ﰡ
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
اللغة:
(الْحَكِيمِ) : ذو الحكمة يقال قصيدة حكيمة أي ذات حكمة، والحكمة تقدم القول فيها وحكم الرجل من باب كرم أي صار حكيما ومنه قول النابغة:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت | إلى حمام شراع وارد الثمد |
وقصيدة تأتي الملوك حكيمة | قد قلتها ليقال من ذا قالها |
(الْأَذْقانِ) : جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين من أسفلهما.
(مُقْمَحُونَ) : المقمح هو الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره، يقال قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وفي المختار: «الاقماح: رفع الرأس وغض البصر يقال أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه» وفي القاموس: «وأقمح الغل الأسير ترك رأسه مرفوعا لضيقه».
(فَأَغْشَيْناهُمْ) : أي فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح الى مرئي وسيأتي المزيد من هذه الصور في بابي البلاغة والاعراب.
الإعراب:
(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) يس تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا. والواو حرف قسم وجر والقرآن مقسم به والحكيم صفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على صراط خبر ثان لإن وقيل حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين ومستقيم صفة لصراط أي الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة ولا بأس بهذا الإعراب.
(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) تنزيل مفعول مطلق لفعل محذوف أي نزل القرآن تنزيلا وأضيف لفاعله أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وعبارة الزمخشري: «قرىء تنزيل العزيز الرحيم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على أعني وبالجر على البدلية من القرآن».
(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور
الموصولة: لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم.
النكرة: لتنذر قوما عذابا أنذره آباؤهم.
المصدرية: لتنذر قوما إنذار آبائهم.
الزائدة: وأورد أبو البقاء وجها رابعا وهو أن تكون زائدة وتكون جملة أنذر صفة لقوما.
فهم الفاء تعليلية للنفي إذا جعلت ما نافية أي لم ينذروا فهم غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم أو تعليلية للارسال كما تقول أرسلتك الى فلان لتنذره فإنه غافل وهم مبتدأ وغافلون خبر.
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وحق القول فعل وفاعل وعلى أكثرهم متعلقان بحق والفاء تعليلية أيضا وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر والمعنى والله لقد ثبت وتحقق عليهم القول بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار. (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل تصميمهم على الكفر وانه لا سبيل الى
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل ومن بين أيديهم في موضع نصب مفعول جعلنا الثاني وسدا مفعول جعلنا الأول ومن خلفهم سدا عطف على من بين أيديهم سدا. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة وأغشيناهم فعل وفاعل ومفعول به والفاء تعليلية وهم مبتدأ وجملة لا يبصرون خبر هم.
البلاغة:
في قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» الآية فنون شتى نوردها فيما يلي:
١- الاستعارة التمثيلية:
تقدم القول كثيرا في الاستعارة التمثيلية وهي هنا تمثيل لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد بأن جعلهم كالمغلولين المقموحين في أنهم لا يلتفتون الى الحق ولا يثنون أعناقهم نحوه، لأن
«فالأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادر من الحلقة الى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا» واستطرد الزمخشري داعما رأيه في عودة الضمير على الأغلال فقال: «فإن قلت فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق، وبذلك يسمى جامعة، كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله: فهم مقمحون، ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة قوله فهي الى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى الى نفسه الى الباطل الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج الى الباطل اللجلج» ولعل الزمخشري قد بلغ الذروة في هذا التقرير الفريد ودل على اطلاعه وتمكنه من علم البيان، على أن الوجه الثاني وهو عودة الضمير على الأيدي لا يخلو من وجاهة وسمو بيان وفيها مبالغة في تصوير الهول تتلاءم مع سياق الكلام فإن اليد وإن لم يجر لها ذكر في العبارة فإن الغل يدل عليها بل ويستلزمها، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في العنق يوجب الاقماح، أضف الى ذلك أن اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرح
٢- استعارة تمثيلية ثانية:
وفي قوله «وجعلنا من بين أيديهم سدا الآية» استعارة تمثيلية ثانية فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم وورائهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية والتأمل في المغاب الآتية والعواقب المستقبلة قد أحيطوا بسد من أمامهم وسد من ورائهم فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس ولا تتوسم بصيصا من أمل.
٣- القلب:
وفي قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» القلب وهو من فنون كلام العرب إذ حقيقته جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: «ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه» ان المعنى اسلكوا فيه سلسلة أي ادخلوا في عنقه سلسلة.
٤- التنكير:
وفي تنكير أغلالا مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)الإعراب:
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان شأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل ولك أن تعطفه على ما قبله فتكون الواو عاطفة، وسواء خبر مقدم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام وهي همزة التسوية وقد تقدم بحثها مفصلا في سورة البقرة المماثلة وهي مع الفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي مستو عندك إنذارك إياهم وعدمه، وأم حرف عطف معادل للهمزة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر والهاء مفعول به وجملة لا يؤمنون استئناف مؤكد لما قلبه أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) إنما كافة ومكفوفة وتنذر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة اتبع الذكر صلة وجملة خشي الرحمن عطف على اتبع الذكر وبالغيب حال من الفاعل أو من المفعول به، ونتساءل: ما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول مع أن الأول إثبات والوجه هو أن
(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمغفرة متعلقان ببشره وأجر عطف على بمغفرة وكريم صفة لأجر. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) إن واسمها ونحن مبتدأ أو ضمير فصل وجملة نحيي الموتى خبر نحن والجملة خبر إن أو الجملة خبر إنا ونكتب عطف على نحيي وما مفعول به وجملة قدموا صلة ما وآثارهم عطف على ما والمراد بها ما استن بعدهم وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من وزرهم شيء».
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) نصب كل شيء بفعل محذوف يفسره ما بعده فهو نصب على الاشتغال وأحصيناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة مفسرة لا محل لها وفي إمام متعلقان بأحصيناه ومبين نعت إمام أي في كتاب بيّن.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ١٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
(الْقَرْيَةِ) : القرية بفتح القاف وكسرها: الضيعة والمصر الجامع وجمع الناس والجمع قرى وقرى بضم القاف وكسرها والنسبة إليها قرويّ وقريي والمراد بها هنا انطاكية وسيأتي شيء عنها في باب الفوائد.
(فَعَزَّزْنا) : قوينا.
(طائِرُكُمْ) : تقدم ذكره في هذا الكتاب وفي المختار: «وطائر الإنسان عمله الذي قلده والطير أيضا الاسم من التطير ومنه قولهم:
لا طير إلا طير الله كما يقال لا أمر إلا أمر الله وقال ابن السكيت:
يقال: طائر الله لا طائرك ولا تقل طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، واضرب فعل أمر بمعنى اجعل ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لمثلا وتقدمت عليه ومثلا مفعول به ثان لاضرب وأصحاب مفعول به أول، ومن المفيد أن نورد عبارة أبي السعود في تفسيره وهي: «ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد الى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: «وضربنا لكم الأمثال» فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي طبق حالهم بحالهم، على أن مثلا مفعول ثان لاضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبيّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل» وعلى هذا تكون اضرب بمعنى اذكر ومثلا مفعول به وأصحاب بدل على حذف مضاف أي مثل أصحاب والأول أولى، وإذ ظرف لما مضى من الزمن ومحله بدل اشتمال من أصحاب القرية وجملة جاءها المرسلون في محل جر بإضافة الظرف إليها.
(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) إذ ظرف بدل من إذ الأولى أي بدل مفصل من مجمل وهو يدخل في نطاق البدل المطابق أو بدل الكل من الكل وجملة أرسلنا في محل جر بالإضافة وإليهم متعلقان بأرسلنا واثنين مفعول به لأرسلنا والفاء عاطفة وكذبوهما فعل ماض
(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ربنا مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وإن واسمها وكسرت همزتها لمجيء اللام في خبرها وإليكم متعلقان بمرسلون واللام المزحلقة ومرسلون خبر إنا وجملة إنا إليكم لمرسلون سدت مسد مفعولي يعلم وسيأتي بحث تأكيد الخبر في باب البلاغة. (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وما نافية وعلينا خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وكسرت همزتها لوقوعها بعد القول وجملة تطيرنا خبرها وبكم متعلقان بتطيرنا وسبب تطيرهم أنهم توقعوا الشرّ وأوجسوه بعد أن كذبوهم وقد ترامت إليهم مصائر الأقوام الهالكة بسبب تكذيبها الأنبياء.
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنتهوا فعل
البلاغة:
١- الحذف:
في قوله «فعززنا بثالث» فن الإيجاز بالحذف فقد حذف مفعول عززنا والتقدير فعززناهما بثالث وإنما جنح الى هذا الحذف لانصباب الغرض على المعزز به الثالث وإذا كان الغرض هو المراد وكان الكلام منصبّا عليه كان ما سواه مطروحا، ونظيره قولك حكم
٢- التأكيد:
وفي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صوره للخبر فقد قال أولا «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما» فأورد الكلام ابتدائي الخبر ثم قال إنا إليكم مرسلون فأكده بمؤكدين وهو إن واسمية الجملة فأورد الكلام طلبيا ثم قال إنا إليكم لمرسلون فترقى في التأكيد بثلاثة وهي إن واللام واسمية الجملة فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابا عن إنكارهم، قيل وفي قوله ربنا يعلم تأكيد رابع وهو اجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم. وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان.
الفوائد:
ذكرنا في باب اللغة أن القرية انطاكية بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، روى التاريخ ما ملخصه: بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين الى أهل انطاكية وهما يحيى وبولس بفتح الباء الموحدة، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال لهما الشيخ من أنتما؟ فقالا رسولا عيسى فقال أمعكما آية فقالا نشفي المرضى ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فقام
فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مغلقتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبونه أنه منهم، ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن هم؟
قال: شمعون وهذان. فتعجب الملك، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه أخبره بالحال أنه رسول عيسى ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم الى طاعة المرسلين.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٩]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
الإعراب:
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) الواو عاطفة أو استئنافية وجاء فعل ماض ومن أقصى المدينة متعلقان بجاء وأراد بالمدينة القرية الآنفة الذكر أي انطاكية ورجل فاعل وجملة يسعى صفة والرجل هو حبيب النجار وستأتي لمحة عنه في باب الفوائد. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحثه واتبعوا فعل أمر وفاعل والمرسلين مفعول به أي الذين هم رسل عيسى عليه السلام. (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) اتبعوا تأكيد للأول وهو فعل أمر وفاعل ومن مفعول به وجملة لا يسألكم صلة والكاف مفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والواو واو الحال وهم مبتدأ ومهتدون خبر والجملة نصب على الحال، وأجاز بعضهم أن تكون من بدلا من المرسلين ولا أدري ما هو مسوغه بعد وجود عامله وكأنهم تصوروا حذف مفعول اتبعوا ولا أرى داعيا إليه، وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة.
(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة لا أعبد حالية والفاعل مستتر تقديره أنا والذي مفعوله وجملة فطرني صلة واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويجوز أن يكون معنى الاستفهام النفي واتخذ فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومن دونه مفعول به ثان وآلهة مفعول به أول. (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) إن شرطية ويردن فعل الشرط والنون للوقاية والياء المحذوفة لاتباع خط المصحف مفعول به والرحمن فاعل وبضر متعلقان بيردن ولا نافية وتغن جواب الشرط وعني متعلقان بتغن وشفاعتهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم ذكرها كثيرا ولا ينقذون عطف على لا تغن وحذفت الياء أيضا مراعاة لسنة المصحف والجملة الشرط استئنافية ويجوز أن تكون صفة لآلهة. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها وإذن حرف جواب
(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) إن واسمها وجملة آمنت خبرها وبربكم متعلقان بآمنت والفاء الفصيحة واسمعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة مفعول به، ومعنى اسمعون اسمعوا قولي واتبعوا المرسلين وفيه دليل على تصلبه لمبدئه وصدق إيمانه وقيل اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول ومتعلقه محذوف أي قيل له عند قتله ورؤيته ما أعد له جزاء على صدق إيمانه وقال فعل ماض ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة يعلمون خبرها. (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بما متعلقان بيعلمون وما مصدرية أو موصولة أي بغفران ربي أو بالذي غفره لي ربي من الذنوب وقال الفراء هي استفهامية ورد عليه بأنها لو كانت كذلك لحذفت ألفها كما هي القاعدة، وقيل ان حذف الألف أكثري لا كلي وهبه كذلك لا يسوغ حمل القرآن على الضعيف من الوجوه، وجعلني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول ومن المكرمين مفعول به ثان.
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لاحتقار أمرهم أي لا حاجة الى إرسال جنود لهم فأقل شيء كاف لإبادتهم واستئصال شأفتهم، وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا ومن بعده متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وجند مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به ومن السماء صفة لجند والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها
البلاغة:
١- الالتفات في قوله «ومالي لا أعبد الذي فطرني» وفائدته أن انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم الى التكلم تلطفا بهم من جهة ووعيدا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولا الى نفسه وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت الى مخاطبتهم ثانيا مقرعا مهددا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرا الى التلطف في النصيحة لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: «ومالي لا أعبد الذي فطرني» مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى الى قوله «وإليه ترجعون» ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال: «إني آمنت بربكم فاسمعون» فانظر أيها المتأمل الى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها.
٢- ائتلاف الفاصلة:
وفي قوله: «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» فن ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الجنة مهد لفاصلتها وفي ذلك تنبيه عظيم على
٣- التشبيه البليغ في قوله «فإذا هم خامدون» شببهم بالنار الخامدة التي صارت رمادا على حد قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه | يحور رمادا إذ هو ساطع |
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولا بدّ يوما أن ترد الودائع |
٤- في قوله: «قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون» وإنما ختم بقوله «وهم مهتدون» مع تمام الكلام بدونه لزيادة الحث على الاتباع ففيه إطناب.
بحث هام عن إذن:
تحدثنا في هذا الكتاب عن إذن ونضيف الى ما تقدم ما قاله الرضي ففيه جلاء لموقعها من الآية، قال: «إنها اسم وأصلها إذ، حذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين وفتح ليكون في صورة ظرف منصوب وقصد جعله صالحا لجميع الأزمنة بعد ما كان مختصا بالماضي وضمن معنى الشرط غالبا وإنما قلنا غالبا لأنه لا معنى للشرط في نحو «قال فعلتها إذن وأنا من الضالين» ثم قال الرضي: وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز اجراؤه مجرى لو في قرن جوابه باللام نحو «إذن لأذقناك» أي لو ركنت شيئا قليلا لأذقناك، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز قرن جوابه بالفاء كقول النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه | إذن فلا رفعت سوطي الي يدي |
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)الإعراب:
(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في هذا النداء وجهان أولهما أنه منادى شبيه بالمضاف ولذلك نصب وإنما كان شبيها بالمضاف لأنه اتصل به شيء من تمام معناه وهو على العباد ولك أن تجعله منادى نكرة مقصودة كأنما المنادى حسرة معينة وإنما نصبت لأنها وصفت بالجار والمجرور وقد تقدم معنا أن المنادى النكرة المقصودة إذا وصف نصب والوجه الثاني أن المنادى محذوف وحسرة مصدر أي أتحسر حسرة واختلف المفسرون في المتحسر ولا داعي للاختلاف فالحسرة جديرة بهم والمستهزءون بالرسل أحرياء بأن يتحسر عليهم المتحسرون أو يتحسروا على أنفسهم. والنداء هنا مجازي أي يا حسرة احضري فهذا أوانك. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل التحسر عليهم وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حصر وجملة كانوا استثناء من أعم الأحوال فهي جملة في محل نصب على الحال من الهاء في يأتيهم وكان واسمها وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.
الفوائد:
١- كلام الزمخشري في الآية:
للمعربين كلام طويل في إعراب قوله تعالى: «ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون» وقد أوردنا لك ما رأيناه أمثل الأوجه في إعرابها ونرى من المفيد أن نورد لك الكلام الذي أورده الزمخشري بهذا الصدد قال: «ألم يروا: ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في كم لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها سواء كانت
هذا وقد قرىء بتخفيف «لما» فتكون إن مخففة من الثقيلة وإن مهملة عن العمل وكل مبتدأ وما بعده خبره ولزمت اللام في الخبر فرقا بين المخففة والنافية وما مزيدة.
٢- مناقشة لطيفة:
اعلم أن الزمخشري أورد سؤالا في الآية فقال: كيف أخبر عن كل بجميع مع أن الفارسي نص على أنه لا يجوز: إن الذاهبة جارية صاحبها، واستشكلوا قوله تعالى «فإن كانتا اثنتين» لأنه أخبر عن ضمير الاثنين بالاثنين فلا فائدة فيه، وانتقد بعض الناس على الفارسي وقال إن الجارية مضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة فلا تدل إضافة الجارية إليه على أنها ملكه بل قد تكون جارته فأضافها باعتبار الجوار فقط ثم قل صاحبها فأفاد أنها ملكه، وأجاب الزمخشري عن السؤال بأن كلا لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع وهذا قد نصّ عليه ابن عصفور فإنه فرق بين أجمع وجميع بأن أجمع لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع لكن إنما ادعى ذلك في حالة النصب نحو جاء الزيدون جميعا أما في الرفع فلا فرق بين جاء الزيدون أجمعون أو جميع فما قاله الزمخشري مشكل لأن جميعا لا يفيد الجمعية إلا إذا انتصب على الحال فيبقى السؤال واردا، وأجاب عنه الفخر الرازي بجواب حسن وهو أنه إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة تقييد صح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك الرجل رجل صالح.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) كلام مستأنف مسوق لإيراد آية على البعث والتوحيد. وآية خبر مقدم ولهم صفة والأرض مبتدأ مؤخر وجملة أحييناها يجوز فيها أن تكون حالية وأن تكون صفة وسيأتي السر في وصفيتها في باب الفوائد. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) عطف على أحييناها وأخرجنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بأخرجنا وحبا مفعول به والفاء استئنافية ومنه متعلقان بيأكلون.
(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) وجعلنا فعل وفاعل والجملة عطف على أحييناها وفيها متعلقان بجعلنا أو بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل وفجرنا عطف أيضا وفيها متعلقان بفجرنا ومن العيون صفة لمفعول فجرنا المحذوف أي ينابيع كائنة من العيون، وقدره أبو البقاء بقوله: ما ينتفعون به من العيون فمن للتبعيض. (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ليأكلوا تعليل لما تقدم ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بيأكلوا وما
(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم القول فيه والجملة مستأنفة مسوقة لتنزيهه تعالى عما لا يليق به والذي مضاف إليه وجملة خلق صلة والأزواج مفعول به وكلها تأكيد ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة تنبت الأرض صلة.
(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) عطف على قوله مما تنبت الأرض وبهذا استمر في الأمور الثلاثة التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات وهي على التوالي:
١- ما تنبته الأرض من الحبوب وأصناف الشجر.
٢- ما يتوالده الناس من ذكر وأنثى.
٣- من أزواج لم يطلع الله عباده عليها بعد ولم يكتنهوا حقيقتها.
البلاغة:
في قوله: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» الآية فن التناسب
«ومما لا يعلمون» فانتقل من الخصوص إلى العموم ليندرج تحت العموم فسبحان منزل القرآن.
الفوائد:
ذكر الزمخشري أن الثمر يجمع على ثمر بفتحتين وثمر بضمتين وثمر بضمة فسكون ولم يذكر غيره الاثنين الأولين.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
(نَسْلَخُ) : نفصل يقال سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها وأزاله، وسلخ الحية. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخا الخروف كشط جلده وسلخت المرأة درعها: نزعته وسلخت الحية انكشفت عن سلختها وسلخها أي قشرها فاستعير السلخ لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.
(العرجون) : بضم العين ويقال له أيضا العرجد والعرجد بتشديد الدال أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، والجمع عراجين. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف. وسيأتي سر تشبيه القمر به في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) الواو عاطفة وآية خبر مقدم ولهم صفة والليل مبتدأ مؤخر وجملة نسلخ حالية ومنه متعلقان بنسلخ والنهار مفعول والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ ومظلمون خبر ومعنى مظلمون أي داخلون في الظلام. يقال أظلمنا كما يقال أعتمنا وأدجينا وأظهرنا وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) الشمس مبتدأ وجملة تجري خبر ولمستقر متعلقان بتجري وسيرد في باب الفوائد معنى المستقر ولها
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لا نافية والشمس مبتدأ وجملة ينبغي خبر ولها متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي والقمر مفعول ومعنى ادراك الشمس للقمر الإخلال بالسير المقدر والنظام المتبع لئلا يختل تكوين الكون ونظامه. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) عطف على ما تقدم والليل مبتدأ وسابق خبر والنهار مضاف اليه وسيأتي المزيد من معناه. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن التنوين عوض عن كلمة مضافة أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر والواو فاعل لأنه نزلها منزلة العقلاء وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة.
اشتملت هذه الآيات على العديد من فنون البلاغة:
١- الاستعارة:
فأولها الاستعارة المكنية في قوله «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» فقد شبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ وذلك انه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن يقال نخرج مثلا لأن السلخ لا يتأتى إلى بجهد ومشقة لفرط التحامه باللحم والعظام، والجامع بينهما الإزالة والتعرية فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوءه وبدت ظلمته الحالكة تغمر الكون بسوادها.
٢- التوشيح:
وفي قوله: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» الآية فن التوشيح وهو أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية أو السجعة بلفظه أو من لوازم لفظه فإن من كان حافظا للسورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة تكون مظلمون لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.
وذلك في قوله «حتى عاد كالعرجون القديم» فقد مثل الهلال بأصل عذق النخلة والعذق بكسر العين وهو الكباسة والكباسة عنقود النخل وهو تشبيه بديع للهلال فإن العرجون إذا قدم دق وانحنى واصفر وهي وجوه الشبه بين الهلال والعرجون فهو يشبهه في رأي العين في الدقة لا في المقدار والاستقواس والاصفرار.
٤- الاستعارة أيضا:
واستعار الإدراك للشمس والسبق لليل والنهار ليبين ما هو مقرر في علم الجغرافيا من دورات الشمس والقمر والأرض وتكون الليل والنهار، وجعل الشمس غير مدركة والقمر غير سابق لأن الشمس ثابتة لا تدور إلا دورة لم تعرف مدتها حول شيء مجهول لنا بالكلية ولها أيضا دورة على محورها كالأرض تقطعها في خمسة وعشرين يوما أو هي بالضبط خمسة وعشرون يوما وست ساعات وست عشرة دقيقة وثماني ثوان، أما القمر فله حركتان: إحداهما حول محوره وثانيتهما حول الأرض وكل منهما يتجه من المغرب إلى المشرق ويقطع مداره حول الأرض في تسعة وعشرين يوما ونصف تقريبا وهذا هو المسمى بالشهر القمري فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها والقمر خليق بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
٥- التغليب:
وغلب العقلاء لأنه نزل الشمس والقمر والنجوم والكواكب
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
اللغة:
(الْمَشْحُونِ) : شحن السفينة ملأها وأتم جهازها كله «في الفلك المشحون» وبينهما شحناء: عداوة وهو مشاحن لأخيه ويقال للشيء الشديد الحموضة انه ليشحن الذباب أي يطرده وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر، يقال:
شحنت الكلاب أي أبعدت الطرد ولم تصد شيئا وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب.
(صَرِيخَ) : مغيث ويطلق أيضا على الصارخ أي المستغيث فهو من الأضداد ويكون مصدرا بمعنى الإغاثة وكل منهما مراد هنا وفي الأساس: «وصرخ يصرخ صراخا وصريخا وهو صارخ وصريخ وقد نقع الصريخ قال:
قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم | من بين ملجم مهره أو سافع |
قال سلامة:
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع | كان الصراخ له قرع الظنابيب |
مغيثا قال:
وكانوا مهلكي الأبناء لولا | تداركهم بصارخة شفيق |
(الذرية) : سيأتي بحثها في باب الإعراب.
الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) اختلف في عود الضمير ونرى أن الأصوب أن يكون عاما وأن يكون بمثابة امتنان عليهم بأصناف من النعم منها حملهم في السفن فتكون الألف واللام في الفلك للجنس لا لسفينة نوح خاصة. وآية خبر مقدم ولهم صفة وأنا أن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وأن واسمها وجملة حملنا خبرها
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) الواو عاطفة وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا ومن مثله في محل نصب على الحال من المفعول المؤخر وهو ما وجملة يركبون صلة ما والضمير في مثله يعود على الفلك فإما أن يراد بالمثل ما اصطنعوه بعد ذلك من وسائل الركوب أو أنه مقتصر على الإبل لأنهم كانوا يسمونها سفائن الصحراء وهناك أقوال يرجع إليها في المطولات. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) الواو عاطفة وإن شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ونغرقهم جواب الشرط والفاء عاطفة واختار ابن عطية أن تكون استئنافية وفي ذلك قطع للكلام، ولا نافية للجنس وصريخ اسمها مبني على الفتح ولهم خبرها والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينقذون خبر وينقذون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) إلا أداة حصر ورحمة مفعول لأجله فهو استثناء مفرغ من أعم العلل وقيل هو
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان إعراضهم عن هذه الآيات الآنفة الذكر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتقوا مقول القول واتقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديكم مضاف إليه وما خلفكم عطف على ما بين أيديكم ولعلكم لعل واسمها وجملة ترحمون خبرها وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله الآتي والتقدير أعرضوا وأشاحوا. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن آيات ربهم صفة ومعنى من التبعيض وإلا أداة حصر وجملة كانوا عنها معرضين في محل نصب حال وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبرها.
البلاغة:
في قوله: «وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم» إلى قوله:
«ومتاعا إلى حين» سلامة الاختراع وهي الإتيان بمعنى لم يسبق إليه فإن نجاتهم من الغرق برحمة منه تعالى هي في حد ذاتها متاع يستمتعون به ولكنه على كل حال إلى أجل مقدر يموتون فيه لا مندوحة لهم عنه، فهم إن نجوا من الغرق فلن ينجوا مما يشبهه أو يدانيه، والموت
وإن أسلم فما أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام |
إذا بلّ من داء به خال أنه | تجاذبه الداء الذي هو قاتله |
تمتع من سهاد أو رقاد | ولا تأمل كرى تحت الرجام |
فإن لثالث الحالين معنى | سوى معنى انتباهك والمنام |
الفوائد:
عبارة القرطبي في تفسير الآية:
وعدناك أن ننقل لك عبارة القرطبي وبرا بهذا الوعد نوردها لك: «هذه الآية من أشكل ما في هذه السورة لأنهم هم المحمولون
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
(يَخِصِّمُونَ) : بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة وأصله يختصمون فلما حذفت حركة التاء صارت ساكنة فالتقت ساكنة مع الخاء فحركت الخاء بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين وهناك قراءات أخرى يرجع إليها في المطولات.
الإعراب:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة وجملة أنفقوا مقول القول ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا وجملة رزقكم الله صلة. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة والهمزة للاستفهام ومعناه الاستهزاء: كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟
وقيل نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله:
أعطونا مما زعمتم من أموالكم إنها لله يعنون قوله: «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا» فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم استهزاء منهم بالمؤمنين أي فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. ونطعم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن مفعول به ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل وجملة أطعمه لا محل لها وجملة لو يشاء الله أطعمه لا محل لها لأنها صلة من.
(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ما نافية وينظرون فعل مضارع وفاعل ومعناه ينتظرون: جعلهم منتظرين وقوعها مع أنهم كانوا قاطعين بعدمها محاكاة لكلامهم. وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة وجملة تأخذهم صفة ثانية أو حالية والواو حالية وهم ضمير منفصل مبتدأ وجملة يخصمون خبر والجملة نصب على الحال والمعنى أنها تبغتهم وهم سادرون في الغفلة مسترسلون في الخصومات حول المتاجر والمعاملات. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
اللغة:
(الصُّورِ) : هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق وهو شيء مجوف مستطيل ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقات.
قال أبو الفتح بن جني: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب جمع بوق على بوقات في قوله:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة | ففي الناس بوقات لها وطبول |
(يَنْسِلُونَ) : يعدون بكسر السين وضمها يقال نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب وقيل ينسل بالضم أيضا وهو الاسراع في المشي وفي القاموس: «نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلا ونسلا ونسلانا في مشيه أسرع».
ومنه قول امرئ القيس:
فإن تك ساءتك مني خليقة | فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل |
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير البعث يوم القيامة. ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ ومن الأجداث متعلقان بينسلون وإلى ربهم متعلقان بينسلون أيضا وجملة ينسلون خبرهم. (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) قالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه ونا مضاف إليه ويجوز أن يكون منادى مضافا من النداء المجازي أي يا ويل احضر فهذا أوانك، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة بعثنا خبر ومن مرقدنا متعلقان ببعثنا ويجوز في المرقد أن يكون مصدرا ميميا أي من رقادنا ويجوز أن يكون اسم مكان
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره الصيحة وإلا أداة حصر وصيحة خبر كانت والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ وجميع خبر ولدينا ظرف متعلق بمحضرون ومحضرون خبر ثان أو صفة لجميع. (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بتظلم ولا نافية وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق ولا تجزون عطف على لا تظلم على طريق الالتفات وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم.
البلاغة:
في قوله: «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» استعارة تصريحية أصلية فقد استعار الرقاد للموت والجامع بينهما عدم ظهور الفعل لأن كلّا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل والمراد الفعل الاختياري المعتد به فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل وإنما قلنا انها
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٦١]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
اللغة:
(شُغُلٍ) : بسكون الغين وضمها وقد قرىء بهما معا وفي القاموس: «الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ وجمعه أشغال وشغول وشغله كمنعه شغلا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة واشتغل به وشغل كعني ويقال منه ما أشغله وهو شاذ لأنه لا يتعجب من المجهول» وأنكر شارح القاموس أشغل وقال:
لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة.
(فاكِهُونَ) : ناعمون أو متلذذون في النعمة من الفكاهة بالضم وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه:
الفكاهة بالضم: المزاح والفكاهة بالفتح مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه
(الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وقيل الفرش الكائن في الحجلة بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء وقيل مع كسرها والمراد بها نحو قبة تغلق على السرير وتزين به العروس.
(يَدَّعُونَ) مضارع ادعى بوزن افتعل من دعا يدعو وقد اشرب معنى التمني، قال أبو عبيدة: «العرب تقول: ادع علي ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعي أن يتمنى» وقال الزجاج: «هو من الدعاء أي ما يدعونه يأتيهم، وقيل افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه» وقال الزمخشري: «يدعون يفتعلون من الدعاء أي يدعون به لأنفسهم كقولك اشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
أرسلته فأتاه رزقه... فاشتوى ليلة ريح واجتمل»
الإعراب:
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال أهل الجنة إغاظة للكفار وتقريعا لهم وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وفي شغل خبر إن الثاني وفاكهون خبرها الأول ويجوز العكس، ويجوز أن يتعلق في شغل بفاكهون أو في محل نصب على الحال، وسيأتي معنى الشغل والفكاهة في باب البلاغة. (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) هم مبتدأ وأزواجهم عطف على هم وفي ظلال خبر أي لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية وعلى الأرائك متعلقان بمتكئون ومتكئون خبر ثان لهم، ويجوز أن يتعلق قوله في ظلال بمحذوف حال. (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال وفاكهة مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة السابقة ويجوز في ما أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية وجملة يدعون لا محل لها أو صفة.
الثالث أنه صفة لما وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفا وتنكيرا، الرابع أنه خبر ابتداء مضمر أي هو سلام. الخامس أنه مبتدأ خبره الناصب لقولا أي سلام يقال لهم قولا وقيل تقديره سلام عليكم. السادس أنه مبتدأ وخبره من رب» وقولا مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقال الزمخشري «والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه» وجعله السيوطي الجلال منصوبا بنزع الخافض وقال آخرون هو مصدر منصوب بفعل محذوف وهو مع عامله صفة لسلام أي يقول لهم وجملة سلام قولا من رب رحيم في محل نصب معموله لقول محذوف ومن رب صفة لقولا ورحيم صفة لرب.
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وهذه الجملة معمولة لقول محذوف أيضا أي ويقول لهم الله. وامتازوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل أي وانفردوا عن المؤمنين، واليوم ظرف متعلق بامتازوا وأيها منادى نكرة مقصودة محذوف منه حرف النداء والهاء للتنبيه والمجرمون بدل. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) جملة منتظمة في سلك المقول لهم جارية مجرى التقريع والتوبيخ والتبكيت والإلزام.
(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أن مفسرة لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والشيطان مفعول به ويجوز أن تكون أن مصدرية فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان. وان واسمها ولكم متعلقان بعدو أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفه له وتقدمت وعدو خبر إن ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها. (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عطف على أن لا تعبدوا واعبدوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة والجملة تعليلية للأمر وسيأتي سر تقديم النهي على الأمر في باب البلاغة.
البلاغة:
في هذه الآيات ضروب من أفانين البلاغة نشير إليها فيما يلي:
١- تنوين شغل وفيه تنويه بأن ما هم فيه من شغل أعلى من أن ترقى إليه رتبة البيان أو يستطيع وضعه اللسان كما أن في إبهامه إيجازا انطوى تحته مالا يعد ويحصى من ضروب الملاذ التي يستمتعون بها في الجنان، وأن ما عداها يعتبر كلا شيء كما أن فيه تصويرا لما أعده الله لعباده المتقين من ضروب المتعة وأفانين اللذة من افتضاض أبكار، وسماع أوتار، وتزاور في العشايا والأسحار، وقد أكده بأنهم فاكهون ناعمون لا يشغل بالهم ما يشغل بال أهل الدنيا من تصاريف
٢- تنوين صراط وفيه تفخيم كما تقدم وإيجاز يشير إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن إذ لا صراط أقوم منه ومن نماذج هذا التنوين في الشعر قول كثير عزة:
لئن كان يهدي برد أنيابها العلا | لأفقر مني انني لفقير |
دعوت إلهي دعوة ما جهلتها | وربي بما تخفي الصدور بصير |
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت | فهل يأتيني بالطلاق بشير |
٣- تقديم النهي على الأمر في قوله «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم» وذلك لأن حق التخلية التقديم على التحلية كما هو مقرر في علم التوحيد وليتصل به قوله «هذا صراط مستقيم».
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)
(جِبِلًّا) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء، وجبلا بكسر الجيم وسكون الباء وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق أو طائفة منه أقلها عشرة آلاف والكثير لا يتناهى.
(اصْلَوْهَا) : ذوقوا حرّها.
(مَكانَتِهِمْ) : المكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام والمعنى لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون على مبارحته.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنكم جار ومجرور متعلقان بأضل وجبلا مفعول به وكثيرا صفة والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها وجملة تعقلون خبرها. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) كلام مستأنف مسوق لمجابهتهم بالمصير الهائل الذي يصيرون اليه بعد أن بلغ الغاية في توبيخهم وتقريعهم. واسم الاشارة مبتدأ وجهنم خبره والتي صفة وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وجملة توعدون خبرها.
(وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وتكلمنا أيديهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيأتي سر تكليم الأيدي، وتشهد أرجلهم عطف على تكلمنا أيديهم وبما متعلقان بتكلمنا وما مصدرية أو موصولة وكانوا كان واسمها وجملة يكسبون خبرها.
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي لو نشاء طمسها واللام واقعة في جواب لو وجملة طمسنا لا محل لها وعلى أعينهم متعلقان بطمسنا والطمس شق العين حتى تعود ممسوحة وفي المصباح «طمست الشيء طمسا من باب ضرب محوته».
(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة واستبقوا فعل وفاعل والجملة عطف على لطمسنا والصراط قال الزمخشري: «لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل، والأصل فاستبقوا الى الصراط أو يضمن معنى ابتدروا أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه أو ينتصب على الظرف، والمعنى أنه لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه الى مساكنهم والى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرا كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره أو لو شاء
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) عطف على ما ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول نشاء محذوف أيضا أي لو نشاء مسخهم واللام واقعة في جواب لو وجملة مسخناهم لا محل لها وعلى مكانتهم حال أي لمسخناهم على حالتهم فهم ممسوخون في محالهم وفي منازلهم، فما الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومضيا مفعول به ولا يرجعون عطف أيضا أي فما يبرحون مكاناتهم ولا يستطيعون الفرار منها بإقبال ولا بإدبار.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٦]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢)
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
(نُعَمِّرْهُ) : نطيل أجله، وعمره الله بالتشديد أبقاه وقد تقدم ذكر هذه المادة بتفصيل واف.
(نُنَكِّسْهُ) نقلبه أي فنجعله على عكس ما خلقناه فيتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي. وفي القاموس وغيره «نكسه تنكيسا بالتشديد بمعنى نكسه ونكسه ينكسه من باب نصر نكسا قلبه على رأسه وجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره» وفي المصباح:
«نكسته نكسا من باب قتل قلبته ومنه قيل ولد منكوس إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مقلوب مخالف للعادة، ونكس المريض نكسا بالبناء للمجهول عاوده المرض كأنه قلب الى المرض» وقد جمع بعضهم معاني هذه المادة فقال:
قلب على رأس فهذا نكس | والرجل الفسل الضعيف نكس |
رجوع داء بعد برء نكس | والناكس المرخي لرأس فادر |
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده | ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع |
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة | أبا جابر واستنكحوا أم جابر |
واستنكح النوم الذين تخافهم | ورمى الكرى بوّابهم فتجدّلا |
وأعط ما أعطيته طيبا | لا خير في المنكود والناكد |
وأنكرتني وما كان الذي نكرت | من الحوادث إلا الشيب والصلعا |
ونكص على عقبيه معروف ويقال: فلان حظه ناقص، وجده ناكص.
ونكف منه بكسر الكاف واستنكف: امتنع وانقبض أنفا وحمية.
ونكل عن اليمين وعن العدو نكولا ونكلته عن كذا فطمته ونكلت به بالتشديد أصبته بنازلة أو جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله والقعاب النكال. ونكهته تشممت ريح فيه ونكه الشارب في وجهه ولا يخفى ما يحدثه من أثر وقد يأتي بمعنى الطيب يقال هو طيب النكهة وقد
وله لحية تيس... وله منقار نسر
وله نكهة ليث... خالطت نكهة صقر
ونكيت في العدو نكاية إذا أكثرت الجراح، تقول: فلان قليل النكاية طويل الشكاية، قال:
قليل النكاية أعداءه... يراعي الفرار يراخي الأجل
الإعراب:
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لاستعراض حال الإنسان كيف يستحيل إلى ضعف بعد قوة وإلى نقص بعد تمام. ومن اسم شرط جازم ونعمره فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وننكسه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الخلق متعلقان بننكسه أو بمحذوف حال والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية ويعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعله. (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) كلام مستأنف مسوق للرد على من زعموا أن القرآن شعر. وما نافية وعلمناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والشعر مفعول به ثان وما عطف وينبغي فعل مضارع معطوف على علمناه وله متعلقان بينبغي وسيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري وقد تقدم أن في هذا التركيب وجهين صحيحين أو لهما أن أصل التركيب وألم يروا ولكن لما كان الاستفهام له الصدارة قدمت الهمزة على الواو، والوجه الثاني أن يكون الكلام على حاله والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وقد جرينا على هذا الوجه في أكثر ما قدمناه والتقدير ألم يتفكروا ولم يروا وقد أعدناه هنا لطول العهد به. ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية علمية وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة خلقنا خبرها وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا أي لأجلهم وانتفاعهم ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته وأيدينا فاعل وأنعاما مفعول خلقنا والفاء عاطفة وهم مبتدأ ولها متعلقان بمالكون ومالكون خبر هم وهي كالابل والبقر والغنم والخيل والحمير.
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) وذللناها فعل ماض وفاعل ومفعول ولهم متعلقان بذللناها والفاء للتفريع ومنها خبر مقدم
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) لا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل، أسند ضمير العقلاء إلى آلهتهم تنزيلا لها منزلة العقلاء ونصرهم مفعول به والواو للحال وهم مبتدأ ولهم حال من جند لأنه كان في الأصل صفة له وقدمت عليه وجند خبرهم ومحضرون خبر ثان لهم أو نعت لجند.
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) الفاء الفصيحة أي ان علمت ما تقدم وأيقنت أنهم يعلّقون أطماعهم الفارغة على ما يستوجب الخسران ويستدعي تقويض الأحلام وتبديد الأوهام فلا يحزنك قولهم. ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وقولهم فاعل ثم علل النهي فقال: إنا بكسر الهمزة ولو فتحت لفسد المعنى، وان واسمها وجملة نعلم خبرها والفاعل مستتر تقديره نحن وما مفعول به وهي موصولة أو مصدرية وجملة
الفوائد:
حاول بعض المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، أن يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وان النبي ﷺ غير شاعر لقوله تعالى: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، ولكن الواقع أن الله تعالى لما بعث رسوله أميا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك حين استوت الفصاحة واشتهرت البلاغة آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازا للمتعاطين، وجعله منثورا ليكون أظهر برهانا لفضله على الشعر الذي يترتب على صاحبه أن يكون قادرا على ما يحبه من الكلام، وتحدي جميع الناس من شاعر وغيره بمثل مثله فأعجزهم ذلك، فمن هنا قال الله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبلكم الدليل، ويدحض أباطيلكم البرهان، والمعنى: ان القرآن ليس بشعر، وما هو من الشعر في شيء وأين هو عن الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلا منهم عن نظمه وأساليبه؟
فإذن لا مناسبة بينه وبين الشعر، قال الزمخشري: «فإن قلت فقوله:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
هل أنت إلّا إصبع دميت | وفي سبيل الله ما لقيت |
قلت: وقد تقدم في موضع آخر بحث مستفيض عن الشعر فجدد به عهدا.
بين كسر همزة إن وفتحها:
وقال الزمخشري في صدد قوله تعالى: «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون» :«فإن قلت: فما تقول فيمن يقول:
إن قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح انتقضت صلاته وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى كفر؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن وفي الشعر وفي كل كلام وقياس مطّرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الحمد والنعمة لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل. والثاني أن يكون بدلا من قولهم كأنه قيل فلا
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
(خَصِيمٌ) : مخاصم مجادل والخصومة الجدل قال في القاموس:
«خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه وهو شاذ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره وأما المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلا ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كراضيته فرضوته أرضوه وخاوفني فخفته أخوفه وليس في كل شيء يقال نازعته لأنهم استغنوا عنه بغلبته واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم والجمع خصوم وقد يكون للاثنين والجمع والمؤنث، والخصيم المخاصم والجمع خصماء وخصمان ورجل خصم كفرح مجادل والجمع خصمون ومن قرأ «وهم يخصمون» أراد يختصمون فقلب التاء صادا فأدغم ونقل حركته إلى الخاء ومنهم من لا ينقل ويكسر الخاء لاجتماع الساكنين وأبو عمرو يختلس حركة الخاء اختلاسا وأما الجمع بين الساكنين فلحن، والخصم بالضم الجانب والزاوية والناحية وطرف الزاوية الذي بحيال العزلاء في مؤخرها والجمع أخصام وخصوم واخصام العين ما ضمت عليه الأشفار» وإنما نقلنا لك هذه المادة بطولها لفائدتها ولنبين لك مدى الوهم الذي وقع فيه صاحب المنجد فقد خلط فيها خلطا عجيبا وجعل الأخصام جمعا للخصم والخصيم وهو كما رأيت وهم من أوهام هذا الكتاب العجيب!! (رَمِيمٌ) : بالية وفي المختار «رم بالفتح يرم بالكسر إذا بلي وبابه ضرب» فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام أن فعيلا
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لتقبيح إنكارهم البعث وقد سما الزمخشري في تقرير هذا المعنى كما سيأتي في باب الفوائد. والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي، والواو عاطفة وقد تقدم القول فيها مسهبا ولم حرف نفي وقلب وجزم وير فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والإنسان فاعل وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي ير لأن الرؤية هنا علمية وأن واسمها وجملة خلقناه خبرها وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن نطفة جار ومجرور متعلقان بخلقناه والفاء حرف عطف وإذا فجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة وجملة إذا هو خصيم مبين عطف على جملة لم ير الإنسان داخلة معها في حيز الإنكار والتعجب. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الواو عاطفة وضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولنا متعلقان بضرب ومثلا مفعول به ونسي عطف على ضرب وخلقه مفعول به والعطف داخل في حيز التعجب والإنكار أو الواو للحال بتقدير قد أي وقد نسي خلقه.
(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يحيي العظام خبر والواو حالية وهي مبتدأ ورميم خبر والجملة في موضع نصب على الحال. (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) جملة يحييها مقول القول وهو فعل مضارع ومفعول
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض بقادر، وليس فعل ماض ناقص والذي اسمها وجملة خلق السموات والأرض صلة والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعلى حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادر وفاعل مستتر تقديره هو ومثلهم مفعول به.
(بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) حرف جواب لإثبات النفي والواو عاطفة على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو قادر على ذلك وهو الخلاق، وهو مبتدأ والخلاق خبر والعليم خبر ثان. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وأمره مبتدأ وإذا ظرف مستقبل وجملة أراد مضاف إليها الظرف وشيئا مفعول به وأن وما في حيزها خبر أمره وله متعلقان بيقول وجملة كن مقول القول وكن فعل
(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وبيده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وإليه الواو عاطفة وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
البلاغة:
حسن البيان:
في قوله: «وضرب لنا مثلا ونسي خلقه» الآيات. حسن البيان، وحقيقته إخراج المعنى في أحسن الصور الموضحة له وإيصاله إلى فهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، وقد تأتي العبارة عنه من طريق الإيجاز وقد تأتي من طريق الإطناب بحسب ما تقتضيه الحال، وقد أتى بيان الكتاب العزيز في هذه الآية من الطريقين فكانت جامعة مانعة في الاحتجاج القاطع للخصم، وقد أتى منفصلا عما قبله لأنه سبحانه ذكر المثل وليس في الكلام كله لا قبله ولا بعده ما خرج مخرج المثل ولا ما يصح أن يكون مثلا وهو أن أمية بن خلف أتى رسول الله ﷺ بعظم نخر في يده وقال يا محمد أنت تزعم ربك يحيي هذا بعد أن صار إلى هذه الحال فنزلت، وفي رواية أنه العاصي بن وائل وقيل هو أبي بن خلف الجمحي.
وروي أن جماعة من قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك فقال لهم أبي ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزّى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ! قال ﷺ نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.
سورة يس
سورةُ (يس) من السُّوَر المكِّية، جاءت بمقصدٍ عظيم؛ وهو إثباتُ صحَّة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَمِنَ اْلْمُرْسَلِينَ} [يس: 3]، وكذا إثباتُ صحة ما جاء به من عندِ الله عزَّ وجلَّ؛ فهو خلاصةُ الرُّسل والرسالات وخاتَمُهم، كما جاءت السورةُ - على غِرار السُّوَر المكية - بإثباتِ وَحْدانية الله عزَّ وجلَّ، وإثباتِ البعث والجزاء، وتقسيمِ الناس إلى: أبرارٍ أتقياء، ومجرِمين أشقياء، وقد جاء في فضلِ سورة (يس) أحاديثُ كثيرة لم يثبُتْ منها شيء، إلا حديث: «مَن قرَأَ {يسٓ} في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، غُفِرَ له» أخرجه ابن حبان (٢٥٧٤).
ترتيبها المصحفي
36نوعها
مكيةألفاظها
731ترتيب نزولها
41العد المدني الأول
82العد المدني الأخير
82العد البصري
82العد الكوفي
83العد الشامي
82* قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْۚ} [يس: 12]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانت الأنصارُ بعيدةً مَنازِلُهم مِن المسجدِ، فأرادوا أن يَقترِبوا؛ فنزَلتْ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْۚ} [يس: 12]، قال: فثبَتُوا». أخرجه ابن ماجه (٦٤٤).
* قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ اْلْإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَٰهُ مِن نُّطْفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلْقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحْيِ اْلْعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا اْلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٧٩ اْلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ اْلشَّجَرِ اْلْأَخْضَرِ نَارٗا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ٨٠ أَوَلَيْسَ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ اْلْخَلَّٰقُ اْلْعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبْحَٰنَ اْلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٖ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 77-83]:
عن سعيدِ بن جُبَيرٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «إنَّ العاصَ بنَ وائلٍ أخَذَ عَظْمًا مِن البَطْحاءِ، فَفَتَّهُ بيدِه، ثم قال لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُحيِي اللهُ هذا بعدما أرَمَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَعم، يُمِيتُك اللهُ، ثم يُحيِيك، ثم يُدخِلُك جهنَّمَ»»، قال: «ونزَلتِ الآياتُ مِن آخرِ (يس)». "الصحيح المسند من أسباب النزول" (1 /174).
* سورةُ (يس):
سُمِّيت سورة (يس) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ، ولم يثبُتْ لها اسمٌ آخر.
* جاء في فضلِ سورة (يس) أحاديثُ كثيرة لم يثبُتْ منها شيء، إلا ما ورد مِن أنَّ مَن قرأها في ليلةٍ مبتغيًا وجهَ الله غُفِر له:
عن جُندُبِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن قرَأَ {يسٓ} في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، غُفِرَ له». أخرجه ابن حبان (٢٥٧٤).
1. القَسَمُ بالقرآن الكريم، وحالُ النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه (١-١٢).
2. قصة أصحاب القَرْية (١٣-١٩).
3. الرَّجل المؤمن يدعو قومه لاتباع المرسلين (٢٠-٣٢).
4. بعض آيات من قدرة الله (٣٣-٤٤).
5. إعراض الكفار عن الحق (٤٥-٤٧).
6. إنكار المشركين البعثَ والساعة (٤٨-٥٤).
7. جزاء (٥٥-٦٨).
8. الأبرار المتقون (٥٥-٥٨).
9. المجرمون الأشقياء (٥٩-٦٨).
10. إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، ووَحْدانيته (٦٩-٧٦).
11. إقامة الدليل على البعث والنشور (٧٧-٨٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /299).
مقصدُ سورةِ (يس) هو إثباتُ صحة رسالةِ النبي صلى الله عليه وسلم، والأمرُ بتصديقِ النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، الذي هو خالصةُ المرسَلين وخاتمُهم، وجلُّ فائدةِ هذه الرسالة إثباتُ الوَحْدانية لله، والإنذارُ بيوم القيامة، وإصلاحُ القلب الذي به صلاحُ الدنيا والدِّين.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /390).