ﰡ
ولما كانت هذه إشارات عالية، وما بعدها لزوم نظوم لأوضح الدلالات حاوية، قال مشيراً إلى عظمتها: ﴿تلك﴾ أي الآيات العالمية الشأن ﴿آيات الكتاب﴾ أي المنزل على قلبك، الجامع لجميع المصالح الدنيوية والأخروية ﴿المبين*﴾ أي الفاصل الكاشف الموضح المظهر، لأنه من عندنا من غير شك، ولكل ما يحتاج إليه من ذلك وغيره، عند من يجعله من شأنه ويتلقاه بقبول، ويلقي إليه السمع وهو شهيد؛ ثم أقام الدليل على إبانته. وأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم يختلفون، بما أورد هنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام
ولما كان المراد إنما هو قص ما هو من الأخبار العظيمة بياناً للآيات بعلم الجليات والخفيات، والمحاسبة والمجازاة، لا جميع الأخبار، قال: ﴿من نبأ موسى وفرعون﴾ أي بعض خبرهما العظيم متلبساً هذا النبأ وكائناً ﴿بالحق﴾ أي الذي يطابقه الواقع، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولى الإذعان بقوله: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي يجددون الإيمان في كل وقت عند كل حادثة لثبات إيمانهم، فعلم أن المقصود منها هنا الاستدلال على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمي بالاطلاع علىلمغيبات، والتهديد بعلمه المحيط، وقدرته الشاملة، وأنه ما شاء كان ولا مدفع لقضائه، ولا ينفع حذر من قدرة، فصح أنها دليل على قوله تعالى آخر تلك ﴿سيريكم آياته فتعرفونها﴾ الآية، ولذلك لخصت رؤوس أخبار القصة، فذكرت فيها أمهات الأمور الخفية ودقائق أعمال
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمن قوله سبحانه ﴿إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها﴾ - إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذار والتهديد لما انجرّ معه الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام سيملك مكة البلدة ويفتحها الله تعالى عليه، ويذل عتاة قريش ومتمرديهم، ويعز أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن استضعفته قريش من المؤمنين، اتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من تطهير ما أشار إليه من قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون، واستيلائه عليهم، وفتكه بهم إلى
فهلا تأملتم عاقبة الفريقين، وسلكتم أنهج الطريقين؟ {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف
ولما كان كأنه قيل: ما هذا المقصوص من هذا النبأ؟ قال: ﴿إن فرعون﴾ ملك مصر الذي ادعى الإلهية ﴿علا﴾ أي بادعائه الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم ﴿في الأرض﴾ أي لأنا جمعنا عليه الجنود فكانوا معه إلباً واحداً فأنفذنا بذلك كلمته،
ولما كان التقدير بما دل عليه العاطف: فكفر تلك النعمة، عطف عليه قوله: ﴿وجعل﴾ بما جعلنا له من نفوذ الكلمة ﴿أهلها﴾ أي الأرض المرادة ﴿شيعاً﴾ أي فرقاً يتبع كل فرقة شيئاً وتنصره، والكل تحت قهره وطوع أمره، قد صاروا معه كالشياع، وهو دق الحطب، فرق بينهم لئلا يتمالؤوا عليه، فلا يصل إلى ما يريده منهم، فافترقت كلمتهم فلم يحم بعضهم لبعض فتخاذلوا فسفل أمرهم، فالآية من الاحتباك، ذكر العلو أولاً دليلاً على السفول ثانياً، والافتراق ثانياً دليلاً على الاجتماع أولاً، جعلهم كذلك حال كونه ﴿يستضعف﴾ أي يطلب ويوجد أن يضعف، أو هو استئناف ﴿طائفة منهم﴾ وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم، وهو يوسف عليه السلام.
وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده، ومع ذلك كافؤوه في أولاده وإخوته بأن استعبدوهم، ثم ما كفاهم ذلك حتى ساموهم على يدي هذا العنيد سوء العذاب فيا بأبي الغرباء بينهم قديماً وحديثاً، ثم بين سبحانه الاستضعاف بقوله:
ولما كان هذا أمراً متناهياً في الشناعة، ليس مأموراً به من جهة شرع ما، ولا له فائدة أصلاً، لأن القدر - على تقدير صدق من أخبره - لا يرده الحذر، قال تعالى مبيناً لقبحه، شارحاً لما أفهمه ذلك من حاله: ﴿إنه كان﴾ أي كوناً راسخاً ﴿من المفسدين*﴾ أي الذين لهم عراقة في هذا الوصف، فلا يدع أن يقع منه هذا الجزئي المندرج تحت ما هو قائم به من الأمر الكلي.
ولما كان التقدير كما أرشد إليه السياق لمن يسأل عن سبب فعله هذا العجيب: يريد بذلك زعم دوام ملكه بأن لا يسلبه إياه واحد منهم أخبره بعض علمائه أنه يغلبه عليه ويستنقذ شعبه من العبودية، عطف عليه قوله يحكي تلك الحال الماضية: ﴿ونريد﴾ أو هي حالية، أي يستضعفهم والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم. أي يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة ﴿أن نمن﴾ أي نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً بأن نمتن به
ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلاماً بأنه أضخم تمكين فقال عاطفاً على نحو: ونريد أن نأخذ الذين علوا في الأرض وهم فرعون وهامان وجنودهما: ﴿ونري﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فرعون﴾ أي الذي كان هذا الاستضعاف منه ﴿وهامان﴾
ولما كان التقدير: فكان ما أردناه، وطاح ما أراد غيرنا، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله، وقضينا بأن يسمى موسى، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر، ونربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا فقال: ﴿وأوحينا﴾ أي أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي، الله أعلم به هل هو ملك أو غيره، إذ لا بدع في تكليم الملائكة الولي من غير نبوة ﴿إلى أم موسى﴾ أي الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم، وأن يكون هلاك فرعون
﴿ولا تخافي﴾ أي لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى أو يوصل إلى أذاه ﴿ولا تحزني﴾ أي ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه.
ولما كان الوحي إليها بهذا سبباً لإلقائه في البحر. وإلقاؤه سبباً لالتقاطه، قال: ﴿فالتقطه﴾ أي فأرضعته فلما خافت عليه صنعت له صندوقاً وقيرته لئلا يدخل إليه الماء وأحكمته وأودعته فيه وألقته في بحر النيل، وكأن بيتها كان فوق بيت فرعون، فساقه الماء إلى قرب بيت فرعون، فتعوق بشجر هناك، فتلكف جماعة فرعون التقاطه، قال البغوي: والالتقاط وجود الشيء من غير طلب. ﴿آل فرعون﴾ بأن أخذوا الصندوق، فلما فتحوه وجدوا موسى عليه السلام فأحبوه لما ألقى الله تعالى عليهم ممن محبته فاتخذوه ولداً وسموه موسى، لأنهم وجدوه
ولما كانت عاقبة أمره إهلاكهم، وكان العاقل لا سيما المتحذلق، لا ينبغي له أن يقدم على شيء حتى يعلم عاقبته فكيف إذا كان يدعي أنه إله، عبر سبحانه بلام العاقبة التي معناها التعليل، تهكماً بفرعون - كما مضى بيان مثله غير مرة - في قوله: ﴿ليكون لهم عدواً﴾ أي بطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق ﴿وحزناً﴾ أي بزوال ملكهم، لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله بها من يشاء منهم، ثم يهلك جميع أبكارهم فيخلص جميع بني إسرائيل منهم، ثم يظفر بهم كلهم. فيهلكهم الله بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة، فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله، فهذه اللام للعلة استعيرت لما أنتجته العلة التي قصدوها - وهي التبني وقرة العين - من الهلاك، كما استعير الأسد للشجاع فأطلق عليه، فقيل: زيد أسد. لأن فعله كان فعله، والمعنى على طريق التهكم أنهم ما أخذوه إلا لهذا الغرض، لأنا نحاشيهم من الإقدام على ما يعلمون آخر أمره.
ولما كان لا يفعل هذا الفعل إلا أحمق مهتور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب على ذلك بالأمرين فقال: ﴿إن فرعون وهامان وجنودهما﴾
وقال الأموي، المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطىء: من تعمد ما لا ينبغي، وقال ابن ظريف في الأفعال: خطىء الشيء خطأ وأخطأه: لم يصبه.
ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره، أخبر عما قيل عند التقاطه فقال عاطفاً على ﴿فالتقطه﴾ :﴿وقالت امرأة فرعون﴾ أي لفرعون لما أخرجته من التابوت، وهي التي قضى الله أن يكون سعادة، وهي آسية بنت مزاحم إحدى نساء بني إسرائيل - نقله البغوي: ﴿قرت عين لي﴾ أي به ﴿ولك﴾ أي يا فرعون.
ولما أثبت له أنه ممن تقر به العيون، أنتج ذلك استبقاءه، ولذلك
ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم، فلا يصح كونه إلهاً، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال: ﴿وهم﴾ أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم ﴿لا يشعرون*﴾ أي لا شعور لهم أصلاً، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم.
ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفاً على ﴿وأصبح﴾ :﴿وقالت﴾ أي أمه ﴿لأخته﴾ أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره: ﴿قصيه﴾ أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً،
ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال: ﴿وحرمنا﴾ أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها ﴿عليه المراضع﴾ جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.
ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ ﴿فقالت﴾ أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: ﴿هل﴾ لكم حاجة في أني ﴿أدلكم على أهل بيت﴾ ولم يقل:
إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك: ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفهامهم لها أولاً، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة،
ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفاً على ما تقديره: فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين: ﴿ولكن أكثرهم﴾ أي أكثر آل فرعون وغيرهم ﴿لا يعلمون*﴾ أي لا علم لهم أصلاً، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه.
ولما استقر الحال، على هذا المنوال، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال، والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال، وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال: ﴿ولما بلغ أشده﴾ أي مجامع قواه وكمالاته ﴿واستوى﴾ أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها؛ وقال الرازي: قال الجنيد: لما تكامل عقله، وصحت بصيرته، وصلحت نحيرته، وآن أوان خطابه - أنتهى. أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة من الغرائز لم تكن فيه أيام الشباب، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان ﴿آتيناه﴾ أي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً ﴿حكماً﴾ أي عملاً محكماً بالعلم ﴿وعلماً﴾ أي
ولما كان كأنه قيل: إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله: ﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام: ﴿هذا﴾ أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي ﴿من عمل الشيطان﴾ أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس
ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله: ﴿قال﴾ وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال: ﴿إني ظلمت نفسي﴾ أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً.
ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك: ﴿فاغفر﴾ أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها ﴿لي﴾ أي لأجلي لا تؤاخذني ﴿فغفر﴾ أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ﴿له﴾ ثم علل ذلك
ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله: ﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بكل جميل. ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال: ﴿بما أنعمت عليّ﴾ أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها. ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال: ﴿فلن أكون ظهيراً﴾ أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً ﴿للمجرمين*﴾ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا
ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال: ﴿فأصبح﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام ﴿في المدينة﴾ أي التي قتل القتيل فيها ﴿خائفاً﴾ أي بسبب قتله له ﴿يترقب﴾ أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي: والترقب: انتظار المكروه. ﴿فإذا﴾ أي ففجئه ﴿الذي استنصره﴾ أي طلب نصرته من شيعته ﴿بالأمس﴾ أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله ﴿يستصرخه﴾ أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: ﴿قال له﴾ أي لهذا المستصرخ ﴿موسى﴾.
ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله: ﴿إنك لغوي﴾ أي صاحب ضلال بالغ ﴿مبين*﴾ أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه: ﴿فلما﴾
ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في
ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل: لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول: لا هلاك، قال واصفاً للرجل: ﴿من أقصا المدينة﴾ أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله: ﴿يسعى﴾ ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل: ﴿قال﴾ منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس: ﴿يا موسى﴾ وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال: ﴿إن الملأ﴾ أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي ﴿يأتمرون بك﴾ أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: ﴿ليقتلوك﴾ لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ﴿فاخرج﴾ أي من هذه المدينة؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك: ﴿إني لك﴾ أي خاصة ﴿من الناصحين*﴾ أي العريقين في نصحك ﴿فخرج﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً ﴿منها﴾ أي المدينة لما علم من
ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال: ﴿ولما﴾ أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما ﴿توجه﴾ أي أقبل بوجهه قاصداً ﴿تلقاء﴾ أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ﴿مدين﴾ مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه ﴿قال﴾ أي لكونه
ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة ﴿أن يهديني سواء﴾ أي عدل ووسط ﴿السبيل*﴾ وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج.
ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: ﴿ولما ورد﴾ أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب ﴿ماء مدين﴾ أي الذي يستقي منها الرعاء ﴿وجد عليه﴾ أي على الماء ﴿أمة﴾ أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: ﴿من الناس﴾ وبين عملهم أيضاً بقوله: ﴿يسقون*﴾ أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي ﴿ووجد من دونهم﴾ أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء ﴿امرأتين﴾ عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها ﴿تذودان﴾ أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: ﴿قال﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: ﴿ما خطبكما﴾ أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة ﴿قالتا﴾ أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: ﴿لا﴾ أي خبرنا أنا لا ﴿نسقي﴾ أي مواشينا، وحذفه للعلم به ﴿حتى يصدر﴾ أي ينصرف ويرجع ﴿الرعاء﴾ أي عن الماء لئلا يخالطهم - هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر: يوجدوا الرد والصرف.
ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال:
ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن ﴿قال﴾ أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام: ﴿لا تخف﴾ أي فإن فرعون لا سلطان له
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك: ﴿قالت إحداهما﴾ أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: ﴿يا أبت استأجره﴾ ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: ﴿إن خير من استأجرت﴾ لشيء من الأشياء ﴿القوي﴾ وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي ﴿الأمين*﴾ لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله؛ قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود. ﴿قال﴾ أي شعيب عليه الصلاة والسلام، وهو في التوراة يسمى: رعوئيل - بفتح الراء وضم العين
ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما، نفى ذلك بقوله: ﴿هاتين﴾ أي الحاضرتين اللتين سقيت لهما، ليتأملهما فينظر من يقع اختياره عليها منهما ليعقد له عليها ﴿على أن تأجرني﴾ أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي ﴿ثماني حجج﴾ جمع حجة - بالكسر، أي سنين، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها، وآجره - بالمد والقصر، من الأجر والإيجار، وكذلك أجر الأجير والمملوك وآجره: أعطاهما أجرهما ﴿فإن أتممت﴾ أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها ﴿عشراً﴾ أي عشر سنين ﴿فمن﴾ أي فذلك فضل من ﴿عندك﴾
ولما ذكر له هذا، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال: ﴿وما أريد أن أشق عليك﴾ أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال: ﴿ستجدني﴾ ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال: ﴿إن شاء الله﴾ أي الذي له جميع الأمر ﴿من الصالحين*﴾ أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير ﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام ﴿ذلك﴾ أي الذي ذكرت من الخيار وغيره ﴿بيني وبينك﴾ أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً، وما أشرت
فلما كان بعد تلك الأيام نشأ موسى عليه السلام وخرج إلى إخوته فنظر إلى ذلهم، فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته من بني إسرائيل، فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فقتل المصري، فمات ودفنه في الرمل، ثم خرج يوماً آخر فإذا هو برجلين عبرانيين يصطحبان، فقال للمسيء منهما: ما بالك؟ تضرب أخاك؟ فقال له: من جعلك علينا رئيساً وحاكماً؟ لعلك تريد أن تقتلني كما قتلت المصري أمس؟ ففرق موسى وقال: حقاً لقد فشا هذا الأمر، فبلغ فرعون الأمر وأراد موسى، فهرب موسى من فرعون وانطلق إلى أرض
ولما كان من المعلوم أن التقدير: فلما التزم موسى عليه السلام
ولما كان كأنه قيل: ماذا فعل عندما أبصرها قيل: ﴿قال لأهله﴾ ولما كان النساء أعظم ما ينبغي ستره، أطلق عليها ضمير الذكور فقال: ﴿امكثوا﴾ وإن كان معه بنين له فهو على التغليب، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً، لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك
ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه، بنى للمفعول قوله دالاًّ على ما في أول الأمر من الخفاء: ﴿نودي﴾ ولما كان نداؤه سبحانه لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب، وكان مع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد تشريف بوصف من الأوصاف، إما بأن يكون أول السماع منه أو غير ذلك أو يكون باعتبار كون موسى عليه الصلاة والسلام فيه قال: ﴿من﴾ أي
ولما كان هذا الاسم غيباً، تعرف بصفة هي مجمع الأفعال المشاهدة للإنسان فقال: ﴿رب العالمين*﴾ أي خالق الخلائق أجمعين ومربيهم ﴿وأن ألق عصاك﴾ أي لأريك فيها آية.
ولما كان التقدير: فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة، وهي مع عظمها في غاية الخفة، بنى عليه قوله: ﴿فلما رآها﴾ أي العصا ﴿تهتز كأنها﴾ أي في سرعتها وخفتها ﴿جان﴾ أي حية صغيرة ﴿ولّى مدبراً﴾ خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها، وهو معنى قوله: ﴿ولم يعقب﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له: ﴿يا موسى أقبل﴾ أي التفت وتقدم إليها ﴿ولا تخف﴾ ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله: ﴿إنك من الآمنين*﴾ أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين؛ ثم زاد طمأنينته بقوله: ﴿اسلك﴾ أي ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة ﴿يدك في جيبك﴾ أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس، أو هو الكم، كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرر، تنسلك على لونها وما هي عليه من
ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال: ﴿واضمم إليك﴾ أي إلى جسدك. ولما كان السياق للتأمين من الخوف، عبر بالجناح، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال: ﴿جناحك﴾ أي يديك التي صارت بيضاء، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك ﴿من الرهب﴾ أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك - هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم، فيكون إدخالها في الفتى - التي ليست موضعها بل الرأس - للبياض، وإدخالها في الكم - الذي هو لها - لرجوعها إلى عادتها، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقال: وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وأظهر بلفظ الجناح من
ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال: ﴿فذانك﴾ أي العصي واليد البيضاء، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة، وذكر لزيادة التقوية ﴿برهانان﴾ أي سلطانان وحجتان قاهرتان ﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ﴿إلى﴾ أي واصلان، أو أنت مرسل بهما إلى ﴿فرعون وملئه﴾ كلما أردت ذلك وجدته، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين: ﴿إنهم كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿قوماً﴾ أي أقوياء ﴿فاسقين*﴾ أي خارجين عن الطاعة، فإذا رأوا ذلك هابوك، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم.
ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير: فأرسل معي أخي هارون - إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: ﴿وأخي هارون﴾ والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية
ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله: ﴿يصدقني﴾ أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً. ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له: صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف: ﴿إني أخاف أن يكذبون*﴾.
ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن
«إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة» وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم، ليمضوا في الأمر على بصيرة، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة.
ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً: ﴿قال سنشد﴾ وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال: ﴿عضدك﴾ أي أمرك ﴿بأخيك﴾ أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك ﴿ونجعل لكما سلطاناً﴾ أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج
شرح ما مضى من التوراة، قال بعدما تقدم: وكان من بعد
وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر، فقال موسى لله: من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر، فقال الله: أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك: إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل، فقال موسى: ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم: الرب إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي: ما اسمه؟ ما الذي أقول؟ فقال الرب لموسى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل، وفي نسخة: لا يزول، وقال: هكذا قل لبني إسرائيل: أهيا شر أهيا أرسلني إليكم، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل:
ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال: ﴿موسى بآياتنا﴾ أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها ﴿بينات﴾ أي في غاية الوضوح ﴿قالوا﴾ أي فرعون وجنوده ﴿ما هذا﴾ أي الذي أظهره من الآيات ﴿إلا سحر مفترى﴾ أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله ﴿وما سمعنا بهذا﴾ أي الذي تقوله من الرسالة عن الله ﴿في آبائنا﴾ وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله: ﴿الأولين*﴾ وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام «وما بالعهد من قدم» فقد قال لهم الذي آمن {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم
ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما «فبضدها تتبين الأشياء» هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال: ﴿وقال موسى﴾ أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء ﴿أعلم بمن جاء﴾ بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال «بمن جاء» ﴿بالهدى﴾ أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه ﴿من عنده﴾، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه ﴿ومن تكون له﴾ لكونه منصوراً مؤيداً ﴿عاقبة الدار﴾ أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر
ولما قال هذا مريداً به - كما تقدم - إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى: ﴿واستكبر﴾ أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه ﴿هو﴾ بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل ﴿وجنوده﴾ بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل ﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل ﴿بغير الحق﴾ أي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة، والتعبير
ولما كان «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وكانوا أول من أصر وأطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات، وإخفاء الدلالات النيرات، على تواليها وكثرتها، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد، لا سيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قال تعالى في مظهر العظمة: ﴿وجعلناهم﴾ أي في الدنيا ﴿أئمة﴾ أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل من هذه الآيات، أي جعلنا أمرهم شهيراً حتى لا يكاد أحد يجهله، فكل من فعل مثل أفعالهم من رد الحق والتجبر على الخلق، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصداً ذلك، فأطلق ذلك عليه رفعاً له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل،
ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا، قال: ﴿ويوم القيامة﴾ أي الذي هو يوم التغابن ﴿لا ينصرون*﴾ أي لا يكون لهم نوع نصرة أصلاً كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة، يخلدون في العذاب، ويكون لهم سوء المآب.
ولما أخبر عن هذا الحال، أخبر عن ثمرته؛ فقال في مظهر العظمة، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله، وأنهم مع ذلك طوع المشيئة ﴿وأتبعناهم في هذه﴾ ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم، فسر اسم الإشارة فقال: ﴿الدنيا﴾ ولم يقل: الحياة، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم ﴿لعنة﴾ أي طرداً وبعداً عن جنابنا ودفعاً لهم بذلك ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه
ولما وعد سبحانه بإمامة بني إسرائيل وقص القصص حتى ختم بإمامة آل فرعون في الدعاء إلى النار إعلاماً بأن ما كانوا عليه تجب مجانبته ومنابذته ومباعدته، وكان من المعلوم أنه لا بد لكل إمامة من دعامة، تشوفت النفس إلى أساس إمامة بني إسرائيل التي يجب العكوف في ذلك الزمان عليها، والتمسك بها، والمبادرة إليها، فأخبر سبحانه عن ذلك مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع، لأن العرب وإن كانوا مصدقين لما وقع من المنة على بني إسرائيل بإنقاذهم من يد فرعون
ولما كان حكم التوراة لا يستغرق الزمان الآتي، أدخل الجار فقال: ﴿من بعد ما﴾ إشارة إلى أن إيتاءها إنما هو في مدة من الزمان، ثم ينسخها سبحانه بما يشاء من أمره ﴿أهلكنا﴾ أي بعظمتنا ﴿القرون الأولى﴾ أي من قوم نوح إلى قوم فرعون، ووقتها بالهلاك إشارة إلى أنه لا يعم أمة من الأمم بالهلاك بعد إنزالها تشريفاً لها ولمن أنزلت عليه وأوصلت إليه؛ ثم ذكر حالها بقوله: ﴿بصائر﴾ جمع بصيرة، وهي نور القلب، مصابيح وأنواراً ﴿للناس﴾ أي يبصرون بها ما يعقل من أمر معاشهم ومعادهم، وأولاهم وأخراهم، كما أن نور العين
ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال: ﴿وهدى﴾ أي للعامل بها إلى كل خير. ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه، وكان ضاراً، قال: ﴿ورحمة﴾ أي نعمة هنية شريفة، لأنها قائدة إليها.
ولما ذكر حالها، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال: ﴿لعلهم يتذكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، وهذا إشارة إلى أنه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله.
ولما كان التقدير: وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين
ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود، نفى سبب العلم بذلك فقال: ﴿وما كنت ثاوياً﴾ أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ﴿في أهل مدين﴾ أي قوم شعيب عليه السلام ﴿تتلوا﴾ أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق ﴿عليهم آياتنا﴾ العظيمة، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم
ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله: ﴿وما كنت بجانب الطور إذ﴾ أي حين ﴿نادينا﴾ أي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله، لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولا أحد أحملها عمن حملها عنه، ولكن ذلك كان إليك منا، وهو معنى قوله: ﴿ولكن﴾ أي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحيناه إليك وأرسلناك به إلى الخلائق ﴿رحمة من ربك﴾ لك خصوصاً وللخلق عموماً ﴿لتنذر﴾ أي تحذر
ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافياً للحجة في عذابهم بما أوجبه الله - وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل - على نفسه الشريفة، فضلاً منه ورحمة، ذكر أن إرساله مما لا بد منه لذلك فقال: ﴿ولولا﴾ أي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المواجهة به، وذلك الذي ختم الإرسال هو ﴿أن تصيبهم﴾ أي في وقت من الأوقات ﴿مصيبة﴾ أي عظيمة ﴿بما قدمت أيديهم﴾ أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه ﴿فيقولوا ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿لولا﴾ أي هل لا ولم لا ﴿أرسلت إلينا﴾ أي على وجه التشريف لنا، لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به ﴿رسولاً﴾ وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله: ﴿فنتبع﴾ أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع ﴿آياتك ونكون﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿من المؤمنين*﴾ أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً بليغاً، فإذا قالوا
ولما كان الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون موجباً للإيمان على زعمهم إلا بأن يكون أعظم مما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يكون الناس لم يتوقفوا في الإيمان به، وكان كل من الأمرين منتفياً بأن أهل زمانه كفرو به، وهو لما سألوا
ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل، أثبت الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل مجيء الحق على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم. ولما كان كأنه قيل: ما كان كفرهم به؟ قيل: ﴿قالوا﴾ أي فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل كقارون ومن تبعه. ولما كان قد تقدم هنا قريباً أن المظاهر له أخوه، فكان المراد واضحاً، أضمرهما فقال: ﴿ساحران﴾ أي هو وأخوه ﴿تظاهرا﴾ أي أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة، وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين - على قراءة الكوفيين، ويجوز - وهو أقرب أن يكون الضمير لمحمد وموسى
لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر، لكان سحر فرعون أعظم إعجازاً، لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارض ما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام من آية العصا، وأما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد دعا أهل الأرض من الجن والإنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا.
ولما تضمن قولهم ذلك الكفر، صرحوا به في قولهم: ﴿وقالوا﴾ أي كفار قريش أو المتقدمون من فرعون وأضرابه: ﴿إنا بكل﴾ من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما، وهما ما أتيا به من عند الله ﴿كافرون*﴾ جرأة على الله وتكبراً على الحق.
ولما قالوا ذلك، كان كأنه قيل: فماذا فعل؟ قال: ﴿قل﴾
ولما أمرهم بأمره بالإتيان، ذكر شرطه من باب التنزل، لإظهار النصفة، وهو في الحقيقة تهكم بهم فقال: ﴿إن كنتم﴾ أيها الكفار! كوناً راسخاً ﴿صادقين*﴾ أي في أنا ساحران، فائتوا ما ألزمتكم به.
ولما كان شرط صدقهم، بين كذبهم على تقدير عدم الجزاء فقال: ﴿فإن لم يستجيبوا﴾ أي الكفار الطالبون للأهدى في الإتيان به. ولما كانت الاستجابة تتعدى بنفسها إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، وكان ذكر الداعي أدل على الاعتناء به والنظر إليه، قال
ولما كانت متابعة الهوى على هذا الصورة ظلماً، وصل به قوله مظهراً لئلا يدعى التخصيص بهم: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا راد لأمره ﴿لا يهدي﴾ وأظهر موضع الإضمار للتعميم فقال: ﴿القوم الظالمين*﴾ أي وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهوائهم، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً اتباع الهوى دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً الظلم دليلاً على حذفه أولاً.
ولما بكتهم بالتنبيه بهذا التأكيد على مبالغتهم في الكذب بالقول أو بالفعل في أنه ما أتاهم ما يقتضي التذكير أتبع ذلك التوصيل عليه فقال: ﴿لعلهم يتذكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم
ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر، وكان كأنه قيل: هل تذكروا؟ قيل: نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً، وذلك معنى قوله: ﴿الذين آتيناهم﴾ أي بعظمتنا التي حفظناهم بها ﴿الكتاب﴾ أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء، وهم يتلون ذلك حق تلاوته، في بعض الزمان الذي كان ﴿من قبله﴾ أي القرآن ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿به﴾ أي القرآن، لا بشيء مما يخالفه ﴿يؤمنون*﴾ أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿وإذا يتلى﴾ أي تتجدد تلاوته ﴿عليهم قالوا﴾ مبادرين: ﴿آمنا به﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه، فكيف إذا كان أصله حقاً من عند الله، ﴿إنه الحق﴾ أي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل، مع كونه ﴿من ربنا﴾ المحسن إلينا،
ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوىء، قال عاطفاً على ﴿يؤمنون﴾ مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين: ﴿ويدرءون بالحسنة﴾ من الأقوال والأفعال ﴿السيئة﴾ أي من ذلك كله فيمحونها بها.
ولما كان معنى هذا أنهم سالمون منهم، صرحوا لهم به فقالوا:
ولما كان من المعلوم أن نفس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جبلت عليه من الخير والمحبة لنفع جميع العباد، لا سيما العرب، لقربهم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاسيما أقربهم منه صلة للرحم تتأثر بسبق أهل الكتاب لقومه، وكان ربما ظن ظان أن عدم هدايتهم لتقصير في دعائه أو إرادته لذلك، وأنه لو أراد هدايتهم وأحبها، وعلق همته العلية بها لاهتدوا، أجيب عن هذا بقوله تعالى في سياق التأكيد إظهاراً لصفة القدرة والكبرياء والعظمة: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ أي نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، وإنما في يدك الهداية التي هي الإرشاد والبيان.
ولما كان ربما ظن من أجل الإخبار بتوصيل القول وتعليله ونحو ذلك من أشباهه أن شيئاً من أفعالهم يخرج عن القدرة، قال نافياً لهذا الظن مشيراً إلى الغلط في اعتقاده بقوله: ﴿ولكن الله﴾ المتردي برداء الجلال والكبرياء والكمال وله الأمر كله ﴿يهدي من يشاء﴾ هدايته
انتهى وقال في كتاب التوحيد: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: نزلت في أبي طالب، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بالتوحيد فقال: لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية.
ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام ثم كفرهم به وبما هو أعظم منه، وختم بأنه أعلم بأهل الخير وأهل الشر، إشارة إلى الإعراض عن الأسف على أحد، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء، قال دليلاً على ذلك لأنهم إنما يتبعون أهواءهم، عاطفاً على قالوا ﴿لولا أوتي﴾ ﴿وقالوا إن نتبع﴾ أي غاية الاتباع ﴿الهدى﴾ أي الإسلام فنوحد الله من غير إشراك ﴿معك﴾ أي وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس ﴿نتخطف﴾ أي من أي خاطف أردنا، لأنا نصير قليلاً في كثير. من غير نصير ﴿من أرضنا﴾ كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا، وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوتهم فيسرعو إلينا فيتخطفونا، أي يتقصدون خطفنا واحداً واحداً، فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض؛ قال البغوي:
ولما كان التقدير في الرد على هذا الكلام الواهي: ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم، به العرب أو أشد، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم، عطف عليه قوله: ﴿أولم نمكن﴾ أي غاية التمكين ﴿لهم﴾ في أوطانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة ﴿حرماً آمناً﴾ أي ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم، بل إذا وصل إليه عدل عنه؛ قال ابن هشام في استيلاء كنانة وخزاعة على البيت: وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته - انتهى. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء؛ وروى الأزرقي في تأريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال: كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد، فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده،
وعن أيوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له: يا بني: إني
وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أن رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم، فقال: هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء، فجاء الحرم في الشهر الحرام، فقال: اللهم إني ادعوك جاهداً مضطراً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق، فما زال ينتفخ حتى انشق، وأن عمر رضي الله عنه سال رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره، فقال: يا أمير المؤمنين! كنا بني ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله، وبالرحم، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول:
لا همّ أدعوك دعاء جاهداً | اقتل بني الضبعاء إلا واحدا |
ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً | أعمى إذا قيد يعيي القائدا |
ولما وصفه بالأمن، أتبعه ما تطلبه النفس بعده فقال: ﴿يجبى﴾ أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه ﴿إليه﴾
ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات، وجباية هذه الثمرات، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً، ولا يخشى عاقبة، ولا له ملك قاهر من الناس يرده، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال: ﴿رزقاً من لدنا﴾ أي من أبطن ما عندنا وأغربه، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب، ومظهراً في تلك أشعاب، توطئة لنبوتك، وتمهيداً لرسالتك، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون.
ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة، ترغيباً لهم - إن آمنوا - بإهلاك أضدادهم، وترهيباً - إن أصروا - من المعاملة بعكس مرادهم، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال: ﴿فتلك مساكنهم﴾.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: ﴿لم تسكن﴾ أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: ﴿من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً
ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال: ﴿فتلك مساكنهم﴾.
ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: ﴿لم تسكن﴾ أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: ﴿من بعدهم﴾ بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، ﴿إلا﴾ سكوناً ﴿قليلاً﴾ بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.
ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً
ولما غيّى الإهلاك بالإرسال تخويفاً، ضرب له غاية أخرى تحريراً للأمر وتعريفاً، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال، على مقامه العال، بانتهاك الحرمات، عبر بأداة العظمة فقال: ﴿وما كنا﴾ أي بعظمتنا وغنانا ﴿مهلكي القرى﴾ أي كلها، بعد الإرسال ﴿إلا وأهلها ظالمون*﴾ أي عريقون في الظلم بالعصيان، بترك ثمرات الإيمان.
ولما اعتلوا في الوقوف عن الإيمان بخوف التخطف، فذكرهم نعمته عليهم بإقامة أسباب الأمن وإدرار الرزق، وعرفهم أنه هو وحده الذي تخشى سطواته، ويتقي أخذه لمن خالفه وبطشاته، وكان خوفهم من عواقب المتابعة إما على أنفسهم وإما على ما بأيديهم من المتاع، علم من ذلك كله قطعاً أن التقدير بما سبب التخويف من عواقب الظلم بمثل مصارع الأولين: فأنفسكم في خطر من خوف الهلاك من القادر عليكم كقدرته على من قبلكم بسبب التوقف عن المتابعة أشد من خطر
فلما بان أنه لا يقدم على خطر المخالفة المذكور خوفاً من خطر المتابعة الموصوف عاقل، توجه الإنكار عليهم في قوله تعالى: ﴿أفلا تعقلون*﴾.
ولما كان هذا سبباً لأن ظهر كالشمس بون عظيم بين حال المخالف والمؤالف، سبب عنه وأنتج قوله، مقرراً لما ذكر من الأمرين
ولما كان اليوم وإن كان واحداً يتعدد بتعدد أوصافه، بما يقع في أثناءه وأضعافه، على يوم القيامة تهويلاً لأمره، وتعظيماً لخطره وشره، قوله مقرراً لعجز العباد، عن شيء من الإباء في يوم العباد:
ولما كان اسم الشريك يقع على من سواه الإنسان بآخر في شيء من الأشياء، وكان الأتباع قد سووا المتبوعين الذين عبدوهم من الشياطين وغيرهم بالله تعالى في الخضوع لهم، والطواعية في عبادة الأوثان، ومعاندة الهداة ومعاداتهم، والصد عن أتباعهم، فكان اسم الشريك متناولاً لهم، وكان بطش من وقع الإشراك به يكون أولاً بمن عد نفسه شريكاً ثم بمن أنزله تلك المنزلة، فتشوفت النفس إلى مبادرة الرؤساء بالجواب خوفاً من حلول العقاب بهم وزيادتهم بقيادتهم عليهم، فقيل: قالوا - هكذا الأصل، ولكنه أظهر إعلاماً بالوصف الذي أوجب لهم القول فقال: ﴿قال الذين حق﴾ أي ثبت ووجب ﴿عليهم القول﴾ أي وقع عليهم معنى هذا الاسم وتناولهم، وهو العذاب المتوعد به بأعظم القول، وهم أئمة الكفر، وقادة الجهل، بإنزالهم أنفسهم منزلة الشركاء، وأفهم بإسقاط الأداة كعادة أهل القرب والتعبير بوصف الإحسان
﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ [إبراهيم: ٢٢]- فالآية من الاحتباك: حذف أولاً ﴿فغووا﴾ لدلالة ﴿غوينا﴾ عليه، وثانياً «لما أغوانا، من قبلنا» لدلالة ﴿أغويناهم﴾ عليه ومرادهم، بقولهم هذا السفساف أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم، وهذا معنى قولهم: ﴿تبرأنا إليك﴾ أي من أمرهم، فلا يلزمنا عقوبة بسببهم، فهو تقرير لما قبل وتصريح به.
ولما كان يعلمون أنهم غير مؤمنين من أمرهم، تبرؤوا من انفرادهم
ولما أشار إلى أنه لا خلاص من ذلك الردى إلا بالهدى، أتبعه الإعلام بأنه لا يمكن أحداً هناك أن يفعل ما قد يروج على سائله كما يفعل في هذه الدار من إظهار ما لم يكن مكرراً لتهويل ذلك اليوم وتبشيعه وتعظيمه وتفظيعه، سائلاً عن حق رسله عليهم الصلاة والسلام بعد السؤال عن حقه سبحانه، منادياً بعجز الشركاء في الأخرى كما كانوا عاجزين في الأولى ﴿ويوم يناديهم﴾ وهم بحيث يسمعهم
ولما علم بهذه الآيات حال من أصر على كفره وعمل سيئاً بطريق العبارة، وأشير إلى حال من تاب فوعد الوعد الحسن ألطف إشارة تسبب عن ذلك التشوف إلى التصريح بحالهم، فقال مفصلاً مرتباً على ما تقديره: هذا حال من أصر على كفره ﴿فأما من تاب﴾ أي عن كفره وقال: ﴿وآمن﴾ تصريحاً بما علم التزاماً، فإن الكفر والإيمان ضدان، لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر ﴿وعمل﴾ تصديقاً لدعواه باللسان ﴿صالحاً﴾.
ولما كانت النفس نزاعة إلى النقائص، مسرعة إلى الدنايا، أشير إلى صعوبة الاستمرار على طريق الهدى إلا بعظيم المجاهدة بقوله: ﴿فعسى﴾ أي فإنه يتسبب عن حاله هذا الطمع في ﴿أن يكون﴾ أي كوناً هو في غاية الثبات ﴿من المفلحين*﴾ أي الناجين من شر ذلك اليوم، الظافرين
ولما كان كأنه قيل: ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا، إلى رحب هذا الرجا، وكان الجواب: ربك منعهم من ذلك، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأول بالشقاء؟ وكان الجواب: إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه - إشارة إليه قوله ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار، دقت عن فهم أكثر الأفكار ﴿يخلق ما يشاء﴾ من الهدى الضلال وغيرهما، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك ﴿ويختار﴾ أي يوقع الاختيار، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار، والإيمان للأبرار، لا اعتراض عليه، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب، لما سبق عليه من الكتاب، فكان من أهل التباب فلا تأس على من فاتك كائناً من كان، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه،
ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئاً لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى، صرح به بقوله: ﴿ما كان لهم الخيرة﴾ أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره، اسم من الاختيار، يقام مقام المصدر، وهو أيضاً اسم المختار، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيماً فكان عدماً، قال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا، وإن أذلهم رضوا وسلموا، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه، ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي | متأخر عنه ولا متقدم |
أجد الملامة في هواك لذيذة | حباً لذكرك فليلمني اللوم |
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً | ما من يهون عليك ممن أكرم |
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، قال: ﴿وربك﴾ أي المحسن إليك المتولي لتربيتك، كما هو بالغ القدرة، فهو شامل العلم ﴿يعلم ما تكن﴾ أي تخفي وتستر ﴿صدورهم﴾ من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى أو لا يؤمنون، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً.
ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال: ﴿وما يعلنون*﴾ أي يظهرون، كل ذلك لديه سواء، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه.
ولما كان علمه بذلك إنما هو لكونه إلهاً، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، عبر عن ذلك بقوله: ﴿وهو الله﴾ أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات؛
ولما كان النور نعمة في نفسه، ويعرف به خالقه، صرح به وطوى أثره فقال: ﴿يأتيكم بضياء﴾ أي يولد نهاراً تنتشرون فيه، ولقوة إعلامه بالقدرة وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس، فهو أمكن للسمع وأنفذ للفكر، قال تعالى: ﴿أفلا تسمعون*﴾ أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر، كما يكون لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل ﴿قل أرءيتم إن جعل الله﴾ أي الذي له الأمر كله بجلاله وباهر كماله ﴿عليكم النهار﴾ الذي توازن حرارته رطوبة الليل فيتم بهما صلاح النبات، وغير ذلك من جميع المقدرات ﴿سرمداً﴾ أي دائماً، من السرد، وهو المتابعة بزيادة الميم مبالغة فيه ﴿إلى يوم القيامة﴾ أي الذي لا يسمع عاقلاً إنكاره ﴿من إله غير الله﴾ الجليل الذي ليس له مثيل، وهو على كل شيء وكيل.
ولما كان الضياء مما ينفذ فيه البصر قال: ﴿أفلا تبصرون*﴾ أي بالبصر والبصيرة كيف تنقشع جلابيب الظلام، عن وجوه الضياء الغر الكرام، ثم تتقنع بسواد أردية الحياء، وجوه الأنوار والضياء قال ابن هبيرة: قال المبرد: سلطان السمع في الليل وسلطان البصر في النهار.
ولما كان التقدير: فمن حكمته جعل لكم السمع والأبصار، لتتدبروا آياته، وتتبصروا في مصنوعاته، عطف عليه ﴿ومن رحمته﴾ أي التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض ﴿جعل لكم الليل والنهار﴾ آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم، وادخر معظم رحمته إلى الآخرة،
ولما ذكر هذه النعمة التي أسبغها من هذه الرحمة، وذكر علة جعله لها على الصفة المذكورة، ذكر علة أخرى هي المقصودة بالذات لأنها نتيجة السمع والبصر اللذين، قدم الحث على استعمالهما فقال: ﴿ولعلكم تشكرون*﴾ أي وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر بما يتجدد لكم بتقبلهما من النعم المتوالية المذكورة بالمنعم، وبما دبر لكم رفقاً بكم فيما كفلكم به في دار الأسباب من أمر المعاش والمعاد من الراحة بالسكون إثر ما أفادكم من الأرباح والمنح بالانتشار والتقلب، وأما الآخرة فلما كانت غير مبينة على الأسباب، وكان الجنة لا تعب فيها بوجه من الوجوه، كان لا حاجة فيها إلى الليل.
ولما ذكر ما للمفلح من الرجاء في يوم الجزاء، وأتبعه الإعلام بأن الهداية إلى الفلاح إنما هي به، ودل على ذلك إلى أن ذكر ايام الدنيا المشتملة على الليل والنهار على وجه دال على وحدانيته، معلم بالقدرة
ولما ذكر الدليل الأول من الدليل على إبطال الشركة أن الشركاء لم يستجيبوا لهم ولا كانت لهم قدرة على نصرهم ولا نصر أنفسهم، وكان ربما قيل: إن ذلك الشيء عبر العجز، دل هنا على الإشراك لا شبهة دليل فقال صارفاً بقول إلى مظهر التكلم بأسلوب العظمة لأنه مجرد فعال ﴿ونزعنا﴾ أي أفردنا بقوة وسطوة ﴿من كل أمة شهيداً﴾
ولما تسبب عن ذلك سؤالهم عن سندهم في إشراكهم قال: ﴿فقلنا﴾ أي للأمم: ﴿هاتوا برهانكم﴾ أي دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه، وعولتم في شرككم عليه، كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس ﴿فعلموا﴾ بسبب هذا السؤال لما اضطروا ففتشوا واجتهدوا فلم يجدوا لهم سنداً أصلاً ﴿أن الحق﴾ أي في الإلهية ﴿لله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا مكافىء له، لا شركة لشيء معه ﴿وضل﴾ أي غاب وبطل غيبة الشيء الضائع ﴿عنهم ما كانوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة لهم ﴿يفترون*﴾ أي يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة موجبة للغلط فيه.
ولما ذكر بغيه، ذكر سببه الحقيقي، فقال: ﴿وآتيناه﴾ أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا ﴿من الكنوز﴾ أي الأموال المدفونة المدخرة، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات ﴿ما﴾ أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى ﴿إن مفاتحه﴾ أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها ﴿لتنوء﴾ أي تميل بجهد ومشقة لثقلها ﴿بالعصبة﴾ أي الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي يقوي - بعضهم بعضاً، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده، وكل ذلك مما تستبعده العقول، فلذلك وقع التأكيد ﴿أولي القوة﴾ أي تميلهم من أثقالها إياهم، والنوء: الميل، قال الرازي: والنوء: الكوكب مال عن العين عند الغروب، يقال: ناء بالحمل - إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل - إذا أماله لثقله.
ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد، وهو سبب القرب إلى الله، كان كأن قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين ﴿وابتغ﴾ أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه ﴿فيما آتاك الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك ﴿الدار الآخرة﴾ بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء، فلا يكون منه شيء بغير حياة، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال، وكل ما فيها إلى زوال، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال.
ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا: ﴿ولا تنس﴾ أي تترك ترك الناسي ﴿نصيبك من الدنيا﴾ ترك المنسي، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف؛ وعن
ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد، وكانت النفس مجبولة على الشره، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا: ﴿وأحسن﴾ أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج، والإنفاق في جميع الطاعات ﴿كما أحسن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال، المتردي برداء العظمة والجلال ﴿إليك﴾ بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك.
ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف، قالوا: ﴿ولا تبغ﴾ أي لا ترد إرادة ما ﴿الفساد في الأرض﴾ بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل: ﴿إن الله﴾ أي العالم بكل شيء، القدير على كل شيء ﴿لا يحب المفسدين*﴾ أي لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم.
ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد
ولما كان التقدير: ألا يخاف أن يسلبه الله - عقوبة له على هذا - علمه وماله ونفسه؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة، فهو قادر على إهلاكه، وسلب ما معه وإفنائه، كما قدر على إيتائه، عطف عليه قوله منكراً عليه: ﴿أولم يعلم أن الله﴾ أي بما به من صفات الجلال والعظمة والكمال ﴿قد أهلك﴾ ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: ﴿من قبله﴾ ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من
ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذباً، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره، فيكون له عذر خفي، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة، وأمل المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو ﴿من﴾ :﴿ولا﴾ أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون - هذا الأصل، ولكنه قال: ﴿يسأل﴾ أي من سائل ما ﴿عن ذنوبهم المجرمون*﴾ فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام، وهو قطع ما ينبغي
ولما كان كأنه قيل: ما قال قومه؟ قيل: ﴿قال الذين يريدون﴾ أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا ﴿الحياة الدنيا﴾ منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود: ﴿يا ليت لنا﴾ أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان ﴿مثل ما أوتي قارون﴾ من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم، حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم: ﴿إنه لذو حظ﴾ أي نصيب وبخت في الدنيا ﴿عظيم*﴾ بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال، ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما
ولما كان الله تعالى أعلى من كل شيء قال: ﴿من دون الله﴾ أي الحائز لصفات الكمال، المتردي بالعظمة والجلال، لأن من كان على مثل رأيه هلك، ومن كان من أولياء الله راقب الله في أمره، فلم يسألوا الله فيه، وعلم هو أن الحق لله، وضل عنه - كما في الآية التي قبلها - ما كان يفتري ﴿وما كان﴾ أي هو ﴿من المنتصرين*﴾ لأنفسهم بقوتهم. ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات، عبر عن حالهم بقوله: ﴿وأصبح﴾ أي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها | قيل الفوارس ويك عنتر أقدم |
ولما كانت القصة لقارون، وكان له من المكنة في الدنيا ما مضى ذكره، وكانت العادة جارية بأن مثله يبطر وقد يؤدي إلى تألهه، قال منبهاً بالإيقاع به على الوجه الماضي أنه من جملة عبيده، لا فرق بينه وبين أضعفهم بالنسبة إلى قدرته: ﴿من عباده﴾.
ولما دل على أن البسط إنما هو منه، أتبعه قوله دليلاً آخر على ربوبيته: ﴿ويقدر﴾ أي يضيق على من يشاء سواء كان فطناً أم لا، لا يبسطه لأحد لكرامته عليه، ولا يضيق على أحد لهوانه عنده، ولا يدل البسط والقبض على هوان ولا كرامة، وهذا دليل على أنهم ظنوا صحة قول قارون أنه أوتيه على علم عنده، وأنهم إنما تمنوا علمه الذي يلزم منه على اعتقادهم حصول المال على كل حال.
ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله، أتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما
﴿لا يفلح﴾ أي يظفر بمراد ﴿الكافرون*﴾ أي العريقون في الكفر لنعمة الله، وقد عرف بهذا تنزيل المعنى على ما قالوه في المراد من ويكأنه، سواء وقف على وي أو يك أو لا.
ذكر شرح هذه القصة: قال البغوي: قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة، في كل طرف منها خيطاً أخضر بلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي،
ومن بعد هذه الأمور شق قورح - وهو اسم قارون بالعبرانية - بن يصهر بن قاهث بن لاوى، ودائن وأبيروم ابنا أليب، وأون بن قلب ابن روبيل العصي، وقاموا بين يدي موسى، وقم من بني إسرائيل عددهم مائتان وخمسون رجلاً من رؤساء الجماعة مذكورون مشهورون بأسمائهم أبطال، هؤلاء أجمعون اجتمعوا إلى موسى وهارون وقالوا لهما: ليس حسبكما أن الجماعة كلها طاهرة وأنتما رئيسان عليها حتى تريدا أن تتعظما على الجماعة كلها - أي يكون هارون هو الكاهن أي متولي
فلما أكمل موسى قوله هذا انفتحت الأرض من تحتهم، وفغرت فاها فابتلعتهم وابتلعت خيمهم وجميع مواشيهم فنزلوا إلى الجحم أحياء، ثم استوت الأرض فوقهم، وهرب جميع بني إسرائيل حيث سمعوا أصواتهم ورأوا ما قد صنع بهم، وقالوا: لعل الأرض تبتلعنا أيضاً، واشتعلت نار من قبل الرب فأحرقت المائتين
وقال رواه البخاري في الصحيح.
ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح، قال: ﴿لا يريدون﴾ ولم يقل يتعاطون - مثلاً،
ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى، أخبر سبحانه أنه دائماً يجعل ظفرهم آخراً، فقال معبراً بالاسمية دلالة على الثبات: ﴿والعاقبة﴾ أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة، هكذا الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وإعلاماً بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى: ﴿للمتقين*﴾ أي دائماً في كلا الدارين، لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة، وهذه الآيةِ يُعْرَف
ولما تحرر الفرق بين أهل الدارين، وكان لا بد من إتيان الآخرة، وعلم أن الآخرة إنما هي جزاء الأعمال، وتقرر من كونها للخائفين أنها على الآمنين، فاستؤنف تفصيل ذلك جواباً لمن كأنه قال: ما لمن أحسن ومن أساء عند القدوم؟ بقوله: ﴿من جاء﴾ أي في الآخرة أو الدنيا ﴿بالحسنة﴾ أي الحالة الصالحة ﴿فله﴾ من فضل الله ﴿خير منها﴾ من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى ﴿ومن جاء بالسيئة﴾ وهي ما نهى الله عنه، ومنه إخافة المؤمنين ﴿فلا يجزى﴾ من جاز ما، وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من فقال: ﴿الذين عملوا السيئات﴾ تصويراً لحالهم تقبيحاً لها وتنفيراً من عملها، ولعله جمع هنا وأفرد أولاً إشارة إلى أن المسيء أكثر ﴿إلا﴾ مثله سواء عدلاً منه تعالى، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: ﴿ما كانوا﴾ أي بجميع هممهم ﴿يعملون*﴾ مبالغة في المثلية، هذا
ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره، وأثبت الجزاء فيها، وأن العاقبة للمتقين، أتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة، فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم من إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها: ﴿إن الذي فرض﴾ أي أوجب ﴿عليك القرآن﴾ أي الجامع لما تفرق من المحاسن، المفصل لما التبس من جميع المعاني، أي فرض عليك جميع ما في هذا الكتاب المشتمل على الجمع والفرق بما يظهر حسن تلقيه من تلاوة وإبلاغ وتحد وعمل وألزمك فيه وغيرك هذه الملازم، وكلفكم تلك التكاليف التي منها المقارعة بالسيوف ﴿لرآدك﴾
﴿واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله﴾ [البقرة: ٢٨١]، ﴿ثم إليه ترجعون﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿إلى الله مرجعكم﴾ [المائدة: ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات، ويجوز أن يقال: إلى معاد أيّ معاد، أي مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العودَ إليه كل من خرج منه وهو مكة المشرفة: وطنك الدنيوي، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه البخاري، وعود هو لجلالته أهل لأن يذكر لدخولك إليها في جنود يعز بها الإسلام، ويذل بها الكفر وأهله على الدوام، والجنة المزخرفة:
ولما فهم من الإبلاغ في هذا التأكيد أن ثَم من يبالغ في النفي والإنكار على حسب هذا التأكيد في الإثبات فيقول: إن الأمر ليس كذلك، ولا يعود إلى مكة المشرفة ومنا عين تطرف، قال مهدداً على طريق الاستئناف على لسانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكون الإنكار تكذيباً له كما كذب موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أجاب بمثل ذلك كما تقدم: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء المنكرين لما أخبرتك به: ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ ﴿أعلم﴾ أي من كل أحد.
ولما كانت هذه القصة مسلمة لا نزاع فيها لعاقل تثبت الخالق، وكانوا يقولون: من ادعى رجوعه فهو ضال، توجه السؤال عن المهتدي إلى الصواب والضال، بما يشهد به فتح مكة عند الإقبال في أولئك الضراغمة الأبطال، والسادة الأقيال، فقال في أسلوب الاستفهام لإظهار الإنصاف والإبعاد من الاتهام: ﴿من جاء بالهدى﴾ أي الذي لا أبين منه، أنا فيما جئت به من ربي بهذا الكلام الذي يشهد الله لي بإعجازه أنه من عنده أم أنتم فيما تقولون من عند أنفسكم؟ ﴿ومن هو في ضلال﴾ أي أنتم في كلامكم الظاهر العوار العظيم العار أم أنا ﴿مبين*﴾ أي بين
ولما كان الجواب لكل من أنصف: هم في ضلال مبين لأنهم ينحتون من عند أنفسهم ما لا دليل عليه، وأنت جئت بالهدى لأنك أتيت به عن الله، بني عليه قوله: ﴿وما﴾ ويجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير في ﴿عليك﴾ وما بينهما اعتراض للاهتمام بالرد على المنكر للمعاد، أي فرضه عليك والحال أنك ما، ويجوز أن يقال: لما كان رجوعه إلى مكة غاية البعد لكثرة الكفار وقلة الأنصار، قربه بقوله معلماً أن كثيراً من الأمور تكون على غير رجاء، بل وعلى خلاف القياس: وما ﴿كنت ترجوا﴾ أي في سالف الدهر بحال من الأحوال ﴿أن يلقى﴾ أي ينزل على وجه لم يقدر على رده ﴿إليك الكتاب﴾ أي بهذا الاعتقاد ولا بشيء منه؛ ولا كان هذا من شأنك، ولا سمعه أحد منك يوماً من الأيام، ولا تأهبت لذلك أهبته العادية من تعلم خط أو مجالسة عالم ليتطرق إليك نوع اتهام، كما يشير إليه قوله تعالى في التي بعدها ﴿وما كنت تتلوا من قبله من كتاب﴾ [العنكبوت: ٤٨] واختير هنا لفظ الكتاب لأن السياق للرحمة التي من ثمراتها الاجتماع
ولما تسبب عما تقدم الاجتهاد في تحريك الهمم إلى العكوف على أمر الله طمعاً فيما عنده سبحانه من الثواب، وشكراً على إنزال الكتاب، قال في سياق التأكيد لأن الطبع البشري يقتضي إدراك مظاهرة الكفار لأمر من التوفيق عظيم، لكثرتهم وقوتهم وعزتهم: ﴿فلا تكونن﴾ إذ ذاك بسبب اتصافهم لك لكثرتهم ﴿ظهيراً﴾ أي معيناً ﴿للكافرين*﴾ بالمكث بين ظهرانيهم، أو بالفتور عن الاجتهاد في دعائهم، يأساً منهم لما ترى من بعدهم من الإجابة وإن طال إنذارك، لا تمل أنت كما لم نمل نحن، فقد وصلنا لهم القول، وتابعنا لهم الوعظ
ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر وإن كان المتواني مجتهداً في العمل، قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة الأعداء وتتابع الإيذاء والاعتداء: ﴿ولا يصدنك﴾ أي الكفار بمبالغتهم في الإعراض وقولهم ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى﴾ ونحوه ﴿عن آيات الله﴾ أي عن الصدع بها وهي من المتصف بصفات الكمال، في الأوقات الكائنة ﴿بعد إذ أنزلت﴾ أي وقع إنزالها ممن تعلمه منتهياً ﴿إليك﴾ مما ترى من أوامرها ونواهيها، ولقد بين هذا المعنى قوله: ﴿وادع﴾ أي أوجد الدعاء للناس ﴿إلى ربك﴾ أي المحسن إليك لإحسانه إليك، وإقباله دون الخلق عليك، وأعراه من التأكيد اكتفاء بالمستطاع فإن الفعل ليس للمبالغة فيه جداً، إشارة إلى أن جلب المصالح أيسر خطباً من درء المفاسد، فإن المطلوب فيه النهاية محدود بالاجتناب.
ولما كان الكائن من قوم موصوفاً بما اتصف به كل منهم، وكانت مشاركتهم بالفعل أبعد من مشاركتهم بالسكوت، قال من غير تأكيد: ﴿ولا تدع مع الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال ﴿إلهاً﴾ ولما كانت النكرة في سياق النهي تعم كما لو كانت في سياق النفي، وكان المشركون قد تعنتوا لما رأوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو باسم الله واسم الرحمن كما ذكر آخر الإسراء، قال: ﴿آخر﴾ أي غير الله حقيقة دون أن يغاير في الاسم دون الذات، ومضى في آخر الحجر، ويأتي إن شاء الله تعالى في الذاريات ما يتضح به هذا المعنى، والمراد بهذا كله المبالغة في الإنذار إعلاماً بأن تارك النهي عن المنكر مع القدرة شريك للفاعل وإن لم يباشره، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادر لحراسة الله تعالى له؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي حتى يستحق أن يشتغل به عبد؛ ثم علل وحدانيته بقوله: ﴿كل شيء هالك﴾ أي
لما ختم السورة الماضية بالحث على العمل للدار الآخرة، وأن كل أحد من محسن مسيء مجزى بعمله، وبالإخبار بأنه سبحانه عالم بالسر والعلن، بالأمر بالاجتهاد فيالدعاء إليه وقصر الهمم عليه وإن أدى ذلك إلى الملال، وذهاب النفس والأموال، معللاً بأن له الحكم سبحانه لأنه الباقي بلا زوال، وكل ماعداه فإلى تلاش واضمحلال، وأنه لا يفوته شيء في حال ولا مآل، قال أول هذه:
سورة القصص
سورة (القَصَص) من السُّوَر المكية التي جاءت ببيانِ إعجاز هذا الكتاب، وبيانِ صِدْقِ نبوة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ من خلال قَصِّ القِصَص التي علَّمها اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وذكَرتِ السورةُ قصةَ موسى عليه السلام مع فِرْعون، وخروجَه من (مِصْرَ) إلى (مَدْيَنَ)، والتقاءَه بابنتَيْ شُعَيبٍ عليه السلام، وما تَبِع ذلك من التفاصيل التي كان مقصودُها بيانَ صراعِ الحقِّ والباطل، وأن النُّصرةَ لهذا الدِّين، وكذلك بيَّنت السورةُ تواضع الأنبياء مع الله عز وجل، ورَدَّ الأمرِ والفضل كلِّه لله عز وجل.
ترتيبها المصحفي
28نوعها
مكيةألفاظها
1438ترتيب نزولها
49العد المدني الأول
88العد المدني الأخير
88العد البصري
88العد الكوفي
88العد الشامي
88* قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اْللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُۚ} [القصص: 56]:
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لعَمِّه: «قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، أشهَدُ لك بها يومَ القيامةِ»، قال: لولا أن تُعيِّرَني قُرَيشٌ، يقولون: إنَّما حمَلَه على ذلك الجَزَعُ؛ لأقرَرْتُ بها عينَك؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اْللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُۚ} [القصص: 56]». أخرجه مسلم (٢٥).
* سورة (القَصَص):
سُمِّيت سورةُ (القَصَص) بذلك؛ لوقوع لفظ (القَصَص) فيها في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيْهِ اْلْقَصَصَ} [القصص: 25].
اشتملت سورةُ (القَصَص) على الموضوعات الآتية:
1. طغيان فرعون، ووعد الله تعالى بإنقاذ المضطهدين، وعقوبة المفسدين (١-٦).
2. ميلاد موسى ونجاته من القتل (٧-١٣).
3. قتل القِبْطي خطأً، والخروج إلى (مَدْيَنَ) (١٤-٢١).
4. اللجوء إلى (مَدْيَنَ)، وزواج موسى عليه السلام (٢٢-٢٨).
5. بعثة موسى وهارون عليهما السلام، وتأييدهما (٢٩-٣٥).
6. بَدْء الدعوة، وتكذيب فرعون وجنوده، ونزول العقاب بهما (٣٦-٤٢).
7. إيتاء التوراة لموسى والقرآن لمُحمَّد عليهما السلام (٤٣-٥٠).
8. الإشارة إلى مؤمني أهلِ الكتاب، وتحذير كفار قريش من الرُّكون إلى الدنيا (٥١-٦١).
9. موقف المشركين يوم القيامة ودعوتهم للتوبة /توحيد الله تعالى (٦٢-٧٥).
10. قصة قارون وعاقبة البَغْي والتكبُّر (٧٦-٨٤).
11. بشارة النبيِّ بالعودة إلى مكَّةَ سالمًا (٨٥-٨٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /516).
مقصدُ سورة (القَصَص): هو بيانُ صراع الحقِّ والباطل، ونُصْرة الله لهذا الدِّين، وبيانُ تواضع الأنبياء لله عزَّ وجلَّ، ونتج عن هذا التواضعِ ردُّ الأمر كلِّه لله؛ كما تَجلَّى ذلك في قصة موسى عليه السلام مع المرأتين، ومردُّ ذلك إلى الإيمان بالآخرة، والإيمانِ بنبوَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، الثابتةِ بإعجاز القرآن، الذي أخبر بالغيب الذي لم يطَّلِعْ عليه أحد، وإنما هو من عند الله عزَّ وجلَّ، بما علَّمه اللهُ من القِصص الصادقة.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /338).