل، ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿أَنْزَلَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، معطوف على جملة قوله: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ﴾ ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، وجملة ﴿تَكْذِبُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿رَبُّنَا﴾: مبتدأ، وجملة
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿تَطَيَّرْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿تَطَيَّرْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿إِنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿تَنْتَهُوا﴾: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: نرجمكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة، ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، ﴿نرجمن﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، والكاف مفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ﴾: الواو: عاطفة، واللام: موطئة للقسم، ﴿يمسن﴾: فعل مضارع مبني على الفتح، والنون للتوكيد، والكاف مفعول به، ﴿مِنَّا﴾: متعلق بـ ﴿يمسن﴾، ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل، ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿طَائِرُكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿أَئِنْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿ذُكِّرْتُمْ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، والقاعدة عند سيبويه: أنه إذا اجتمع شرط واستفهام.. يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط، والتقدير عنده: أإن ذكرتم تتطيرون وتوعدون، وذهب غيره إلى إجابة الشرط، والتقدير
﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَجَاءَ﴾: الواو: عاطفة أو استئنافية، ﴿جاء﴾: فعل ماض، ﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾: متعلق بـ ﴿جاء﴾، ﴿رَجُلٌ﴾ فاعل، وجملة ﴿يَسْعَى﴾ صفة لـ ﴿رَجُلٌ﴾، أو حال منه لوصفه بصفة محذوفة معلومة من السياق؛ أي: رجل عظيم الشأن عند الله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على الجمل التي قبلها، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على رجل، والجملة مستأنفة، ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿اتَّبِعُوا مَنْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية توكيد للجملة التي قبلها، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَسْأَلُكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ومفعول أول، ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصوله، ﴿وَهُمْ﴾: الواو: حالية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مُهْتَدُونَ﴾: خبر ﴿هم﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يسأل﴾، والجمع باعتبار معنى ﴿مَن﴾، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لِيَ﴾: جار ومجرور في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿يَا قَوْمِ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿أَعْبُدُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ياء المتكلم، ﴿فَطَرَنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، معطوف على ﴿فَطَرَنِي﴾.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣)﴾.
﴿أَأَتَّخِذُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿أتخذ﴾: فعل مضارع وفاعل
﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء لا عمل لها لفقد شرطها، ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿في ضلال﴾: جار ومجرور خبر إن، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿آمَنْتُ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِرَبِّكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿فَاسْمَعُونِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿اسمعوا﴾: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنْتُ﴾، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ﴿ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلِ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، ﴿الْجَنَّةَ﴾: ظرف مكان متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿رَجُلٌ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿يَا لَيْتَ﴾ ﴿يَا﴾: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء، ﴿لَيْتَ قَوْمِي﴾: ناصب
عَلى مَا قَامَ يَشْتُمُنِيْ لَئِيْمُ | كَخِنْزِيْرِ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ |
عَلَامَ يَقُوْلُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ كَاهِلِيْ | إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعَنْ إِذَا الخَيْلُ كَرَّتِ |
التصريف ومفردات اللغة
﴿يس (١)﴾ تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الرأي الراجح فيها أنها حروف تنبيه، نحو: ألا ويا، وينطق بأسمائها فيقال: ياسين. روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: يس؛ أي: يا إنسان بلغة طيء.
﴿الْحَكِيمِ﴾؛ أي: ذو الحكمة، يقال: قصيدة حكيمة؛ أي: ذات حكمة، يقال: حكم الرجل من باب كرم؛ أي: صار حكيمًا، ومنه قول النابغة:
وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ | إِلَى حَمَامِ شِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ |
وَقَصِيْدةٍ تَأْتِيْ الْمُلُوْكَ حَكِيْمَةٍ... قَدْ قُلْتُهَا، لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قَالَهَا؟
وعبارة "الكرخي": الحكيم: فعيل بمعنى: مفعل، كقولهم: عقدت العسل فهو
﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ من الإرسال، والإرسال قد يكون للتسخير، كإرسال الريح والمطر، وقد يكون بمعنى بعث من له اختيار، نحو إرسال الرسل، كما في "المفردات".
﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾؛ أي: متصفون بالغفلة، والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس، والنسيان: ذهابه عنها بعد حضوره. قال بعضهم: الغفلة: نوم القلب، فلا تعتبر حركة اللسان إذا كان القلب نائمًا، ولا يضر سكوته إذا كان متيقظًا، ومعنى التيقظ: أن يشهده تعالى حافظًا له رقيبًا عليه قائمًا بمصالحه.
﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: ثبت ووجب، والقول الحكم والقضاء الأزلي. ﴿أَغْلَالًا﴾: جمع غل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في اليد، وقد تشد به اليد إلى العنق، وفي "المفردات": أصل الغلل: تدرع الشيء وتوسُّطه، ومنه: الغلل للماء الجاري، مختص بما يقيد به، فيجعل الأعضاء وسطه، وغل فلان: قيد به، وقيل للبخيل: هو مغلول اليد.
﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وبفتح القاف ومجتمع اللحيين من أسفلهما.
﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ جمع: مقمح، والمقمح: الذي يرفع رأسه، ويغض بصره من الإقماح، يقال: قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه، أو لبرودة الماء، أو لكراهة طعمه، كما مرَّ، وفي "المختار" الإقماح: رفع الرأس، وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. اهـ. وفي "القاموس": وأقمح الغل الأسير: إذا ترك رأسه مرفوعًا لضيقه.
﴿سَدًّا﴾ السد - بفتح السين وضمها -: الحاجز بين الشيئين والجبل، والجمع: أسداد. قال علي بن أبي طالب: وضرب على قلبه بالأسداد؛ أي: سدت
﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: أغشينا أبصارهم؛ أي: غطيناهم، وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح إلى مرئي. ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ﴾؛ أي: عقابه، ﴿بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: قبل حلوله ومعاينة أهواله. ﴿نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ والإحياء: جعل الشيء حيًا ذا حس وحركة، والميت: من أخرج روحه.
﴿مَا قَدَّمُوا﴾؛ أي: أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. ﴿وَآثَارَهُمْ﴾؛ أي: ما أبقوه بعدهم من الحسنات، كعلم علموه، أو كتاب ألفوه أو بناء في سبيل الله بنوه، أو من السيئات، كغرس بذور الضلالات بين الناس.
﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ قال ابن الشيخ: أصل الإحصاء: العد، ثم استعير للبيان والحفظ؛ لأن العد يكون لأجلهما، وفي "المفردات": الإحصاء: التحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصي، واستعمال ذلك فيه؛ لأنهم كانوا يعتمدون عليه في العد اعتمادنا فيه على الأصابع.
﴿فِي إِمَامٍ﴾؛ أي: أصلٍ يؤتم به، قال الراغب: الإِمام المؤتم به إنسانًا كان يقتدى بقوله وبفعله، أو كتابًا أو غير ذلك، محقًا كان أو مبطلًا، وجمعه: أئمة.
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ القرية - بفتح القاف وكسرها -: الضيعة، والمصر الجامع، وجمع الناس، والجمع: قرًى، وقرىء بضم القاف وكسرها، والنسبة إليها: قروي وقرييّ، والمراد بها هنا: أنطاكية كما سبق.
﴿فعززناهما﴾؛ أي: قويناهما وشددناهما، يقال: عزز المطر الأرض إذا لبدها وسددها، وأرض عزار؛ أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد وعز، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه.
﴿إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: التبليغ الواضح الظاهر للرسالة. ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾؛ أي: تشاءمنا، والتطير: التشاؤم، وأصله: من الطير إذا طار إلى جهة اليسار تشاءموا به، وأصل التطير: التفاؤل بالطير، فإنهم يزعمون أن الطائر السانح - أي: الذي طار إلى جهة اليمين - سببٌ للخير، والبارح - أي: الذي طار إلى جهة اليسار - سبب للشر، ثم استعمل في كل ما يتشاءم به، طيرًا كان أو غيره.
﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ وفي "المختار": طائر الإنسان: عمله الذي قلّده، والطير
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ لردِّ إنكار الكفرة بقولهم في حقه - ﷺ -: لست مرسلًا، وما أرسل الله إلينا رسولًا، فإنه أكد بالقسم، وبإن، وباللام، وباسمية الجملة؛ لأن المقام مقام الإنكار.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ فإنه شبَّه حال الكفار في امتناعهم من الهدى والإيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسل والأغلال، فأصبح رأسه مرفوعًا لا يستطيع خفضًا له ولا التفاتًا على طريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: القلب في قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾؛ إذ حقيقة الكلام: جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢)﴾ إن المعنى: اسلكوا فيه سلسلة؛ أي: أدخلوا في عنقه سلسلة.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿أَغْلَالًا﴾ مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ الآية، فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان، فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة، ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل، أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية، والتأمل في مغاب الآتية والعواقب المستقبلية، قد أحيطوا بسدٍّ من أمامهم، وسد من
ومنها: تكرير الضمير في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ لزيادة التأكيد.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ﴾؛ لأنه استعار الإحصاء بمعنى العد للإحصاء بمعنى البيان بجامع الضبط في كل، فاشتق من الإحصاء بمعنى البيان، أحصينا بمعنى: بينا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ فقد حذف مفعول ﴿فَعَزَّزْنَا﴾، والتقدير: فعززهما بثالث.
ومنها: التأكيدات في قوله: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾ الآيات، ففي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صورة للخبر، فقال أولًا: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾ فأورد الكلام ابتدائي الخبر، ثم قال: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾، فأكده بمؤكدين، وهو: إن، واسمية الجملة، فأورد الكلام طلبيًا، ثم قال: ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾، فترقى في التأكيد بثلاثة، وهي: إن، واللام، واسمية الجملة، فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابًا عن إنكارهم، قيل: وفي قوله: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ﴾ تأكيد رابع، وهو إجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به، وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم، وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان.
ومنها: قصر القلب في قوله: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ فالمخاطبون وهم الرسل لم يكونوا جاهلين بكونهم بشرًا ولا منكرين لذلك، لكنهم نزّلوا منزلة المنكرين لاعتقاد الكفار أن الرسول لا يكون بشرًا، فنزلوهم منزلة المنكرين للبشرية لما اعتقدوا التنافي بين الرسالة والبشرية، فقلبوا هذا الحكم وعكسوه وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا؛ أي: أنتم مقصورون على البشرية، ليس لكم وصف الرسالة التي تدعونها، فلا فضل لكم علينا يقتضي اختصاصكم بالرسالة دوننا، ولو أرسل الرحمن إلى البشر رسلًا لجعلهم من جنس أفضل منهم، وهم الملائكة على زعمهم.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾.
ومنها: الجناس الناقص في ﴿نَحْنُ نُحْيِ﴾ لتغير بعض الحروف.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَرْسَلْنَا﴾ و ﴿لَمُرْسَلُونَ﴾، وبين ﴿تَطَيَّرْنَا﴾ و ﴿طَائِرُكُمْ﴾.
ومنها: الإطناب بتكرار الفعل في قوله: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)﴾.
ومنها: الإيغال في قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، الإيغال عندهم: هو ختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها؛ لأن قوله: ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مما يتم المعنى بدونه؛ لأن الرسل مهتدون لا محالة، إلا أن فيه زيادة حث على اتباع الرسل وترغيب فيه.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، وفائدته: أن في انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم إلى التكلم تلطفًا بهم من جهة، ووعيدًا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولًا إلى نفسه، وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت إلى مخاطبتهم ثانيًا مقرعًا مهددًا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرًا إلى التلطف في النصيحة؛ لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ألا ترى إلى قوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني، وإليه أرجع.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾.
ومنها: الحذف لدلالة السياق عليه في قوله: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾، والتقدير: فلما أشهر إيمانه.. قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة.
ومنها: ائتلاف الفواصل في هذه الآي، وهو من خصائص القرآن لما فيه من روعة البيان، وحسن الوقع على السمع، وهو كثير في القرآن.
فائدة: من محاسن القرآن الكريم وبلاغته الخارقة الإيجاز في القصص والأنباء، والإشارة إلى روحها وسردها؛ لأن القصد من القصص التذكير والاعتبار،
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أجل وأعز وأكرم وأعلم، والحمد لله على إحسانه وإنعامه، وصلِّ وسلم ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار، وصحبه الكرام الأبرار، وأتباعهم إلى يوم العرض على الجبار (١).
* * *
الْعَبْدُ ذُوْ ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُوْ قَدَرٍ | وَالدَّهْرُ ذُوْ دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُوْمُ |
وَالْخَيْرُ أَجْمَعُ فِيْمَا اخْتَارَ خَالِقُنَا | وَفِيْ اخْتِيَارِ سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشَّوَمُ |
أَلَّا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلِّ سَحَابَةٍ | أَظَلَّتْكَ يَوْمًا ثُمَّ عَنْكَ اضْمَحَلَّتِ |
فَلاَ تَكُ فَرْحانًا بِهَا حِيْنَ أَقْبَلَتْ | وَلَا تَكُ جَزْعَانًا بِهَا حِيْنَ وَلَّتِ |
بِلَادُ اللَّهُ وَاسِعَةٌ فَضَاءً | وَرِزْقُ اللَّهِ فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ |
فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ | إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أَرْضٌ فَسِيْحُوْا |
إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا | كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا |
يَا مَنْ يُعَيِّبُ شَرْحِيْ | لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا |
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلًا وَفِعْلًا | حَذَّرِ النَّفْسَ حَسْرَةَ الْمَسْبُوقِ |
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيْرَةٌ | وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ |
وَلَيْتَ الَّذِيْ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ عَامِرٌ | وَبَيْنِيْ وَبَيْنَ الْعَالَمِيْنَ خَرَابُ |
رَأَيْتُ أَخَا الدَّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيا | أخا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي |
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ | يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ |
الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ | وَالقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ |
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ | نَسْجُهُ مِن عَنْكَبُوتٍ |
ولو أنّا إذا متنا تركنا | لكان الموت راحة كُلِّ حَيِّ |
وَلكنَّا إذَا مِتنا بُعثنا | وَنُسأل بعدها عن كلِّ شَيِّ |
والخلاصة: أن الناس يجمعون للحساب والجزاء، ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.
٣٣ - ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد، والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها، فقال: ﴿وَآيَةٌ﴾؛ أي: علامة عظيمة، ودلالة واضحة على البعث والجمع والإحضار، وهو خبر مقدم للاهتمام به، وقوله: ﴿لَهُمُ﴾؛ أي: لأهل مكة، إما متعلق بآية؛ لأنها بمعنى: العلامة أو بمضمر هو صفة لها، والمبتدأ قوله: ﴿الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾؛ أي: اليابسة الجامدة، قرأ أهل المدينة (٣): ﴿الميِّتة﴾ بالتشديد،
(٢) الفخر الرازي.
(٣) الشوكاني.
وبدأ في تفصيل الآيات بالأرض (١)؛ لأنها مستقرهم حركةً، وسكونًا، حياةً وموتًا، فنبههم الله سبحانه بهذا، على إحياء الموتى، وذكرهم نعمه وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات، وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها، ويتغذون بها. وهو معنى قوله: ﴿وَأَخْرَجْنا مِنْها﴾؛ أي: من الأرض ﴿حَبًّا﴾ وبزرًا. والحب هو الذي يطحن، والبزر الذي يعصر منه الدهن، وهو جمع حبة، والمراد: جنس الحبوب التي تصلح قواما للناس من الأرز، والذرة، والحنطة، والشعير، وغيرها. ﴿فَمِنْهُ﴾؛ أي: فمن ذلك الحب ﴿يَأْكُلُونَ﴾ تقديم (٢) الصلة ليس لحصر جنس المأكول في الحب، حتى يلزم أن لا يؤكل غيره، بل هو لحصر معظم المأكول فيه، ولبيان أنه أكثر ما يقوم به المعاش، فإن الحب معظم ما يؤكل، ويعاش به، ومنه صلاح الإنس حتى إذا قل قل.. الصلاح، وكثر الضر والصياح، وإذا فقد.. فقد النجاح بإخلال الأشباح ولأمر ما قال النبي - ﷺ -: «أكرموا الخبز فإن الله أكرمه، فمن أكرم الخبز أكرمه الله».
قال في شرعة الإسلام: ويكرم الخبز بأقصى ما يمكن، فإنه يعمل في كل لقمة يأكلها الإنسان من الخبز ثلاث مئة وستون صانعًا. أولهم: ميكائيل الذي يكيل الماء من خزانة الرحمة، ثم الملائكة التي تزجر السحاب والشمس والقمر والأفلاك، وملائكة الهواء، ودواب الأرض، وآخرهم الخباز. ومن إكرام الخبز: أن تلتقط الكسرة من الأرض، وإن قلت، فيأكلها تعظيما لنعمة الله تعالى. وفي الحديث: «من أكل ما يسقط من المائدة.. عاش في وسعة، وعوفي في ولده،
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزالنا الماء عليها، فتهتز، وتربو، وتنبت نباتًا مختلفًا ألوانه وأشكاله، وتخرج حبًا هو قوت لكم ولأنعامكم، وبه قوام حياتكم.
٣٤ - ﴿وَجَعَلْنا فِيها﴾؛ أي: وخلقنا في الأرض ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين مملوءة ﴿مِنْ نَخِيلٍ﴾ جمع نخلة ﴿وَأَعْنابٍ﴾ جمع عنب؛ أي: من أنواع النخل والعنب، ولذلك جمعا دون الحب، فإن الدال على الجنس مشعر بالاختلاف، ولا كذلك الدال على الأنواع. وخصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار، وأنفعها للعباد.
فإن قلت (٢): لم ذكر النخيل دون التمور حتى يطابق الحب والأعناب في كونها مأكولة، لأن التمور والحب والأعناب كلها مأكولة دون النخيل؟
قلت: ذكر النخيل لاختصاص شجرها بمزيد النفع، وآثار الصنع. وذلك لأنها أول شجرة استقرت على وجه الأرض، وهي عمتنا لأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام على ما قيل وهي تشبه الإنسان، من حيث استقامة قدها وطولها. وامتياز ذكرها من بين النبات، واختصاصها باللقاح، ورائحة طلعها كرائحة المني، ولطلعها غلاف كالمشيمة التي يكون الولد فيها، ولو قطعت رأسها ماتت كما قالوا: أقرب الجماد إلى النبات المرجان، لأنه ينبت في البحر كالنبات، ويكون له أغصان. وأقرب النبات إلى الحيوان النخل، لأنها تموت بقطع رأسها، ولا تثمر بدون اللقاح، كما ذكر. وأقرب الحيوان إلى الإنسان
(٢) روح البيان.
ومن خواص النخلة: أن مضغ خوصها يقطع رائحة الثوم، وكذا رائحة الخمر. وأما العنب فقد جاء في بعض الكتب المنزلة «أتكفرون بي وأنا خالق العنب». وله خواص كثيرة، وكذا الزبيب. وروي: أنه أهدي إلى النبي - ﷺ - الزبيب، فقال: «بسم الله، كلوا نعم الطعام الزبيب يشد العصب، ويذهب الوصب، ويطفىء الغضب، ويرضي الرب ويطيب النكهة، ويذهب البلغم، ويصفي اللون». وماء الكرم الذي يتقاطر من قضبانها بعد كسحها ينفع للجرب شربا، ويسقى للمشغوف بالخمر بعد شربه الخمر، من غير علمه، فيبغض الخمر قطعًا.
وأول من استخرج الخمر جمشيد الملك، فإنه توجه مرة إلى الصيد فرأى في بعض الجبال كرمة، وعليها عنب، فظنها من السموم، فأمر بحملها حتى يجربها، ويطعم العنب لمن يستحق القتل، فتكسرت حباته فعصروها، وجعلوا ماءها في ظرف، فما عاد الملك إلى قصره إلا وقد تخمر العصير، فأحضر رجلًا وجب عليه القتل، فسقاه من ذلك، فشربه بكره ومشقة ونام نومة ثقيلة ثم انتبه، وقال: اسقوني منه فسقوه أيضًا مرارًا، فلم يحدث فيه إلا السرور والطرب، فسقوه غيره وغيره، فذكروا أنهم انبسطوا بعدما شربوه، ووجدوا سرورا وطربا، فشرب الملك فأعجبه، ثم أمر بغرسه في سائر البلاد. وكانت الخمر حلالًا في الأمم السالفة، فحرمها الله تعالى علينا، لأنها مفتاح لكل شر، وجالبة لكل سوء وضر، ومميتة للقلب، ومسخطة للرب.
وقد قيل: خير خلكم خل خمركم. وذلك لأن انقلاب الخمر إلى الخل مرضاة للرب. وفيه خواص كثيرة. وأكثر الناس السعال والتنحنح في مجلس معاوية، فأمر بشرب خل الخمر. والخل ورد فيه «نعم الإدام»، وقد تعيش به كثير من السلف الكرام، نسأل الله القناعة على الدوام.
واعلم (١): أن تفجير الأنهار والعيون في البلاد، رحمة من الله تعالى، إذ حياة كل شيء من الماء، وللبساتين منه النضارة والنماء. والعيون إما جارية وإما غير جارية، والجارية غير الأنهار، إذ هي أكثر وأوسع من العيون، ومنبعها غير معلوم غالبا كالنيل المبارك، حيث لم يوجد رأسه. وغير الجارية هي الآبار.
٣٥ - واللام في قوله: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾ متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾، وتأخيره عن تفجير العيون لأنه من مبادىء الأثمار، والضمير في ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾ يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل؛ أي: وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ورتبنا مبادىء إثمارها ليأكلوا من ثمر ما ذكر من الجنات والنخيل والأعناب، ويواظبوا على الشكر أداء لحقوقنا. ففيه إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة. وقيل: الضمير راجع إلى ماء العيون؛ لأن الثمر منه، قاله الجرجاني. وقيل: الضمير لله على طريقة الالتفات، والإضافة إليه، لأن الثمر بخلقه كما في «البيضاوي». وقرأ الجمهور (٢): ﴿ثَمَرِهِ﴾ بفتح الثاء والميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وطلحة، وابن وثاب بضمهما. وقرأ الأعمش بضم الثاء، وإسكان الميم.
وقوله: ﴿وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ معطوف على ﴿ثَمَرِهِ﴾؛ أي: ليأكلوا من ثمره، ويأكلوا من الذي عملته أيديهم. وهو ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة. وقيل: ﴿مَا﴾: نافية، والمعنى: والحال أنه لم تعمل ذلك الثمر، ولم تصنعه أيديهم؛ لأن الثمر وجد بخلق الله تعالى لا بفعلهم، ومحل الجملة حينئذ النصب على الحال. ويؤيد الأول
(٢) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَما عَمِلَتْهُ﴾ بالضمير، فإن كانت ﴿مَا﴾ موصولة فالضمير عائد عليها، وإن كانت نافية فالضمير عائد على الثمر. وقرأ طلحة، وعيسى وحمزة، والكسائي، وأبو بكر بغير ضمير. ومفعول ﴿عملت﴾ على كلا التقديرين محذوف. وجوز في هذه القراءة أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: وعمل أيديهم، وهو مصدر أريد به المعمول، فيعود إلى معنى الموصول.
والمعنى (٢): أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها، بساتين من نخيل وأعناب، وجعلنا فيها أنهارًا سارحة، في أمكنة تنشر فيها، ليأكلوا من ثمر الجنات، ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.
ولما عدد سبحانه هذه النعم.. حض على الشكر، فقال: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾؛ أي: أفلا يشكرون خالق هذه النعم، على ما تفضل به عليهم، من نعم لا تعد ولا تحصى. وهو إنكار واستقباح لعدم شكرهم النعم المعدودة. والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير (٣): أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرونها بالتوحيد والتقديس والتحميد، فيرجعون عن عبادة غير الله تعالى. وفي ذلك استدلال على وحدانية الله تعالى، وتعداد للنعم. فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها، فهي نعمة، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية، فإنها تصير أنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة، فإن قوتهم يصير في مكانهم، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة؛ لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة. وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى. فيقول الله تعالى: كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٣٦ - وجملة قوله: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها﴾ مستأنفة، مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم، من ترك الشكر لنعمه المذكورة، والتعجب من إخلالهم بذلك. فالمعنى: تنزه بذاته عن كل ما لا يليق مما فعلوه، اه «أبو السعود». وفي «القرطبي»: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها﴾ تنزه (١) نفسه سبحانه عن قول الكفار، إذ عبدوا غيره، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير معنى الأمر. والمعنى: سبحوا أيها العباد ربكم، الذي خلق وأوجد الأزواج، والأصناف، والأنواع كلها جميعا. ونزهوه عما لا يليق به من الإشراك، فإنه سبحانه انفرد بخلق هذه الأزواج، فأفردوه بالعبادة والطاعة، ولا تجعلوا له شريكًا مما لا يخلق، ولا ينفع، ولا يضر. وقيل: فيه معنى التعجب. والمعنى: عجبًا لهؤلاء الكفرة في كفرهم، وإعراضهم عن شكر الذي خلق الأزواج كلها، مع ما يشاهدونه من هذه الآيات. وفي الغالب من تعجب من شيء قال: سبحان الله. والأزواج: الأصناف والأنواع، فكل زوج صنف؛ لأنه مختلف في الألوان كألوان العنب، فمنه أبيض، وأسود، وأحمر وكذلك ألوان الرطب. وفي الطعوم: كالرمان، فمنه حامض، وحال، ومر. وفي «الأشكال»: كالمربع، والمدور، والمثلث، والطويل، والعريض. وفي الصغر والكبر. فمعنى ازدواجها: اختلافها فيما ذكر.
وقوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ من نجم، وشجر، ومعدن بيان للأزواج، وكذا ما بعده بيان له. والمراد: كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها.
وخلق الأزواج ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: الذكور والإناث وخلق الأزواج {مِمَّا
قال في «بحر العلوم»: ويجوز أن يكون معنى ﴿مِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾: مما لا يدركون كنهه مما خلق من الأشياء كالثواب والعقاب، كما قال - ﷺ -: «أربع لا تدرك غايتها: شرور النفس، وخداع إبليس، وثواب أهل الجنة، وعقاب أهل النار». ومنه الروح، فإنه ما بلغنا أن الله تعالى أطلع أحدًا على حقيقة الروح. وفي الآية (٣) إشارة إلى أنه ما من مخلوق إلا وقد خلق شفعًا، إذ الفردية من أخص أوصاف الربوبية، كما قال عبد العزيز المكي رحمه الله تعالى: خلق الأزواج كلها، ليستدل بذلك، إلى أن خالق الأشياء منزه عن الزوج، وإلى أن في كل شيء دليلا على وجوده تعالى، ووحدته، وكمال قدرته. قال أبو العتاهية:
فيا عجبًا كيف يعصي الإله | أم كيف يجحده الجَاحِدُ |
ولله فِي كُلٍّ تحريكةٍ | وتسكينة أبدًا شَاهِدُ |
وَفيْ كُلٍّ شَيْءٍ لهُ آيةٌ | تدلُّ على أَنِّهُ وَاحِدُ |
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
والخلاصة: تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم، من نبات وحيوان وإنسان، وخالق، ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته. وفيه الدليل على عظيم قدرته، وواسع ملكه.
٣٧ - ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة على كمال قدرتنا. وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿اللَّيْلُ﴾ المظلم، كأنه قيل: كيف كان آية؟ فقيل: ﴿نَسْلَخُ﴾ ونزيل، وننزع، ونكشط ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من الليل ﴿النَّهارَ﴾ المضيء؛ أي: نزيل ضوء النهار ونكشفه عن مكان الليل، ونلقي ظله بحيث لا يبقي معه شيء من ضوئه، الذي هو شعاع الشمس في الهواء. مستعار من السلخ، وهي إزالة ما بين الحيوان وجلده من الاتصال، وإن غلب في الاستعمال تعليقه بالجلد، يقال: سلخت الإهاب بمعنى أخرجتها عنه. قال المرزوقي: دلت الآية على أن الليل قبل النهار؛ لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ، كما أن المعطي قبل العطاء.
﴿فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾؛ أي: داخلون في الظلام مفاجأة، فإن ﴿إذا﴾ للمفاجأة؛ أي: ليس لهم بعد ذلك أمر سوى الدخول فيه. وفيه رمز إلى أن الأصل هو الظلمة، والنور عارض متداخل في الهواء، فإذا خرج منه أظلم. فعلى هذا المعنى، كان الواقع عقيب إذهاب الضوء عن مواضع ظلمة الليل هو ظهور الظلمة، كما كان الواقع عقيب سلخ الإهاب هو ظهور المسلوخ. وأما على معنى الإخراج فالواقع بعده هو الإبصار دون الإظلام، والمقام حينئذ مقام أن يقال: فإذا هم مبصرون، لكن لما كان الليل زمان ترح وألم وعدم إبصار، والنهار وقت فرح وسرور وإبصار، جعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة، إذ زمان السرور ليس فيه مهلة حكمًا، وإن كان ممتدًا، بخلاف زمان الغم، فإنه كان فيه المهلة، وإن كان قصيرًا، كما قيل: سنة الوصل سنة، وسنة الهجر سنة. ولبعضهم:
ويوم لا أراك كألفِ شهرِ | وشهرٌ لا أراك كألفِ عامِ |
محنُ الزَّمان كثيرةٌ لا تنقضيْ | وسرورهُ يأْتيك كالأَعياد |
والخلاصة: أن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة، من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه، وفيه عبرة لمن يعي ويفهم. وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.
٣٨ - وقوله: ﴿وَالشَّمْسُ﴾ معطوف على الليل؛ أي: وآية لهم الشمس المضيئة المشرقة على صحائف الكائنات، كأنه قيل: كيف كانت آية؟ فقيل: هي تجري أو حال كونها جارية، وسائرة إلى مستقر لها. ويجوز أن تكون الواو ابتدائية، ﴿وَالشَّمْسُ﴾ مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفًا مشتملًا على ذكر آية مستقلة. وقوله: لمستقر لها فيه وجوه:
الأول: أن الكلام في ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ للتعليل، والمستقر: اسم مكان؛ أي: تجري لبلوغ مستقر وحد معين، ينتهي إليه دورها في آخر السنة. فشبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره.
والثاني: أن اللام بمعنى إلى، والمستقر كبد السماء؛ أي: وسطها، والمعنى: تجري إلى أن تبلغ إلى وسط السماء، وتستقر فيه. شُبه بطء حركتها فيه بالوقفة والاستقرار، وإلا فلا استقرار لها حقيقةً. كما قال في «المفردات» الزوال يقال في شيء قد كان ثابتًا، ومعلوم أن لا ثبات للشمس، فكيف يقال
والثالث: أن اللام لام العاقبة، والمستقر مصدر ميمي؛ أي: تجري بحيث يترتب على جريها استقرارها في كل برج من البروج الاثني عشرة، على نهج مخصوص، بأن تستقر في كل برج شهرا، ويأخذ الليل من النهار في نصف الحول، والنهار من الليل في النصف الآخر منه، وتبلغ نهاية ارتفاعها في الصيف، ونهاية انحطاطها في الشتاء. ويترتب عليه اختلاف الفصول الأربعة، وتهيئة أسباب معاش الأرضيات، وتربيتها.
والرابع: لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق والمغارب، فإن لها في دورها ثلاث مئة وستين مشرقًا ومغربًا، تطلع كل يوم من مطلع، وتغرب من مغرب، ثم لا تعود إليها إلى العام القابل. فالمستقر اسم زمان؛ أي: تجري إلى زمان استقرارها، وانقطاع حركتها عند خراب العالم، أو إلى وقت قرارها وتغير حالها بالطلوع من مغربها. وهذا القول هو الراجح، لما روى أبو ذر - رضي الله عنه - قال: دخلت المسجد ورسول الله - ﷺ - جالس، فلما غابت الشمس، قال النبي - ﷺ -: يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: تذهب تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد، ولا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. فذلك قوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾. والمعنى المفهوم من الحديث تنتهي في سيرها لمستقر لها، فتقف فيه ولا تنتقل عنه. ومستقرها هو مكان تحت العرش، تسجد فيه كل ليلة عند غروبها، فتستمر ساجدة فيه طول الليل، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولًا، فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق، بل يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من المغرب. وهذا هو الصحيح الواضح، اهـ «فتوحات».
قال إمام الحرمين، وغيره من الفضلاء: لا خلاف أن الشمس تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند قوم آخرين. وعند
وقرىء (١): ﴿إلى مستقر لها﴾. وقرأ عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن رباح، وزين العابدين، وابنه الباقر، والصادق بن الباقر، وابن أبي عبدة ﴿لا مستقرَّ لها﴾ نفيًا مبنيًا على الفتح، فيقتضي انتفاء كل مستقر. وذلك في الدنيا؛ أي: هي تجري دائمًا فيها لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة ﴿لا مستقرٌّ لها﴾ برفع مستقر، وتنويه على إعمال ﴿لا﴾ عمل ﴿ليس﴾، نحو قول الشاعر:
تعز فلا شيء على الأرض باقيًا | ولا وزر مما قضى الله واقيًا |
وقيل معنى الآية: أي والشمس تجري حول مركز مدارها الثابت، الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمي. فقد ثبت أن لها حركةً رحويةً حول هذا المركز، تقدر بمئتي ميل في الثانية الواحدة. وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده، القابض على زمام مخلوقاته، العليم بأحوالها، الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.
٣٩ - ﴿وَالْقَمَرَ﴾ بالنصب، بإضمار فعل يفسره قوله: ﴿قَدَّرْناهُ﴾ كما في زيدا ضربته، فهو من باب الاشتغال، يجوز فيه النصب والرفع. قرأ بالرفع نافع، وابن كثير، وأبو عمرو وابن محيصن، والحسن بخلاف عنه، والرفع يكون على الابتداء، وما بعده خبر. وقرأ الباقون: بالنصب على الاشتغال، والتقدير: وقدرنا
وتلك المنازل معروفة عند العرب. وهي ثمان وعشرون، ينزل القمر كل ليلة، في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو، لا بتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين. ثم يتقوس، ويدق، ويستتر ليلتين، إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة، إن كان تسعًا وعشرين. وهذه (١) المنازل، هي مواقع النجوم، التي نسبت إليها العرب الأنواء، المستمطرة أربعة عشر منها شامية، وأربعة عشر منها يمانية. أولها: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرقة، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك وهو آخر الشامية. والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، والسعد الذابح، والسعد البلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، ومقدم الدلو، ومؤخر الدلو، والحوت وهو آخر اليمانية. وهذه المنازل مقسومة على الاثني عشر برجًا، كما استوفينا الكلام عليها في أوائل سورة يونس.
فإذا كان في آخر منازله دق، واصفر، واستقوس ﴿حَتَّى عادَ﴾ وصار في التقوس ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾؛ أي: مثل العذق ﴿الْقَدِيمِ﴾؛ أي: العتيق الذي مر عليه حول. قال الزجاج: العرجون: هو عود العذق، الذي فيه الشماريخ اليابس المنحني، شبه به الهلال إذا انحنى وتقوس. والعذق بالكسر في النخل، بمنزلة العنقود في الكرم. وقال ابن الشيخ: حتى صار القمر في آخر الشهر وأول الشهر
واعلم: أنه قد صح أن دور هذه الأمة، هو الدور القمري العربي، الذي حسابه مبني على الشهر تامًا كان أو ناقصًا، لا الدور الشمسي الذي هو مبني حسابه على الأيام فلا يكون ناقصًا. وقد صام - ﷺ - ثمانية أو تسعة رمضانات، خمس منها كانت تسعًا وعشرين يومًا، والباقي ثلاثين. وقد قال - ﷺ -: «شهرا عيد لا ينقصان»؛ أي: حكمهما إذا كانا تسعًا وعشرين، مثل حكمهما، إذا كانا ثلاثين في الفضل والثواب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿العرجون﴾ بضم العين والجيم. وقرأ سليمان التيمي: بكسر العين وفتح الجيم. وهما لغتان. والمعنى؛ أي: وجعلنا لسير القمر منازل، وهي ثمانية وعشرون منزلة، ينزل في كل واحد منها ليلة واحدة، ثم يستتر ليلتين أو ليلة، إذا نقص الشهر، فإذا كان في آخر منازله دق وتقوس حتى صار كالعرجون القديم، والعذق العتيق الذي عليه الشماريخ.
٤٠ - ﴿لَا الشَّمْسُ﴾ مبتدأ، والخبر ما بعده؛ لأنه لا يجوز أن تعمل ﴿لَا﴾ في المعرفة ﴿يَنْبَغِي﴾ ويتيسر، ويمكن ﴿لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي (٢): لا يصح، ولا يمكن، ولا يسهل للشمس أن تدرك القمر في سرعة سيره، وتنزل في المنزل الذي فيه القمر؛ لأن لكل واحد منهما سلطانا على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله سبحانه بالقيامة، فتطلع
(٢) الشوكاني.
أو المعنى (١): لا يمكن للشمس أن تلحق القمر في سرعة سيره. فإن القمر أسرع سيرا، حيث يقطع فلكه ويدور في منازله الثماني والعشرين في شهر واحد، بخلاف الشمس فإنها أبطأ منه، حيث لا تقطع فلكها ولا تدور في تلك المنازل المقسومة على الاثني عشر برجا إلا في سنة. فيكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يومًا، فهي لا تدرك القمر في سرعة سيره، فإنه تعالى جعل سيرها أبطأ من سير القمر. وأسرع من سير زحل، وهو كوكب في السماء السابعة. وذلك لأن الشمس كاملة النور، فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانًا كثيرًا في مسامتة شيء واحد فتحرقه، ولو كانت سريعة السير.. لما حصل لها لبث في بقعة واحدة، بقدر ما يخرج النبات من الأرض والأوراق والثمار من الأشجار، وبقدر ما ينضج الثمار والحبوب، ويجف. فلو أدركت القمر في سرعة سيره، لكان في شهر واحد صيف وشتاء، فيختل بذلك أحكام الفصول، وتكون النبات وتعيش الحيوان.
ويجوز أن يكون المعنى: ليس للشمس أن تدرك القمر في آثاره ومنافعه مع قوة نورها وإشراقها. فإن لكل واحد منهما آثارا ومنافع تخصه، وليس للآخر أن يدركه فيها كما قالوا: الثمرة تنضجها الشمس، ويلونها القمر، ويعطيها الطعم الكوكب. وقالوا: إن سهيلًا، وهو كوكب يمني يعطي الحجر اللون الأحمر، فيصير عقيقًا.
ويجوز أن يكون المعنى: ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: في مكانه. فإن القمر في السماء الدنيا، والشمس في السماء الرابعة؛ فهي لا تدركه في مكانه ولا يجتمعان في موضع واحد. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه: وأبينه أن سير القمر سير سريع، والشمس لا تدركه في السير. وأما قوله: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)﴾ فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع لخراب الدنيا. ويأتي في سورة القيامة، أن
والمعنى (١): أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره؛ لأن الشمس تجري في اليوم مقدار درجة، والقمر يسير في اليوم مقدار -
١٣ - ثلاث عشرة درجة، ولأن لكل منهما مدارًا خاصًا لا يجتمع مع الآخر فيه.
﴿وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ﴾؛ أي: ولا الليل سابق انقضاء النهار، فلا يأتي الليل في أثناء النهار، كأن يأتي وقت الظهر، ولكن يعاقبه ويناوبه ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه؛ أي: هما (٢) يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته. وقيل معناه: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك أحدهما صاحبه قامت القيامة. وقيل معناه: إن الشمس لا تجتمع مع القمر في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليل، لا يكون بينهما نهار فاصل. وقرأ عمارة بن عقيل الخطفي: ﴿سابق﴾ بغير تنوين، ﴿النهار﴾ بالنصب، وحذف التنوين فيه لالتقاء الساكنين. وقيل (٣): المراد بالليل والنهار آيتاهما، وهما النيران، وبسبق الليل سبق القمر إلى سلطان الشمس في محو نورها. فيكون التركيب عكسًا للأول، فالمعنى: لا يصح للقمر أيضًا أن يطلع في وقت ظهور سلطان الشمس وضوئها، بحيث يغلب نورها ويصير الزمان كله ليلًا، بل هما يسيران الدهر على نظامهما، ولا يدخل أحدهما على الآخر، ولا يجتمعان إلا عند إبطال الله هذا التدبير، ونقض هذا التأليف، وتطلع الشمس من مغربها، ويجتمع معها القمر.
فإن قلت: إذا كان هذا التركيب عكس ما ذكر قبله كان المناسب أن يقال ولا الليل مدرك النهار.
قلت: إيراد السبق مكان الإدراك لأنه الملائم لسرعة سير القمر.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
فائدة: قال في «فتح الرحمن»: إن قلت: كيف نفى الله تعالى الإدراك للقمر عن الشمس، دون عكسه في قوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؟
قلت: لأن سير القمر أسرع؛ لأنه يقطع فلكه في شهر، والشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت جديرةً بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقا بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
٤١ - ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعًا آخر مما امتن به على عباده من النعم، فقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾؛ أي: علامة عظيمة لأهل مكة، أو لكفار العرب أو للكفار على الإطلاق، الكائنين في عصر محمد عليه السلام، على كمال قدرتنا. وهو خبر مقدم لقوله: ﴿أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ أي: أنا حملنا أولادهم الكبار الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ﴿فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: في السفينة. وهو ههنا مفرد بدليل وصفه بقوله: ﴿الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء منهم ومن غيرهم أو المعنى: حملنا صبيانهم ونساءهم الذين يستصحبونهم. وتخصيص الذرية بمعنى الضعفاء الذين يستصحبونهم في سفر البحر، مع أن تسخير البحر والفلك نعمة في حق أنفسهم أيضًا، لما أن
قلت: الذرية من أسماء الأضداد عند كثير، تطلق على الآباء والأولاد، والمراد هنا: الفريقان، فمعناه: حملنا آباءهم وأولادهم؛ لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين ظاهرًا، انتهى. قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد؛ لأنها من الذرء بمعنى الخلق، فيصلح الاسم للأصل والنسل. وقيل: الذرية: النطف الكائنة في بطون النساء وشبه البطون بالفلك المشحون. والراجح: القول الثاني ثم الأول ثم الثالث.
وقيل: إن الضمير في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾ يرجع إلى العباد المذكور في قوله: ﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ﴾؛ لأنه قال بعد ذلك: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾، وقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾، ثم قال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فكأنه قال: وآية للعباد، أنا حملنا ذرية العباد، وهذا قول حسن؛ لأنه لا يلزم عليه اختلاف الضميرين.
٤٢ - ﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ﴾؛ أي: وآية لهم أنا خلقنا لهم ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾؛ أي: مما يماثل الفلك، ويشابهه ﴿ما يَرْكَبُونَ﴾؛ أي: ما يركبونه. قال مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير: هي الإبل، خلقها لهم للركوب في البر، مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البر. وعلى هذا، فتعريف الفلك للجنس؛ لأن المقصود من الآية: الاحتجاج على أهل مكة، ببيان صحة البعث وإمكانه. استدل عليهم أولًا بإحياء الأرض الميتة، وجعلها سببا لتعيّشهم، ثم استدل عليهم بتسخير الرياح والبحار والسفن الجارية فيها، على وجهه، يتوسلون بها إلى تجارات البحر، ويستصحبون من يهمهم حمله من النساء والصبيان. كما قال
فإن قلت (١): فعلى هذا لم لم يقل: حملناهم وذريتهم مع أن أنفسهم محمولون أيضًا؟
قلت: إشارة إلى أن نعمة التخليص عامة لهم ولأولادهم إلى يوم القيامة. ولو قيل: حملناهم لكان امتنانا بمجرد تخليص أنفسهم من الغرق، وجعل السفن مخلوقة لله تعالى مع كونها من مصنوعات العباد، ليس لمجرد كونها صنعتهم بإقدار الله تعالى وإلهامه، بل لمزيد اختصاص أهلها بقدرته تعالى وحكمته، حسبما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا﴾. والتعبير عن ملابستهم بهذه السفن بالركوب؛ لأنها باختيارهم، كما أن التعبير عن ملابسة ذريتهم، بفلك نوح، بالحمل، لكونها بغير شعور منهم واختيار. وأما قوله تعالى في سورة المؤمنين: ﴿وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)﴾ فبطريق التغليب.
وجعل بعضهم المعنى الثاني أظهر؛ لأنه إذا أريد بمثل الفلك: الإبل لكان قوله: ﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ﴾ إلخ، فاصلًا بين متصلين، لأن قوله: ﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ متصل بالفلك. واعتذر عنه في الإرشاد بأن حديث خلق الإبل في خلال الآية بطريق الاستطراد، لكمال التماثل بين الإبل والفلك، فكأنها نوع منه.
والمعنى: ومن آيات (٢) قدرته الدالة على رحمته بعباده، أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة، بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، ليستفيدوا مما
(٢) المراغي.
ونحو الآية قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١)﴾.
﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)﴾؛ أي: وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية، سفنا برية، وهي الإبل التي تسير في الصحاري، كما قال شاعرهم:
سَفائِنُ برٍّ والسَّرابُ بِحَارُهَا
ونحوها قطر السكك الحديدية، والسيارات والسفن الهوائية من مطاود، وطائرات تسير في الجو حاملة للناس السلع المختلفة. والذخائر الحربية، ومن جراء هذا لم يعين الكتاب الكريم، ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود، مما هو مخبأ في صحيفة الغيب. وهذا من إعجاز الكتاب الكريم. ونحو الآية: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)﴾.
٤٣ - ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن، فقال: ﴿وَإِنْ نَشَأْ﴾ إغراقهم ﴿نُغْرِقْهُمْ﴾ في اليم مع ما حملناهم فيه من الفلك. وهذا من تمام الآية التي امتن بها عليهم. ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك. والضمير (١) يرجع إما إلى أصحاب الذرية أو إلى الذرية أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال. وتعليق الإغراق بمحض المشيئة. إشعار بأنه قد تكامل ما يوجب هلاكهم من معاصيهم، ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به. ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾؛ أي: فلا مغيث لهم يحرسهم من الغرق، ويدفعه عنهم قبل وقوعه ﴿وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ﴾؛ أي: ينجون منه بعد وقوعه، ولا يخلّصون. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلّصه من ورطة ومكروه
٤٤ - ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا﴾ استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم، والغاية المتأخرة؛ أي: لا يغاثون، ولا ينقذون لشيء من الأشياء، إلا لرحمة عظيمة ناشئة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ، كذا قال
وفي الآية رد على ما زعم الطبيعي، من أن السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة، وأن المجوف لا يرسب الماء. فقال تعالى في رده: ليس الأمر كذلك، بل لو شاء الله تعالى إغراقهم، لأغرقهم، وليس ذلك بمقتضى الطبيعة، وإلا لما طرأ عليها آفة ورسوب.
وفيها الإشارة إلى أن المنعم عليه، ينبغي أن لا يأمن في حال النعمة عذاب الله تعالى. فإن كفار الأمم السالفة، أمنوا من بطشه تعالى، فأخذوا من حيث لا يشعرون، فكيف يأمن أهل مكة، وأهل السفينة؟! لكن لا يعرفون قدر النعمة إلا بعد تحولها عنهم. ولا قدر العافية إلا بعد الابتلاء بمصيبة، فلا بد من مقابلة النعمة بالشكر والعطاء بالطاعة والاجتهاد في طريق التوحيد والمعرفة. فإن المقصود من الإمهال هو تدارك الحال.
والمعنى: أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق، فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وينجيهم من الموت، ولكن رحمة منا بهم وتمتيعا لهم إلى حين، بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم، وحفظناهم من الغرق. وإلى هذا أشار بقوله: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٤٤)﴾.
٤٥ - ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: لكفار مكة بطريق الإنذار ﴿اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: ما قبلكم من العقوبات النازلة على الأمم الماضية الذين كذبوا رسلهم، واحذروا من أن ينزل بكم مثلها، إن لم تؤمنوا. جعلت الوقائع الماضية باعتبار تقدمها عليهم، كأنها بين أيديهم. ﴿وَما خَلْفَكُمْ﴾؛ أي: وما بعدكم من العذاب المعد لكم في الآخرة بعد هلاكهم. جعلت أحوال الآخرة باعتبار أنها تكون بعد
أحدهما: العقوبات النازلة على الأمم الماضية.
والثاني: عذاب الآخرة.
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ إما حال من واو ﴿اتَّقُوا﴾؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو غاية لهم؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، لما عرفتم أن مناط النجاة، ليس إلا رحمة الله. وجواب ﴿إِذا﴾ محذوف؛ أي: أعرضوا عن الموعظة، حسبما اعتادوه، وتمرنوا عليه، وزادوا مكابرة وعنادا، كما دلت عليه الآية الثانية، أعني: قوله: ﴿إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾.
٤٦ - ﴿وَمَا﴾ نافية ﴿تَأْتِيهِمْ﴾ تنزل إليهم ﴿مِنْ﴾: مزيدة لتأكيد العموم ﴿آيَةٍ﴾ تنزيلية، كائنة ﴿مِنْ﴾ تبعيضية ﴿آياتِ رَبِّهِمْ﴾ التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بما فصل، من بدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها، والإيمان بها ﴿إِلَّا كانُوا عَنْها﴾ متعلق بقوله: ﴿مُعْرِضِينَ﴾ والجملة حال من مفعول ﴿تأتي﴾، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي (١): وما تأتيهم آية من آيات ربهم، في حال من الأحوال، إلا حال إعراضهم عنها، على وجه التكذيب والاستهزاء. ويجوز أن يراد بالآيات: ما يعم الآيات التنزيلية والتكوينية، فالمراد بإتيانهم: ما يعم نزول الوحي، وظهور تلك الأمور لهم. والمعنى: ما يظهر لهم آية من الآيات الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية، إلا كانوا تاركين النظر الصحيح فيها، المؤدي إلى الإيمان به تعالى. فكل ما في الكون فهو مركز صفة من صفاته تعالى، وسر من أسرار ذاته.
الخلاصة: أنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة، ببدائع صنع الله، وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
٤٧ - وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق.. بيّن قسوتهم على المخلوقين، فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: للكافرين بطريق النصيحة ﴿أَنْفِقُوا﴾ على المحتاجين ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ تعالى؛ أي: بعض ما أعطاكم بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال. فإن ذلك مما يرد البلاء، ويدفع المكاره؛ أي (٢): تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال. قال الحسن: يعني: اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا﴾، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالصانع تعالى. قيل: هم زنادقة، كانوا بمكة. والزنديق: من لا يعتقد إلهًا، ولا بعثًا، ولا حرمة شيء من الأشياء
(٢) الشوكاني.
وقوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾ أيها المؤمنون؛ أي: ما أنتم ﴿إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وخطأ بيّن واضح، ظاهر من تمام كلام الكفار. والمعنى: أنكم أيها المؤمنون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء، أو في اتباعكم محمدًا وترك ما نحن عليه، لفي ضلال وخطأ في غاية الوضوح والظهور. وقيل: هو مستأنف من كلام الله تعالى، جوابًا وردا لهذه المقالة، التي قالها الكفار. قال القشيري، والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة، وقد كان في كفار قريش وغيرهم، من سائر العرب قوم يتزندقون، فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين، ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والمعنى (١): أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج
وفي قوله: ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ ترغيب في الإنفاق على نهج قوله: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله. وإجمال ذلك: أنهم لم يعظموا الخالق، ولم يشفقوا على المخلوق.
ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الأمر بالإنفاق، ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه، فقال: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: ما أنتم أيها المؤمنون في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم إلا في جور بيّن، وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.
وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر، إذ تراهم دائمًا يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وتلك قربة منهم؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضًا ابتلاء منه لعباده، ولأسباب وحكمة نحن لا نعلمها؛ لا بخلًا منه وشحًا. وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، ليس لحاجة منه إلى مالهم بل ليبلوهم، ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين.. وفي الحديث «لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم، ولو شاء لجعلكم فقراء لا غني فيكم، ولكنه ابتلى بعضكم ببعض لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير». وهذه الآية ناطقة بترك شفقتهم على خلق الله. وجملة التكاليف ترجع إلى أمرين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله. وهم قد تركوا الأمرين جميعا. وقد تمسك البخلاء الآن بما تمسكوا به حيث يقولون: لا نعطي من حرم الله، ولو شاء لأغناه. نعم لو كان هذا الكلام صادرا عن يقين وشهود وعيان لكان مفيدًا، بل توحيدًا محضًا يدور عليه كمال الإيمان، ولكنهم سلكوا طريق التقليد والإنكار والعناد ومن لم يهد الله فما له من هاد.
وكان لقمان يقول إذا مر بالأغنياء: يا أهل النعيم لا تنسوا النعيم الأكبر وإذا مر بالفقراء يقول: إياكم أن تغبنوا مرتين. وعن علي - رضي الله عنه - إن
٤٨ - ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: أهل مكة لرسول الله - ﷺ -، والمؤمنين إنكارًا واستبعادًا ﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾ بقيام الساعة والحساب والجزاء؛ أي: متى يقع هذا الموعود، الذي تعدوننا به من العذاب والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. أقريب أم بعيد؟ أي: متى إنجاز هذا الوعد، وإلا فالوعد بالبعث كان واقعا لا منتظرا، أو أراد بالوعد الموعود. ومعنى طلب القرب في لفظة ﴿هذَا﴾ إما بطريق الاستهزاء والتهكم وإما باعتبار قرب العهد بالوعد. قال في «كشف الأسرار»: إنما ذكروا بلفظ الوعد الذي يكون في الخير غالبا، دون الوعيد، لأنهم زعموا أن لهم الحسنى عند الله، إن كان الوعد حقًا. يقول الفقير: هذا إنما يتمشى في المشركين دون المعطلة، وقد سبق أنهم زنادقة كانوا بمكة. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تعدوننا به وتقولونه، فبينوا لنا وقت وقوعه. وهذا (١) الاستعجال بهجوم الساعة، والاستبطاء لقيام القيامة إنما وقع تكذيبا للدعوة، وإنكارا للحشر والنشر؛ لأنهم قالوا ذلك استهزاءً منهم، وسخريةً بالمؤمنين، ولو كان تصديقًا وإقرارًا واستخلاصًا من هذا السجن، وشوقًا إلى الله تعالى، ولقائه.. لنفعهم جدًا، ولما قامت عليهم القيامة عند الموت، كما لا تقوم على المؤمنين، بل يكون الموت لهم عيدًا وسرورًا.
ومعنى الآية (٢): أي ويقولون استهزاءً وإنكارًا: متى يحصل هذا البعث، الذي تهددوننا به تارة تصريحًا، وأخرى تلويحًا، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون. والخطاب لرسول الله - ﷺ - والمؤمنين، من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه، الآمرة بالإيمان به.
(٢) المراغي.
فإن قلت: هم (١) ما كانوا منتظرين، بل كانوا جازمين بعدم الساعة والصيحة؟
قلت: نعم إلا أنهم جعلوا منتظرين، نظرًا إلى ظاهر قولهم: متى يقع هذا الوعد؛ لأن من قال: متى يقع الشيء الفلاني، يفهم من كلامه أنه ينتظر وقوعه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تهيج الساعة والرجلان يتبايعان قد نشرا أثوابهما فلا يطويانها، والرجل يلوط حوضه فلا يسقي منه، والرجل قد انصرف بلبن لقحته فلا يطعمه، والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يأكلها. ثم تلا: ﴿تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾.
والمعنى: أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور، بها يموت أهل الأرض جميعا، تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم، لا يخطر ببالهم مجيؤها. ونحو الآية قوله: ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾.
وقرأ أبي (٢): ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ على الأصل. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وهشام، وابن فنطنطين بإدغام التاء في الصاد، ونقل حركتها إلى الخاء، وأبو عمرو أيضًا. وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم الثلاثي، والمفعول محذوف؛
(٢) البحر المحيط.
فإن قلت: الصيحة المذكورة هنا مكررة مع الصيحة التي سبقت في قوله: ﴿إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)﴾.
قلت: لا تكرار؛ لأن السابقة هي صيحة جبرائيل، لا هلاك أهل أنطاكية مدينة الروم، والمذكورة هنا هي صيحة إسرافيل، حين ينفخ في الصور نفخة الصعق، النفخة الأولى.
٥٠ - ثم بين سبحانه سرعة حدوثها، وأنها كلمح البصر، أو هي أقرب فقال: ﴿فـ﴾ حينئذ ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: لا يقدرون ﴿تَوْصِيَةً﴾؛ أي: إيصاء في شيء من أمورهم إذ كانت فيما بين أيديهم؛ أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بماله وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومزارعهم ومواضعهم. قال ابن الشيخ (١): لا يستطيعون توصية ما، ولو كانت بكلمة يسيرة، فإذا لم يقدروا عليها يكونون أعجز عما يحتاجون فيه إلى زمان طويل، من أداء الواجبات، ورد المظالم، ونحوها؛ لأن القول أيسر من الفعل، فإذا عجزوا عن أيسر ما يكون من القول، تبين أن الساعة لا تمهلهم بشيء ما. واختار الوصية من جنس الكلمات، لكونها أهم بالنسبة إلى المحتضر، فالعاجز عنها يكون أعجز عن غيرها. ﴿وَلا إِلى أَهْلِهِمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: لا يستطيعون توصية إلى أهليهم إن كانوا بين أهلهم، ولا يرجعون إلى أهلهم ومنازلهم إن كانوا في خارج أبوابهم، بل تبغتهم الصيحة، فيموتون حيث ما كانوا.
والمعنى (٢): أي فلا يستطيعون أن يوصوا في أموالهم أحدًا. إذ لا يمهلون بذلك، ولا يستطيع من كان منهم خارجًا من أهله أن يرجع إليهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا، ويرجعون إلى ربهم. واعلم: أن الموت يدرك
(٢) المراغي.
ومن السنة (١): حسن الوصية عند الموت، وإن كان الذي يوصي عند الموت كالذي يقسم ماله عند التشبع. ومن مات بغير وصية، لم يؤذن له في الكلام في البرزخ إلى يوم القيامة، ويتزاور الأموات، ويتحدثون وهو ساكت فيقولون: إنه مات بغير وصية، فيوصي بثلث ماله. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الضرار في الوصية من الكبائر، جعلنا الله وإياكم من المتداركين لحالهم، والمتفكرين في مآلهم، والمكثرين من صالح الأعمال، والمنتقلين من الدنيا إلى الآخرة على أحسن الأقوال.
٥١ - ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور، فقال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾؛ أي: ينفخ في الصور. وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. والنفخ: نفخ الريح في الشيء. وقرأ الجمهور ﴿الصور﴾ بإسكان الواو. وفيه وجهان:
أحدهما: أنه القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وفيه بعدد كل روح ثقبة هي مقامه. والمعنى حينئذٍ: ونفخ في القرن نفخًا، هو سبب لحياة الموتى.
وثانيهما: أنه جمع صورة كصوف جمع صوفة، ويؤيد هذا الوجه قراءة الأعرج ﴿ونفخ في الصوَر﴾ بفتح الواو. فالمعنى عليه: ونفخ في الصور الأرواح، وذلك أيضًا بنفخ القرن.
والمراد: النفخة الثانية، التي يحيي الله بها كل ميت، لا النفخة الأولى التي يميت الله بها كل حي. وبينهما أربعون سنة، تبقى الأرض على حالها مستريحة بعدما مر بها من الأهوال العظام والزلازل، وتمطر سماؤها، وتجري مياهها، وتطعم أشجارها، ولا حي على ظهرها من المخلوقات، فإذا مضى بين النفختين أربعون عامًا، أمطر الله من تحت العرش ماءً غليظًا، كمني الرجال، يقال له: ماء
﴿فَإِذا هُمْ﴾ بغتة من غير لبث؛ أي: الكفار، كما دل عليه ما بعد الآية ﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾؛ أي: من القبور. فإن قيل: أين يكون في ذلك الوقت الأجداث، وقد زلزلت الصيحة الجبال؟ أجيب: بأن الله تعالى، يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقبر فيه، فيخرج من ذلك الموضع. وهو جدثه. وقرأ الجمهور ﴿الْأَجْداثِ﴾ بالثاء المثلثة. وقرىء ﴿من الأجداف﴾ بالفاء بدل الثاء، وهما لغتان، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة. ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾؛ أي: دعوة ربهم، ومالك أمرهم على الإطلاق. وهي دعوة إسرافيل للنشور، أو إلى موقف ربهم الذي أعد للحساب والجزاء. وقد صح أن بيت المقدس هي أرض المحشر والمنشر. وكل من الجارين متعلق بقوله: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ كما دل عليه قوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا﴾؛ أي: يسرعون بطريق الإجبار دون الاختيار، لقوله تعالى: ﴿لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾. وقرأ الجمهور: ﴿يَنْسِلُونَ﴾ بكسر السين، وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضمها. وإذا المفاجأة بعد قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ إشارة إلى كمال قدرته تعالى، وإلى أن مراده لا يتخلف عن إرادته زمانًا، حيث حكم بأن النسلان وهو سرعة المشي، وشدة العدو يتحقق في وقت النفخ، لا يتخلف عنه مع أن النسلان لا يكون إلا بعد مراتب. وهي جمع الأجزاء المتفرقة، والعظام المتفتتة، وتركيبها، وإحياؤها وقيام الحي ثم نسلانه.
فإن قلت: قال تعالى في آية أخرى: ﴿فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾، وقال هاهنا: ﴿فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ والقيام غير النسلان، وقد صدر كل واحد منهما في موضعه بـ ﴿إذا﴾ الفجائية، فيلزم أن يكونا معًا؟
والجواب من وجهين:
والثاني: أن الأمور المتعاقبة التي لا يتخلل بينها زمان ومهلة تجعل كأنها واقعة في زمان واحد، كما إذا قيل: مقبل مدبر.
والمعنى: أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث، والنشور، والخروج. فإذا هم جميعًا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء. ونحو الآية قوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعًا كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)﴾.
٥٢ - ثم ذكر، أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث، كما حكي عنهم بقوله: ﴿قالُوا﴾؛ أي: الكفار في ابتداء بعثهم من القبور، منادين لويلهم، وهلاكهم من شدة ما غشيهم من أمر القيامة ﴿يا وَيْلَنا﴾ ويا هلاكنا، احضر إلينا لنتعجب منك، فهذا أوانك ووقت مجيئك. فويل: منادى مضاف إلى ضمير المتكلمين، وهو كلمة عذاب وبلاء، كما أن كلمة ويح كلمة رحمة. ويحتمل كون المنادى محذوفا؛ أي: قالوا: يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه. قال ابن الأنباري. الوقف على ﴿يا وَيْلَنا﴾ وقف حسن. ثم يبتدىء الكلام بقوله: ﴿مَنْ﴾ استفهام استخباري وتعجب ﴿بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا﴾ كان حفص يقف على ﴿مَرْقَدِنا﴾ وقفة لطيفة دون قطع نفس، لئلا يتوهم أن اسم الإشارة صفة لـ ﴿مَرْقَدِنا﴾، ثم يبتدىء ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾ على أنها جملة مستأنفة. ويقال لهذه الوقفة: وقفة السكت. وهي قطع الصوت مقدارًا أخصر من زمان النفس.
أي: من أقامنا، وأيقظنا من رقادنا ونومنا إن قلنا: إن المرقد مصدر، أو من مكاننا الذي كنا فيه راقدين إن قلنا. إنه اسم مكان. ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما. قال في «الأسئلة المقحمة»: إن قيل: أخبر الكفار، بأنهم كانوا في القبر قبل البعث، في حال الرقاد، وهذا يرد عذاب القبر؟
قلت: إنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نيامًا، أو أن الله تعالى يرفع
قرأ الجمهور: ﴿يا وَيْلَنا﴾. وقرأ ابن أبي ليلى ﴿يا ويلتنا﴾ بتاء التأنيث وعنه أيضًا ﴿يا ويلتي﴾ بالتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة. وقرأ الجمهور: ﴿مَنْ بَعَثَنا﴾ بفتح ميم ﴿مَنْ﴾ على الاستفهام. وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر. ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب، وعلى هذه القراءة تكون ﴿مَنْ﴾ متعلقة بالويل. وقرأ الجمهور: ﴿مَنْ بَعَثَنا﴾. وفي قراءة أبي ﴿من أهبنا﴾ من هب من نومه إذا انتبه. وأنشد ثعلب على هذه القراءة:
وَعَاذلةٍ هَبَّت بليلٍ تلومني | وَلَمْ يعتمدني قبل ذاك عَذولُ |
٥٣ - ﴿إِنْ كانَتْ﴾؛ أي: ما كانت تلك النفخة الثانية المذكورة ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ لا ثانية لها، صاحها إسرافيل بنفخه في الصور. وقيل: صيحة البعث هو قول إسرافيل على صخرة بيت المقدس: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والأعضاء المتمزقة، والشعور المنتشرة، إن الله المصور الخالق، يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فاجتمعوا وهلموا إلى العرض، وإلى جبار الجبابرة. قال بعضهم: إن هذا القول، ليس غير النفخ في الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد من أحدهما هو المراد من الآخر، أو بأن يقال ذلك أثناء النفخ، بحيث يحصل هو والنفخ معا، إذ ليس من ضرورة التكلم على الوجه المعتاد، حتى يحصل التنافي بينهما.
﴿فَإِذا هُمْ﴾ بغتة من غير لبث ما طرفة عين. و ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، خبره قوله: ﴿جَمِيعٌ﴾؛ أي: مجموعون. وقوله: ﴿لَدَيْنا﴾؛ أي: عندنا، متعلق بقوله: ﴿مُحْضَرُونَ﴾ للفصل والحساب؛ أي: فإذا هم مفاجأة مجموعون في المحشر، محضرون لدينا بسرعة للحساب والجزاء. وفيه من تهوين أمر البعث والحشر، والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى، كما هو عسير على الخلق يسير على الله تعالى، لعدم احتياجه إلى مزاولة الأسباب، ومعالجة الآلات كالخلق، وإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.
والمعنى: أي ما كانت إعادتهم إحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة، فإذا هم مجتمعون لدينا، قد أُحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد. ونحو الآية: ﴿فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)﴾، وقوله: {وَما أَمْرُ السَّاعَةِ
٥٤ - ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ﴾؛ أي: فيقال للكفار حين يرون العذاب المعد لهم: اليوم؛ أي: يوم القيامة، وهو منصوب بقوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ من النفوس برة كانت أو فاجرة ﴿شَيْئًا﴾ نصب على المصدرية؛ أي: شيئًا من الظلم بنقص الثواب أو زيادة العقاب، أو على أنه مفعول به ثان؛ أي: لا تظلم شيئًا مما تستحقه ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ أيها الكفار ﴿إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر، والمعاصي، والأوزار. فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما، كأنهما شيء واحد، أو إلا بما كنتم تعملونه؛ أي: بسببه أو في مقابلته.
فقوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ ليأمن المؤمن. وقوله: ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ إلخ لييأس الكافر. فإن قلت: ما الفائدة في إيثار طريق الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم، والعدول عن الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟
فالجواب: أن قوله: ﴿لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ يفيد العموم. وهو المقصود في هذا المقام، فإنه تعالى لا يظلم أحدًا مؤمنًا كان أو مجرمًا. وأما قوله: ﴿لا تُجْزَوْنَ﴾ فإنه يختص بالكافر، فإنه تعالى يجزي المؤمن بما لم يعمله من جهة الوراثة، ومن جهة الاختصاص الإلهي، فإنه تعالى، يختص برحمته من يشاء من المؤمنين، بعد جزاء أعمالهم فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله أضعافًا مضاعفة.
أي: ففي هذا اليوم الرهيب، يوم القيامة، لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، ولا يحمل عليها وزر غيرها، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح جزاءً وفاقًا لما عملت في الدنيا.
وهذا حكاية لما سيقال لهم حين يرون العذاب، المعد لهم تحقيقًا للحق، وتقريعًا لهم، وتوبيخًا عليهم.
﴿وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَنْزَلْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿قَوْمِهِ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿جُنْدٍ﴾: مفعول به، ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: صفة لـ ﴿جُنْدٍ﴾ أو متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لاحتقار أمرهم. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُنْزِلِينَ﴾: خبره. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنا﴾: معللة لها؛ أي: لأن عادتنا المستمرة في الأزمنة الماضية، قبل زمن محمد - ﷺ -، أنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار، بل نهلكهم بغير الملائكة. ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿كَانَتْ﴾ فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على العقوبة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿صَيْحَةً﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿واحِدَةً﴾: صفة ﴿صَيْحَةً﴾؛ أي: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾: حرف فجأة، ﴿هُمْ خامِدُونَ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿كان﴾.
﴿يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)﴾.
﴿يا حَسْرَةً﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿حَسْرَةً﴾: منادى شبيه بالمضاف؛ لأنه اتصل به شيء من تمام معناه، منصوب، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة، ﴿عَلَى الْعِبادِ﴾ متعلق بـ ﴿حَسْرَةً﴾. وجواب النداء محذوف، تقديره: احضري فهذا أوانك. ويحتمل كون المنادى محذوفًا، و ﴿حسرة﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد. جملة النداء مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يَأْتِيهِمْ﴾: فعل، ومفعول به، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿رَسُولٍ﴾: فاعل يأتي. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل التحسر عليهم. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء من أعم
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾ صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾، ﴿الْأَرْضُ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿الْمَيْتَةُ﴾ صفة لـ ﴿الْأَرْضُ﴾ وجملة ﴿أَحْيَيْناها﴾ حال من الضمير المستكن في الميتة، أو صفة ثانية لـ ﴿الْأَرْضُ﴾، لأن أل فيها جنسية فهي بمنزلة النكرات. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿وَأَخْرَجْنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أحيينا﴾، ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنا﴾، ﴿حَبًّا﴾ مفعول به، ﴿فَمِنْهُ﴾ الفاء: استئنافية، ﴿منه﴾ متعلق بـ ﴿يَأْكُلُونَ﴾، و ﴿يَأْكُلُونَ﴾ فعل وفاعل. والجملة
﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)﴾.
﴿سُبْحانَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿سُبْحانَ﴾: مضاف، ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه، ﴿خَلَقَ الْأَزْواجَ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة صلة الموصول. ﴿كُلَّها﴾ توكيد للأزواج، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، حال من الأزواج، ﴿تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ فعل، وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: مما تنبته الأرض. ﴿وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور، معطوف
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾ صفة لآية، ﴿اللَّيْلُ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ ﴿نَسْلَخُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿نَسْلَخُ﴾، ﴿النَّهارَ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مستأنفة في محل النصب، حال من الضمير المستكن في الخبر العائد إلى الليل، ولكنها حالة سببية. ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُمْ مُظْلِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على جملة ﴿نَسْلَخُ﴾: عطف اسمية على فعلية. ﴿وَالشَّمْسُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَجْرِي﴾: خبره، ﴿لِمُسْتَقَرٍّ﴾ متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، ﴿لَهَا﴾ صفة لـ ﴿مستقر﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ﴾. ويجوز أن يكون ﴿الشَّمْسُ﴾ معطوفًا على الأرض، وجملة ﴿تَجْرِي﴾ حال من الشمس. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿تَقْدِيرُ﴾ خبره، ﴿الْعَزِيزِ﴾ مضاف إليه، ﴿الْعَلِيمِ﴾ صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾. والجملة مستأنفة. ﴿وَالْقَمَرَ﴾ بالنصب منصوب على الاشتغال بفعل مضمر، يفسره المذكور بعده، تقديره: وقدرنا القمر، وجملة ﴿قَدَّرْناهُ﴾ جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿مَنازِلَ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿قدرنا﴾ المقدر؛ أي: قدرنا سير القمر في منازل من الأبراج، أو حال من القمر، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: حال كونه ذا منازل، أو مفعول ثان لقدرنا؛ أي: صيّرناه منازل، وبالرفع معطوف على المبتدأ المذكور قبله على أنه مبتدأ، خبره جملة ﴿قَدَّرْناهُ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿عَادَ﴾: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على القمر، ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾ ﴿الكاف﴾ اسم بمعنى مثل، في محل النصب خبر عاد، ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾:
﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٤٤)﴾.
﴿وَآيَةٌ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿آيَةٌ﴾ خبر مقدم، ﴿لَهُمْ﴾ صفة له، ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول، ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ متعلق بـ ﴿حَمَلْنا﴾، ﴿الْمَشْحُونِ﴾: صفة لـ ﴿الْفُلْكِ﴾، وجملة ﴿حَمَلْنا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء؛ أي: وحملنا ذريتهم في الفلك المشحون آية لهم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ﴾. ﴿وَخَلَقْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿حَمَلْنا﴾، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقْنا﴾، ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ حال من المفعول المؤخر، وهو ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿خَلَقْنا﴾، وجملة ﴿يَرْكَبُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما يركبونه. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنْ﴾ حرف شرط، ﴿نَشَأْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، مجزوم
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمُ﴾ متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ...﴾ إلى آخر الآية نائب فاعل، محكي لـ ﴿قِيلَ﴾. وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونه فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وجوابه محذوف دل عليه ما سيأتي تقديره: أعرضوا عنه. وجملة ﴿إِذا﴾ مستأنفة. وإن شئت قلت: ﴿اتَّقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة ﴿اتَّقُوا﴾ في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾ ظرف، ومضاف إليه صلة لما الموصولة، ﴿وَما خَلْفَكُمْ﴾ معطوف على ما بين أيديكم، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ﴿لعل﴾ حرف نصب وتعليل أو ترجّ، والكاف اسمها، وجملة ﴿تُرْحَمُونَ﴾ خبرها. وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب حال من واو اتقوا؛ أي: اتقوا حالة كونكم راجين أن ترحموا، أو تعليل للأمر بالتقوى؛ أي: اتقوا كي ترحموا فتنجوا من ذلك، كما سبق هناك ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية،
﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾. والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. وإن شئت قلت: ﴿أَنْفِقُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَنْفِقُوا﴾. ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فعل، ومفعول أول، وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما رزقكم الله إياه. ﴿قالَ الَّذِينَ﴾ فعل، وفاعل. والجملة جواب ﴿إِذا﴾، وجملة ﴿إِذا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿قالَ﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل، وفاعل، صلة الموصول، ﴿أَنُطْعِمُ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿نُطْعِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على المتكلمين من الكفار، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نُطْعِمُ﴾، وجملة ﴿نُطْعِمُ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قالَ﴾ الذين كفروا، ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿يَشاءُ اللَّهُ﴾ فعل مضارع، وفاعل، فعل لـ ﴿لو﴾، ﴿أَطْعَمَهُ﴾ فعل، ومفعول، وفاعل مستتر يعود على الله جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿فِي ضَلالٍ﴾ خبر المبتدأ، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة ضلال، الجار والمجرور خبر
﴿ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)﴾.
﴿ما﴾: نافية، ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿صَيْحَةً﴾: مفعول به، ﴿واحِدَةً﴾: صفة له، ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب. صفة ثانية لصيحة، أو حال منها لوصفها بواحدة. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَخِصِّمُونَ﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب. حال من مفعول ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾، ﴿فَلا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾. ﴿ولا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿إِلى أَهْلِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْجِعُونَ﴾، و ﴿يَرْجِعُونَ﴾: معطوفة على جملة ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)﴾.
﴿وَنُفِخَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿نُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾ متعلق بـ ﴿يَنْسِلُونَ﴾، و ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾
﴿إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)﴾.
﴿إِنْ﴾ نافية ﴿كانَتْ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على النفخة؛ أي: ما كانت النفخة المذكورة سابقا، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿صَيْحَةً﴾ خبر ﴿كان﴾، ﴿واحِدَةً﴾: صفة لـ ﴿صَيْحَةً﴾، وجملة كانت مستأنفة. ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: فجائية، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿جَمِيعٌ﴾ خبر أول، ﴿لَدَيْنا﴾ متعلق بـ ﴿مُحْضَرُونَ﴾، و ﴿مُحْضَرُونَ﴾: خبر ثان. والجملة معطوفة على جملة ﴿كان﴾. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿اليوم﴾ ظرف متعلق بـ ﴿تُظْلَمُ﴾، ﴿لا﴾ نافية، ﴿تُظْلَمُ نَفْسٌ﴾ فعل، ونائب فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿شَيْئًا﴾ مفعول مطلق، ﴿وَلا تُجْزَوْنَ﴾ فعل، ونائب فاعل، معطوف على ﴿لا تُظْلَمُ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل النصب. مفعول ثان لـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول.
﴿مِنْ جُنْدٍ﴾ الجند: العسكر، واحده جندي، والمراد بهم هنا: الجند من الملائكة؛ لأنهم جند الله الأكبر. ﴿خامِدُونَ﴾ والخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا: الموت. ﴿يا حَسْرَةً﴾ والحسرة على ما قال الراغب: الغم على ما فات، والندم عليه، كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء. ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد.
﴿وَفَجَّرْنا﴾ الفجر: شق الشيء شقًا واسعًا، كما في «المفردات». قال بعضهم: التفجير كالتفتيح لفظًا ومعنًى، وبناء التفعيل للتكثير. ﴿فِيها مِنَ الْعُيُونِ﴾ جمع عين، وهي في الأصل: الجارحة. ويقال لمنبع الماء: عين، تشبيهًا بها في الهيئة، وفي سيلان الماء منها، ومن عين الماء اشتق ماء معين؛ أي: ظاهر للعيون. ومعنى ﴿مِنَ الْعُيُونِ﴾: من ماء العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
﴿سُبْحانَ الَّذِي﴾ سبحان: علم للتسبيح، الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادًا وقولًا؛ أي: اعتقاد البعد عنه، والحكم به. فإن العلم كما يكون علمًا للأشخاص، كزيد وعمرو، وللأجناس كأسامة.. يكون للمعاني أيضًا. لكن علم الأعيان لا يضاف، وهذا لا يجوز بغير إضافة كما في الآية، أقيم مقام المصدر، وبيّن مفعوله بإضافته إليه. ﴿الْأَزْواجَ﴾: جمع زوج، وهو ضد الفرد، ويقال للأنواع: أزواج؛ لأن كل نوع زوج بقسيمه. وفي ﴿سُبْحانَ﴾ استعظام ما في حيِّز الصلة، من بدائع آثار قدرته، وروائع نعمائه الموجبة للشكر، وتخصيص العبادة به. والتعجب من إخلال الكفرة بذلك، والحالة هذه، فإن التنزيه لا ينافي التعجب. والمعنى: أسبح الذي أوجد الأصناف والأنواع سبحانه؛ أي: أنزهه عما لا يليق به عقدًا وعملًا تنزيهًا خاصًا به، حقيقًا بشأنه. فهو حكم منه تعالى بتنزهه، وبراءته عن كل ما لا يليق به، كما فعله الكفار من الشرك وما تركوه من الشكر، وتلقين للمؤمنين أن يقولوه، ويعتقدوا مضمونه، ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عنه. وقال بعضهم: ﴿سُبْحانَ﴾ مصدر كغفران أريد به: التنزه التام، والتباعد
﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾ أصل السلخ: كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل، وملقى ظله. ومعنى ﴿نَسْلَخُ﴾: نفصل، يقال: سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها، وأزاله. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخًا، وسلخ الخروف كشط جلده، وسلخت المرأة درعها نزعته، وسلخت الحية انكشفت عن سلختها، وسلخها قشرها. فاستعير السلخ هنا لإزالة الضوء، وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.
﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾؛ أي: حول مستقر لها، وهو مركز مدارها. تقدير العزيز والتقدير: تبيين كمية الشيء. وتقدير الله الأشياء على وجهين:
أحدهما: بإعطاء القدرة.
والثاني: أن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة.
﴿مَنازِلَ﴾: جمع منزل، وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة. ﴿حَتَّى عادَ﴾؛ أي: صار في أواخر سيره، وقربه من الشمس. ﴿كَالْعُرْجُونِ﴾ في رأي العين. والعرجون: هو العود الذي عليه الشماريخ، فإذا أتي عليه الحول تقوّس، ودقّ، واصفرّ. قال أعشى بني قيس:
شرق المسك والعبير بها | فهي صفراء كعرجون القمر |
﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها﴾؛ أي: لا يتيسر لها ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: أن تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. وقوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها﴾ هو أبلغ من (لا ينبغي للشمس)، كما أن، أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، آكد من، لا تكذب أنت لاشتمال الأول على تكرر الإسناد. ففي ذكر حرف النفي مع الشمس دون الفعل، دلالة على أن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها، وقدّر لها. وينبغي من الانفعال، وثلاثية بغي يبغي بمعنى طلب، وأما استعمال انبغي ماضيًا فقليل. قال في «كشف الأسرار»: يقال: بغيت الشيء فانبغى لي، أي: استسهلته فتسهل لي، وطلبته فتيسر لي. والمعنى: لا الشمس يصح لها ويتسهل ﴿أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾؛ أي: تجتمع معه في وقت واحد، فتداخله وتطمس نوره؛ لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه. كما مر آنفًا.
﴿فِي فَلَكٍ﴾؛ أي: في جنس فلك، كقولهم: كساهم الأمير حلة يريدون: كساهم هذا الجنس. والفلك: مجرى الكواكب ومسيرها، وتسميته بذلك لكونه كالفلك، كما في «المفردات».
﴿يَسْبَحُونَ﴾ السبح: المر السريع في الماء أو في الهواء، واستعير لمر النجوم في الفلك، كما في «المفردات». وقال في «كشف الأسرار»: السبح: الانبساط في السير، كالسباحة في الماء، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه. قال الحسن: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ يدورون. وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل.
﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الذرية أصلها: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، ويقع على الواحد والجمع، وأصله الجمع. وهي من ذرأ الله الخلق، فتركت همزته نحو: برية من برأ. قال في «القاموس»: ذرأ كجعل: خلق، وذرأ الشيء: كثر، ومنه الذرية - مثلثة - لنسل الثقلين، انتهى.
﴿فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: السفينة ﴿الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء. ومع ذلك نجّاه الله
﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ الغرق: الرسوب في الماء. ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ الصريخ فعيل بمعنى: مفعل؛ أي: مصرخ، وهو المغيث، ويطلق أيضًا على الصارخ؛ أي: المستغيث، فهو من الأضداد، ويكون مصدرًا بمعنى الإغاثة. وكل منهما مراد هنا. وفي «الأساس»: وصرخ يصرخ صراخًا وصريخًا وهو صارخ وصريخ. والصراخ: صوت المستغيث، وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة.
﴿مَتى هذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: متى يتحقق ويجيىء ما وعدنا به. والوعد يستعمل في الخير والشر والنفع والضر، والوعيد في الشر خاصة. والوعد هنا يتضمن الأمرين؛ لأنه وعد بالقيامة. وجزاء العباد إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
﴿ما يَنْظُرُونَ﴾ من النظر بمعنى الانتظار، كما سبق. ﴿إِلَّا صَيْحَةً﴾ والصيحة: رفع الصوت. ﴿تَأْخُذُهُمْ﴾ والأخذ: حوز الشيء، وتحصيله. وذلك تارة بالتناول نحو: ﴿مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ﴾، وتارة بالقهر نحو: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾. ويقال: أخذته الحمّى، ويعبر عن الأسير بالمأخوذ والأخيذ.
﴿يَخِصِّمُونَ﴾ بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة. أصله: يختصمون، فقلبت التاء صادًا، ثم أسكنت وأدغمت في الصاد الثانية، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، فصار ﴿يَخِصِّمُونَ﴾، وماضيه خصّم، أصله: اختصم، فنقلت حركة التاء إلى الخاء ثم قلبت؛ أي: التاء صادًا وأدغمت في الصاد،
﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ الاستطاعة: استفعال من الطوع، وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتيًا. ﴿تَوْصِيَةً﴾ مصدر وصّى توصية كزكّى تزكية، لأن فعله من المضعف المعتل. والوصية اسم مصدر من الإيصاء، يقال: وصّيت الشيء بالشيء إذا وصلته به، ويسمى إلزام شيء من مال أو نفقة بعد الموت بالوصية؛ لأنه لما أوصى به؛ أي: أوجب وألزم وصل ما كان من أمر حياته بما بعده من أمر مماته.
﴿وَلا إِلى أَهْلِهِمْ﴾ الأهل: يفسر بالأزواج والأولاد، وبالعبيد والإماء. والأقارب، وبالأصحاب، وبالمجموع، كما في شرح المشارق لابن الملك. قال الراغب: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب، وعبّر بأهل الرجل عن امرأته.
﴿مِنَ الْأَجْداثِ﴾؛ أي: القبور، جمع جدث كفرس وأفراس، محركة وهو القبر، كما في «القاموس». وقرىء شاذًا ﴿من الأجداف﴾ بالفاء، وهي لغة في الأجداث يقال: جدث وجدف بمعنى.
﴿فِي الصُّورِ﴾ هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق، وهو شيء مجوّف مستطيل، ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقان. قال أبو الفتح بن جنيّ: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب، جمع بوق على بوقات في قوله:
إذا كان بعض النَّاسِ سيفًا لدولةٍ | ففي النَّاسِ بوقاتٌ لها وطبول |
﴿يَنْسِلُونَ﴾؛ أي: يعدون بكسر السين وضمها، يقال: نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب، وقيل: ينسل بالضم أيضًا، وهو الإسراع في المشي. وفي القاموس: نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلًا ونسلًا ونسلانًا في مشيه أسرع. ومنه: قول امرىء القيس:
فإن تك قد ساءتك منِّي خليقةٌ | فسلِّي ثيابي من ثيابك تنسل |
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق بين ﴿أَنْزَلْنا﴾ و ﴿مُنْزِلِينَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَإِذا هُمْ خامِدُونَ﴾ شبههم بالنار الخامدة، التي صارت رمادًا على حد قول لبيد:
وما المرء إلّا كالشِّهاب وضوئهِ | يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع |
ومنها: حكاية حال ماضية مستمرة في قوله: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾؛ أي: كانوا في الدنيا على الاستمرار يستهزئون بمن يأتيهم من الرسول من غاية الكبر.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا﴾.
ومنها: التنكير للتفخيم والتعظيم في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾؛ أي: آية عظيمة باهرة على قدرة الله.
ومنها: الطباق بين الموت والإحياء في قوله: ﴿الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ فإن الأيدي كناية عن القوة؛ لأن أقوى جوارح الإنسان في العمل يده، فصار ذكر اليد غالبًا في الكناية. ومثله قوله: ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
ومنها: فن التناسب في قوله: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ الآية، وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، لكونه مجملًا يحتاج إلى التفصيل. فقد أجمل الأزواج أولًا، ثم فصله بما بعده، فأحسن التفصيل والترتيب. فقد قدم سبحانه النبات، وانتقل على طريق
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾ شبّه إزالة ضوء النهار، وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، بجامع الإزالة والتعرية في كل. فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوء، وبدت ظلمته الحالكة. واستعار اسم السلخ للإزالة والإخراج، واشتق منه ﴿نَسْلَخُ﴾ بمعنى نخرج منه النهار على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
وفيه من المحسنات أيضًا الطبقات بين الليل والنهار في قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ﴾.
ومنها: في هذه الآية أيضًا التوشيح، وهو أن يكون في أول الكلام، معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرًا، أو السجع إن كان نثرًا، أو الفاصلة إن كان آية. فإن من كان حافظًا للسورة، متفطنًا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل، علم أن الفاصلة تكون مظلمون؛ لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم؛ أي: دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ فإنه شبه الهلال بالعرجون في الدقة، والتقوس والاصفرار؛ أي: في رأي العين لا في المقدار. ووجه الشبه مركب من ثلاثة أشياء، ولما لم يذكر سمي مجملًا.
ومنها: تقديم المسند إليه لتقوية الحكم المنفي في قوله: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ فإنه أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، وآكد في إفادة أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. فإن قولك: أنت لا تكذب، بتقديم المسند إليه، أبلغ من قولك: لا تكذب، فإنه أشد في نفي الكذب من العبارة الثانية. كما مر.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ فإنه استعار المر السريع في الماء، لمر النجوم في الفلك، المعبر عنه عرفًا بالدوران.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا﴾ فقد استعار الرقاد للموت، والجامع بينهما عدم ظهور الفعل في كل؛ لأن كلا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل. والمراد: الفعل الاختياري المعتد به، فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل. وإنما قلنا: إنها أصلية؛ لأن المرقد مصدر ميمي، كما تقدم. وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ﴾؛ أي: تقول لهم الملائكة أو المؤمنون: هذا ما وعدكم به الرحمن.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يراد به التهكم في قوله: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿تَوْصِيَةً﴾ لغرض التعميم؛ أي: في شيء من أمورهم.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ للدلالة على تحقق الوقوع.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما بيّن أنّ ذلك اليوم كائن لا
قوله تعالى: ﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما للمحسنين من نعيم، واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات.. أعقبه بذكر حال المجرمين، وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق، وابتعاد بعضهم من بعض. فيكون لهم عذابان: عذاب النار، وعذاب الوحدة. ولا عذاب فوق هذا.
ثم أردف هذا، بأنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا، بما أرسل إليهم من الرسل، الذين بلّغوهم أوامر ربهم ونواهيه. ومنها: نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان، وعن اتباعه فيما يوسوس به. ثم ذكر: أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات، ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا. وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى. ثم ذكر مآل أمرهم، وأنهم سيصلون نار جهنم، خالدين فيها أبدًا بما اكتسبت أيديهم. وهم في هذا اليوم، لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت. ثم ذكر: أنه رحمة منه بعباده، لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا شديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق، وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه، ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم، ويجعلهم كالقردة والخنازير، حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا. ثم دفع معذرة أخرى ربما احتجوا بها. وهي أن ما عمروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق. فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمروا في السن ضعفوا عن العمل، وقد عمروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك، كما قال: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾، ولكن ذلك ما
قوله تعالى: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه، لما ذكر أمر الوحدانية في قوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾، وذكر أمر البعث في قوله: ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾.. ذكر هنا الأصل الثالث، وهو الرسالة في هاتين الآيتين.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما (١) ذكر الأدلة على الأصول الثلاثة الوحدانية، والحشر، والرسالة.. أعاد الكلام في الوحدانية، وذكر بعض دلائلها.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر أنهم كفروا بأنعم الله عليهم، وأنكروها.. أردف ذلك ببيان أنهم زادوا في ضلالهم، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: ﴿قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾. وفي الحقيقة أنها لا هي ناصرة ولا منصورة.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته، ووجوب عبادته، وبطلان إشراكهم به، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم، ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث.. أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم، دالة على قدرته تعالى، ومبطلة لإنكارهم له. ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث، ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا، وقالوا: كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة. فأجابهم عن شبهتهم: بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم، هو الذي يحييها، وهو العليم بتفاصيل أجزائها، مهما وزّعت وتفرّقت. ثم ذكر لهم دليلًا آخر يرفع هذا الاستبعاد، وهو: أن من قدر على
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه مجاهد، وعكرمة، وعروة بن الزبير، وقتادة أن أبي بن خلف، جاء إلى رسول الله - ﷺ - في يده عظم رميم، وهو يفتّته بيده ويذروه في الهواء، ويقول: أتزعم يا محمد، أن الله يبعث هذا؟ قال - ﷺ -: «نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار». ثم نزلت هذه الآيات من سورة يس: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ...﴾ إلى آخرهن.
التفسير وأوجه القراءة
٥٥ - ولما ذكر الله سبحانه حال الكافرين.. أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ، ويخاطبون به زيادة لحسرتهم، وتكميلًا لجزعهم، وتتميما لما نزل بهم من البلاء، وما شاهدوه من الشقاء. فإذا رأوا ما أعده الله لهم من أنواع العذاب، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم.. بلغ ذلك من قلوبهم مبلغًا عظيمًا، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها، فقال: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ﴾؛ أي: يوم القيامة مستقرون ﴿فِي شُغُلٍ﴾ عظيم الشأن، خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾، والمراد بالشغل هنا: الشأن الذي يصد المرء عما سواه من شؤونه، لإيجابه كمال المسرة والبهجة؛ أي: لكائنون في شغل عظيم بما هم فيه من اللذات، التي هي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار، وإن كانوا من أقربائهم.
والتعبير عن حالهم هذه، بالجملة الاسمية قبل تحققها، تنزيل للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار. والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين. ثم إن الشغل فسّر على وجوه بحسب اقتضاء مقام البيان ذلك، منها افتضاض الأبكار. وفي الحديث: «إن الرجل ليعطى قوة مئة رجل، في الأكل والشرب والجماع»، فقال رجل من أهل الكتاب: إن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة، فقال النبي - ﷺ -: «يفيض من جسد أحدهم، عرق مثل المسك الأذفر، فيضمر بذلك بطنه». وفي الحديث: «إن أحدهم ليفتض في الغداة الواحدة مئة عذراء». قال عكرمة: فتكون الشهوة في أخراهن كالشهوة في أولاهن، وكلما افتضها رجعت على حالها عذراء، ولا تجد وجع الافتضاض أصلًا كما في الدنيا. وجاء رجل فقال: يا رسول الله، أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا؟ قال: «والذي نفسي بيده، إن المؤمن ليفضي في اليوم الواحد، إلى ألف عذراء».
وفي «الفتوحات المكية»: ولذة الجماع هناك، تضاعف على لذة جماع أهل الدنيا أضعافًا مضاعفةً، فيجد كل من الرجل والمرأة لذة لا يقدر قدرها، لو وجداها في الدنيا غشي عليهما من شدة حلاوتها، لكن تلك اللذة إنما تكون بخروج ريح إذ لا مني هناك كالدنيا، كما صرحت به الأحاديث، فيخرج من كل من الزوجين ريح، كرائحة المسك، وليس لأهل الجنة أدبار مطلقًا، لأن الدبر إنما خلق في الدنيا مخرجًا للغائط ولا غائط هناك. ولولا أن ذكر الرجل أو فرج المرأة يحتاج إليه في جماعهم، لما كان وجد في الجنة فرج لعدم البول فيها. ونعيم أهل الجنة، والراحة فيها مطلقة إلا راحة النوم، فليس عندهم من نعيم راحته شيء؛ لأنهم لا ينامون.
ومنها: التزاور، وفي الحديث: «إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة، في رحال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا، أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا». وروي: «أنهم إذا نظروا إلى الله، نسوا نعيم الجنة».
ومنها: شغلهم عما فيه أهل النار على الإطلاق، وشغلهم عن أهاليهم في النار لا يهمهم، ولا يبالون بهم، ولا يذكرونهم كي لا يدخل عليهم تنغيص في نعيمهم. وقيل: ضيافة الله، وأفرد الشغل ملحوظًا فيه النعيم. وهو واحد من حيث هو نعيم، ذكره أبو حيان.
والظاهر (١): أن المراد بالشغل ما هم فيه من فنون الملاذ، التي تلهيهم عما عداها بالكلية؛ أي: شغل كان كما مر. وفي الآية إشارة إلى أن أهل النار، لا نعيم لهم من الطعام، والشراب، والنكاح، وغيرها. وفي «تذكرة القرطبي»: أن بعض العصاة، ينامون في النار إلى وقت خروجهم منها، ويكون عذابهم نفس دخولهم في النار. فإنه عار عظيم وذل كبير، ألا ترى: أن من حبس في السجن، كان هو عذابًا له بالنسبة إلى مرتبته، وإن لم يعذب بالضرب والقيد ونحوهما. ثم إنا نقول: والعلم عند الله؛ لأنه ليس له مستند، ولا أصل أثر فيه.
وقرأ الكوفيون، وابن عامر (٢): ﴿شُغُلٍ﴾ بضمتين. وقرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وأبو عمرو: بضم الشين وسكون الغين. وهما لغتان، كما قال الفرّاء. وقرأ مجاهد، وأبو السمّال، وابن هبيرة، فيما نقل ابن خالويه عنه: بفتحتين.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
ومعنى الآية: أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذلك في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فأنى له أن يفكر فيما سواه؟. وهو بذلك، فرح مستبشر، ضحوك السن هادىء النفس، لا يرى شيئًا يغمه، أو ينغص عليه حبوره وسروره.
٥٦ - ثم ذكر ما يكمل به تفكههم، ويزيد في سرورهم فقال: ﴿هُمْ...﴾ الخ، استئناف، مسوق لبيان كيفية شغلهم، وتفكههم، وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورًا من شركة أزواجهم لهم، فيما هم فيه من الشغل والفكاهة. و ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، والضمير لأصحاب الجنة. ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾ عطف عليه. والمراد: نساؤهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين أو أخلاؤهم، كما في قوله تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ﴾. ويجوز أن يكون الكل مرادًا.
فقوله: ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾ إشارة (٢) إلى عدم الوحشة؛ لأن المنفرد يتوحش إذا لم يكن له جليس من معارفه، وإن كان في أقصى المراتب. والجاران في قوله: {فِي
(٢) روح البيان.
فإن قلت: كيف يكون أهل الجنة في ظلال، والظل إنما يكون حيث تكون الشمس، وهم لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا؟.
قلت: المراد بالظل هناك: ظل أشجار الجنة من نور العرش، لئلا يبهر أبصار أهل الجنة. فإنه أعظم وأقوى من نور الشمس، وقيل: من نور قناديل العرش. كذا في حواشي ابن الشيخ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فِي ظِلالٍ﴾ بكسر الظاء وبالألف، جمع ظل كذئب، وذئاب. وقرأ ابن مسعود، وعبيد بن عمير، والأعمش، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وخلف: ﴿في ظلل﴾ بضم الظاء من غير ألف، جمع ظلة. وعلى القراءتين فالمراد: الفرش والستور، التي تظلل كالخيام والحجال. وقرأ عبد الله ﴿متكئين﴾ بالنصب على الحال.
ومعنى الآية (٢): أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس، لأنه لا شمس فيها. وألذ شيء لدى العربي أن يرى مكانًا فيه ظل ظليل وأنهار جارية، وأشجار مورقة وهم فيها متكئون على السرر التي عليها الحجال (الناموسيات). وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة، لدى من نزل عليه التنزيل.
وقال الإمام في سورة النساء: إن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة. وهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة. قال النبي - ﷺ -: «السلطان ظل الله في الأرض».
(٢) المراغي.
وجملة قوله: ﴿وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ﴾؛ أي: يطلبون. معطوفة على الجملة السابقة، وعدم الاكتفاء بعطف ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ على ﴿فاكِهَةٌ﴾ لئلا يتوهم كون ﴿ما﴾ عبارة عن توابع الفاكهة وتتماتها. و ﴿ما﴾ عبارة عن مدعو عظيم الشأن، معين، أو مبهم. و ﴿يَدَّعُونَ﴾ أصله: يدتعيون على وزن يفتعلون، من الدعاء بمعنى الإتيان بالدعوى، لا من الادعاء بمعنى التمني، كما سيأتي.
والمعنى: ولهم ما يدعون الله سبحانه به، لأنفسهم من مدعو عظيم الشأن، أو كل ما يدعون به كائنًا ما كان، من أسباب البهجة وموجبات السرور. قال ابن الشيخ؛ أي: ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب، كما قال الإمام: ليس معناه: أنهم يدعون لأنفسهم شيئًا، فيستجاب لهم بعد الطلب بل معناه: لهم ذلك، فلا حاجة إلى الدعاء، كما إذا سألك أحد شيئًا، فقلت: لك ذلك، وإن لم تطلبه. ويجيء الادعاء بمعنى: التمني من قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. فالمعنى عليه: ولهم ما يتمنونه. وقرىء (٢) ﴿يدعون﴾ بالتخفيف،
(٢) الشوكاني.
ومعنى الآية: أي لهم في ﴿ها من الفواكه ما لذ وطاب، مما تقربه أعينهم وتسر به نفوسهم، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا. ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون، وتشتاق﴾ إليه نفوسهم.
٥٨ - ثم فسر ذلك الذي يدعون بقوله: ﴿سَلامٌ﴾ بدل من ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ كأنه قيل: ولهم سلام وتحية. يقال لهم: ﴿قَوْلًا﴾ كائنًا ﴿مِنْ﴾ جهة ﴿رَبٍّ رَحِيمٍ﴾؛ أي (١): يسلم عليهم من جهته تعالى، بواسطة الملك أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم. فـ ﴿قَوْلًا﴾ مصدر مؤكد لفعل هو صفة لـ ﴿سَلامٌ﴾، وما بعده من الجار متعلق بمضمر هو صفة له. والأوجه: أن ينتصب ﴿قَوْلًا﴾ على الاختصاص؛ أي: بتقدير أعني، فإن المقام مقام المدح، من حيث إن هذا القول صادر من رب رحيم، فكان جديرا بأن يعظم أمره.
والمعنى: أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من الله عليهم تعظيمًا لهم. وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة، كما قال سبحانه: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾، أو بدونها، مبالغة في تعظيمهم وفي الحديث: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم، ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» رواه البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.
والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب. وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني، الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها. فكأن هذا إجمال لما تقدم من اللذات، التي فصلت فيما سلف.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن سلامه - تبارك وتعالى - كان قولًا
وفي «حقائق البقلي»: سلام الله أزلي إلى الأبد، غير منقطع عن عباده الصادقين في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة يرفع عن آذانهم جميع الحجب، فيسمعون سلامه، وينظرون إلى وجهه كفاحًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سَلامٌ﴾ بالرفع على أنه بدل من ﴿ما﴾ وخبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو سلام، كما سيأتي في مبحثه. وقرأ أبي، وعبد الله، وعيسى والقنوي ﴿سلامًا﴾ بالنصب على المصدر. وقال الزمخشري: نصب على الحال؛ أي: لهم مرادهم خالصًا. وقرأ محمد بن كعب القرظي (سِلْم) بكسر السين وسكون اللام، ومعناه: سلام. وقال أبو الفضل الرازي: مسالم لهم؛ أي: ذلك مسالم.
٥٩ - ﴿وَامْتازُوا﴾؛ أي: اعتزلوا، وانفردوا، وتميزوا ﴿الْيَوْمَ﴾؛ أي: في هذا اليوم. وهو يوم القيامة، والفصل والجزاء من المؤمنين الصالحين. وكونوا على حدة ﴿أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: أيها المشركون؛ أي (٢): ويقال للمشركين: انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين، حين يسار بهم إلى الجنة. إذ لا دواء لألمكم، ولا شفاء لسقمكم.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء، فإنهم يكونون مع المجرمين. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وقيل: إن لكل كافر في النار بيتًا، فيدخل ذلك البيت، ويردم بابه، فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى. وهو على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع
(٢) المراح.
والمعنى (٢): فارقوا المؤمنين أيها المجرمون، وادخلوا مساكنكم من النار. فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدًا. ونحو الآية قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)﴾، وقوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)﴾.
٦٠ - ولما أمروا بالامتياز، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت الوجوه، وتنكست الرؤوس، قال سبحانه موبخًا لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: ألم أوصكم ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾ بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، بيانًا للطريق الموصل إلى النجاة بـ ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾؛ أي: بأن تتركوا طاعة الشيطان، فيما يوسوس به إليكم من معصيتي، ومخالفة أمري. وهذا من جملة (٣) ما يقال لهم يوم القيامة، بطريق التقريع والتوبيخ، والإلزام والتبكيت،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ إما مفسرة للعهد (١)، الذي فيه معنى القول بالأمر والنهي، أو مصدرية حذف منها الجار؛ أي: ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان. والمراد بعبادة الشيطان. عبادة غير الله؛ لأن الشيطان لا يعبده أحد، ولم يرد عن أحد أنه عبد الشيطان، إلا أنه عبر عن عبادة غير الله بعبادة الشيطان، لوقوعها بأمر الشيطان، وتزيينه، والانقياد فيما سوله، ودعا إليه بوسوسته. فسمي إطاعة الشيطان، والانقياد له عبادة له، تشبيهًا لها بالعبادة، من حيث إن كل واحد منهما ينبىء عن التعظيم والإجلال، ولزيادة التحذير والتنفير عنها، ولوقوعها في مقابلة عبادته تعالى، قال ابن عباس: من أطاع شيئًا فقد عبده. دل عليه قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَعْهَدْ﴾ بفتح الهمزة والهاء. وقرأ طلحة، والهذيل بن شرحبيل الكوفي بكسر الهمزة، قاله «صاحب اللوامح»، وقال: لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين حروف المضارعة، يعني: نعهد وتعهد. وقال ابن عطية: وقرأ الهذيل بن وثاب ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ﴾ بكسر الميم والهمزة، وفتح الهاء. وهي على لغة من كسر أول المضارع، سوى الياء. وروي عن ابن وثاب ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ﴾ بكسر الهاء، يقال: عهد يعهد، انتهى.
ثم علل النهي عن عبادة الشيطان، وقبول وسوسته بقوله: ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
قال بعضهم (١): اعلم أن عداوة إبليس لبني آدم، أشد من معاداته لأبيهم آدم عليه السلام. وذلك أن بني آدم، خلقوا من ماء والماء منافر للنار، وأما آدم فجمع بينه وبين إبليس اليبس الذي في التراب، فبين التراب والنار جامع، ولهذا صدّقه، لما أقسم له بالله أنه لناصح، وما صدقه الأبناء، لكونه لهم ضدا من جميع الوجوه. فبهذا كانت عداوة الأبناء، أشد من عداوة الأب. ولما كان العدو محجوبا عن إدراك الأبصار، جعل الله لنا علامات في القلب، من طريق الشرع، نعرفه بها، تقوم لنا مقام البصر، فنتحفظ بتلك العلامة من إلقائه ووسوسته، وإعانة الله لنا عليه بكلمة الاستعاذة.
وفي «التأويلات النجمية»: في الآية (٢) إشارة إلى كمال رأفته تعالى، وغاية مكرمته في حق بني آدم. إذ يعاتبهم معاتبة الحبيب للحبيب، ومناصحة الصديق للصديق، وأنه تعالى يكرمهم ويجلهم عن أن يعبدوا الشيطان لكمال رتبتهم، واختصاص قربتهم بالحضرة، وغاية ذلة الشيطان، وطرده ولعنه من الحضرة. وسماه عدوًا لهم وله، وسمى بني آدم الأولياء والأحباب. وخاطب المجرمين منهم كالمعتذر الناصح لهم بقوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ ألم أنصح لكم، ألم أخبركم عن خيانة الشيطان وعداوته لكم، وأنكم أعز من أن تعبدوا مثله ملعونًا مهينًا.
٦١ - ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ وحدي، وأطيعوني فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه؛ لأن مثلكم يستحق لعبادة مثلي، فإني أنا العزيز الغفور، وإني خلقتكم
(٢) روح البيان.
٦٢ - وبعد أن نبههم إلى أنهم نقضوا العهد، وبّخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم، ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم، ما يرون من سوء المتقلب في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ﴾ جواب قسم محذوف، والخطاب لبني آدم. وفي «الإرشاد»: الجملة مستأنفة، مسوقة لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع، ببيان أن جناياتهم ليست بنقض العهد فقط، بل بعدم الاتعاظ بما شاهدوا من العقوبات، النازلة على الأمم الخالية، بسبب طاعتهم للشيطان. والخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار مكة، خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم.
أي: وعزتي وجلالي لقد صد الشيطان منكم يا بني آدم ﴿جِبِلًّا كَثِيرًا﴾؛ أي: خلقًا كثيرًا عن طاعتي، وإفرادي بالألوهية، فاتخذوا من دوني آلهة يعبدونها. وقرأ نافع، وعاصم (١): ﴿جِبِلًّا﴾ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وهي قراءة أبي حيوة، وسهيل، وأبي جعفر، وشيبة، وأبي رجاء، والحسن بخلاف عنه. وقرأ العربيان - أبو عمرو وابن عامر - والهذيل بن شرحبيل: بضم الجيم وإسكان الباء. وباقي السبعة: بضمها وتخفيف اللام. والحسن بن أبي
والمعنى: والله لقد أضل الشيطان منكم خلقًا كثيرًا، يعني: صار سببًا لضلالهم عن ذلك الصراط المستقيم، الذي أمرتكم بالثبات عليه. فأصابهم لأجل ذلك، ما أصابهم من العقوبات الهائلة، التي ملأت الآفاق أخبارها، وبقيت مدى الدهر آثارها.
وقال بعضهم: وكيف تعبدون الشيطان، وتنقادون لأمره، مع أنه قد أضل منكم يا بني آدم، جماعة متعددة من بني نوعكم، فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل، فحرموا من الجنة الموعودة لهم.
فائدة (٢): واعلم: أنه إذا جاءك شخص، يأمرك بشيء.. فانظر، إما أن يكون ذلك موافقًا لأمر الله أو لا، فإن لم يكن موافقًا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به. فإن أطعته فقد عبدت الشيطان. وإن دعتك نفسك إلى فعل شيء، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولًا، فإن لم يكن مأذونًا فيه، فنفسك هي الشيطان، أو معها الشيطان يدعوك، فإن اتبعته فقد عبدته. ثم إن
(٢) المراح.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا﴾ للاستفهام التوبيخي (١)، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون، أنها لضلالهم وطاعتهم إبليس، أو فلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلا، حتى ترتدعوا عما كانوا عليه، كيلا يحيق بكم العقاب. وقرأ الجمهور: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ بتاء الخطاب. وقرأ طلحة، وعيسى بياء الغيبة عائدًا على جبل. وفي «كشف الأسرار»: هو استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل، مع أنه نور يستضاء به.
ثم اعلم (٢): أن الجاهل الأحمق، والضال المطلق في يد الشيطان، يقوده حيث يشاء، ولو علم حقيقة الحال، وعقل أن الله الملك المتعال، واهتدى إلى طريق التوحيد، الطاعة، ولحفظه الله من تلك الساعة. فإن التوحيد حصنه الحصين، ومن دخل فيه أمن من مكر العدو المهين، ومن خرج عنه طالبا للنجاة، أدركه الهلاك ومات في يد الآفات، ومن أهمل نفسه فلم يتحرك لشيء، كان كمجنون لا يعرف شمسًا من فيء. فنسأل الله الاشتغال بطاعته واستيعاب الأوقات بعبادته، وطرد الشيطان بأنوار الخدمة وقهر النفس بأنواع الهمة.
٦٣ - وبعد أن أنبوا ووبخوا بما سلف، خوطبوا بما يزيدهم حسرةً وألمًا، فقيل لهم من جهة الملائكة: ﴿هذِهِ﴾ النار المسعرة هي ﴿جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تُوعَدُونَ﴾ بها على ألسنة الرسل والمبلغين عنهم. إذ أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان.
٦٤ - ثم أمرهم أمر إهانة، وتحقير لهم، بقوله: ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ﴾؛ أي: ادخلوا في
(٢) روح البيان.
وخلاصة ذلك (١): أنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:
١ - أنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة بقوله: ﴿اصْلَوْهَا﴾ نحو قوله لفرعون: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾.
٢ - أنه ذكر لفظ اليوم، الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم.
٣ - أن قوله: ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ يومىء إلى أن هناك نعمة، قد كانت، فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألمًا، وأعظم مضاضةً، كما قيل:
أَلَيْسَ بِكَافٍ لذِيْ همَّةٍ | حياءُ الْمُسِيْءِ مِنَ الْمُحَسِنِ |
(٢) روح البيان.
وقرىء (١) ﴿اليوم يُختم على قلوبهم﴾ مبنيًا للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. وقُرىء ﴿وتتكلم أيديهم﴾ بتاءين. وقرأ الجمهور ﴿تكلمنا﴾ و ﴿تشهد﴾. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿ولِتكلمنا ولِتشهد﴾ بلام كي. وقُرىء ﴿ولْتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم﴾ بلام الأمر، والجزم على أن الله يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة.
وقيل: سبب الختم على أفواههم، ليعرفهم أهل الموقف. وقيل: خُتم على أفواههم، لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق، لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانًا لهم في معاصي الله، صارت شهودًا عليهم، فلا ينبغي لأحد أن يلتفت إلى ما سوى الله تعالى، ويصحب أحدًا غير الله لئلا يفتضح ثمة بسبب صحبته. ولقد أجاد من قال:
كُنْ مِنَ الْخَلْقِ جَانِبًا | وارْضَ بِاللهِ صَاحِبَا |
قَلِّبِ الْخَلْقَ كَيْفَ شِئْـ | ـتَ تَجِدْهُ عَقَارِبَا |
(٢) الشوكاني.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن الغالب على الأفواه الكذب، كما قال: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾. والغالب على الأعضاء الصدق. ويوم القيامة، يوم يسأل الصادقين عن صدقهم، فلا يسأل الأفواه، فإنها كثيرة الكذب، ويسأل الأعضاء، فإنها كثيرة الصدق، فتشهد بالحق. أما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة لهم، وأما العصاة من المؤمنين الموحدين، فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضًا بالإحسان. قيل (١): أول عظم من الإنسان، ينطق يوم يختم على الأفواه، فخذه من رجله اليسرى وكفها، كما جاء في الحديث.
ومعنى الآية: أي ففي هذا اليوم، يُنكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا. كما حكى الله عنهم من قولهم: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾. فيختم على أفواههم، فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم، بما اجترحت من الفسوق والعصيان، الذي لم يتوبوا عنه.
٦٦ - ثم بين سبحانه، أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما أنه قادر على إذهاب البصائر، فقال: ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ أن نطمس على أعينهم، ونمحو نور أبصارهم. و ﴿لَوْ﴾ للمضي إن دخل على المضارع، ولذا لا يجزمه؛ أي: ولو أردنا عقوبة المشركين من أهل مكة في الدنيا.. ﴿لَطَمَسْنا﴾؛ أي: لجعلنا الطمس والمحو ﴿عَلى﴾ مواضع ﴿أَعْيُنِهِمْ﴾ ولضربنا عليهم، وأزلنا أثرها، بحيث لا يبقى لها أثر، ولا يبدو لها شق ولا جفن، وتصير مطموسة ممسوحة، كسائر أعضاهم ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ معطوف على ﴿طمسنا﴾؛ أي: فبادروا إلى الطريق الواسع الذي اعتادوا سلوكه فرارًا من الطمس والعقوبة ليجوزوه، ويمضوا فيه. ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾؛ أي: فكيف يبصرون الطريق، ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم؟! أي: لا يُبصرون لأن ﴿أنى﴾ بمعنى كيف، وكيف هنا إنكار فتفيد النفي. والمراد (٢): إن في قدرتنا
(٢) المراح.
وقرأ الجمهور: ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ فعلًا ماضيًا، معطوفًا على ﴿لَطَمَسْنا﴾. وهو على الفرض والتقدير. وقرأ عيسى بن عمر ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ على الأمر. وهو على إضمار القول؛ أي: فيقال لهم: استبقوا الصراط. وهذا على سبيل التعجيز. إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين.
٦٧ - ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم، وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة، فقال: ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾؛ أي: ولو أردنا أن نمسخهم، ونحول صورهم الأصلية، ونسقطهم (٣) عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار ﴿لَمَسَخْناهُمْ﴾ لغيرنا وحولنا صورهم، بأن جعلناها قردةً وخنازير، كما فعلنا بقوم داود عليه السلام، أو بأن جعلناهم حجارة ومدرة. وهذا أشد من الأول وأقبح، لأن الأول خروج عن رتبة الإنسانية إلى الحيوانية، وهذا عن الحيوانية إلى الجمادية، التي ليس لها شعور أصلًا وقطعًا ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: في مكانهم ومنزلهم الذي هم فيه قعود. وقال بعضهم: معنى ﴿لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: لأقعدناهم على أرجلهم
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
والمعنى (١): أي ولو نشاء لمسخناهم مسخًا يحل بهم في منازلهم، لا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا إدبار.
وحاصل معنى الآيتين (٢): ولو نشاء عقوبتهم، بما ذكر من الطمس والمسخ، جريا على موجب جناياتهم، المستدعية لها لفعلنا، ولكنا لم نشأها جريًا على سنن الرحمة، والحكمة، الداعيتين إلى إمهالهم زمانًا إلى أن يتوبوا، ويؤمنوا، ويشكروا النعمة، أو إلى أن يتولد منهم من يتصف بذلك.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾ بالإفراد. وقرأ الحسن، والسلمي، وزر بن حبيش، وأبو بكر عن عاصم ﴿مكاناتهم﴾ بالجمع. وقرأ الجمهور: ﴿مُضِيًّا﴾ بضم الميم. وقرأ أبو حيوة، وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي: بكسرها إتباعًا لحركة الضاد. وقُرىء ﴿مضيًا﴾ بفتحها، فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل، كالرسيم والوجيف.
٦٨ - ثم شرع يقطع معذرةً لهم، ربما احتجوا بها. وهي قولهم: أنهم لو عمروا لأحسنوا العمل. فقال: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا ﴿نُنَكِّسْهُ﴾ ونقلبه ﴿فِي الْخَلْقِ﴾ والشكل والصورة؛ أي: نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولًا، من القوة والطراوة، ونرده إلى أرذل العمر، شبه الصبي في أول الخلق. والمعنى: نقلبه في شكله، ونجعله على عكس ما خلقناه أولًا،
(٢) أبو السعود.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس، فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ فإنه مشتمل عليهما وزيادة، غير أنه على تدرج، وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
وقرأ نافع، وابن ذكوان، وأبو عمرو في رواية عباس (١): ﴿تعقلون﴾ بتاء الخطاب. وباقي السبعة بياء الغيبة؛ أي: أفلا يعقلون، أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا، وعجزوا عن العمل، فلو عمروا أكثر مما عمروا، ما ازدادوا إلا ضعفًا، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم. وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث، والتفكير، والتروي في عواقب الأمور ومصايرها، فلم يفعلوا وجاءتهم النذر فلم يهتدوا فمهما، طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك، ولن يصلح من حالهم قليلًا ولا كثيرًا. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)﴾.
٦٩ - ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمدًا شاعر.. رد الله سبحانه
والظاهر في الرد أن يقال (١): إنه ليس بشاعر، وأن ما يتلوه عليهم ليس بشعر، إلا أن عدم كونه شاعرًا، لما كان ملزومًا لعدم كون معلمه، علمه الشعر، نفي اللازم وأريد نفي الملزوم بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح. والشعر لغة: العلم الدقيق، واصطلاحًا: كلام مقفى، موزون على سبيل القصد والاختيار بأجزاء تفاعيل بحور العروضيين الستة عشر، فخرج بالقصد والاختيار ما كان وزنه اتفاقيًا، كآيات شريفة، اتفق جريان الوزن فيها، نحو قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾، وقوله: ﴿وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ﴾، وقوله: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾. وكلمات نبوية، جاء الوزن فيها اتفاقًا، من غير قصد إليه وعزم عليه، نحو قوله - ﷺ - حين عثر في بعض الغزوات، فأصاب إصبعه حجر فدميت:
هل أنتِ إلّا إِصبعٌ دُميت | وفي سبيلِ اللهِ مَا لقيت |
أَنَا النَّبيُّ لا كذب | أَنَا ابْنُ عَبْد المُطَّلِبْ |
بِاسْم الإِلهِ وَبِهِ بَدَيْنَا | وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرهُ شَقَينا |
وفي الآية إشارة إلى أن النبي - ﷺ - معلم من عند الله تعالى؛ لأنه سبحانه علمه علوم الأولين والآخرين، وما علمه الشعر؛ لأن الشعر قرآن إبليس وكلامه؛ لأنه قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال تعالى قرأنك الشعر. واعلم: أن الشعر محل للإجمال واللغز والتورية؛ أي: وما رمزنا لمحمد - ﷺ - شيئًا، ولا ألغزنا، ولا خاطبناه بشيءٍ، ونحن نريد شيئًا، ولا أجملنا له الخطاب، حيث لم يفهم، انتهى.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير قوله: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ إلى أن كل أقوال، وأعمال، وأحوال تجري على العباد في الظاهر والباطن، كلها تجري بتعليم الحق تعالى، حتى الحرف والصنائع. وذلك سر قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها﴾. وتعليمه الصنائع لعباده على ضربين: بواسطة وبغير واسطة. وأما بالواسطة: فبتعليم بعضهم بعضا، وأما بغير الواسطة، فكما علم داود عليه السلام، صنعة اللبوس. وكل حرفة وصنعة يعلمها الإنسان، من قريحته، بغير تعليم أحد، فهي من هذا القبيل، انتهى.
ومعنى قوله: ﴿وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾؛ أي: وما يصح لمحمد الشعر، ولا يتسهل ولا يتسخر، ولا يتأتى له لو طلبه؛ أي: جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر، لم يتأت له، ولم يكن لسانه يجري به إلا منكسرًا عن وزنه، بتقديم وتأخير أو نحو ذلك، كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط، ولا يحسنه، ولا يحسن قراءة ما كتبه غيره، لتكون الحجة أثبت، وشبهة المرتابين في حقية رسالته أدحض. فإنه لو كان
﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هذا القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾؛ أي: إلا تذكير، وعظة، وإرشاد من الله سبحانه وتعالى، للإنس والجن. كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾. ﴿وَقُرْآنٌ﴾؛ أي: كتاب سماوي، جامع للأحكام ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: بين كونه كذلك، وأنه ليس من كلام البشر، أو فارق بين الحق والباطل، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المعابد، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين ما قالوا. فعطف (١) القرآن على الذكر من عطف الشيء على أحد أوصافه. فإن القرآن ليس مجرد الوعظ، بل هو مشتمل على المواعظ والأحكام ونحوها، فلا تكرار.
٧٠ - ﴿لِيُنْذِرَ﴾؛ أي: القرآن أو محمد - ﷺ -، كما يدل عليه قراءة من قرأ بتاء الخطاب. وهو متعلق بقوله: ﴿وَقُرْآنٌ﴾ أو بمحذوف دل عليه قوله: ﴿إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: إلا ذكر أنزل لينذر، ويخوف القرآن أو محمد به ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾ من الثقلين؛ أي: عاقلًا فهيمًا يميز المصلحة من المفسدة، ويستخدم قلبه فيما خلق له، ولا يضيعه فيما لا يعنيه. فإن الغافل بمنزلة الميت. وجعل العقل والفهم للقلب، بمنزلة الحياة للبدن، من حيث إن منافع القلب منوطة بالعقل، كما أن منافع البدن منوطة بالحياة.
وفيه إشارة، إلى أن كل قلب، تكون حياته بنور الله وروح منه، يفيده الإنذار، ويتأثر به. وأمارة تأثره الإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة والمولى. وقال بعضهم: ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾؛ أي: مؤمنًا في علم الله. فإن الحياة الأبدية بالإيمان، يعني: أن إيمان من كان مؤمنًا في علم الله، بمنزلة الحياة للبدن. لكونه سببًا للحياة الأبدية.
وتخصيص الإنذار بمن كان حي القلب، مع أنه عام له، ولمن كان ميت
والمعنى (٢): أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا، يُرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم، نزل من الملأ الأعلى وليس من كلام البشر. فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله؛ فما استطاعوا، فلجؤوا إلى السيف والسنان، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان. ثم ذكر من ينتفع به فقال: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا﴾؛ أي: لينتفع بنذارته من كان حي القلب، مستنير البصيرة، يعرف مواقع الهدى والرشاد، فيسترشد بهديه، وليس له من صوارف الهوى ما يصده عن اتباع الحق، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض، ما يكون حائلًا بينه وبين الهدى. فهو يتواثب على الإقرار بالحق، إذا لاح له بريق من نوره، فتمتلىء جوانبه إشراقًا وضياءً، ويخر له مذعنًا مستسلمًا. وكأن طائفًا من السماء نزل عليه فأثلج صدره، وألان قلبه، فاطمأن له وركن إليه. وذلك من رزقه الله التوفيق والهداية، وكتب له الفوز والسعادة.
وبعدئذ بيّن عاقبة من أعرض عنه، فقال: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ﴾؛ أي: ويجب القضاء من الله تعالى، وتجب كلمة العذاب. وهي ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾. ﴿عَلَى الْكافِرِينَ؛﴾ أي: على المصرين على الكفر به تعالى، الذين هم كأنهم أموات، لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة، التي دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى؛ لأنه إذا انتفت الريبة إلا المعاندة فيحق القول عليهم. وفي إيرادهم في مقابلة ﴿مَنْ كانَ حَيًّا﴾ إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة، وأحكامها، التي هي المعرفة، أموات في الحقيقة، كالجنين ما لم ينفخ فيه الروح. فالمعرفة تؤدي إلى الإيمان والإسلام والإحسان التي لا يموت أهلها، بل ينتقل من مكان إلى مكان.
٧١ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ للاستفهام التقريري للتعجيب خلافًا لما قاله
(٢) المراغي.
والفاء في قوله: ﴿فَهُمْ لَها مالِكُونَ﴾ للتفريع، و ﴿الفاء﴾ التفريعية هي التي كان ما قبلها علة لما بعدها، عكس التعليلية، أي: فلأجل خلقنا إياها لمنافعهم، هم لتلك الأنعام مالكون ملك التصرف بتمليكنا إياهم، وهم متصرفون فيها بالاستقلال، يختصون بالانتفاع بها، لا يزاحمهم في ذلك غيرهم.
ومعنى الآية (١): أي أولم يشاهد هؤلاء المشركون بالله الأصنام والأوثان أنا
وَتَضْربُهُ الوَليْدةُ بالهَراوي | فَلا غَيرٌ لَديْه وَلا نَكِيرُ |
والفاء في قوله: ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ لتفريع أحكام التذليل عليه، و ﴿من﴾ تبعيضية، والركوب - بفتح الراء - بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب؛ أي: فلأجل تذليلنا إياها لهم، كان بعض منها مركوبهم؛ أي: معظم منافعها الركوب، وقطع المسافات، وعدم التعرض للحمل لكونه من تتمات الركوب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَكُوبُهُمْ﴾ بفتح الراء، وهو فعول بمعنى مفعول. وقرأ أبي، وعائشة ﴿ركوبتهم﴾ بالتاء، وهي فعولة بمعنى: مفعولة. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وقرأ الحسن، والأعمش، وابن السميفع، وأبو الرهسم: ﴿فمنها رُكوبهم﴾ بضم الراء وبغير تاء، فيقدّر مضاف؛ أي: فمنها ذو ركوبهم، أو فمن منافعها ركوبهم. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز ﴿فمنها رُكوبهم﴾ بضم الراء؛ لأنه مصدر بمعنى: كون الإنسان على ظهر حيوان أو غيره، والمقصود هنا: المركوب. وأجاز ذلك الفرّاء، كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم.
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي وسخرنا لهم هذه الأنعام، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليها الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ومنها: ما ينحرون فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.
٧٣ - ﴿وَلَهُمْ فِيها﴾؛ أي: في الأنعام المركوبة والمأكولة ﴿مَنافِعُ﴾ أخر غير الركوب والأكل كالجلود، والأصواف، والأوبار، والأشعار، والنسائل؛ أي: النتائج، والحراثة بالثيران. وأجمل المنافع هنا، وفصلها في سورة النحل في قوله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ﴾ الآية، ﴿وَمَشارِبُ﴾ من اللبن، جمع مشروب، جمعه باعتبار أنواع النعم، أو باعتبار هيآت اللبن؛ لأن منه الحليب، والحامض، والخاثر، والجبن، والأقط، والزبد، والسمن.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: أيشاهدون هذه النعم التي يتنعمون بها، فلا يشكرون المنعم بها، بأن يوحدوه، ولا يشركوا به في العبادة، فقد تولى المنعم إحداث تلك النعم، ليكون إحداثها ذريعة إلى أن يشكروها، فجعلوها وسيلة إلى الكفران.
والمعنى: أي ولهم فيها منافع أخرى، غير الركوب والأكل منها، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية)، ولهم منها مشارب من ألبانها. ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها، فقال: ﴿أَفَلا يَشْكُرُونَ﴾ نعمتي عليهم، وإحساني إليهم بطاعتي، وإفرادي بالألوهية والعبادة، وترك وساوس الشيطان بعبادة الأصنام، والأوثان.
٧٤ - ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم، ووضعهم كفران النعمة مكان شكرها. فقال: ﴿وَاتَّخَذُوا﴾؛ أي: واتخذ هؤلاء المشركون مع هذه الوجوه من الإحسان ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين الله، المتفرد بالقدرة المتفضل بالنعمة
٧٥ - وجملة قوله: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾ مستأنفة، مسوقة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها. وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء، بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون؛ أي: لا تستطيع تلك الآلهة على نصر المشركين، ولا تقدر على نفعهم في أمر ما. ﴿وَهُمْ﴾ المشركون ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لآلهتهم ﴿جُنْدٌ﴾؛ أي: عسكر ﴿مُحْضَرُونَ﴾ إثرهم في النار؛ أي: يشيعون عند مساقهم إلى النار، ليجعلوا وقودًا لها. قال الكواشي: روي: أنه يؤتى بكل معبود من دون الله، ومعه أتباعه كأنهم جنده فيحضرون في النار، هذا لمن أمر بعبادة نفسه، أو كان جمادًا، انتهى.
وقيل المعنى: ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: المشركون لآلهتهم بمنزلة الجند، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد، ويخدمونها، ويغضبون لها في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم. وقال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل المعنى: يعبدون الآلهة، ويقومون بها. فهم لهم بمنزلة الجند. هذه (١) الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين، وضمير ﴿لَهُمْ﴾ للآلهة. وقيل: و ﴿هُمْ﴾؛ أي: الآلهة ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للمشركين جند محضرون معهم في النار، ليكونوا وقودًا لهم، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه: وهذه الأصنام لهؤلاء المشركين، جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرؤون منهم. وقيل المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم، يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
والمعنى (٢): أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة، يعبدونهم طمعًا في نصرتهم، ودفع العذاب عنهم، وتقريبهم إلى الله زلفى. ثم بيّن بطلان آرائهم،
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنّ العابدين وهم المشركون، كالجند لحمايتهم والذب عنهم في الدنيا، والمعبودون يوم القيامة، لا يستطيعون أن يقدموا لهم معونة، ولا يدفعون عنهم مضرة.
٧٦ - ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى، بنحو قولهم: هو شاعر، وهو كاهن، وهو ساحر إلى نحو ذلك، من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته. فقال: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ والفاء: فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: إنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم وأردت بيان ما هو الأصلح لك، والأكثر أجرًا.. فأقول لك: لا يحزنك قولهم؛ أي: لا يهمنك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب والتهجين، وتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم. فـ ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ﴾؛ أي: جميع ما يضمرون في صدورهم من العقائد الفاسدة، ومن العداوة لك، والبغضاء ﴿وَما يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: وجميع ما يظهرون بألسنتهم من كلمات الشرك، والكفر بالله، والإنكار للرسالة. فنجازيهم على جميع جناياتهم الخافية والبادية.
قال ابن الشيخ (١): والفاء في قوله: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ جزائية؛ أي: إذا سمعت قولهم في الله: أن له شريكًا وولدًا، وفيك: أنك كاذب شاعر، وتألمت من إيذائهم وجفائهم، فتسل بإحاطة علمي بجميع أحوالهم، وبأني أجازيهم على تكذيبهم إياك وإشراكهم بي. وقرأ الجمهور: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ بفتح الياء وضم
والمعنى (١): أي فلا يحزنك أيها الرسول، قول هؤلاء المشركين من قومك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوتك. ثم ذكر أنه، سيجازيهم على ما يضمرون في أنفسهم، ويتفوهون بألسنتهم. فقال: ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قول ذلك، إنما هو الحسد، وأنهم يعقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذاب.
والخلاصة: أنّا نعلم ما يسرون من معرفتهم، حقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية، وسنجزيهم وصفهم، ونعاملهم بما يستحقون، يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرًا لديهم. وجملة قوله: ﴿إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ﴾ تعليل لما قبله من النهي عن الحزن. فإن علمه سبحانه بما يسرون وما يعلنون، مستلزم للمجازاة لهم بذلك، وأن جميع ما صدر منهم، لا يعزب عنه، سواء كان خافيًا أو باديًا سرًا أو جهرًا مظهرًا أو مضمرًا وتقديم (٢) السر على العلن، إما للمبالغة في بيان شمول علمه تعالى، لجميع المعلومات، كأن علمه تعالى، بما يسرون، أقدم منه بما يعلنون، مع استوائهما في الحقيقة. فإن علمه تعالى، بمعلوماته، ليس بطريق حصول صورها، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى. وفي هذا المعنى، لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة. وإما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو. أو مبادية مضمر في القلب قبل ذلك، فتعلق علمه بحالته الأولى، متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقةً.
وفي الآية: إشارة إلى أن كلام الأعداء، الصادر من العداوة والحسد، جدير بأن يحزن قلوب الأنبياء، مع كمال قوتهم، وأنهم ومتابعيهم مأمورون بعدم
(٢) روح البيان.
قال في «برهان القرآن» قوله: ﴿فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ﴾ هنا، وفي يونس: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ تشابها (١) في الوقف على لفظة ﴿قَوْلُهُمْ﴾ في السورتين؛ لأن الوقف عليه لازم. و ﴿إن﴾ فيهما مكسورةً في الابتداء لا في الحكاية، ومحكي القول فيهما محذوف. ولا يجوز الوصل؛ لأن النبي - ﷺ - منزه عن أن يخاطب بذلك، انتهى.
٧٧ - وجملة قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ مستأنفة (٢) مسوقة لبيان إقامة الحجة، على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله. فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم، على هذه الصفة من البداية إلى النهاية.. مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم، على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية، المراد به جنس الإنسان، كما في قوله: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (٦٧)﴾ ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين، كما قيل: إنه عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة، ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببًا للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو لا إنسان معين، ويدخل من كان سببًا للنزول تحت جنس الإنسان دخولًا أوليًا. والنطفة هي اليسير من الماء. وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماء الرجل.
والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾ للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، والرؤية قلبية،
(٢) الشوكاني.
﴿فَإِذا هُوَ﴾؛ أي: الإنسان ﴿خَصِيمٌ﴾؛ أي: شديد الخصومة والجدال بالباطل. ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: مظهر الجدال في خصومته أو مظهر للحجة. والجملة الاسمية (١) معطوفة على الجملة المنفية، داخلة في حيز الاستفهام والتعجيب كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء، وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر، يشهد بصحته، وتحققه مبدأ فطرته شهادةً بينة. فهذا حال الإنسان الجاهل الغافل. ونعم ما قيل:
أُعلِّمه الرِّمَاية كُلَّ يومٍ | فَلمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي |
أُعلِّمه الْقَوافِي كُلَّ حِينٍ | فَلمَّا قَالَ قَافيةً هَجَانِي |
لقَدْ رَبَّيت جَروًا طُولَ عُمرِي | فَلمَّا صَارَ كلَبًا عَضَّ رِجْلِي |
والمعنى (٢): أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدأ، على سهولة الإعادة. فإن من بدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، ثم جعله بشرًا سويًا يخاصم ربه، فيما قال إني فاعل، فيقول: من يحيي العظام وهي رميم إنكارًا منه
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنه تعالى خلق للإنسان ما خلق من النعم ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم. وخلقه من نطفة قذرة، ليكون متذللا فطغى وبغى وتجبر وخاصم ربه، واستبعد البعث والإعادة.
٧٨ - وقوله: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا﴾ معطوف (١) على الجملة الفجائية؛ أي: ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلًا؛ أي: أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر. وهي في الغرابة والبعد عن العقول كالمثل، وهي إنكار إحيائنا العظام ونفي قدرتنا عليه. قال ابن الشيخ: المثل يستعار للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي، الذي هو القول السائر، ولا شك أن نفي قدرة الله سبحانه على البعث، مع أنه من جملة الممكنات، وأنه تعالى على كل شيء قدير، من أعجب العجائب. ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ عطف على ﴿ضَرَبَ﴾، داخل في حيز الاستفهام والتعجيب أو حال بتقدير ﴿قد﴾. وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: نسي خلقنا إياه من النطفة القذرة؛ أي: ترك التفكر في بدء خلقه ليدله ذلك على قدرته على البعث. فإنه لا فرق بينهما من حيث إن كلًا منهما إحياء مواتٍ وجماد. وقرأ زيد بن علي ﴿ونسي خالقه﴾ اسم فاعل، والجمهور ﴿خَلْقَهُ﴾؛ أي: نشأته، مصدرًا.
وقوله: ﴿قالَ﴾؛ أي: الإنسان، كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، نشأ عن حكاية ضرب المثل، كأنه قيل: أي مثل ضرب أو ماذا قال؟ فقيل: ﴿قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ﴾ منكرًا له أشد النكير، مؤكدًا له بقوله: ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾؛ أي: بالية أشد البلى بعيدة من الحياة غاية البعد حيث لا جلد عليها، ولا لحم، ولا عروق، ولا أعصاب.
وهذا (٢) الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله سبحانه على قدرة العبد فأنكر أن الله تعالى، يحيي العظام البالية، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر،
(٢) الشوكاني.
ومعنى الآية: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾؛ أي: وذكر أمرًا عجيبًا ينفي به قدرتنا على إحياء الخلق، فـ ﴿قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ ونسي خلقنا له، أفلم يكن نطفة فجعلناه خلقًا سويًا ناطقًا. ولا شك أن من فعل ذلك، لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياءً، والعظام الرميم بشرًا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.
وإجمال ذلك: أن بعض المشركين استبعدوا إعادة الله، ذي القدرة العظيمة، التي خلقت السموات والأرض، للأجساد والعظام الرميم، ونسوا أنفسهم، وأنه تعالى خلقهم من العدم، فكيف هم بعد هذا، يستبعدون أو يجحدون.
ونحو الآية، حكايةً عن المشركين قوله: ﴿وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وقوله أيضًا، على طريق الحكاية: ﴿قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)﴾ ﴿أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾.
٧٩ - ثم أمر الله سبحانه، نبيه - ﷺ -، أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم، وخلقهم من العدم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، تبكيتًا لذلك الإنسان، المنكر للبعث، بتذكير ما نسيه من الفطرة، الدالة على حقيقة الحال. ﴿يُحْيِيهَا﴾؛ أي: يحيي تلك العظام الخالق ﴿الَّذِي أَنْشَأَها﴾؛ أي: خلقها وأوجدها ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ أي: في أول مرة ولم تكن شيئًا، ومن قدر على النشأة الأولى، قدر على النشأة الثانية. فإن قدرته كما هي لاستحالة التغير فيها، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وهو من النصوص القاطعة، الناطقة بحشر الأجساد، استدلالًا بالابتداء على الإعادة. وفيه رد على من لم يقل به، وتكذيب له.
وقد استدل أبو حنيفة (١)، وبعض أصحاب الشافعي، بهذه الآية، على أن العظام، مما تحله الحياة. وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ﴾؛ أي: من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر.
وعبارة الروح هنا: وقد تمسك (٢) بظاهر الآية الكريمة من أثبت للعظم حياة، وبنى عليه الحكم بنجاسة عظم الميت. وهو الشافعي، ومالك، وأحمد. وأما أصحابنا الحنفية، فلا يقولون بنجاسته كالشعر، ويقولون: المراد بإحياء العظام: ردها إلى ما كانت عليه من الغضاضة والرطوبة في بدن حي حساس. واختلفوا في الآدمي هل يتنجس بالموت؟. فقال أبو حنيفة: يتنجس؛ لأنه دموي، إلا أنه يطهر بالغسل كرامة له، وتكره الصلاة عليه في المسجد. وقال الشافعي، وأحمد: لا يتنجس به، ولا تكره الصلاة عليه فيه. وعن مالك خلاف، والأظهر عنه: الطهارة، وأما الصلاة عليه في المسجد فالمشهور من مذهبه كراهتها، كقول أبي حنيفة، انتهى. انظر ما بين عبارة الشوكاني، وعبارة البروسوي من التناقض فيما قاله الشافعي. والصواب ما في البروسوي.
والمعنى (٣): أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك: من يحيي العظام وهي رميم: يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئًا، وهو العليم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٨٠ - ثم ذكر دليلًا ثانيًا يرفع استبعادهم، ويبطل إنكارهم. فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ وخلق ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: لمنفعتكم ﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾؛ أي: الرطب ﴿نارًا﴾ محرقة، بدل من الموصول الأول، وعدم الاكتفاء بعطف الصلة للتأكيد، ولتفاوتهما في كيفية الدلالة؛ أي: الذي خلق لأجلكم ومنفعتكم من الشجر الرطب الندي، كالمرخ والعفار نارًا محرقة. فنبه (١) سبحانه، على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه، من إخراج النار المحرقة، من العود الندي الرطب. وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار، إذا قطع عودان وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران. قيل: المرخ هو الذكر، والعفار هو الأنثى. ويسمى الأول الزند، والثاني الزندة. والمرخ (٢) بالخاء المعجمة: شجر سريع الورى. والعفار بالعين المهملة كسحاب: شجر معروف تقدح منه النار. قال الحكماء: لكل شجر نار إلا العناب. فمن ذلك يدق القصار الثوب عليه، ويتخذ منه المطرقة، والعرب تتخذ زنودها من المرخ والعفار، وهما موجودان في أغلب المواضع من بوادي العرب، يقطع الرجل منهما غصنين كالمسواكين، وهما أخضران يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى. وذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذا أَنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من الشجر الأخضر، متعلق بـ ﴿تُوقِدُونَ﴾. و ﴿إذا﴾ للمفاجأة؛ أي: تشتعلون النار وتقدحونها من ذلك الشجر، لا تشكون في أنها نار تخرج منه، كذلك لا تشكون في أن الله يحيي الموتى، ويخرجهم من القبور للسؤال والجزاء من الثواب والعقاب. فإن من قدر على إحداث النار، وإخراجها من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفية، كان أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضًا فطرأ عليه اليبوسة
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور: ﴿الْأَخْضَرِ﴾ اعتبارًا باللفظ. وقرىء ﴿الخضراء﴾ اعتبارًا بالمعنى. وقد تقرر، أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله تعالى: ﴿نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ وقوله: ﴿نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾. فبنو تميم ونجد يذكرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادرًا.
والمعنى (١): أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء، حتى صار أخضر ناضرًا، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا توقد به النار، ومن فعل ذلك، فهو قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا، فيبس وبلي.
٨١ - ثم ذكر بعد ذلك بدليل ثالث على قدرته، أعجب من سابقيه، فقال: ﴿أَوَلَيْسَ﴾ الهمزة (٢) فيه للإنكار، وإنكار النفي إيجاب، فصار الاستفهام تقريريًا، كما هو القاعدة عندهم، خلافًا لمن تغافل عنها، فجعل الاستفهام في أمثال هذه المواضع إنكاريًا. داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو عاطفة على ذلك المقدر. فهمزة الاستفهام، وإن دخلت على حرف العطف ظاهرًا، لكنها في التحقيق، داخلة على كلمة النفي قصدًا، إلى إثبات القدرة له وتقريرها.
والمعنى: أليس القادر المقتدر، الذي أنشأ الأناسي أول مرة، وأليس الذي جعل لهم من الشجر الأخضر نارا، وأليس ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ﴾؛ أي: الأجرام العلوية وما فيها ﴿وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: الأجرام السفلية وما عليها مع كبر جرمهما وعظيم شأنهما ﴿بِقادِرٍ﴾ في تقدير النصب؛ لأنه خبر ليس؛ أي: قادرًا ﴿عَلى أَنْ يَخْلُقَ﴾ في الآخرة ﴿مِثْلَهُمْ﴾؛ أي: مثل الأناسي في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما، ويعيدهم أحياء كما كانوا. فإن بدهية العقل قاضية بأن من قدر على
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِقادِرٍ﴾ بباء الجر، داخلة على اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي ﴿يقدر﴾ فعلًا مضارعًا.
وقوله: ﴿بَلى﴾ جواب من جهته تعالى، وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي، وإيذان بتعين الجواب بهذا نطقوا به، أو تلعثموا فيه مخافة الإلزام. قال ابن الشيخ: هي مختصة بإيجاب النفي المتقدم ونقضه، فهي هاهنا لنقض النفي الذي بعد الاستفهام؛ أي: بلى إنه قادر، كقوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى﴾؛ أي: بلى أنت ربنا.
وقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ معطوف على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى وهو قادر على أن يخلق مثلهم، وهو المبالغ في الخلق والعلم كمًا وكيفًا، على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الجمهور: ﴿الْخَلَّاقُ﴾ بصيغة المبالغة لكثرة مخلوقاته. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار، وزيد بن علي ﴿وهو الخالق﴾ بصيغة اسم الفاعل. وقال بعضهم معنى: ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ العليم؛ أي: كثير المخلوقات والمعلومات، يخلق خلقًا بعد خلق، ويعلم جميع الخلق.
وذكر البرهان الرشيدي: أن صفات الله تعالى، التي على صيغة المبالغة كلها مجاز؛ لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها؛ لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له، وصفاته تعالى متناهية في الكمال، لا يمكن المبالغة فيها، وأيضا
وقال الزركشي في «البرهان»: التحقيق: أن صيغة المبالغة قسمان:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب زيادة المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواقع قد يقع على جماعة متعددين. وعلى هذا القسم تنزل صفات الله، وارتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم، في حكيم، معنى المبالغة فيه، تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع. وقال في «الكشاف»: المبالغة في «التواب» للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
٨٢ - ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ والإعادة عليه فقال: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ﴾؛ أي: إنما شأنه سبحانه وتعالى: ﴿إِذا أَرادَ شَيْئًا﴾؛ أي: إذا تعلقت إرادته بوجود شيء من الأشياء ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الشيء ﴿كُنْ﴾؛ أي: احدث، واحصل ﴿فَيَكُونُ﴾؛ أي: فيحدث، ويحصل من غير توقف على شيء آخر أصلًا. قرأ الجمهور: ﴿فَيَكُونُ﴾ بالرفع، بناءً على أنه في تقدير فهو يكون فتعطف الجملة الاسمية على الجملة الاسمية المتقدمة، وهي قوله: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾. وقرأ الكسائي: بالنصب عطفًا على ﴿يَقُولَ﴾.
والمعنى: أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء، أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن، ويحدث فورًا بلا تأخير، ولا افتقار إلى مزاولة عمل، ولا استعمال آلة.
٨٣ - وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة، والسلطة العامة، نزّه نفسه عما وصفوه به، وعجّب السامعين مما قالوه. فقال: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾ والفاء، فيه: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه أكمل إيجاب من الشؤون
وقرأ الجمهور: ﴿مَلَكُوتُ﴾. وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي ﴿ملكة﴾ بزنة شجرة. وقرىء ﴿مملكة﴾ بزنة مفعلة. وقرىء ﴿ملك﴾. والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بالفوقية على الخطاب مبنيًا للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب بن مسعود بالتحية على الغيبة مبنيًا للمفعول أيضًا. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل.
الإعراب
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦)﴾.
﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾، ﴿فِي شُغُلٍ﴾: خبر ﴿إن﴾ الثاني، ﴿فاكِهُونَ﴾: خبرها الأول. ويجوز العكس. ويجوز أن يتعلق ﴿فِي شُغُلٍ﴾ بـ ﴿فاكِهُونَ﴾ أو في محل نصب على الحال. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لبيان أحوال الجنة، وتقريرها، إغاظة للكفار وتقريعًا وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿وَأَزْواجُهُمْ﴾: معطوف على هم، ﴿فِي ظِلالٍ﴾: خبر المبتدأ؛ أي: لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية. ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾: متعلق بـ ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾، و ﴿مُتَّكِؤُنَ﴾، خبر ثان لـ ﴿هم﴾. ويجوز أن يكون ﴿فِي ظِلالٍ﴾: حالًا من المبتدأ على رأي سيبويه. والجملة الاسمية مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، مسوقة لبيان كيفية شغلهم.
﴿لَهُمْ﴾، خبر مقدم، ﴿فِيها﴾: جار ومجرور حال، من ضمير الغائبين، ﴿فاكِهَةٌ﴾: مبتدأ، مؤخر. والجملة مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم، و ﴿ما﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة أو مصدرية، وجملة ﴿يَدَّعُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد محذوف، تقديره: يدعونه. ﴿سَلامٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: ما يدعون سلام. ﴿قَوْلًا﴾ منصوب على المصدرية بفعل محذوف؛ أي: يقال قولًا، وجملة القول المحذوف صفة لسلام. ﴿مِنْ رَبٍّ﴾: صفة لـ ﴿قَوْلًا﴾، ﴿رَحِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿رَبٍّ﴾. وجملة ﴿سَلامٌ﴾ مع مبتدئه المحذوف بدل من ﴿ما يَدَّعُونَ﴾ أو مستأنفة. أو ﴿سَلامٌ﴾ مبتدأ، خبره جملة القول المحذوف الناصب لـ ﴿قَوْلًا﴾، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء؛ أي: سلام، يقال لهم: قولًا من رب رحيم. وقيل: تقديره: سلام عليكم، حال كونه قولًا من رب رحيم. وقيل: إنه مبتدأ، وخبره ﴿مِنْ رَبٍّ﴾، و ﴿قَوْلًا﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر.
﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)﴾.
﴿وَامْتازُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿امْتازُوا﴾: فعل أمر، وفاعل، مبني على حذف النون، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق به. والجملة في محل النصب. مقول لقول محذوف؛ أي: يقول الله لهم امتازوا اليوم؛ أي: انفردوا عن المؤمنين. وجملة القول المحذوف مستأنفة. ﴿أَيُّهَا﴾ ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد تعويضا عما فات؛ أي: من الإضافة، ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾ بدل من؛ أي: على اللفظ. وجملة النداء أيضًا مقول للقول المحذوف. ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التقريري، المضمن للتوبيخ والتبكيت ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿أَعْهَدْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ لَمْ والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: يقول الله لهم أيضًا: ألم أعهد إليكم.
﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَضَلَّ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَضَلَّ﴾، ﴿جِبِلًّا﴾: مفعول به، ﴿كَثِيرًا﴾: صفة لـ ﴿جِبِلًّا﴾. والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿أَفَلَمْ﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء: عاطفة على ذلك المقدر، تقديره: أتشاهدون آثار عقوباتهم، فلم تكونوا تعقلون. والجملة المحذوفة جملة استفهامية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَكُونُوا﴾ فعل مضارع ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿لم﴾، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿تَكُونُوا﴾: معطوفة على تلك المحذوفة.
{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
﴿هذِهِ جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، مسوقة لمجابهتهم المصير الهائل، الذي يصيرون إليه، بعد أن بلغ الغاية في تقريعهم وتوبيخهم. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿جَهَنَّمُ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾: من الفعل المغير، ونائب فاعله في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول. ﴿اصْلَوْهَا﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق به. والجملة مستأنفة. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اصْلَوْهَا﴾ أيضًا، والباء حرف جر وسبب، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكْفُرُونَ﴾ خبره. وجملة ﴿كان﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء؛ أي: بسبب كفركم، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿نَخْتِمُ﴾، ﴿نَخْتِمُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله، ﴿عَلى أَفْواهِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَخْتِمُ﴾ أيضًا. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَتُكَلِّمُنا﴾: الواو عاطفة، ﴿تُكَلِّمُنا﴾: فعل مضارع، ومفعول به، ﴿أَيْدِيهِمْ﴾: فاعل. والجملة معطوفة على جملة ﴿نَخْتِمُ﴾. ﴿وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿تُكَلِّمُنا﴾، ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَشْهَدُ﴾، و ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾. وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية أو موصولة؛ أي: بكسبهم، أو بالذي يكسبونه.
﴿وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿نَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿لَطَمَسْنا﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿طمسنا﴾: فعل، وفاعل، والجملة جواب شرط لـ ﴿لَوْ﴾، وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة أو معطوفة على ﴿نَخْتِمُ﴾، ﴿عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿طمسنا﴾، ﴿فَاسْتَبَقُوا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿استبقوا﴾ فعل ماض، وفاعل معطوف على ﴿طمسنا﴾، ﴿الصِّراطَ﴾: مفعول به على التوسع؛ لأنه ظرف مكان أو
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿نُعَمِّرْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونها فعل شرط لمن الشرطية. ﴿نُنَكِّسْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به مجزوم بمن الشرطية على كونه جوابًا لها. وجملة ﴿مَنْ﴾: الشرطية مستأنفة. ﴿فِي الْخَلْقِ﴾: متعلق بننكسه، ﴿أَفَلا﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَعْقِلُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، والتقدير: أيرون ذلك التنكيس فلا يعقلون، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَما﴾: الواو استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾: فعل، وفاعل ومفعولان. والجملة مستأنفة. ﴿وَما﴾: الواو عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَنْبَغِي﴾ فعل مضارع، وفاعل
﴿وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)﴾.
﴿وَذَلَّلْناها﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿ذَلَّلْناها﴾. والجملة
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾: الهمزة: فيه للاستفهام التقريري المضمن للتعجب، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، والواو عاطفة على ذلك المقدر. والجملة المقدرة مستأنفة. ﴿لَمْ﴾ حرف جزم، ﴿يَرَ﴾ فعل مضارع، مجزوم بلم، ﴿الْإِنْسانُ﴾: فاعل. والجملة معطوفة على تلك المقدرة. ﴿أَنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿خَلَقْناهُ﴾ خبره، وجملة ﴿أن﴾ في محل النصب، سادة مسد مفعولي ﴿يرى﴾. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿خلقنا﴾، ﴿فَإِذا﴾ الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾ فجائية، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿خَصِيمٌ﴾ خبر، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة خصيم. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿خلقنا﴾؛ لأنه في تأويل خلقناه من نطفة ففاجأ خصومتنا.
﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠)﴾.
﴿وَضَرَبَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ضَرَبَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، ﴿لَنا﴾ متعلق بـ ﴿ضَرَبَ﴾، ﴿مَثَلًا﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة إذا الفجائية؛ لأنها في تأويل الفعل، كما مر. ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ضرب، ﴿قالَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الإنسان. والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام في محل الرفع، مبتدأ، ﴿يُحْيِ الْعِظامَ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول قال. ﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من العظام. ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿يُحْيِيهَا﴾ فعل، ومفعول، ﴿الَّذِي﴾ فاعل. والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْشَأَها﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به،
﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)﴾.
﴿أَوَلَيْسَ﴾ الهمزة: للاستفهام التقريري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، والواو: عاطفة على ذلك المقدر، ﴿لَيْسَ الَّذِي﴾: فعل ناقص، واسمه، ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ صلة الموصول، ﴿بِقادِرٍ﴾ خبر ﴿لَيْسَ﴾، والباء: زائدة. وجملة ﴿لَيْسَ﴾ معطوفة على تلك المقدرة، والجملة المقدرة مستأنفة. ﴿عَلى أَنْ﴾ متعلق بقادر، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَخْلُقَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿مِثْلَهُمْ﴾ مفعول ﴿يَخْلُقَ﴾، وجملة ﴿يَخْلُقَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلى﴾، تقديره: بقادر على خلق مثلهم. ﴿بَلى﴾ حرف جواب لإثبات النفي، والواو: عاطفة على ما يفيده الإيجاب؛ أي: بلى هو قادر على ذلك. والجملة المحذوفة، جملة جوابية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ مبتدأ وخبر، ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثان. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
﴿إِنَّما﴾: كافة ومكفوفة، ﴿أَمْرُهُ﴾ مبتدأ، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)﴾.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تقرر ما يوجب تنزهه تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: سبحان الله.. إلخ. وجملة ﴿اذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿سبحن﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف وجوبًا، تقديره: سبحوا الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانًا؛ أي: نزّهوه تنزيهًا. وجملة ﴿سبحن﴾: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿سبحن﴾ مضاف، ﴿الَّذِي﴾ مضاف إليه، ﴿بِيَدِهِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر مضاف إليه. والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿وَإِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾، و ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل، ونائب فاعل، معطوف على جملة الصلة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي شُغُلٍ﴾ بسكون الغين وضمها، وقد قرىء بهما. وفي «القاموس»: الشغل بالضم وبضمتين، وبالفتح وبفتحتين: ضد الفراغ، وجمعه أشغال وشغول، وشغله كمنعه شغلًا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة، واشتغل به وشغل
﴿فاكِهُونَ﴾؛ أي: ناعمون أو متلذذون في النعمة، من الفكاهة بالضم. وهي التمتع والتلذذ، مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه: الفاكهة بالضم: المزاح، والفكاهة بالفتح: مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم. فإذا فسرنا قوله: ﴿فاكِهُونَ﴾ بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح. وفي «القاموس»: الفاكهة: الثمر كله، وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلًا بقوله تعالى: ﴿فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ باطل مردود. والفاكهاني: بائعها، وكخجل آكلها، والفاكه صاحبها، وفكههم تفكيهًا أتاهم بها، والفاكهة: النخلة المعجبة واسم الحلواء، وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها، والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم. وقال أبو زيد: الفاكه: الطيب النفس، الضحوك.
﴿وَأَزْواجِهِمْ﴾ والمراد: نساءهم اللاتي كن لهم في الدنيا، أو الحور العين. ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ جمع ظل كشعاب جمع شعب. والظل: ضد الضح، أو جمع ظلة، كقباب جمع قبة. وهو الستر الذي يسترك من الشمس. وقال في «المفردات»: ويعبر بالظل عن العز والمنعة، وعن الرفاهة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١)﴾؛ أي: في عزة ومنعة. وأظلني فلان؛ أي: حرسني، وجعلني في ظله؛ أي: في عزه ومنعته، ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ كناية عن نضارة العيش، انتهى.
﴿وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ﴾؛ أي: يطلبون مضارع ادعى بوزن افتعل الشيء إذا فعله لنفسه من دعا يدعو بمعنى طلب. وقد أشرب هنا معنى التمني، ومن مجيء الادعاء بمعنى التمني، كما قال في «تاج المصادر» قولهم: ادع علي ما شئت، بمعنى: تمنه علي. والمعنى هنا: ولهم ما يتمنونه من ربهم. وأصل ﴿يَدَّعُونَ﴾ يدتعيون على وزن يفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار يدتعون، ثم أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال فصار يدعون، اهـ زاده. وقيل: افتعل بمعنى تفاعل؛ أي: ما يتداعونه.
﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ﴾؛ أي: انفردوا، وابتعدوا عن المؤمنين. يقال: مازه عنه يميزه ميزًا؛ أي: عزله ونحاه. فامتاز والتمييز: الفصل بين المتشابهات. ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾ والعهد: الوصية، وعرض ما فيه خير ومنفعة. ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ وعبادة الشيطان كناية عن عبادة غير الله تعالى، من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى الشيطان، لأنه الآمر بها، والمزين لها.
﴿جِبِلًّا﴾ والجبل: الجماعة العظيمة من الخلق، أقلها عشرة آلاف، والكثير الذي لا يحصيه إلا الله تعالى. ويقال فيه: جبلًا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلًا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بكسر وسكون الباء. وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق.
﴿اصْلَوْهَا﴾؛ أي: ذوقوا حرها. يقال: صلى اللحم كرمى يصليه صليا شواه وألقاه في النار، وصلى النار قاسى حرها، وأصله: اصليوها، فأعل كاخشوا. وهو أمر تنكيل وإهانة.
﴿لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ﴾ طمس الشيء: إزالة أثره بالكلية. يقال: طمسته؛ أي: محوته، واستأصلت أثره كما في «القاموس». ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ﴾ الاستباق افتعال من السبق. والصراط من السبيل: ما لا التواء فيه، بل يكون على سبيل القصد؛ أي: ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم.
﴿وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ﴾ المسخ تحويل الصورة إلى ما هو أقبح منها، سواء كان ذلك التحويل، بقلبها إلى صورة البهيمية، مع بقاء الصورة الحيوانية، أو بقلبها حجرا ونحوه من الجمادات، بإبطال القوى الحيوانية. ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾؛ أي: في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، والمكانة، بمعنى: المكان، إلا أن المكانة أخص، كالمقامة والمقام. ﴿فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا﴾ أصله: مضوي بزنة فعول، قلبت الواو ياءً وأدغمت الياء في الياء، وكسرت الضاد قبل الياء لتسلم الياء. ومن قرأ ﴿مضيا﴾ بكسر الميم، فإنما كسرها اتباعًا للضاد.
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ﴾؛ أي: ومن نطل عمره في الدنيا. والعمر: مدة عمارة البدن بالروح. ﴿نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ من التنكيس، وهو أبلغ من النكس، والنكس أشهر. وهو قلب الشيء على رأسه، ومنه: نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه. والنكس في المرض: أن يعود في مرضه بعد إفاقته. والنكس في الخلق: الرد إلى أرذل العمر.
﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ قال الراغب: يقال: شعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا؛ أي: علمت علما في الدقة كإصابة الشعر. وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته. يقال: شعر به كنصر وكرم علم به، وفطن له، وعقله. وفي
﴿وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾ البغاء: الطلب، والانبغاء انفعال منه. يقال: بغيته؛ أي: طلبته فانطلب. ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا﴾ العمل: كل فعل من الحيوان يقصد. فهو أخص من الفعل. قال الراغب: الأيدي جمع يد بمعنى الجارحة، خص لفظ اليد لقصورنا، إذ هي أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا. ﴿وَذَلَّلْناها﴾ وفي «المفردات»: الذل: ما كان عن قهر، والذل ما كان بعد تصعب وشماس من غير قهر، وذلت الدابة بعد شماس ذلًا، وهي ذلول ليست بصعب.
﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ والركوب بفتح الراء بمعنى: المركوب كالحلوب بمعنى: المحلوب، والركوب بالضم: كون الإنسان على ظهر حيوان. وقد يستعمل في السفينة والسيارة وغيرهما؛ أي: مركوب كان. والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير. ﴿وَمَشارِبُ﴾ جمع مشرب بالفتح مصدر أو مكان. والظاهر أن المراد به: ضروعها، اهـ شيخنا. والشرب: تناول كل مائع ماءً كان أو غيره.
﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ والخصيم: المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية أو هو فعيل بمعنى فاعل؛ أي: مخاصم مجادل. والخصومة: الجدل. قال في
﴿وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ والرميم كالرمة، والرفات العظم البالي؛ أي: بالية. وفي «المختار»: رم بالفتح يرم رمة بالكسر فيهما إذا بلي، وبابه ضرب، فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث، وقد وقع خبر المؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام: أن فعيلًا بمعنى فاعل، لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفيته، وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية؛ أي: صار بالغلبة اسمًا لما بلي من العظام.
﴿مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ﴾ والشجر من النبت ما له ساق. والخضرة أحد الألوان بين البياض والسواد، وهو إلى السواد أقرب. فلهذا سمي الأسود أخضر، والأخضر أسود. وقيل: سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه الخضرة، ووصف الشجر بالأخضر دون الخضراء نظرا إلى اللفظ، فإن لفظ الشجر مذكر، ومعناه مؤنث؛ لأنه جمع شجرة كثمر وثمرة، والجمع مؤنث لكونه بمعنى الجماعة.
﴿بَلى﴾ كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي. وفي «المفردات»: بلى جواب استفهام مقترن بنفي، نحو قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى﴾. ونعم يقال في الاستفهام المجرد نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ﴾ ولا يقال هاهنا بلى. فإذا قيل: ما عندي شيء فقلت: بلى، فهو رد لكلامه، فإذا قلت: نعم فإقرار منك. انتهى.
﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الملكوت، والرحموت، والرهبوت، والجبروت مصادر. زيدت الواو والتاء فيها للمبالغة في الملك، والرحمة، والرهبة، والجبر. قال في «المفردات»: الملكوت مختص بملك الله تعالى. والملك ضبط الشيء، والتصرف فيه بالأمر والنهي. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنوين للتفخيم في قوله: ﴿فِي شُغُلٍ﴾؛ أي: في شغل عظيم الشأن.
ومنها: التعبير بالجملة الاسمية في قوله: ﴿إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)﴾ عن حالهم هذه، قبل تحققها، تنزيلًا للمترقب المتوقع منزلة الواقع، للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، ولزيادة مساءة المخاطبين بذلك. وهم الكفار.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾، ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ فالأول سلب، والآخر إيجاب.
ومنها: التنوين في ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ للتفخيم.
ومنها: تقديم النهي في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ على الأمر في قوله: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ رعاية للقاعدة عندهم، من تقديم التخلية على التحلية، وليتصل به قوله: ﴿هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾.
ومنها: تقديم الجارين على متعلقهما في قوله: ﴿فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ﴾ لمراعاة الفواصل.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ حيث أن الإضلال من الشيطان لكونه سبب ضلالهم.
ومنها: الالتفات من قوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ الخ إلى الغيبة في قوله: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ﴾ للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعي أن يعرض عنهم، ويحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم؛ لأن الخطاب لتلقي الجواب، وقد انقطع بالكلية.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾، وفي قوله:
منها: الطباق بين ﴿مُضِيًّا﴾ ﴿يَرْجِعُونَ﴾.
ومنها: وضع الفعل موضع المصدر في قوله: ﴿وَلا يَرْجِعُونَ﴾ لمراعاة الفاصلة؛ لأن الأصل مضيًا ولا رجوعًا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾؛ لأنه كناية عن نفي كونه شاعرًا، فنفى اللازم الذي هو تعليم الشعر وأراد نفي الملزوم الذي هو كونه شاعرا، بطريق الكناية، التي هي أبلغ من التصريح.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا﴾ الآية، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار في قوله: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ﴾. وهو من ألطف العبارة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا﴾ الأنعام تخلق ولا تعمل، ولكن شبّه اختصاصه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرًا بيديه، ويصنعه بنفسه. واستعار لفظ العمل للخلق، بطريقة الاستعارة التمثيلية.
ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ﴾ بعد قوله: ﴿فَمِنْها رَكُوبُهُمْ﴾ الآية. وفائدته تفخيم النعمة، وتعظيم المنة.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾؛ أي: كالجند في الخدمة والدفاع، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغًا.
ومنها: صيغة المبالغة في قوله: ﴿خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾، وقوله: ﴿الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾، وفي قوله: ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ لأنه صيغة مبالغة من الملك، ومعناه: الملك الواسع التام مثل: الرحموت، والرهبوت، والجبروت.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا﴾ حيث استعار المثل الذي هو القول السائر للأمر العجيب تشبيهًا له في الغرابة بالمثل العرفي الذي هو القول السائر.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، كما أعنتنا على كتابة ما مضى فأكرمنا بإتمام ما بقي من كتابة تفسير كتابك الكريم، خالصا مخلصا لوجهك الكريم، مع النفع التام به إلى يوم القيامة، لي ولجميع المسلمين، آمين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
١ - بيان أن محمدًا - ﷺ -، رسول من عند الله حقا، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
٢ - المنذرون من النبي - ﷺ - صنفان: صنف ميؤوس من صلاحه، وآخر قد سعى لفلاحه.
٣ - أعمال الفريقين تحصى عليهم، فتحفظ أخبارهم، وتكتب آثارهم.
٤ - ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه، فدخلوا النار، ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
٥ - الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
٦ - تبيان قدرة الله ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
٧ - جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم الله عليهم، وسرعة أخذهم، وندمهم حين معاينة العذاب.
٨ - الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
٩ - توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
١٠ - قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمسهم.
١١ - الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
١٢ - إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الصافات مكية قال القرطبي في قول الجميع، وأخرج ابن الضريس، وابن النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وهي (١) مئة واثنتان وثمانون آية، وثمان مئة وستون كلمة، وثلاث آلاف وثمان مئة وستة أو تسعة وعشرون حرفًا.
تسميتها: وسميت (٢) باسم أول كلمة منها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. فضلها: ومن فضائلها ما أخرجه (٣) النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات. قال ابن كثير: تفرد به النسائي، وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني، عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: «من قرأ يس والصافات يوم الجمعة، ثم سأل الله، أعطاه سؤله»، وأخرج أبو نعيم في «الدلائل»، والسلفي في «الطيوريات» عن ابن عباس: أن النبي - ﷺ - لما سأله ملوك حضرموت، عند قدومهم عليه، أن يقرأ عليهم شيئًا مما أنزل الله قرأ: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١)﴾ حتى بلغ ﴿بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ﴾ الحديث. وعن رسول الله - ﷺ -: «من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل جن وشيطان، وتباعدت عنه مردة الجن والشياطين، وبرىء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنًا بالمرسلين».
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجوه (٤):
(٢) الصاوي.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
٢ - أن فيها تفصيل أحوال المؤمنين، وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة، مما أشير إليه إجمالًا في السورة قبلها.
٣ - المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان. وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك. وهو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادًا وإعدامًا إلا إذا كان المريد واحدًا، كما يشير إلى ذلك قوله: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾.
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة أول هذه السورة لآخر يس (١): أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى، وأنه هو منشئهم، وإذا تعلقت إرادته بشيء كان.. ذكر تعالى هنا وحدانيته. إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودًا وعدمًا إلا بكون المريد واحدًا. وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾.
الناسخ والمنسوخ فيها: ذكر أبو عبد الله محمد بن حزم في كتابه «الناسخ والمنسوخ» سورة الصافات كلها محكم إلا أربع آيات:
الأولى والثانية: قوله تعالى: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)﴾، نسختا بآية السيف.
الثالثة والرابعة: قوله تعالى: ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)﴾، نسختا أيضًا بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)﴾.المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا...﴾ الآيات، افتتح سبحانه هذه
قوله تعالى: ﴿وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا، وشديد إصرارهم على عدم حدوثه.. أردف هذا، ببيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة، إذا عاينوا أهوال هذا اليوم، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين، ويندمون على ما فرّطوا في جنب الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين فيما سلف، أن الكافرين يندمون يوم القيامة، على ما فرط منهم، من العناد والتكذيب للبعث، حيث لا يجدي الندم.. أردف هذا بذكر أنهم يتلاومون فيما بينهم حينئذ، ويتخاصم الأتباع والرؤساء، فيلقي الأولون تبعة ضلالهم على الآخرين، فيجيبونهم بأن التبعة عليكم أنفسكم دوننا، إذ كنتم قوما ضالين بطبيعة حالكم، وما ألزمناكم بشيء مما كنتم تعبدون، أو تعتقدون، بل تمنينا لكم من الخير ما تمنينا لأنفسنا، فاتبعتمونا دون قسر ولا جبر منا لكم. ثم أعقبه بذكر ما أوقعهم في هذا الذل والهوان، فبين أنهم قد كانوا في الدنيا إذا سمعوا كلمة التوحيد، أعرضوا عنها استكبارًا، وقالوا: أنترك دين آبائنا اتباعًا لقول شاعر مجنون. ثم رد عليهم مقالهم بأنه ليس بالمجنون، ولا هو بالشاعر، بل جاء بما هو الحق، الذي لا محيص عن تصديقه، وهو التوحيد الذي جاء به المرسلون كافة.
سورة يس
سورةُ (يس) من السُّوَر المكِّية، جاءت بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثباتُ صحَّة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَمِنَ اْلْمُرْسَلِينَ} [يس: 3]، وكذا إثباتُ صحة ما جاء به من عندِ الله عزَّ وجلَّ؛ فهو خلاصةُ الرُّسل والرسالات وخاتَمُهم، كما جاءت السورةُ - على غِرار السُّوَر المكية - بإثباتِ وَحْدانية الله عزَّ وجلَّ، وإثباتِ البعث والجزاء، وتقسيمِ الناس إلى: أبرارٍ أتقياء، ومجرِمين أشقياء، وقد جاء في فضلِ سورة (يس) أحاديثُ كثيرة لم يثبُتْ منها شيء، إلا حديث: «مَن قرَأَ {يسٓ} في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، غُفِرَ له» أخرجه ابن حبان (٢٥٧٤).
ترتيبها المصحفي
36نوعها
مكيةألفاظها
731ترتيب نزولها
41العد المدني الأول
82العد المدني الأخير
82العد البصري
82العد الكوفي
83العد الشامي
82* قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْۚ} [يس: 12]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانت الأنصارُ بعيدةً مَنازِلُهم مِن المسجدِ، فأرادوا أن يَقترِبوا؛ فنزَلتْ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْۚ} [يس: 12]، قال: فثبَتُوا». أخرجه ابن ماجه (٦٤٤).
* قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ اْلْإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن نُّطْفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلْقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحْيِ اْلْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا اْلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٧٩ اْلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ اْلشَّجَرِ اْلْأَخْضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ٨٠ أَوَلَيْسَ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ اْلْخَلَّٰقُ اْلْعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبْحَٰنَ اْلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٖ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 77-83]:
عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «إنَّ العاصَ بنَ وائلٍ أخَذَ عَظْمًا مِن البَطْحاءِ، فَفَتَّهُ بيدِه، ثم قال لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُحيِي اللهُ هذا بعدما أرَمَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعم، يُمِيتُك اللهُ، ثم يُحيِيك، ثم يُدخِلُك جهنَّمَ»»، قال: «ونزَلتِ الآياتُ مِن آخرِ (يس)». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (1 /174).
* سورةُ (يس):
سُمِّيت سورة (يس) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ، ولم يثبُتْ لها اسمٌ آخر.
* جاء في فضلِ سورة (يس) أحاديثُ كثيرة لم يثبُتْ منها شيء، إلا ما ورد مِن أنَّ مَن قرأها في ليلةٍ مبتغيًا وجهَ الله غُفِر له:
عن جُندُبِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن قرَأَ {يسٓ} في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، غُفِرَ له». أخرجه ابن حبان (٢٥٧٤).
1. القَسَمُ بالقرآن الكريم، وحالُ النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه (١-١٢).
2. قصة أصحاب القَرْية (١٣-١٩).
3. الرَّجل المؤمن يدعو قومه لاتباع المرسلين (٢٠-٣٢).
4. بعض آيات من قدرة الله (٣٣-٤٤).
5. إعراض الكفار عن الحق (٤٥-٤٧).
6. إنكار المشركين البعثَ والساعة (٤٨-٥٤).
7. جزاء (٥٥-٦٨).
8. الأبرار المتقون (٥٥-٥٨).
9. المجرمون الأشقياء (٥٩-٦٨).
10. إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، ووَحْدانيته (٦٩-٧٦).
11. إقامة الدليل على البعث والنشور (٧٧-٨٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /299).
مقصدُ سورةِ (يس) هو إثباتُ صحة رسالةِ النبي صلى الله عليه وسلم، والأمرُ بتصديقِ النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، الذي هو خالصةُ المرسَلين وخاتمُهم، وجلُّ فائدةِ هذه الرسالة إثباتُ الوَحْدانية لله، والإنذارُ بيوم القيامة، وإصلاحُ القلب الذي به صلاحُ الدنيا والدِّين.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /390).