تفسير سورة سورة القصص من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
ﮝ
ﰀ
سورة القصص
مكية إلا قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ.. الآية «١». وهى ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها:
قوله: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ «٢»، مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فإنه عين القرآن المتلو. وقيل: وجه المناسبة:
قوله: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ «٣»، مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فإن تنزيل الكتاب من أعظم الآيات. وافتتح بالرموز التي يستعملها بينه وبين حبيبه، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٣]
يقول الحق جلّ جلاله: طسم، إما مختصرة من أسماء الله تعالى، أقسم على حقّية كتابه، وما يتلى فيه، كأنها مختصرة من طهارته- أي: تنزيهه- وسيادته، ومجده، أو: من أسماء رسوله- وهو الأظهر- أي: أيها الطاهر السيد المجيد تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، إما من بان، أو: أبان، أي: بيِّن خيره وبركتُه، أو: مُبين للحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي: بعض خبرهما العجيب. قال القشيري: كرَّر الحقُّ قصةَ موسى تعجيباً بشأنه، وتعظيماً لأمره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم أفاد زوائد من الذكر في كل موضعٍ يُكرره. هـ.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووعد جميل له ولأمته. وقوله: بِالْحَقِّ: حال من فاعل نَتْلُوا، أو: من مفعوله، أو: صفة لمصدر محذوف، أي:
ملتبسين، أو: ملتبساً بالحق، أو: تلاوة ملتبسة بالحق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنه يُؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم، فهو متعلق بنتلوا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً، ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
مكية إلا قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ.. الآية «١». وهى ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها:
قوله: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ «٢»، مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فإنه عين القرآن المتلو. وقيل: وجه المناسبة:
قوله: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ «٣»، مع قوله: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فإن تنزيل الكتاب من أعظم الآيات. وافتتح بالرموز التي يستعملها بينه وبين حبيبه، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣)يقول الحق جلّ جلاله: طسم، إما مختصرة من أسماء الله تعالى، أقسم على حقّية كتابه، وما يتلى فيه، كأنها مختصرة من طهارته- أي: تنزيهه- وسيادته، ومجده، أو: من أسماء رسوله- وهو الأظهر- أي: أيها الطاهر السيد المجيد تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، إما من بان، أو: أبان، أي: بيِّن خيره وبركتُه، أو: مُبين للحلال والحرام، والوعد والوعيد، والإخلاص والتوحيد، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي: بعض خبرهما العجيب. قال القشيري: كرَّر الحقُّ قصةَ موسى تعجيباً بشأنه، وتعظيماً لأمره، ثم زيادة في البيان لبلاغة القرآن، ثم أفاد زوائد من الذكر في كل موضعٍ يُكرره. هـ.
هذا مع الإشارة إلى نصر المستضعفين، والامتنان عليهم بالظفر والتمكين، ففيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووعد جميل له ولأمته. وقوله: بِالْحَقِّ: حال من فاعل نَتْلُوا، أو: من مفعوله، أو: صفة لمصدر محذوف، أي:
ملتبسين، أو: ملتبساً بالحق، أو: تلاوة ملتبسة بالحق. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنه يُؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم، فهو متعلق بنتلوا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقديم هذه الرموز، قبل سرد القصص، إشارة إلى أنه لا ينتفع بها كل الانتفاع حتى يتطهر سره، وَيُلْقِيَ سَمْعَهُ، وهو شهيد، فحينئذٍ يكون طاهراً سيداً مجيداً، ينتفع بكل شيء، ويزيد إلى الله بكل شيء. ولذلك خص تلاوة قصص موسى بأهل الإيمان الحقيقي لأنهم هم أهل الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
(١) الآية ٨ ونزلت بالجحفة بين مكة والمدينة. انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٤٠٢- ٤٠٣).
(٢) الآية ٩٢ من سورة النمل.
(٣) من الآية الأخيرة من سورة النمل.
(٢) الآية ٩٢ من سورة النمل.
(٣) من الآية الأخيرة من سورة النمل.
ثم شرع في بيان شأنهما، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤ الى ٦]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وهو استئناف بياني، وكأن قائلاً قال: وكيف كان نبأهما؟ فقال: إنه علا في الأرض، أي: تجبّر وطغى في أرض مصر، وجاوز الحد في الظلم والعدوان. أو: علا عن عبادة ربه، وافتخر بنفسه، ونسي العبودية. وفي التعبير بالأرض تبكيت عليه، أي: علا في محل التذلل والانخفاض، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، كلُّ قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد. وقيل: مَلَكَ القبط واستعبد بني إسرائيل. أو: فرقاً مختلفة، يُكرم طائفة ويهين أخرى، فأكرم القبط، وأهان بني إسرائيل. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل، وهو يُرشد إلى كون المراد بقوله: وَجَعَلَ أَهْلَها لا يُخَصُّ ببني إسرائيل. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ الذكور، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: البنات، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهناً قال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وفيه دليل على حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل إذ لا ينفع حذرٌ من قدر، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة:
يَسْتَضْعِفُ: حال من الضمير في جَعَلَ، أو صفة لشِيع، أو استئناف. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، أي: الراسخين في الإفساد، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء- عليهم السلام.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي: نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على: إِنَّ فِرْعَوْنَ، أو: حال من يَسْتَضْعِفُ، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نُريد أن نمنّ عليهم، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة، فَجُعِلَتْ كالمقارنة لاستضعافهم، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي:
قادة يُقتدى بهم في الخير، أو: دعاة إلى الخير، أو: ولاةً وملوكاً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي: يرثون فرعون وقومه، مُلكهم وكل ما كان لهم.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام، يتصرفون فيها كيف شاءوا، وتكون تحت مُلكهم وسلطانهم. وأصل التمكن: أن يجعل له مكاناً يقعد عليه، ثم استعير للتسليط والتصرف في الأمر. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤ الى ٦]
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وهو استئناف بياني، وكأن قائلاً قال: وكيف كان نبأهما؟ فقال: إنه علا في الأرض، أي: تجبّر وطغى في أرض مصر، وجاوز الحد في الظلم والعدوان. أو: علا عن عبادة ربه، وافتخر بنفسه، ونسي العبودية. وفي التعبير بالأرض تبكيت عليه، أي: علا في محل التذلل والانخفاض، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي: فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير، كلُّ قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد. وقيل: مَلَكَ القبط واستعبد بني إسرائيل. أو: فرقاً مختلفة، يُكرم طائفة ويهين أخرى، فأكرم القبط، وأهان بني إسرائيل. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل، وهو يُرشد إلى كون المراد بقوله: وَجَعَلَ أَهْلَها لا يُخَصُّ ببني إسرائيل. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ الذكور، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: البنات، يتركهم لخدمته.
وسبب ذبحه للأبناء أن كاهناً قال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يده، وفيه دليل على حمق فرعون، فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل إذ لا ينفع حذرٌ من قدر، وإن كذب فلا معنى للقتل. وجملة:
يَسْتَضْعِفُ: حال من الضمير في جَعَلَ، أو صفة لشِيع، أو استئناف. إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، أي: الراسخين في الإفساد، ولذلك اجترأ على تلك العزيمة العظيمة، من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء- عليهم السلام.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي: نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بالقتل والتسخير. وهذه الجملة معطوفة على: إِنَّ فِرْعَوْنَ، أو: حال من يَسْتَضْعِفُ، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نُريد أن نمنّ عليهم، وإرادة الله تعالى كائنة لا محالة، فَجُعِلَتْ كالمقارنة لاستضعافهم، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي:
قادة يُقتدى بهم في الخير، أو: دعاة إلى الخير، أو: ولاةً وملوكاً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ أي: يرثون فرعون وقومه، مُلكهم وكل ما كان لهم.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر والشام، يتصرفون فيها كيف شاءوا، وتكون تحت مُلكهم وسلطانهم. وأصل التمكن: أن يجعل له مكاناً يقعد عليه، ثم استعير للتسليط والتصرف في الأمر. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ
من بني إسرائيل، ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر: التوقي من الضرر. ومن قرأ (يري) بالياء «١»، ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.
الإشارة: العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان مَن تواضع رَفَعَهُ الله، ومَن تَكَبَّر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، وبقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزُّوا، وحكمت عليهم بالفقْدِ حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أول نشأة موسى عليه السلام وما جرى فى تربيته، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى بالإلهام، أو بالرؤيا، أو بإخبار ملك كما كان لمريم، وليس هذا وحي رسالة، فلا يلزم أن تكون رسولاً، واسمها: يوحانة، وقيل: يوخابذ بنت يَصهرُ بن لاوي بن يعقوب. وقيل: يارخا. ذكره في الإتقان. وقلنا: أَنْ أَرْضِعِيهِ «أن» : مفسرة، أي: أرضعيه، أو: مصدرية، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. البحر، وهو نيل مصر، وَلا تَخافِي عليه من الغرق والضياع، وَلا تَحْزَنِي لفراقه، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ بوجه لطيف لتُربيه، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفي هذه الآية: أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف: غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن: غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضي، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. رُوي أنه ذبح، في طلب موسى، تسعون ألف وليدٍ. ورُوي أنها حين ضربها الطلق- وكانت بعض القوابل من الموكلات بحَبَالى بني إسرائيل مَصافية لها، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيّه، ودخل حُبُه قلبها، فقالت: ما جئتُ إلا لأقتل ولدك وأُخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة، جاءت عيون فرعون
من بني إسرائيل، ما كانُوا يَحْذَرُونَ يخافون من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم. والحذر: التوقي من الضرر. ومن قرأ (يري) بالياء «١»، ففرعون وما بعده فاعل. وبالله التوفيق.
الإشارة: العلو في الأرض يُورث الذل والهوان. والتواضع والاستضعاف يورث العز والسلطان، والعيش في العافية والأمان مَن تواضع رَفَعَهُ الله، ومَن تَكَبَّر قصمه الله. وهذه عادة الله في خلقه، بقدر ما يَذِلُّ في جانب الله يعزه الله، وبقدر ما يفتقر يغنيه الله، وبقدر ما يفقد يجد الله. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزُّوا، وحكمت عليهم بالفقْدِ حتى وجدوا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أول نشأة موسى عليه السلام وما جرى فى تربيته، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧ الى ٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى بالإلهام، أو بالرؤيا، أو بإخبار ملك كما كان لمريم، وليس هذا وحي رسالة، فلا يلزم أن تكون رسولاً، واسمها: يوحانة، وقيل: يوخابذ بنت يَصهرُ بن لاوي بن يعقوب. وقيل: يارخا. ذكره في الإتقان. وقلنا: أَنْ أَرْضِعِيهِ «أن» : مفسرة، أي: أرضعيه، أو: مصدرية، بأن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. البحر، وهو نيل مصر، وَلا تَخافِي عليه من الغرق والضياع، وَلا تَحْزَنِي لفراقه، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ بوجه لطيف لتُربيه، وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفي هذه الآية: أمران، ونهيان، وخبران، وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف: غم يلحق الإنسان لِتَوَقُّعِ مكروه، والحزن: غم يلحق الإنسان لواقع أو ماضي، وهو الآن فراقه والإخطار به. فنُهيت عنهما، وبُشرت برده وجعله من المرسلين. رُوي أنه ذبح، في طلب موسى، تسعون ألف وليدٍ. ورُوي أنها حين ضربها الطلق- وكانت بعض القوابل من الموكلات بحَبَالى بني إسرائيل مَصافية لها، فعالجتها، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيّه، ودخل حُبُه قلبها، فقالت: ما جئتُ إلا لأقتل ولدك وأُخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة، جاءت عيون فرعون
(١) قرأ حمزة والكسائي (يرى) بياء مفتوحة، و «فرعون» بالرفع فاعله، و «هامان وجنودهما» بالرفع عطفا عليه، وقرأ الباقون «نرى» بالنون مضمومة، و «فرعون» بالنصب مفعوله. انظر الإتحاف (٢/ ٣٤٠).
231
فلفَّتْه في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع لِما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، فخرجوا، وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان، أوحى الله إليها بإلقائه في اليمِّ، فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
رُوي أنها لفته في ثيابه، وجعلت له تابوتاً من خشب، وقيل: من بردى، وسدت عليه بقفل، وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص: ألقته في البحر بالغداة، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء، أعيت الأطباء، فقال الأطباء والسحرة: لا تبرأ إلا من قِبل البحر، يؤخذ منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها، فتبرأ، فقعد فرعون على شفير النيل، ومعه آسية امرأته، فإذا بالتابوت يلعب به الموج، فأخِذ له، ففتحوه، فلم يطيقوا، فدنت آسية، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها، لِلذي أراد الله أن يكرمها، ففتحه، فإذا الصبي بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمصه لبناً، فأحبته آسية وفرعون، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون: نظن هذا المولود الذي نحذر منه، فهمّ فرعون بقتله- والله غالب على أمره- فقالت: آسية: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. الآية «١».
وهذا معنى قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أخذه. قال الزجّاج: وكان فرعون من أهل فارس، من إصْطَخْر.
والالتقاط: وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة، ومنه: اللُّقَطَةُ، لما وُجد ضالاً. وقوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، فاللام للصيرورة كقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وقال صاحب الكشاف: هي لام «كي» التي معناها التعليل، كقولك: جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. هـ. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي «الحَزَن» لغتان الفتح والضم، كالعدم والعدم.
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ، أي: مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو: كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ، لمّا هم فرعون بقتله- لقول القواد: هو الذي نحذر: هو قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فقال فرعون: لكِ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم: «لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها» «٢»، وهذا على سبيل الفرض، أي: لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت: لا تَقْتُلُوهُ، خاطبته خطاب الملوك، أو خاطبت
رُوي أنها لفته في ثيابه، وجعلت له تابوتاً من خشب، وقيل: من بردى، وسدت عليه بقفل، وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص: ألقته في البحر بالغداة، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء، أعيت الأطباء، فقال الأطباء والسحرة: لا تبرأ إلا من قِبل البحر، يؤخذ منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها، فتبرأ، فقعد فرعون على شفير النيل، ومعه آسية امرأته، فإذا بالتابوت يلعب به الموج، فأخِذ له، ففتحوه، فلم يطيقوا، فدنت آسية، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها، لِلذي أراد الله أن يكرمها، ففتحه، فإذا الصبي بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمصه لبناً، فأحبته آسية وفرعون، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون: نظن هذا المولود الذي نحذر منه، فهمّ فرعون بقتله- والله غالب على أمره- فقالت: آسية: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. الآية «١».
وهذا معنى قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أخذه. قال الزجّاج: وكان فرعون من أهل فارس، من إصْطَخْر.
والالتقاط: وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة، ومنه: اللُّقَطَةُ، لما وُجد ضالاً. وقوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، فاللام للصيرورة كقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وقال صاحب الكشاف: هي لام «كي» التي معناها التعليل، كقولك: جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. هـ. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي «الحَزَن» لغتان الفتح والضم، كالعدم والعدم.
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ، أي: مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو: كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ، لمّا هم فرعون بقتله- لقول القواد: هو الذي نحذر: هو قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فقال فرعون: لكِ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم: «لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها» «٢»، وهذا على سبيل الفرض، أي: لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت: لا تَقْتُلُوهُ، خاطبته خطاب الملوك، أو خاطبت
(١) انظر تفسير الطبري (٢٠/ ٣٢) والبغوي (٦/ ١٩٢). [.....]
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٩٧) للنسائى- فى الكبرى فى التفسير- من حديث ابن عباس- رضى الله عنه.
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٩٧) للنسائى- فى الكبرى فى التفسير- من حديث ابن عباس- رضى الله عنه.
232
القُواد. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإن فيه مَخَايلَ اليُمنِ ودلائلَ النفع، وذلك لِمَا عَايَنَتْ من النور وبرْءِ البرصاء.
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو: نتبناه فإنه أهل لأَن يكون ولد الملوك. قال تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ما يكون من أمره وأمرهم، أو: لا يشعرون أن هلاكهم على يديه، أو: لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال لمن يعالج تربية مريد: أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع «١»، فألقه في اليمِّ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلى بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة، ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء فلا بد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع.
والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى شيء، ولا يعتمدون على شيء لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدَي سيده، ينظر ما يفعل به. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
ثم قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَصْبَحَ أي: صار فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من كل شيء إلا مِن ذكر موسى وهمه، أو: فارغاً: خالياً من العقل لِمَا دهمها من الجَزَع والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، ويؤيده قراءة ابن محيصن: «فزعاً» بالزاي بلا ألف، أو: فارغاً من الوحي الذي أوحي إليها أن تلقيه في اليم، ناسيا
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو: نتبناه فإنه أهل لأَن يكون ولد الملوك. قال تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ما يكون من أمره وأمرهم، أو: لا يشعرون أن هلاكهم على يديه، أو: لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقال لمن يعالج تربية مريد: أرضعه من لبن علم الغيوب، فإذا خفت عليه الوقوف مع الشرائع «١»، فألقه في اليمِّ في بحر الحقائق، ولا تخف ولا تحزن، إنا رادوه إلى بر الشرائع، ليكون من الكاملين، لأن من غرق في بحر الحقيقة، على يد شيخ كامل، لا بد أن يخرجه إلى بر الشريعة، ويسمى البقاء، وهو القيام برسم الشرائع، فالبقاء يطلب الفناء، فمن تحقق بمقام الفناء فلا بد أن يخرج إلى البقاء، كما يخرج من فصل الشتاء إلى الربيع.
والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، ما كان التقاط فرعون لموسى إلا للمحبة والفرح، فخرج له عكسه. ومن هذا كان العارفون لا يسكنون إلى شيء، ولا يعتمدون على شيء لأن العبد قد يخرج له الضرر من حيث النفع، وقد يخرج له النفع من حيث يعتقد الضرر، وقد ينتفع على أيدي الأعداء، وَيُضَرُّ على أيدي الأَحِبَّاءِ، فليكن العبد سلْماً بين يدَي سيده، ينظر ما يفعل به. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
ثم قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَصْبَحَ أي: صار فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من كل شيء إلا مِن ذكر موسى وهمه، أو: فارغاً: خالياً من العقل لِمَا دهمها من الجَزَع والحيرة، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، ويؤيده قراءة ابن محيصن: «فزعاً» بالزاي بلا ألف، أو: فارغاً من الوحي الذي أوحي إليها أن تلقيه في اليم، ناسيا
(١) أي: الوقوف الظاهري، الشكلانى، دون تحقق القلب والنفس بحقائق الإيمان ولوازمه. فهذا هو الذي يخاف منه، مثل وقوف الخوارج، الذين وصفهم الرسول ﷺ بأن إيمانهم لا يجاوز حناجرهم، وأن قراءتهم لا تجاوز تراقيهم، وأن صلاتهم لا تجاوز تراقيهم، أي: أن تعبدهم وتدينهم هو تدين برّانى، شكلانى، لا ينبثق من الأعماق، من الكيان الجواني للإنسان.
233
للعهد أن يرده إليها، لما دَهَمَهما من الوجد، وقال لها الشيطان: يا أم موسى كرهتِ أن يقتل فرعون موسى وأغرقته أنتِ. وبلغها أنه وقع في يد فرعون، فعظم البلاء، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ: لتبوح به وتظهر شأنه وأنه وَلدها.
قيل: لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول: يا ابناه، وقيل: لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله، فكادت تقول: يا ابناه شفقة عليه. و «إن» مخففة، أي: إنها كادت لتظهره لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها. والربط: تقويته بإلهام الصبر والتثبيت، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: من المصدقين بوعدنا، وهو: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وجواب «لولا» : محذوف، أي: لأبْدته، أو: فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون تبناه، إن كادت لتُبدي بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً مما سمعت، لولا أنا ربطنا على قلبها وثبتناه لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن: أمرتُ أُم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبُشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل، حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم: قُصِّيهِ: اتبعي أثره لتعلمي خبره، فَبَصُرَتْ بِهِ أي: أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بُعدٍ. قال قتادة: جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته، وأنها تقصه.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، الطالب لمولاه، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب، ويُدخله مع الأحباب، فعلامة المحبة: جمع الهموم في هَم واحد، وهو حب الحبيب، ومشاهدة القريب المجيب، كما قال الشاعر:
فرّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار: جمع غَيْرٍ، وهو ما سوى الله، فإن تلاشى الغير عن عين العبد شاهد مولاه في غيب ملكوته، وأسرار جبروته، وفي ذلك يقول القائل:
قيل: لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول: يا ابناه، وقيل: لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله، فكادت تقول: يا ابناه شفقة عليه. و «إن» مخففة، أي: إنها كادت لتظهره لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها. والربط: تقويته بإلهام الصبر والتثبيت، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: من المصدقين بوعدنا، وهو: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وجواب «لولا» : محذوف، أي: لأبْدته، أو: فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون تبناه، إن كادت لتُبدي بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً مما سمعت، لولا أنا ربطنا على قلبها وثبتناه لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن: أمرتُ أُم موسى بشيئين، ونهيت عن شيئين، وبُشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل، حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم: قُصِّيهِ: اتبعي أثره لتعلمي خبره، فَبَصُرَتْ بِهِ أي: أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بُعدٍ. قال قتادة: جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته، وأنها تقصه.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، الطالب لمولاه، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب، ويُدخله مع الأحباب، فعلامة المحبة: جمع الهموم في هَم واحد، وهو حب الحبيب، ومشاهدة القريب المجيب، كما قال الشاعر:
كَانَت لَقلبِي أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ | فَاسْتَجْمَعَتْ، مُذَ رأتكَ العَينُ، أهوائِي |
فَصَارَ يَحسُدُنِي مَن كُنتُ أحسُدُهُ | وَصِرتُ مَولَى الوَرَى مُذ صِرت مَولائِي |
تَرَكتُ لِلنَّاسِ دنياهم ودِينَهُم | شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي ودُنْيائِي |
إِنْ تَلاشَى الكونُ عَنْ عَيْنِ قَلْبي | شاهَدَ السرُّ غَيْبَه في بيان |
فاطْرح الكونَ عن عِيانِكَ، وامْحُ | نقطةَ الغَيْنِ إنْ أَرَدْت تَرَانِي |
تذلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عزة | فكم عزة قد نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ |
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً، وَلَمْ تَكُنْ | ذَلِيلاً لَهُ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ |
أدَبُ الْعَبْدِ تَذَلُّلٌ | وَالْعَبْدُ لاَ يَدَعُ الأدَبْ |
فَإذَا تَكَامَلَ ذُلّهُ | نَالَ المودّة، واقترب. |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
يقول الحق جلّ جلاله: فَأَخَذْناهُ فأخذنا فرعون وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم فِي الْيَمِّ في بحر القلزم، كما بيَّناه غير مرة. وفي الكلام فخامة تدل على عظمة شأن الأخذ، شبههم استحقاراً لحالهم، واستقلالاً لعددهم، وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ بكفه، فطرحهن في البحر. فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وحذّر قومك أن يُصيبهم مثل ما أصابهم، فإنهم ظالمون، حيث كفروا وأشركوا، وتَحَقَّقُ أنك منصور عليهم، كما نُصِرَ موسى على فرعون.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قادة يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، أي: إلى عمل أهل النار من الكفر، والمعاصي، قال ابن عطاء: نزع عن أسرارهم التوفيق، وأنوار التحقيق، فهم في ظلمات أنفسهم، لا يدلون على سبيل الرشاد. وفيه دلالة على خلق أفعال العباد. هـ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم، كما يتناصرون اليوم، في دفع الظلم عنهم، وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة. وقيل: هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بَعْدَهُمْ. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المعذبين، أو المهلَكِين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون. ويَوْمَ: ظرف للمقبوحين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: عَاقِبَةُ منْ تكبر في دار العبودية: الذل والهوان، وعاقبة من تواضع، وذَل فيها: العز والأمان، وعاقبة من كان إماماً في المساوئ والعيوب: البُعد والحجاب، ومن كان إماماً في محاسن الخلال وكشف الغيوب:
العزُّ والاقتراب. قال القشيري على قوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً إلخ: كانوا في الدنيا مُبْعَدِين عن معرفته، وفي الآخرة مبعدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طَرْدٍ، ومن هجرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراق. هـ.
ولما أغرقَ أهل الظلم والعناد، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد، كما قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط- عليهم السلام-، حال كون الكتاب بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنواراً لقلوبهم، يتبصرون الحقائق، ويُميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة: عين القلب، الذي يبصر بها الحق، ويهتدى بها إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يُبصر بها الحسيات، أي: آتيناه التوراة، أنواراً للقلوب التي كانت عمياً لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل، وَهُدىً وإرشاداً إلى الشرائع لأنهم كانوا يخبطون في الضلال.
وَرَحْمَةً لمن اتبعها لأنهم، إذا عملوا بها، وصلوا إلى نيل الرحمة، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، أي: ليكونوا على حال يُرجَى منهم التذكر والاتعاظ. وبالله التوفيق.
الإشارة: إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب، فلما أهلك الله فرعونَ وجنوده، وأورث بني إسرائيل ديارهم، ومحى عن جميعها آثارهم، طاب عيشهم، وظهرت سعادتهم، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
ثم ذكر دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، بعد ذكر قصة موسى لاشتراكهما فى شدة المعالجة، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ المكان الْغَرْبِيِّ من الطور، وهو الذي كلم الله فيه موسى، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي: إذا استقبلت القبلة، وأنت بالشام، كان الجبل يميناً منك،
ولما أغرقَ أهل الظلم والعناد، أنزل الهداية على أهل العناية والوداد، كما قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط- عليهم السلام-، حال كون الكتاب بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنواراً لقلوبهم، يتبصرون الحقائق، ويُميزون بين الحق والباطل. فالبصيرة: عين القلب، الذي يبصر بها الحق، ويهتدى بها إلى الرشد والسعادة. كما أن البصر عين الرأس التي يُبصر بها الحسيات، أي: آتيناه التوراة، أنواراً للقلوب التي كانت عمياً لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل، وَهُدىً وإرشاداً إلى الشرائع لأنهم كانوا يخبطون في الضلال.
وَرَحْمَةً لمن اتبعها لأنهم، إذا عملوا بها، وصلوا إلى نيل الرحمة، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، أي: ليكونوا على حال يُرجَى منهم التذكر والاتعاظ. وبالله التوفيق.
الإشارة: إنما تطيب المنازل إذا خلت من الأجانب والأراذل. وأطيب عيش الأحباب إذا غابت عنهم الرقباء وأهل العتاب، فلما أهلك الله فرعونَ وجنوده، وأورث بني إسرائيل ديارهم، ومحى عن جميعها آثارهم، طاب عيشهم، وظهرت سعادتهم، وتمكنوا من إقامة الدين. وكذلك أهل التوجه إلى يوم الدين.
ثم ذكر دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، بعد ذكر قصة موسى لاشتراكهما فى شدة المعالجة، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ المكان الْغَرْبِيِّ من الطور، وهو الذي كلم الله فيه موسى، وهو الجانب الأيمن. قال السهيلي: إذا استقبلت القبلة، وأنت بالشام، كان الجبل يميناً منك،
255
غريبا، غير أنه قال في قصة موسى: جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ «١»، وصفه بالصفة المشتقة من اليُمن والبركة، لتكليمه إياه فيه، وحين نفى عن محمد ﷺ أن يكون بذلك الجانب، قال: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ، والغربي هو الأيمن. والعدول عنه، في حالة النفي للاحتراس من توهم نفى اليمن عنه صلى الله عليه وسلم، وكيف، وهو ﷺ لم يزل بصفة اليُمن وآدم بين الماء والطين! فحسنُ اللفظِ أصل في البلاغة، ومجانبة الاشتراك الموهم: من فصيحِ بديعِ الفصاحة. هـ.
أي: وما كنت حاضراً بذلك الموضع، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، أي: كلمناه، وقربناه نجياً، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من جملة الشاهدين فتخبر بذلك، ولكن أعلمناك من طريق الوحي، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور، والمراد: الدلالة على أن إخباره بذلك من قِبَلِ الإخبار بالمغيبات التي لا تُعرف إلا بالوحي، ولذلك استدرك عنه بقوله:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد موسى قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، أي: طالت أعمارهم، وفترت النبوة، وانقطعت الأخبار، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناك مُجَدِّداً لتلك الأخبار، مبيناً ما وقع فيها من التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها، فكأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فأخبرت به، بعد اندراسه.
وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، وهم شعيب والمؤمنون به، تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم، تعلماً منهم، أو: رسولاً إليهم تتلوها عليهم بوحينا، كما تلوتها على هؤلاء، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك، فأخبرناك بها، وعلَّمناك إياها، فأخبرت هؤلاء بها، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى، أن خذ الكتاب بقوة، أو ناجيناه في أيام الميقات، وَلكِنْ علمناك وأرسلناك رَحْمَةً أي: للرحمة مِنْ رَبِّكَ، لِتُنْذِرَ قَوْماً جاهلية ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ في زمان الفترة التي بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو: بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعل من أُرْسِلْتَ إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال، فينزعُ ويرجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: المراد من هذه الآيات: تحقيق نبوته ﷺ ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه ﷺ استمدت العلوم كلها علم
أي: وما كنت حاضراً بذلك الموضع، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، أي: كلمناه، وقربناه نجياً، وأوحينا إليه بالرسالة إلى فرعون، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من جملة الشاهدين فتخبر بذلك، ولكن أعلمناك من طريق الوحي، بعد أن لم يكن لك بذلك شعور، والمراد: الدلالة على أن إخباره بذلك من قِبَلِ الإخبار بالمغيبات التي لا تُعرف إلا بالوحي، ولذلك استدرك عنه بقوله:
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد موسى قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، أي: طالت أعمارهم، وفترت النبوة، وانقطعت الأخبار، واندرست العلوم، ووقع التحريف في كثير منها، فأرسلناك مُجَدِّداً لتلك الأخبار، مبيناً ما وقع فيها من التحريف، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء، وأوقفناك على قصة موسى بتمامها، فكأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فأخبرت به، بعد اندراسه.
وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيماً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، وهم شعيب والمؤمنون به، تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تقرؤها عليهم، تعلماً منهم، أو: رسولاً إليهم تتلوها عليهم بوحينا، كما تلوتها على هؤلاء، يريد: الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك، فأخبرناك بها، وعلَّمناك إياها، فأخبرت هؤلاء بها، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى، أن خذ الكتاب بقوة، أو ناجيناه في أيام الميقات، وَلكِنْ علمناك وأرسلناك رَحْمَةً أي: للرحمة مِنْ رَبِّكَ، لِتُنْذِرَ قَوْماً جاهلية ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ في زمان الفترة التي بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة، أو: بينك وبين إسماعيل، على أن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حواليهم، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعل من أُرْسِلْتَ إليه يتعظ ويتذكر ما هو فيه من الضلال، فينزعُ ويرجع. وبالله التوفيق.
الإشارة: المراد من هذه الآيات: تحقيق نبوته ﷺ ومعرفته الخاصة، وهي سُلَّم، ومعراج إلى معرفة الله تعالى لأنه الواسطة العظمى، فمهما عرفته المعرفة الخاصة عرفت الله تعالى، فمنه ﷺ استمدت العلوم كلها علم
(١) من الآية ٥٢ من سورة مريم، والآية ٨٠ من سورة طه.
256
الربوبية، من طريق البرهان، وعلمها من طريق العيان، وعلم المعاملة الموصلة إلى الرضا والرضوان، ومعرفة نبوته ﷺ ضرورية لا تحتاج إلى برهان، ويرحم الله القائل:
وقد تقدم في الأعراف «٢» التنويه به، وذكر شرفه، وشرف أمته، قبل ظهوره، وإليه الإشارة هنا بقوله:
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، أي: إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة أنه نُودي يومئذٍ من السماء: يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى- عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. هـ «٣».
وقال القشيري: أي: لم تكن حاضراً تتعلم ذلك مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
ويقال: إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم: خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا:
ويقال: لما خاطب موسى وكلمه، سأله موسى، إنه رأى في التوراة أمة صفتهم كذا وكذا، من هم؟ فقال: هم أمة محمد. وذكر لموسى أوصافاً كثيرة، فاشتاق إلى لقائهم، فقال له: ليس اليوم وقت حضورهم، فإن شئت أسمعناك كلامهم، فأراد ذلك، فنادى: يا أُمة محمد فأجاب الكل من أصلاب آبائهم، فسمع موسى كلامهم، ثم لم يتركهم كذلك، بل زادهم من الفضائل لأن الغني إذا دعا فقيراً فأجابه لم يرض أن يذكره من غير إحسانه. هـ.
وقال الطبري: معنى قوله: إِذْ نادَيْنا أي: بقوله:
ثم ذكر حكمة إرساله. فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
لَوْ لَمْ تَكُنْ فيه آيات مُبيِّنَة «١» | لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ. |
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، أي: إذ نادينا بأمرك، وأخبرنا بنبوتك، رُوي عن أبي هريرة أنه نُودي يومئذٍ من السماء: يَا أُمَةُ مُحَمّدٍ، استجبتُ لَكُم قَبْلَ أَنْ تَدْعُوني، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أنْ تَسألونِي، فحينئذٍ قال موسى- عليه السلام: اللهم اجعلني من أمة محمد. هـ «٣».
وقال القشيري: أي: لم تكن حاضراً تتعلم ذلك مشاهدةً، فليس إلا تعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
ويقال: إذ نادينا موسى، وخاطبناه، وكلمناه في بابك وباب أُمَّتِكَ، وما طلب موسى لأمته جعلناه لأمتك، فكوْني لكم: خيرٌ لكم من كونِكم لكم، فلم تقدح فيكم غَيْبَتَكُمْ في الحال، كما أنشدوا:
كُنْ لِي كَمَا كُنْتَ | لي في حين لمْ أَكُنِ. هـ. |
وقال الطبري: معنى قوله: إِذْ نادَيْنا أي: بقوله:
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ | الآية. هـ. والله تعالى أعلم. |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
(١) فى الأصول [لو لم تكن له آية مبينة].
(٢) عند تفسير الآيتين: ١٥٦- ١٥٧.
(٣) أخرجه ابن جرير فى التفسير (٢٠/ ٨١).
(٢) عند تفسير الآيتين: ١٥٦- ١٥٧.
(٣) أخرجه ابن جرير فى التفسير (٢٠/ ٨١).
257
قلت: (لولا) الأولى: امتناعية، وجوابها محذوف، اي: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك، محتجين علينا: (هلا أرسلت إلينا رسولاً..) إلخ لَمَا أرسلناك.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ، أي: عقوبة في الدنيا والآخرة، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والظلم، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي، نسب الأعمال إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل، فَيَقُولُوا عند نزول العذاب: رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يُنذرنا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك، فسبب الإرسال هو قولهم: هلا أرسلت.. إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فدخلت «لولا» الامتناعية عليها، فرجع المعنى إلى قولك: ولولا قولهم هذا، إذا أصابتهم مصيبة، لما أرسلناك.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا القرآن المعجز، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، قالُوا أي: كفار مكة اقتراحاً وتعنتاً: لَوْلا: هلا أُوتِيَ من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ أُعطي مُوسى من اليد والعصا، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي: أبناء جنسهم، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم، وعنادهم مثل عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السّلام، قد كفروا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن، قالُوا في موسى وهارون: سِحْرانِ «١» تَظاهَرا: تعاونا، أو: في موسى ومحمد- عليهما السلام- بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون: «سِحْران» بتقدير مضاف، أي: ذوَا سحر، أو: جعلوهما سحريْن مبالغة في وصفهما بالسحر. وَقالُوا أي: كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكُلٍّ بكل واحد منهما كافِرُونَ.
وقيل: أن أهل مكة، لمّا كفروا بمحمد ﷺ وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة، وقالوا في محمد ﷺ وموسى: ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن: سحران تظاهرا، أو: ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ، أي: عقوبة في الدنيا والآخرة، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والظلم، ولمّا كانت أكثر الأعمال إنما تناول بالأيدي، نسب الأعمال إلى الأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل، فَيَقُولُوا عند نزول العذاب: رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يُنذرنا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فلولا احتجاجهم بذلك علينا لَمَا أرسلناك، فسبب الإرسال هو قولهم: هلا أرسلت.. إلخ.
ولما كانت العقوبة سبباً للقول جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال، فدخلت «لولا» الامتناعية عليها، فرجع المعنى إلى قولك: ولولا قولهم هذا، إذا أصابتهم مصيبة، لما أرسلناك.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا القرآن المعجز، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، قالُوا أي: كفار مكة اقتراحاً وتعنتاً: لَوْلا: هلا أُوتِيَ من المعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ أُعطي مُوسى من اليد والعصا، ومن الكتاب المنزل جملة. قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا أي: أبناء جنسهم، ومَنْ مَذهبهم على مذهبهم، وعنادهم مثل عنادهم، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السّلام، قد كفروا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن، قالُوا في موسى وهارون: سِحْرانِ «١» تَظاهَرا: تعاونا، أو: في موسى ومحمد- عليهما السلام- بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين. وقرأ الكوفيون: «سِحْران» بتقدير مضاف، أي: ذوَا سحر، أو: جعلوهما سحريْن مبالغة في وصفهما بالسحر. وَقالُوا أي: كفرة موسى وكفرة محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا بِكُلٍّ بكل واحد منهما كافِرُونَ.
وقيل: أن أهل مكة، لمّا كفروا بمحمد ﷺ وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة، وقالوا في محمد ﷺ وموسى: ساحران تظاهرا، أو في التوراة والقرآن: سحران تظاهرا، أو: ذلك حين بَعَثُوا الرهط إلى رؤساء اليهود
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي: «سحران» بكسر السين وسكون الحاء، بلا ألف، وقرأ الباقون: «ساحران» بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء... انظر: الإتحاف (٢/ ٣٤٤).
258
يسألونهم عن محمد، فأخبروهم أنه في كتابهم، فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك: «١» سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ.
قُلْ لهم: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى، ومما أنزل عليَّ، أَتَّبِعْهُ: جواب: فأتوا، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنهما ساحران، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى، أي: بغير اتباع شريعة من عند الله. وبِغَيْرِ هُدىً: حال، أي: مخذولاً، مُخَلاً بينه وبين هواه، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
الإشارة: لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا: لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم: قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي: بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
ثم ذكر حكمة تفريق القرآن، ردا على من قال: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من إنزاله جملة، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥١]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
قلت: يقال: وصلت الشيء: جعلته موصولاً بعضه ببعض، ويقال: وصلت إليه الكتاب: أبلغته.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ أي: لقريش ولغيرهم، الْقَوْلَ القرآن، أي: تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء إلى الإسلام. قاله ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي: أي:
أنزلناه شيئاً بعد شيء، ليصل بعضه ببعض، ليكونوا له أوعى. هـ. وتنزيله كذلك ليكون أبلغ في التذكير ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، يعني: أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعداً، ووعيداً، وقصصاً، وعِبَراً، ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل: معنى وصلنا: أبلغنا. وهو أقرب لتبادر الفهم، وفي البخاري: أي: «بيّنا وأتممنا» «٢». وهو عن ابن عباس.
وقال مجاهد: فصّلنا. وقال ابن زيد: وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
قُلْ لهم: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما مما أنزل على موسى، ومما أنزل عليَّ، أَتَّبِعْهُ: جواب: فأتوا، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنهما ساحران، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة، ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه بغير هدى، أي: بغير اتباع شريعة من عند الله. وبِغَيْرِ هُدىً: حال، أي: مخذولاً، مُخَلاً بينه وبين هواه، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى والتقليد. وبالله التوفيق.
الإشارة: لولا احتجاج الناس على الله يوم القيامة، حين تصيبهم نقائص عيوبهم، ما بعث الله في كل زمان نذيراً طبيباً، فإذا ظهر وتوجه لتربية الناس، قالوا: لولا أُوتي مثل ما أُوتي فلان وفلان من كرامات المتقدمين، فيقال لهم: قد كان مَنْ قبلكم من الأولياء لهم كرامات، فكذَّبوهم، وأنكروا عليهم، ورموهم بالسحر والتبدع وغير ذلك، وبقوا مع هوى أنفسهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، أي: بغير تمسك بمن يهديه إلى حضرة الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين إلى معرفته الخاصة.
ثم ذكر حكمة تفريق القرآن، ردا على من قال: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من إنزاله جملة، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥١]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١)
قلت: يقال: وصلت الشيء: جعلته موصولاً بعضه ببعض، ويقال: وصلت إليه الكتاب: أبلغته.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ أي: لقريش ولغيرهم، الْقَوْلَ القرآن، أي: تابعناه موصولاً بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء إلى الإسلام. قاله ابن عطية. وقال ابن عرفة اللُّغَوِي: أي:
أنزلناه شيئاً بعد شيء، ليصل بعضه ببعض، ليكونوا له أوعى. هـ. وتنزيله كذلك ليكون أبلغ في التذكير ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، يعني: أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعداً، ووعيداً، وقصصاً، وعِبَراً، ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا. وقيل: معنى وصلنا: أبلغنا. وهو أقرب لتبادر الفهم، وفي البخاري: أي: «بيّنا وأتممنا» «٢». وهو عن ابن عباس.
وقال مجاهد: فصّلنا. وقال ابن زيد: وَصَلْنَا خير الدنيا بخير الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا.
(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٢١٢).
(٢) ذكره البخاري فى (التفسير- سورة القصص، ٨/ ٣٦٥ فتح).
(٢) ذكره البخاري فى (التفسير- سورة القصص، ٨/ ٣٦٥ فتح).
الإشارة: تفريق المواعظ في الأيام، شيئاً فشيئاً، أبلغ وأنفع من سردها كلها في يوم واحد. وفي الحديث:
«كان ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ، مَخَافَة السآمة علينا» «١»، والتخول: التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من آمن به وعرف قدره، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
قلت: (الذين) : مبتدأ، (وهم به) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي: القرآن يُؤْمِنُونَ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، أو: النجاشي وقومه، أو: نصارى نجران، الذين قدموا على رسول الله ﷺ بمكة، وهم عشرون رجلاً، فآمنوا به. قال ابن عطية: ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. هـ. أي: فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق، ولذلك قال: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي ﷺ وكتابه، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن، أو: من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام، مومنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله: إِنَّهُ: تعليل للإيمان به لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله: إِنَّا: بيان لقوله: آمَنَّا لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة، والإيمان بالقرآن، أو: بصبرهم على الإيمان بالقرآن، قبل نزوله وبعده، أو: بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث: «ثلاثةٌ
«كان ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بالموعِظَةِ، مَخَافَة السآمة علينا» «١»، والتخول: التعاهد شيئاً فشيئاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر من آمن به وعرف قدره، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٥]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)
قلت: (الذين) : مبتدأ، (وهم به) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي: القرآن يُؤْمِنُونَ، وهم مؤمنو أهلِ الكتاب، أو: النجاشي وقومه، أو: نصارى نجران، الذين قدموا على رسول الله ﷺ بمكة، وهم عشرون رجلاً، فآمنوا به. قال ابن عطية: ذكر هؤلاء مُبَاهياً بهم قريشاً. هـ. أي: فهم الذين يُقدرون قدر هذا الكتاب المنزل لِمَا معهم من العلم الذي ميزوا به الحق، ولذلك قال: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا لِمَا عرفوا في كتابهم من نعت النبي ﷺ وكتابه، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن، أو: من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام، مومنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقوله: إِنَّهُ: تعليل للإيمان به لأن كَوْنَهُ حقاً من عند الله حقيق بأن يُؤْمَنَ به. وقوله: إِنَّا: بيان لقوله: آمَنَّا لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد أو بعيده، فأخبروه بأن إيمانهم به متقادم.
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا بصبرهم على الإيمان بالتوراة، والإيمان بالقرآن، أو: بصبرهم على الإيمان بالقرآن، قبل نزوله وبعده، أو: بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب. وفي الحديث: «ثلاثةٌ
(١) أخرجه البخاري فى (العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة.. ح ٦٨)، ومسلم فى (صفات المنافقين، باب الاقتصاد فى الموعظة، ٤/ ٢١٧٢، ح ٢٨٢١) من حديث سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأعتقها وتزوجها» «١».
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة، يدفعون الأذى بالسِلم، والمعصية بالطاعة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو يزكون، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ الباطل، أو الشتم من المشركين، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمان منا عليكم، لا نقابل لغوكم بمثله، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، أو: لا نبتغي دين الجاهلين، أو محاورة الجاهلين وجدالهم، أو: لا نريد أن نكون جهالاً.
وفي السَير: أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي، بَكَوْا، ووقر الإسلام في قلوبهم، فقدِموا على رسول الله ﷺ بمكة، فقرأ عليهم القرآن، فأسلموا، وقالوا: آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.. الآية. فلما خرجوا من عنده ﷺ استقبلتهم قريش فسبوهم، وقالوا: ما رأينا قوماً أحمق منكم، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل، فقالوا لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. إلخ «٢».
الإشارة: مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهوال النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو- وهو كل ما يشغل عن شهود الله- ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
ولما حرص ﷺ على إسلام عمه، نزل:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٦]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يدفعون الخصلة القبيحة بالخصلة الحسنة، يدفعون الأذى بالسِلم، والمعصية بالطاعة. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون، أو يزكون، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ الباطل، أو الشتم من المشركين، أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمان منا عليكم، لا نقابل لغوكم بمثله، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، أو: لا نبتغي دين الجاهلين، أو محاورة الجاهلين وجدالهم، أو: لا نريد أن نكون جهالاً.
وفي السَير: أن أصحاب النجاشي لَمَّا كلمهم جعفر رضي الله عنه في مجمع النجاشي، بَكَوْا، ووقر الإسلام في قلوبهم، فقدِموا على رسول الله ﷺ بمكة، فقرأ عليهم القرآن، فأسلموا، وقالوا: آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.. الآية. فلما خرجوا من عنده ﷺ استقبلتهم قريش فسبوهم، وقالوا: ما رأينا قوماً أحمق منكم، تركتم دينكم لمجلس ساعة مع هذا الرجل، فقالوا لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. إلخ «٢».
الإشارة: مَنْ تَحَمَّلَ من العلماء مشقة تَحَمُّلِ العلمِ الظاهر، ثم ركب أهوال النفس ومحاربتَها في تحصيل العلم الباطن، فهو ممن يؤتى أجره مرتين، وينال عز الدارين ضعفين بسبب صبره على العِلْمَيْن، وارتكاب الذل مرتين، إذا اتصف بما اتصف به أولئك، بحيث يدرأ بالحسنة السيئة، وينفق مما رزقه الله من الحس والمعنى، كالعلوم والمواهب، ويعرض عن اللغو- وهو كل ما يشغل عن شهود الله- ويحلم عن الجاهل، ويرفق بالسائل. وبالله التوفيق.
ولما حرص ﷺ على إسلام عمه، نزل:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٦]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)
(١) أخرجه البخاري فى (العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله ح ٩٧)، ومسلم فى (الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد ﷺ إلى جميع الناس، ١/ ١٣٤، ح ٢٤١) من حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. [.....]
(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٩٤) لمحمد بن إسحاق فى السيرة.
(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٩٤) لمحمد بن إسحاق فى السيرة.
261
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّكَ يا محمد لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، أي: لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل من قومك وغيرهم، يعني: أن خاصية الهداية خاصة بالربوبية، وخاصية الربوبية لا تكون لمخلوق، ولو كان أكمل الخلق. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يخلق الهداية في قلب من يشاء، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بمن يختار هدايته ويقبلها.
قال الزجاج: اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم، وتَدعُها لنفسك!» فقال: ما تريد يا ابن أخي؟
فقال: «أُريدُ منك أن تقُول: لا إله إلا الله، أشْهَدُ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ». فقال: يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. هـ. وفي رواية قال: (لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن: إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك) «١». وفي لفظ آخر عند البخاري: قال له: «يا عم، قُل: لا إله إلا الله، أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند الله». فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية «٢».
وفيها دليل على المعتزلة لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة: الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي «أحمد بن عبد الله»، إلى شيخه، سيدي «أحمد بن سعيد الهبري» يشكو له ابنه حيث لم ير منه ما تَقَرُّ بِهِ عينه، فكتب إليه: أخبرني: ما الذي بَنَيْتَ فيه؟ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. هـ. وفي اللباب- بعد كلام-: قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «٣» الآية.
قال الزجاج: اجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تُفلحوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عَمّ تأمُرُهُم بالنَّصِيحة لأنفسهم، وتَدعُها لنفسك!» فقال: ما تريد يا ابن أخي؟
فقال: «أُريدُ منك أن تقُول: لا إله إلا الله، أشْهَدُ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ». فقال: يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق، ولكن أكره أن يقال جزع عند الموت. هـ. وفي رواية قال: (لولا أن تُعيرني نساء قريش، ويقلن: إنه حملني على ذلك الجزع، لأقررتُ بها عينك) «١». وفي لفظ آخر عند البخاري: قال له: «يا عم، قُل: لا إله إلا الله، أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند الله». فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب، فنزلت الآية «٢».
وفيها دليل على المعتزلة لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الله الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلت الآية على أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة على الاهتداء. وبالله التوفيق.
الإشارة: الآية ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لكل من يريد الهداية لأحد من خاصته، كتب شيخ أشياخنا، سيدي «أحمد بن عبد الله»، إلى شيخه، سيدي «أحمد بن سعيد الهبري» يشكو له ابنه حيث لم ير منه ما تَقَرُّ بِهِ عينه، فكتب إليه: أخبرني: ما الذي بَنَيْتَ فيه؟ دع الدار لبانيها، إن شاء هدمها وإن شاء بناها. هـ. وفي اللباب- بعد كلام-: قد رضي الله على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب الرضا من غير سبب، وسَخِطَ على أقوام في الأزل، فاستعملهم في أسباب السَّخَطِ بلا سبب. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «٣» الآية.
(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، ١/ ٥٥، ح ٤٢) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة القصص، ح ٤٧٧٢)، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (١، ٥٤، ح ٣٩)، من حديث سعيد ابن المسيب رضي الله عنه.
(٣) الآية ١٢٥ من سورة الأنعام.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة القصص، ح ٤٧٧٢)، ومسلم فى الموضع السابق ذكره (١، ٥٤، ح ٣٩)، من حديث سعيد ابن المسيب رضي الله عنه.
(٣) الآية ١٢٥ من سورة الأنعام.
262
وهذه الآية تخاطب رسول الله ﷺ بقولها: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، والحكم عام في كل أحد، وقد خص رسول الله ﷺ بأتم الفضائل وأعلى الوسائل، حتى لم يُسْبَقْ لفضيلة، ولم يَحْتَجْ لوسيلة، وليس له في ذلك نظر، بل سابقة السعادة أيدته، والخصوصية قرَّبته، ولو كان له في التقدير نظر ما مُنع من الشفاعة في عمه أبي طالب، ومن الاستغفار لأبيه. ولو كانت الهداية بيد آدم لهدى قابيل، ولو كانت بيد نوح لهدى ولده كنعان، أو بيد إبراهيم لهدى أباه آرز، أو بيد محمد ﷺ لأنقذ عمه أبا طالب، جذبت العنايةُ سلمان من فارس، وصاحت على بلال من الحبشة، وأبو طالب على الباب ممنوع من الدخول. سبحان من أعطى ومنع، وضر ونفع. هـ.
ولما دعى ﷺ قومه إلى الإسلام، تعللوا بعلل واهية، كما قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٧]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
قلت: (رزقاً) : حال من (الثمرات) لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى لأن معناه: نرزق، أو:
مفعول له.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى وندخل مَعَكَ في هذا الدين نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي: تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا. نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي ﷺ فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردَّ الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؟ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟
يُجْبى «١» إِلَيْهِ، أي: تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ: الكثرة كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «٢»، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، ونعمة من عندنا، وإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
ولما دعى ﷺ قومه إلى الإسلام، تعللوا بعلل واهية، كما قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٥٧]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)
قلت: (رزقاً) : حال من (الثمرات) لتخصيصه بالإضافة، أو مصدر لتجبى لأن معناه: نرزق، أو:
مفعول له.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: كفار قريش إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى وندخل مَعَكَ في هذا الدين نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي: تخطفنا العرب وتُخرجنا من أرضنا. نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل، أتى النبي ﷺ فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف، إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكَلَةُ رأس، أَنْ يتخطفونا من أرضنا، فردَّ الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أَوَ لَمْ نجعل مكانهم حرماً ذا آمن بحرمة البيت، يأمن فيه قُطانه، ومن التجأ إليه من غيرهم؟ فَأَنَّى يستقيم أن نعرضهم للتخطف، ونسلبهم الأمن، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟
يُجْبى «١» إِلَيْهِ، أي: تُجمع وتُجلب إليه من كل أَوْب، ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: كل صنف ونوع. ومعنى الكُلِّيَّةِ: الكثرة كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «٢»، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، ونعمة من عندنا، وإذا كان هذا حالهم، وهم عبدة الأصنام، فكيف إذا أووا إلى كهف الإسلام، وتدرعوا بلباس التوحيد؟
(١) قرأ نافع وأبو جعفر: «تجبى» بالتاء من فوق، وقرأ الباقون: «يجبى». بالياء من تحت. انظر الإتحاف (٢/ ٣٤٥).
(٢) من الآية ٢٣ من سورة النمل.
(٢) من الآية ٢٣ من سورة النمل.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: جهلة، لا ينفطنون ولا يتفكرون حتى يعلموا أنه لا يهملهم من حفظه ورعايته، إن أسلموا. وقيل: يتعلق بقوله: مِنْ لَدُنَّا، أي: قليل منهم يتدبرون، فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عند الله، ولَمَا خافوا التخطف إذا آمنوا به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول: إن دخلنا في طريق القوم رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم: أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم خوفهم بقوله:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
قلت: «كم» : منصوب بأهلكنا. والبطر: الطغيان عند النعمة. قال في القاموس: البَطَر- محركة: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل: كفرح. هـ. و (معيشتها) : نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي: في معيشتها. وجملة (لم تسكن) :
حال، والعامل فيها: الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ، أي: كثيرا أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها بَطِرَتْ في مَعِيشَتَها، أي: طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري: لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية، أو: فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى، أي: لم يسكنها إلا المسافر، أو مار
الإشارة: ترى كثيراً من الناس، ممن أراد الله حرمانه من الخصوصية، يتعلل بهذه العلل الواهية، يقول: إن دخلنا في طريق القوم رفضَنا الناس، وأنكر علينا أقاربنا، ونخاف الضيعة على أولادنا. يقول تعالى لهم: أو لم أُمَكِّن لأوليائي، المتوجهين إلى حَضْرَةِ القدس، حرماً آمناً تُجبى لأهلها الأرزاق من كل جانب، بلا حرص ولا طمع ولا سبب، ولكن أكثر الناس جهالاً بهذا، وقفوا مع العوائد، فحُرموا الفوائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم خوفهم بقوله:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩)
قلت: «كم» : منصوب بأهلكنا. والبطر: الطغيان عند النعمة. قال في القاموس: البَطَر- محركة: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهية، فعلى الكل: كفرح. هـ. و (معيشتها) : نصب بحذف الجار واتصال الفعل، أي: في معيشتها. وجملة (لم تسكن) :
حال، والعامل فيها: الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ، أي: كثيرا أهلكنا من أهل قرية، كانت حالهم كحالهم في الأمن والدعة، وخصب العيش، مِنْ وصفها بَطِرَتْ في مَعِيشَتَها، أي: طغت وتجبرت ولم تشكر، بل قابلتها بالبطر والطغيان. قال القشيري: لم يعرفوا قدر نعمتهم، ولم يشكروا سلامة أموالهم، وانتظام أمورهم، فهاموا في أودية الكفران على وجوههم، وخَرُّوا في وَهدة الطغيان على أذقانهم، فدمر الله عليهم وخرب ديارهم.
فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية، أو: فتلك منازلهم باقية الآثار، يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود، وقرى لوط، وقوم شعيب، وغيرهم، لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى، أي: لم يسكنها إلا المسافر، أو مار
بالطريق يوماً أو ساعة، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لتلك المساكن من سكانها، أي: لا يملك التصرف فيها غيرنا.
وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله فيه بالهلاك، وأما متبع الهدى فهو آمن والعاقبة له.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى بذنب حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة لأن الأرض دُحِيت من تحتها. رَسُولًا يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا القرآن، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، ولذلك حقّر الله تعالى شأنها، حيث قال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
قلت: «ما» : شرطية، وجملة: (فمتاع..) إلخ: جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زهرة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي:
ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الدائم في الدار الباقية ثواباً لأعمالكم خَيْرٌ من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة.
وفيه إشارة لوعد النصر لمتبع الهدى، وأن الوراثة له، لا أنه يتخطف كما قد قيل، بل يقع الهلاك على من لم يشكر نعمة الله، ويتبع هواه، فكيف يخاف من تكون عاقبته الظفر ممن يكون عاقبته الدمار والتبار؟ والحاصل: إنما يلحق الخوف من لم يتبع الهدى، فإنه الذي جرت سنة الله فيه بالهلاك، وأما متبع الهدى فهو آمن والعاقبة له.
وَما كانَ رَبُّكَ وما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى بذنب حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها، أي: القرية التي هي أصلها ومعظمها لأن أهلها يكونون أفطن وأقبل. رَسُولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة، أو: ما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمها، وهي مكة لأن الأرض دُحِيت من تحتها. رَسُولًا يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا القرآن، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ، أي: وما أهلكناهم للانتقام، إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم، وهو إصرارهم على الكفر والمعاصي، والعناد، بعد الإعذار إليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكم خَرَّبْنَا من قلوب وأخليناها من النور، حيث طغت وتجبرت في معيشتها، وانشغلت بحظوظها وشهواتها، فتلك أماكنها خاوية من النور، لم تُسكن بالنور إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين لها، فأعطينا ذلك النور غيرها، وما فعلنا ذلك حتى بعثنا من يُذكرها ويُنذرها، وما كنا مهلكي قلوبٍ وَمُتْلِفيهَا إلا وأهلها ظالمون، بإيثار الغفلة والشهوة على اليقظة والعفة. والله تعالى أعلم.
وسبب الهلاك هو حب الدنيا، ولذلك حقّر الله تعالى شأنها، حيث قال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢)
قلت: «ما» : شرطية، وجملة: (فمتاع..) إلخ: جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زهرة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي:
ايُّ شيء أحببتموه من أسباب الدنيا وملاذها فما هو إلا تمتع وزينة، أياماً قلائل، وهي مدة الحياة الفانية، وَما عِنْدَ اللَّهِ من النعيم الدائم في الدار الباقية ثواباً لأعمالكم خَيْرٌ من ذلك لأنه لذة خالصة في بهجة كاملة.
265
وَأَبْقى لأنه دائم لا يفنى، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي خير من الفاني، فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ لما سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ» «١». رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً، وهو الجنة إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، فَهُوَ أي: الوعد الحسن لاقِيهِ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعقاب، أو: من الذين أُحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو: في رسول ﷺ وأبي جهل «٢» - لعنه الله-، ومعنى الفاء الأولى: أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ أي: أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟ والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و «ثم» : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ: «ثم هْو» بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عضد- بسكون الضاد-.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركائي، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وفي حديث آخر: «ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به» «٣». بالمعنى. فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (إن الله خلق الدنيا، وجعل أهلها ثلاثة أصناف المؤمن والمنافق والكافر، فالمؤمن يتزود، والمنافق يتربى، والكافر يتمتع. ثم قرأ هذه الآية). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ لما سَقَى الكافرَ منها شَرْبَةَ ماءٍ» «١». رواه الترمذي.
ثم قرر ذلك بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً، وهو الجنة إذ لا شيء أحسن منها، حيث اشتملت على النظر لوجه الله العظيم، ولأنها دائمة، ولذا سميت الحسنى، فَهُوَ أي: الوعد الحسن لاقِيهِ ومدركه، لا محالة، لامتناع الخلف في وعده تعالى، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالكدر والمتاعب، مستعْقب بالفناء والانقطاع، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب والعقاب، أو: من الذين أُحضروا النار.
والآية نزلت في المؤمن والكافر، أو: في رسول ﷺ وأبي جهل «٢» - لعنه الله-، ومعنى الفاء الأولى: أنه لَمَّا ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقّبه بقوله: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ أي: أبعد هذا التفاوت الجلي نُسَوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة؟ والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد. و «ثم» : لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع. ومن قرأ: «ثم هْو» بالسكون، شبه المنفصل بالمتصل، كما قيل في عضد- بسكون الضاد-.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ يوم ينادي الله الكفارَ، نداء توبيخ، فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ في زعمهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركائي، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحقير لشأن الدنيا الفانية، وتعظيم لشأن الآخرة الباقية. وقد اتفق على هذا جميع الأنبياء والرسل والحكماء، قديماً وحديثاً، وقد تقدم آنفاً أنها لا تَزِن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وفي حديث آخر: «ما الدنيا في جانب الآخرة، إلا كما يُدخل أَحَدُكُمْ يده في البحر ثم يُخرجه، فانظر ماذا يعلق به» «٣». بالمعنى. فنعيم الدنيا كله، بالنسبة إلى نعيم الجنان، كبلل الأصبع، الذي دخل في الماء ثم خرج. مع أن نعيمها مكدر، ممزوج بالأهوال
(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء فى هوان الدنيا على الله، ٤/ ٤٨٥ ح ٢٣٢٠)، وابن ماجه فى (الزهد، باب مثل الدنيا، ٢/ ١٣٧٦، ح ٤١١٠) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الطبري (٢٠/ ٩٧) عن مجاهد.
(٣) أخرجه مسلم بنحوه فى (الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، ٤/ ٢١٩٣، ح ٢٨٥٨) من حديث المستورد أخى بن فهر رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الطبري (٢٠/ ٩٧) عن مجاهد.
(٣) أخرجه مسلم بنحوه فى (الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، ٤/ ٢١٩٣، ح ٢٨٥٨) من حديث المستورد أخى بن فهر رضي الله عنه.
266
والأحزان والمتاعب. وقد كتب عليّ بن أبي طالب إلى سلمان- رضي الله عنهما-: «إنما مثل الدنيا كمثل الحية، لَيِّن مسها، قاتل سمها، فأعرض عنها، وعما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، ودع عنك همومها لما تيقنت من فراقها، وكن أسرّ ما تكون منها، احذر ما تكونُ منها، فإن صاحبها، كلما اطمأن فيها إلى سرور، أشخص منها إلى مكروه».
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها- أي: لأنهما لا يدومان- ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى- أي: الهلاك- وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين. هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا إلتاط منها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعُنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره».
ثم ذكر مآل من اغتر فيها، قال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن هذه الدار دار الثوى، لا دار استواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخائها، ولم يحزن لشقائها- أي: لأنهما لا يدومان- ألا وإن الله خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وأنها سريعة الثوى- أي: الهلاك- وشيكة الانقلاب، فاحذروا حلاوة رضاعها، لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد الله منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين. هـ. ذكره ابن وداعة الموصلي.
وذكر أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا إلتاط منها بثلاث: شغل لا ينفد عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه، إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا، حتى يستكمل رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعُنقه، ألا وإن السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفك عذابها، وقدّم لِمَا يُقْدِمُ عليه مما هو الآن في يده، قبل أن يُخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه واحتكاره».
ثم ذكر مآل من اغتر فيها، قال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)
267
قلت: «هؤلاء» : مبتدأ. و «الذين» : صفته، والعائد: محذوف، و «أغويناهم» : خبر. والكاف في «كما» : صفة لمصدر محذوف، أي: أغويناهم غياً مثل ما غوينا، و «لو أنهم» : جوابه محذوف، أي: لما رأوا العذاب.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بالعذاب، وثبت مقتضاه، وهو قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «١»، وهم الشياطين، أو: أئمة الكفر: ورؤساء الكفرة: رَبَّنا هؤُلاءِ الكفرة الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ أي: دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم، قد غَووا غياً كَما مثل ما غَوَيْنا يقولون: إنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب، وهذا كقوله: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ... إلى قوله: وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ... «٢».
ثم قالوا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم فيما اختاروه من الكفر، ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ، بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم. فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء، وتبرءوا من أن يكونوا آلهتهم، فلا تناقض. انظر ابن جزي. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
وَقِيلَ للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: الأصنام «٣» لتُخلصكم من العذاب، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فلم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لَمَّا رأوا ذلك العذاب، وقيل: «لو» للتمني، أي: تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ الذي أُرسلوا إليكم؟ أي: بماذا أجبتموهم؟ وهو أعلم بهم. حكي، أولاً، ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما تقوله الشياطين، أو: أئمة الكفر عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين، أو الرؤساء، استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم. ، ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. قال تعالى:
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل: خفي عليهم الجواب، فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بالعذاب، وثبت مقتضاه، وهو قوله تعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «١»، وهم الشياطين، أو: أئمة الكفر: ورؤساء الكفرة: رَبَّنا هؤُلاءِ الكفرة الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ أي: دعوناهم إلى الشرك وسوّلناه لهم، قد غَووا غياً كَما مثل ما غَوَيْنا يقولون: إنا لم نغو إلا باختيارنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً، فلا فرق إذن بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل إليهم من الكتب، وهذا كقوله: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ... إلى قوله: وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ... «٢».
ثم قالوا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم فيما اختاروه من الكفر، ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ، بل كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شهواتهم. فَتَحَصَّلَ من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم غَرُّوا الضعفاء، وتبرءوا من أن يكونوا آلهتهم، فلا تناقض. انظر ابن جزي. وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين للجملة الأولى.
وَقِيلَ للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي: الأصنام «٣» لتُخلصكم من العذاب، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، فلم يجيبوهم لعجزهم عن الإجابة والنصرة. وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لَمَّا رأوا ذلك العذاب، وقيل: «لو» للتمني، أي: تمنوا أنهم كانوا يهتدون.
وَاذكر يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ الذي أُرسلوا إليكم؟ أي: بماذا أجبتموهم؟ وهو أعلم بهم. حكي، أولاً، ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما تقوله الشياطين، أو: أئمة الكفر عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين، أو الرؤساء، استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم بآلهتهم وعجزهم عن نصرتهم. ، ثم ما يُبَكَّتُونَ به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. قال تعالى:
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ خفيت عليهم الحجج أو الأخبار. وقيل: خفي عليهم الجواب، فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب.
(١) الآية ١١٩ من سورة هود.
(٢) من الآية ٢٢ من سورة إبراهيم.
(٣) وكذلك كل ما أشرك مع الله.
(٢) من الآية ٢٢ من سورة إبراهيم.
(٣) وكذلك كل ما أشرك مع الله.
268
قال البيضاوي: وأصله: فعموا عن الانباء، لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج، فإن أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، والمراد بالأنباء: ما أجابوا به الرسل، أو: ما يعمها وغيرَها، فإذا كانت الرسل يتلعثمون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، ويفوضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال من البُهم؟. هـ.
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة، أو: عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبمن جاء من عنده، وَعَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين الإيمان والعمل، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم.
و «عسى»، من الكِرام، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الذين حق عليهم القول بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم: ربنا هؤلاء الذين أغوينا زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم: ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنباء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الله تعالى بعض صفاته الحسنى، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال. وَيَخْتارُ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي: وظاهره: نفي الاختيار عنهم رأساً،
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة، أو: عن العذر والحجة، عسى أن يكون عندهم عذر أو حجة. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بربه وبمن جاء من عنده، وَعَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين الإيمان والعمل، فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ من الفائزين عند الله بالنعيم المقيم.
و «عسى»، من الكِرام، تحقيق. وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام، وترغيب للكافرين في الإيمان. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال الذين حق عليهم القول بالانحطاط عن درجة المقربين، والبقاء مع عامة أهل اليمين، وهم الصادُّون الناسَ عن الدخول في طريق القوم: ربنا هؤلاء الذين أغوينا زيناً لهم البقاء مع الأسباب، والوقوف مع العوائد، أغويناهم كما غوينا، فحيث لم نَقَوَ على مقام أهل التجريد، قوينا سوادنا بهم، تبرأنا إليك لأنا لم نقهرهم، ولكن وسوسنا لهم ذلك، ما كانوا إيانا يعبدون، ولكن عبدوا هوى أنفسهم. ثم يقال لهم: ادعوا ما كنتم تعبدونه من حظوظ الدنيا وشهواتها، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، ورأوا عذاب القطيعة، لو أنهم كانوا يهتدون إلى اتباع أهل التربية ما وقعوا في ذلك. ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم الداعين، الذين أرسلتهم في كل زمان، يدعون إلى الله، ويرفعون الحجاب بينهم وبين ربهم، فعميت عليهم الأنباء يومئذٍ، فهم لا يتساءلون عن أحوال المقربين، لغيبتهم عنهم. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن الله تعالى بعض صفاته الحسنى، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ، لا موجب عليه، ولا مانع له، وفيه دلالة على خلق الأفعال. وَيَخْتارُ ما يشاء، لا اختيار لأحد مع اختياره. قال البيضاوي: وظاهره: نفي الاختيار عنهم رأساً،
269
والأمر كذلك عند التحقيق فإنّ اختيار العبد مخلوق لله، منوط بدواعٍ لا اختيار لهم فيها، وقيل: المراد أنه ليس لأحد أن يختار عليه، فلذلك خلا عن العاطف، يعني قوله: ما كانَ.. إلخ، ويؤيده: ما رُوِيَ أنه نزل في قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «١» هـ. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: ليس لهم أن يختاروا مع الله شيئاً ما، وله الخيرة عليهم. والخيرة: من التخير، تستعمل مصدراً بمعنى التخير، وبمعنى المتخيّر، ومنه: محمد خيرة الله من خلقه، ولم يدخل العاطف في ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ لأنه مقرر لِمَا قبله، وقيل: «ما» :
موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه: محذوف، أي: ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. هـ. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب: بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
سُبْحانَ اللَّهِ، أي: تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، أي: تعاظم عن إشراكهم، أو: عن مشاركة ما يُشركون به.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ: تُضمر صُدُورُهُمْ من عداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وحسده، وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة. وَهُوَ اللَّهُ المستأثر بالألوهية المختص بها، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، تقرير له، كقولك: الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي:
في الدنيا، وَالْآخِرَةِ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «٢»، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «٣»، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٤»، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
الإشارة: في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم: «أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك».
وقال سهل رضي الله عنه: ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم: هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحبه تصميم بأن كان عَزْمه محلولا،
موصولة، مفعول بيختار، والراجع إليه: محذوف، أي: ويختار الذي كان لهم منه الخيرة والصلاح. هـ. وبحث فيه النسفي بأن فيه ميلاً إلى الاعتزال، ويجاب: بأن المعتزلة يقولون ذلك على سبيل الإيجاب، ونحن نقوله على سبيل التفضل والإحسان.
سُبْحانَ اللَّهِ، أي: تنزيهاً له عن أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختيارَهُ اختيارٌ. وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، أي: تعاظم عن إشراكهم، أو: عن مشاركة ما يُشركون به.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ: تُضمر صُدُورُهُمْ من عداوة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وحسده، وَما يُعْلِنُونَ من مطاعنهم فيه، وقولهم: هلاً اختير عليه غَيْرُهُ في النبوة. وَهُوَ اللَّهُ المستأثر بالألوهية المختص بها، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ، تقرير له، كقولك: الكعبة قبلة، لا قبلةَ إلا هي. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى أي:
في الدنيا، وَالْآخِرَةِ لأنه المُولي للنعم كلها، عاجلها وآجلها، يحمده المؤمنون في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة بقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «٢»، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «٣»، وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٤»، والتحميد تم على وجه التلذذ لا الكلفة. وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء بين عباده، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وبالله التوفيق.
الإشارة: في الآية تحضيض على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهار، وهو أصل كبير عند أهل التصوف، أفرد بالتأليف، وفي الحِكَم: «أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك».
وقال سهل رضي الله عنه: ذروا التدبير والاختيار، فإنهما يكدران على الناس عيشهم. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: ذروا التدبير، وإن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا. هـ.
والتدبير المذموم: هو ما فيه للنفس حظ، كتدبير أسباب الدنيا، وما تحصل بها من شهواتها، إذا صحبه عزم أو تكرير، وأمَّا ما كان فيما يقرب إلى الله تعالى فهو النية الصالحة، أو لم يصحبه تصميم بأن كان عَزْمه محلولا،
(١) الآية ٣١ من سورة الزخرف، وانظر تفسير البغوي (٦/ ٢١٨)
(٢) من الآية ٣٤ من سورة فاطر. [.....]
(٣) من الآية ٧٤ من سورة الزمر.
(٤) الآية ٧٥ من سورة الزمر.
(٢) من الآية ٣٤ من سورة فاطر. [.....]
(٣) من الآية ٧٤ من سورة الزمر.
(٤) الآية ٧٥ من سورة الزمر.
270
أو علقة بمشيئة الله، أو كان خاطراً غير ساكن، فلا بأس به. قال القشيري- بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى: لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيار العبد عليه غيرُ مُبَارَكٍ له لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح، قال قائلهم:
والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار «٢» والاختيار؟! وما للملموك والمِلْك؟! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك؟! قال تعالى: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ. هـ. وقال آخر في هذا المعنى:
فإذا علمت، أيها العبدُ، أن الحق تعالى هو الذي يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى «٣». قال اللجائي فى
ومعَانٍ إذا ادّعاها سواهم «١» | لَزِمَتْه جِنَايةُ السُّرَّاقِ |
العبدُ ذو ضَجَرٍ، والربُّ ذو قُدَرٍ | والدهرُ ذو دُوَلٍ، والرزقُ مقسومُ |
(١) فى القشيري: ومعان إذا ادعاها سواه...
(٢) أي: الذي اختاره الله..
(٣) قلت: هذه منزلة، وهناك منزلة أعلى وأحلى، نفهمها إذا قررنا أصلا، وهو: أن حكم الله واختياره، ثلاثة أنواع:
الأول: حكم الله الديني، الشرعي، واختياره، ومراده الديني.. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم، والرضا والقبول، والعمل.
الثاني: حكم الله الكونى، القدري، الذي لا اختيار لنا فيه، كمصيبة الموت، وجائحة فى مال، وإذاية ظالم لا نقدر عليه، وما أشبه ذلك، وهذا موقفنا منه التسليم، والصبر، وفوقه: الرضا بهذا القضاء، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث: حكم الله الكونى القدري، واختياره الكونى القدري- الذي لنا فيه قدرة واختيار، كمرض يمكن دفعه بالدواء، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح.. إلخ، وهذا موقفنا منه: هو المنازعة، والمبالغة، والمدافعة، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني- الشيخ القدوة، العارف، قال ما ملخصه: (الناس إذا ذكر القدر أمسكوا، إلا أنا، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة- نافذة] فنازعت أقدار الحق، بالحق، للحق). فهذا فى النوع الثالث من حكم الله واختياره، ننازعه، بالحق، للحق، والشيخ القدوة، لم يبتدع ذلك، وحاشاه، رحمه الله وقدس روحه- بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف، أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٤٢١) والترمذي فى (الظب، باب ٢١، ٤/ ٣٤٩، ح ٢٠٦٥) وابن ماجه فى (الطب، باب ١، ٢/ ١١٣٧، ح ٣٤٣٧) من حديث أبى خزامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت [يعنى: أخبرنا عن]- رقىّ نسترقيها، وأدوية نتداوى بها: أترد من قدر الله؟ قال: «هي من قدر الله» الله أكبر: فقدر المرض، ننازعه بقدر العلاج والدواء، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية، وقدر انتشار الوباء كالطاعون، والكوليرا- ننازعه بقدر الاحتماء، والتطعيم العام.. إلخ، كما فعل سيدنا عمر: مع طاعون الشام، فلم يدخل الشام- عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها، وكان ذاهبا إليها، فقيل له: أتفر من قدر الله؟! قال: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.
(٢) أي: الذي اختاره الله..
(٣) قلت: هذه منزلة، وهناك منزلة أعلى وأحلى، نفهمها إذا قررنا أصلا، وهو: أن حكم الله واختياره، ثلاثة أنواع:
الأول: حكم الله الديني، الشرعي، واختياره، ومراده الديني.. وهذا موقفنا منه الخضوع والتسليم، والرضا والقبول، والعمل.
الثاني: حكم الله الكونى، القدري، الذي لا اختيار لنا فيه، كمصيبة الموت، وجائحة فى مال، وإذاية ظالم لا نقدر عليه، وما أشبه ذلك، وهذا موقفنا منه التسليم، والصبر، وفوقه: الرضا بهذا القضاء، الذي لا اختيار لنا فيه.
الثالث: حكم الله الكونى القدري، واختياره الكونى القدري- الذي لنا فيه قدرة واختيار، كمرض يمكن دفعه بالدواء، وفقر يمكن دفعه بالتكسب وطلب الغنى، وهزيمة يمكن دفعها بالجهاد والكفاح.. إلخ، وهذا موقفنا منه: هو المنازعة، والمبالغة، والمدافعة، وانتبه معى لقول سيدنا عبد القادر الجيلاني- الشيخ القدوة، العارف، قال ما ملخصه: (الناس إذا ذكر القدر أمسكوا، إلا أنا، فقد انفتحت لى فيه روزنة [طاقة- نافذة] فنازعت أقدار الحق، بالحق، للحق). فهذا فى النوع الثالث من حكم الله واختياره، ننازعه، بالحق، للحق، والشيخ القدوة، لم يبتدع ذلك، وحاشاه، رحمه الله وقدس روحه- بل هو انتزعه من حديث نبوى شريف، أخرجه أحمد فى المسند (٢/ ٤٢١) والترمذي فى (الظب، باب ٢١، ٤/ ٣٤٩، ح ٢٠٦٥) وابن ماجه فى (الطب، باب ١، ٢/ ١١٣٧، ح ٣٤٣٧) من حديث أبى خزامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت [يعنى: أخبرنا عن]- رقىّ نسترقيها، وأدوية نتداوى بها: أترد من قدر الله؟ قال: «هي من قدر الله» الله أكبر: فقدر المرض، ننازعه بقدر العلاج والدواء، وقدر الفقر المالى ننازعه بقدر الكسب وإصلاح المال، وقدر الهزيمة ننازعه بقدر الجهاد والاستعداد، وقدر التخلف الحضارى ننازعه بقدر الفعالية الحضارية، وقدر انتشار الوباء كالطاعون، والكوليرا- ننازعه بقدر الاحتماء، والتطعيم العام.. إلخ، كما فعل سيدنا عمر: مع طاعون الشام، فلم يدخل الشام- عند ما سمع بانتشار الطاعون فيها، وكان ذاهبا إليها، فقيل له: أتفر من قدر الله؟! قال: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالمؤمن العارف يصول بالحق للحق.
271
كتاب قطب العارفين: الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعا، وهى أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ.. الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين. هـ. وبالله التوفيق.
ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
قلت: (سرمداً) : مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي: التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه: فعْمَل.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو: بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، وحقه: هل إله غير الله، وعبّر ب «مَن» على زعمهم أن غيره آلهة، أي: هل يقدر أحد على هذا؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو: بتحريكها فوق الأفق فقط، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل: بنهار
ثم برهن على انفراده بالخلق والاختيار، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)
قلت: (سرمداً) : مفعول ثان لجعل، وهو من السرد، أي: التتابع، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد، والميم زائدة، فوزنه: فعْمَل.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائماً بإسكان الشمس تحت الأرض، أو: بتحريكها حول الأفق الخارج عن كورة الأرض، أو بإخفاء نورها، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، وحقه: هل إله غير الله، وعبّر ب «مَن» على زعمهم أن غيره آلهة، أي: هل يقدر أحد على هذا؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر واستبصار؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو: بتحريكها فوق الأفق فقط، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال؟ ولم يقل: بنهار
272
تتصرفون فيه، كما قال: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، بل ذكر الضياء، وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، وليس هو التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس هو بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء.
أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون معناه: لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولكي تعرفوا نعمة الله فى ذلك فتشركوه عليها.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وكرر التوبيخ على الشرك ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي: أعاد هذا لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «١»، ويحتمل: ولا يكلمهم بعد قوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «٢» أو: ولا يكلمهم كلام رضا. هـ «٣».
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه لأن الأنبياء شهداء على أممهم، فَقُلْنا للأمم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، فَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهر البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم: «بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه». وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان في الوجود، وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر، من ذكر منافعه، ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يُبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالنهار بأنواع المكاسب. وهو من باب اللف والنشر. وقال الزجاج: يجوز أن يكون معناه: لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من الله فيهما، ويكون المعنى: جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه، ولتبتغوا من فضله، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: ولكي تعرفوا نعمة الله فى ذلك فتشركوه عليها.
ثم قَرَّعهم على الإشراك، بعد هذا البيان التام، بقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وكرر التوبيخ على الشرك ليؤذن ألاَّ شيء أجلبُ لغضب الله تعالى من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده. وقال القرطبي: أعاد هذا لاختلاف الحالين، ينادون مرة، فيدعون الأصنام فلا تستجيب لهم، فيظهر كذبهم. ثم ينادون مرة أخرى فيسكنون، وهو توبيخ وزيادة خزي. ثم طرق كون المناداة من الله، أو ممن يأمره بذلك، لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ «١»، ويحتمل: ولا يكلمهم بعد قوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «٢» أو: ولا يكلمهم كلام رضا. هـ «٣».
وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، وهو نبيهم، يشهد عليهم بما كانوا عليه لأن الأنبياء شهداء على أممهم، فَقُلْنا للأمم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول، فَعَلِمُوا حينئذٍ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره، وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب غيبة الشيء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من ألوهية غير الله وشفاعة أصنامهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: دوام ليل القبض يمحق البشرية، ودوام نهر البسط يُطغي النفس، وتخالفهما على المريد رحمة، وإخراجه عنهما عناية، وفي الحكم: «بسطِك كي لا يتركك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما كي لا تكون لشيء دونه». وقال فارس رضي الله عنه: القبض أولاُ، ثم البسط، ثم لا قبض ولا بسط لأن القبض والبسط يقعان في الوجود، وأما مع الفناء والبقاء فلا. هـ.
(١) من الآية ١٧٤ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ١٠٨ من سورة المؤمنون.
(٣) بتصرف.
(٢) من الآية ١٠٨ من سورة المؤمنون.
(٣) بتصرف.
273
ولما قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ذكر من متّعه بها وغرته، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
قلت: «قارون» : غير مصروف للعجمة والتعريف، ولو كان «فاعولاً» من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة. إِذْ قالَ: ظرف لبَغَى، أي: طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو: يتعلق بمقدر، أي: أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه: لا تفرح. و «ما» : موصولة، و «إنَّ مفاتحه» : صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى «المنور» لحُسن صورته «١»، وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ، من البغي، أي: الظلم: قيل: ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو: من البغي، أي: الكبر، أي: تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما الذي إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي: إن مقاليده لَتَنُوأُ أي: تثقل بِالْعُصْبَةِ، الباء للتعدية، يقال: ناء به الحمل: أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي: مغاليقها.
وقيل: معنى تنوء: تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل: وسميت أمواله كنوزاً لأنه كان لا يؤدى زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ لا تبطر بكثرة المال فرَح إعجاب لأنه يقود إلى الطغيان. أو: لا تفرح بالدنيا إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ: البطرين المفتخرين بالمال، أو: الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي: الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
قلت: «قارون» : غير مصروف للعجمة والتعريف، ولو كان «فاعولاً» من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة. إِذْ قالَ: ظرف لبَغَى، أي: طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو: يتعلق بمقدر، أي: أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه: لا تفرح. و «ما» : موصولة، و «إنَّ مفاتحه» : صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى «المنور» لحُسن صورته «١»، وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ، من البغي، أي: الظلم: قيل: ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو: من البغي، أي: الكبر، أي: تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما الذي إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي: إن مقاليده لَتَنُوأُ أي: تثقل بِالْعُصْبَةِ، الباء للتعدية، يقال: ناء به الحمل: أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي: مغاليقها.
وقيل: معنى تنوء: تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل: وسميت أمواله كنوزاً لأنه كان لا يؤدى زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ لا تبطر بكثرة المال فرَح إعجاب لأنه يقود إلى الطغيان. أو: لا تفرح بالدنيا إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ: البطرين المفتخرين بالمال، أو: الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي: الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣٩٨- ٣٩٩).
والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارق لا محالة، يوجب التوخي «١» لا محالة، كما قيل:
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم، وتصرفه في أنواع الخير، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا، وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك. وقيل: معناه:
واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي: لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، وَأَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم به عليك، أو: أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، بل الفرح بكل ما يَفنِي: كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء: الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب، والعياذ بالله، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق: اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب: أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت: وهذا مذهب العباد والزهّاد، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر جواب قارون، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرورٍ | تَيَقّن عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ |
واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها لأنها مزرعة الآخرة، فيها تكتسب الحسنات وترفع الدرجات، أي: لا تنس نصيبك منها أن تقدمه للآخرة، وَأَحْسِنْ إلى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم به عليك، أو: أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام، كما أحسن إليك بسوابغ الإنعام. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم والبغي وإنفاق المال في المعاصي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لا يرضى فعلهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية زجر عن الفرح بالدنيا والافتخار بها، بل الفرح بكل ما يَفنِي: كُلُّهُ مذموم. قال في الإحياء: الفرح بالدنيا والتنعم بها سُمٌّ قاتل، يسري في العروق، فَيُخرجُ من القلب الخوفَ والحزنَ، وذكرَ الموت وأهوالَ يوم القيامة، وهذا هو موت القلب، والعياذ بالله، فأولو العزم من أرباب القلوب حزنوا لِمُوَاتَاةِ الدنيا، وَعَلِموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعُدِ من أسباب الفرح والبطر، فقطعوا النفس عن ملاذها، وعودوا الصبر عن شهواتها، حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب، وهو نوع عذاب، ومن نوقش الحساب عُذّب، فخلَصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية والملك في الدنيا والآخرة، بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى والاشتغال بطاعته. هـ.
وقال يُمْن بن رزق: اعلم أني لم أجد شيئاً أبلغ في الزهد في الدنيا من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب: أنْسُ القلب بالوحدة. هـ. قلت: وهذا مذهب العباد والزهّاد، وأما العارفون فقد دخلوا جنة المعارف، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، جعلنا الله من خواصهم، بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر جواب قارون، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : آية ٧٨]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨)
(١) فى البيضاوي: [الترح] وهو أنسب بالسياق،. ولعل ما فى أعلى تصحيفا عن: التوقي، أي: الحذر والتحوط.
275
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ أي: المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي: على استحقاق مني، لِمَا فيّ من العلم الذي فَضلت به الناس، وهو علم التوراة، وكان أعلم الناس به بعد، موسى وهارون، وكان من العباد، ثم كفر بعد ذلك. وذكر القشيري أنه كان منقطعاً في صومعة للعبادة، فصحبة إبليسُ على العبادة، واستمر معه على ذلك، وهو لا يشعر، إلى أن ألقى إليه: إن ما هما عليه، من الانقطاع عن التكسب، وكون أمرهما على أيدي الناس، ليس بشيء، فرده إلى الكسب بتدريج، إلى أن استحكم فيه حب الدنيا والجمع والمنع، ثم تركه. هـ. وقيل: المراد به علم الكيمياء، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. أو: العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة، أو: العلم بكنوز يوسف «١».
قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، أي: أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو: نفيٌ لعلمه بذلك لأنه لَمَّا قال: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قيل له:
أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة. أو: يعترفون بها بغير سؤال، أو: يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو: لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بما قبله، والضمير في (ذنوبهم) عائد على من أهلك من القرون، أي: أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كل أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. هـ. وإذا قلنا هو في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه: ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحواله، ولأفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون، لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. هـ.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، أي: أو لم يكن في علمه، من جملة العلم الذي عنده، أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه وأقوى وأغنى، وأكثر جمعاً للمال، أو أكثر جماعة وعددا، وهو توبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ. أو: نفيٌ لعلمه بذلك لأنه لَمَّا قال: أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قيل له:
أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه، ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع، الذي هو الاعتبار بمن هلك قبله، حتى يَقِيَ نفسه مصارع الهالكين.
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ، لعلمه تعالى بعملهم، بل يُدخلهم النار بغتة. أو: يعترفون بها بغير سؤال، أو: يُعرفون بسيماهم فلا يُسألون، أو: لا يُسألون سؤال توبيخ، أو لا يُسْأَلُ المجرمون من هذه الأمة عن ذنوب الماضين. قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بما قبله، والضمير في (ذنوبهم) عائد على من أهلك من القرون، أي: أُهلكوا، ولم يُسْأَلُ غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، بل كل أحد إنما يُعاتب على ما يخصه. هـ. وإذا قلنا هو في القيامة فقد ورد في آيات أخر أنهم يُسْألون، ويومُ القيامة مواطن وطوائف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا خص الله عبداً بخصوصية فلا ينسبها لنفسه، أو لحوله وقوته، أو لكسبه ومجاهدته، بل يشهدها منَّةً من الله عليه، وسابق عناية منه إليه، قال سهل رضي الله عنه: ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله، وفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، في جميع الأفعال والأقوال. والشقي مَنّ زُيِّنَ له في عينه أفعالهُ وأقوالُه وأحواله، ولأفتح له سبيل رؤية منة الله عليه، فافتخر بها وادعاها لنفسه، فشؤمه أن يهلكه كما خسف بقارون، لَمّا ادعى لنفسه فضلاً. هـ.
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣٩٩- ٤٠٠) وتفسير البغوي (٦/ ٢٢٢).
276
ثم قال تعالى:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
قلت: (في زينته) : حال، (ويْكَأنه) : مذهب الخليل وسيبويه: أن «وي» : حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: «ويك» هي «ويلك» حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة: «ويكأن» بجملتها: كلمة. قاله الثعلبي، وقال البيضاوي: ويكأن، عند البصريين، مركب من: «وي» للتعجب، و «كأن»، للتشبيه. هـ. وقال سيبويه: «وي» : كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
يقول الحق جلّ جلاله: فَخَرَجَ قارونُ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قال جابر: كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف. قيل: إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل: خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، قيل: كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل: كانوا كفاراً، ويرده قوله: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا.. إلخ. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال والجاه، قالوه غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه. وهو كقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «١»، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضر الغبطة؟ فقال: «لا..» الحديث «٢». إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا، والحظ: الجَدُّ، وهو البخت والدولة.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢)
قلت: (في زينته) : حال، (ويْكَأنه) : مذهب الخليل وسيبويه: أن «وي» : حرف تنبيه منفصلة عن كَأَنَ، لكن أضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: «ويك» هي «ويلك» حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال. وقالت فرقة: «ويكأن» بجملتها: كلمة. قاله الثعلبي، وقال البيضاوي: ويكأن، عند البصريين، مركب من: «وي» للتعجب، و «كأن»، للتشبيه. هـ. وقال سيبويه: «وي» : كلمة تنبيه على الخطأ وتَنَدُّمٍ، يستعملها النادم لإظهار ندامته.
يقول الحق جلّ جلاله: فَخَرَجَ قارونُ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قال جابر: كانت زينته القرمز، وهو صبغ أحمر معروف. قيل: إنه خرج في الحمرة والصفرة، وقيل: خرج يوم السبت على بغلة شهباء، عليها الأرْجُوان، وعليها سرج من ذهب، ومعه أربعة آلاف على زيه، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهن الحليّ والديباج.
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا، قيل: كانوا مسلمين، وإنما تمنوا، على سبيل الرغبة في اليسار، كعادة البشر، وقيل: كانوا كفاراً، ويرده قوله: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا.. إلخ. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من المال والجاه، قالوه غِبْطَةً. والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له، دونه. وهو كقوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «١»، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضر الغبطة؟ فقال: «لا..» الحديث «٢». إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا، والحظ: الجَدُّ، وهو البخت والدولة.
(١) من الآية ٣٢ من سورة النساء.
(٢) لفظ الحديث: سأل صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ قال: «لا، إلا كما يضر العضاة الخبط، قال ابن حجر فى الكافي: ذكره ثابت السرقسطي فى الغريب، هكذا بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (٣/ ٤٣٢).
(٢) لفظ الحديث: سأل صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ قال: «لا، إلا كما يضر العضاة الخبط، قال ابن حجر فى الكافي: ذكره ثابت السرقسطي فى الغريب، هكذا بغير إسناد. انظر الكافي الشاف على هامش الكشاف (٣/ ٤٣٢).
277
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالثواب والعقاب وفناء الدنيا، أو: أوتوا العلم بالله، فيؤخذ منه: أن متمني الدنيا جاهل ولو كان أعلم الناس إذ لا يتمناها إلا المحب لها، وهي رأس الفتنة. فأيّ علم يبقى مع فتنة الدنيا؟! قالوا في وعظهم لغابطي قارون: وَيْلَكُمْ هلاكاً لكم، فأصل ويلك: الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع على ترك ما لا يرضى. وقال في التبيان في إعراب القرآن: هو مفعول بفعل محذوف، أي: ألزمتكم الله ويلكم، ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة، خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً مما أوتي قارون، بل من الدنيا وما فيها، وَلا يُلَقَّاها أي: لا يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء، وهي ثواب الله خير، إِلَّا الصَّابِرُونَ. أو: لا يلقى هذه القوة والعزيمة في الدين إلا الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا.
وفي حديث الترمذي: إنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «من ترك اللباس- أي: الفاخر- تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا» «١». وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ» «٢». أي: ليس معه إدام.
قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، كان قارون يؤذى موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه: على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له: قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال: نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو: طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون: وإن كنتَ أنتَ؟ قال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال: اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل: إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم
وفي حديث الترمذي: إنَّ رسولَ الله ﷺ قال: «من ترك اللباس- أي: الفاخر- تواضعاً لله تعالى، وهو يَقْدِرُ عليه، دعاهُ الله على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيِّره من أي حُلل الإيمانِ شاء يَلْبَسُهَا» «١». وفيه أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سوى هذِهِ الخِصَال بيتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَه، وجلَف الخُبْزِ وَالْمَاءِ» «٢». أي: ليس معه إدام.
قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، كان قارون يؤذى موسى عليه السلام كل وقت، وهو يداريه للقرابة التي بينهما، حتى نزلت الزكاة، فصالحه: على كل ألف دينار دينارٌ، وعلى كل ألف درهم درهمٌ، فحاسبه فاستكثره، فشحت به نفسه، فجمع بني إسرائيل، وقال له: قد أطعتم موسى في كل شيء، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فَمُرنا بما شئت، قال: نجعل لفلانة البغي جُعْلاً حتى تقذف موسى بنفسها، فيرفضه بنو إسرائيل، فجعل لها ألف دينار، أو: طستاً من ذهب، فلما كان يوم عيد قام موسى خطيباً، فقال: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه، فقال قارون: وإن كنتَ أنتَ؟ قال: وإن كنتُ أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت، فناشدها بالذي خلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق، فقالت: جعل لي قارون جُعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجداً يبكي، وقال: اللهم إن كنتُ رسولَك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: مُر الأرض بما شئت فيه، فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل: إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم
(١) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة، باب ٣٩، ٤/ ٥٦١ ح ٢٤٨١)، والحاكم فى المستدرك (١/ ٦١) وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث معاذ بن أنس. [.....]
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٦٢)، والترمذي وصححه فى (الزهد، باب ٣٠، ٤/ ٤٩٤، ح ٢٣٤١) من حديث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجلف الخبز» أي: ليس معه إدام. انظر: النهاية فى غريب الحديث (١/ ٨٧).
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٦٢)، والترمذي وصححه فى (الزهد، باب ٣٠، ٤/ ٤٩٤، ح ٢٣٤١) من حديث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجلف الخبز» أي: ليس معه إدام. انظر: النهاية فى غريب الحديث (١/ ٨٧).
278
مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعاً غير رَجُلَيْن. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارونُ وأصحابه يتضرعون إلى موسى، ويناشدونه بالله وبالرحم، وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم. فقال الله تعالى: يا موسى استغاث بك مراراً فلم ترحمه، فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته «١».
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل: إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي: لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يمنعونه من عذاب الله، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من عذاب الله، أو: من المنتقمين من موسى.
وَأَصْبَحَ أي: وصار الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي: منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ: متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي: أعجب مما صنع بقارون، لأن الله يبسط الرزقَ لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، وَيَقْدِرُ أي:
يُضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، لَخَسَفَ بِنا معه، كما فعل بالرجلين، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي: اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي: كأن المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز: ويكأن الله معناه: ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه: اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه.
رُوي أنه يخسف كل يوم قامة، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال بعض بني إسرائيل: إنما أهلكه ليرث داره وكنوزه، فدعى الله تعالى فخسف بداره وكنوزه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: إني لا أُعَبِّدُ الأرض أحداً بعدك أبداً، أي: لا آمرها تطيع أحداً بعدك.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يمنعونه من عذاب الله، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من عذاب الله، أو: من المنتقمين من موسى.
وَأَصْبَحَ أي: وصار الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي: منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ: متعلق بتمنوا. ولم يُرد به اليوم الذي قبل يومك، ولكن الوقت القريب، استعارة. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي: أعجب مما صنع بقارون، لأن الله يبسط الرزقَ لمن يشاء، وهو عنده ممقوت، وَيَقْدِرُ أي:
يُضيقه على من يشاء، وهو عنده محبوب. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بصرف ما كنا نتمناه بالأمس، لَخَسَفَ بِنا معه، كما فعل بالرجلين، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي: اعجب لعدم فلاح الكافرين. قال الرضي: كأن المخاطب كان يدعي أنهم يفلحون، فقال له: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: إنه لا يفلح الكافرون، فحذف حرف الجار. وقال ابن عزيز: ويكأن الله معناه: ألم تر أن الله. واقتصر عليه البخاري «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية ترهيب من التعمق في زينة الدنيا، والتكاثر بها. ومن تمنى ما لأربابها من غرور زخرفها، وترغيب في الزهد فيها، وإيثار الفقر على الغنى، والتبذل والتخشن على ملاذ ملابسها ومطاعمها. قال الشيخ العارف سيدي عبد الرحمن بن يوسف اللجائي في كتابه: اعلم أن الدنيا إذا عظمت وجلّت في قلب عبد، فإن ذلك العبد يعظم قدر من أقبلت عليه الدنيا، ويتمنى أن ينال منها ما نال، فإن كل إنسان يعظم ما اشتهت نفسه.
(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٢٢٤) وانظر تفسير ابن كثير (٣/ ٤٠١).
قلت: وهذه الرواية تجعل سبب الخسف بقارون هو غضب سيدنا موسى لنفسه، لكن القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة تبرهن على أن سبب الخسف به هو التكبر على الله تعالى، والتكبر على الناس.
(٢) انظر فتح الباري (كتاب التفسير، سورة القصص، باب. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ٨/ ٣٦٩).
قلت: وهذه الرواية تجعل سبب الخسف بقارون هو غضب سيدنا موسى لنفسه، لكن القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة تبرهن على أن سبب الخسف به هو التكبر على الله تعالى، والتكبر على الناس.
(٢) انظر فتح الباري (كتاب التفسير، سورة القصص، باب. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ٨/ ٣٦٩).
279
وهذه صفة عبيد الدنيا، وعبيد أهوائهم. وهي صفة من أسكرته الغفلة، وخرجت عظمة الله عزّ وجل من قلبه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. الآية. فكل محب للدنيا، مستغرق في حبها، فهو لا حق بالذين تمنوا زينة قارون. واعلم أن الدنيا إذا رسخت في القلب، واستوطنت، ظهر ذلك على جوارح العبد، بتكالبه عليها، وشدة رغبته فيها، فيسلبه الله تعالى لذة القناعة، ويمنعه سياسة الزاهدين، ويبعده عن روح العارفين فإن القلب إذا لم يقنع- لو ملك الدنيا بحذافيرها- لم يشبع. وقال بعض الحكماء: القناعة هي الغنى الأكبر، ولن تخفى صفة القانعين. هـ. ومآل الراغبين في الدنيا هو مآل قارون، من الفناء والذهاب تحت التراب، وأنشدوا:
ثم ذكر عاقبة المتواضعين، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
قلت: (تلك) : مبتدأ، و (نجعلها) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي: تلك الدار التي سمعت بذكرها، وبلغك خبرها.
ومعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، وَلا فَساداً عملاً بالمعاصي، أو: ظلماً على الناس، كحال قارون، أو: قتل النفس، أو:
دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك
إن كنت تسّموا إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا | فَانْظُرْ إِلى مَالِكَ الأَمْلاَكِ قَارُونِ |
رَمَّ الأُمُورَ فَأَعْطَتْهُ مَقَادتَهَا | وَسَخَّرَ النَّاسَ بِالتَّشْدِيدِ وَاللِّينِ |
حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَلاَّ شَيءَ غَالِبُه | وَمُكِّنَتْ قَدَمَاهُ أَيَّ تَمْكِينِ |
رَاحَتْ عَلَيْهِ الْمَنَايَا رَوْحَةً تَرَكَتْ | ذَا المُلْكِ والْعِزِّ تَحْتَ الْمَاءِ والطّين |
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤)
قلت: (تلك) : مبتدأ، و (نجعلها) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي: تلك الدار التي سمعت بذكرها، وبلغك خبرها.
ومعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، وَلا فَساداً عملاً بالمعاصي، أو: ظلماً على الناس، كحال قارون، أو: قتل النفس، أو:
دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك
280
بالفعل أم لا. وعن على رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها.
وعن الفضيل: أنه قرأها، ثم قال: ذهبت الأمانى هاهنا. وعن عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه الله من العلو والفساد وغير ذلك.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتاً وقدراً ووصفا، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ما لا يرضاه الله تعالى، فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، أصله: فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة: جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم: «ادفن نفسك في أرض الخمول فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ». قال في التنبيه: لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هو مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
وكان شيخ شيخنا يقول: نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ.
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه: ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت: ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقفرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال: ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
قلت: وهذا مقام من المقامات، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شيء إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق. «١»
وعن الفضيل: أنه قرأها، ثم قال: ذهبت الأمانى هاهنا. وعن عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه الله من العلو والفساد وغير ذلك.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتاً وقدراً ووصفا، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ما لا يرضاه الله تعالى، فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، أصله: فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة: جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم: «ادفن نفسك في أرض الخمول فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ». قال في التنبيه: لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هو مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. هـ.
وكان شيخ شيخنا يقول: نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. هـ.
وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه: ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت: ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما. فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقفرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال: ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه لأن ذلك عيش نفسه. هـ.
قلت: وهذا مقام من المقامات، والعارف الكامل لا يتغير قلبه على فقد شيء إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق. «١»
(١) من مناجاة سيدى ابن عطاه الله السكندرى، انظر الحكم بتويب المتقى الهندي/ ٤٢.
281
ثم ذكر عاقبة سيد المتقين، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
قلت: (ولا يصدنك) : مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله، لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عظيم، وهو المعاد الجسماني لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو: لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة «١»، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبى ﷺ لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني: نفسه ﷺ مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى يوحي إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، لكن ألقاه إليك رحمة منه
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
قلت: (ولا يصدنك) : مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله، لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ عظيم، وهو المعاد الجسماني لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو: لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، ولكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة «١»، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبى ﷺ لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى أي: يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني: نفسه ﷺ مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى يوحي إِلَيْكَ الْكِتابُ أي: القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، لكن ألقاه إليك رحمة منه
(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٤٠٢- ٤٠٣).
282
إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى، كأنه قال: وما أُلْقِيَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً من ربك، فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً معيناً لِلْكافِرِينَ على دينهم بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ أي: لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي: بعد وقت إنزالها، وإِذْ: مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ ويَومَئذٍ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، نهاه تنفيراً لغيره من الشرك.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي: وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ: استئناف، مقرر لِمَا قبله، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي: كل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية: إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. هـ. وقال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في خلقه، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها: إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا، لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية فيقولون:
رَبِّي أَعْلَمُ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي: لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي: إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي: معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه: إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ أي: لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي: بعد وقت إنزالها، وإِذْ: مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ ويَومَئذٍ. وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، نهاه تنفيراً لغيره من الشرك.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي: وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ: استئناف، مقرر لِمَا قبله، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي: كل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية. وقال أبو العالية: إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. هـ. وقال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في خلقه، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها: إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا، لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية فيقولون:
رَبِّي أَعْلَمُ الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي: لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله، الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي: إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي: معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه: إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
الله قُلْ، وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى | إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال |
فَالْكُلُّ، دون اللهِ، إنْ حَققتَهُ، | عَدم عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ |
وَاعلَمْ بأنَّكَ، والعَوالِمَ كُلَّها، | لَوْلاَهْ، فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ |
مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ | فوجُودُهُ، لولاهُ، عَيْنُ |
مُحَالِ فَالْعَارِفُون فَنَوْا، وَلَمْ يَشْهَدُوا | شَيْئاً سِوَى المتكبر الم |
تعال ورَأوْا سواهُ عَلَى الحقيقةِ هَالِكاً | فِي الحالِ والماضِي وَالاسْتِقْبَال. |
284