تفسير سورة المرسلات

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
سورة المرسلات
نزلت بمكة على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وهو بغار في منى يعرف بغار المرسلات.
وقد شدد فيها النكير علة منكري البعث، والتهديد لهم بالويل والهلاك. وأقيم لهم من الأدلة ما يحمل إنكارهم له في حيز المكابرة والعناد. وهي من أقوى السور صدعا لقلوبهم، وإنذارا بسوء عاقبتهم.
وقد أقسم الله تعالى في صدرها على أن الساعة آتية، والبعث واقع لا محالة – بخمسة أشياء عظيمة من خلقه، ذكرت صفاتها ولم تذكر هي ؛ فاختلف المفسرون في تعيينها اختلافا كثيرا. والظاهر : أن المقسم به شيئان، فصل بينهما بالعطف بالواو المشعر بالمغايرة. وأنه تعالى أقسم أولا بالرياح المرسلة لعذاب المكذبين، أو المرسلة لما يأمرها به سبحانه، ومنه عذابهم ؛ من الإرسال وهو التسليط والتوجيه. ووصفها بالعصف وهو الشدة ؛ لإهلاكها من ترسل إليهم، أو لسرعتها في مضيها لتنفيذ أمره تعالى. يقال : عصفت الريح – من باب ضرب – اشتدت. وعصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم. وناقة عصوف : تعصف براكبها فتمضي به كأنها ريح في السرعة. والعطف بالفاء هنا يؤذن بأنه من عطف الصفات. وأقسم ثانيا بالملائكة، وهي من أعظم خلق الله قوة، طوعا لأمره، وإسراعا إليه. فوصفها بالناشرات ؛ لنشرهن أجنحتهن في الجو لنزولهن بالوحي. أو لنشرهن النفوس الموتى بالكفر ولجهل بما يوحين للأنبياء والرسل. وبالفارقات ؛ لفرقهن بين الحق والباطل بنزولهن بالوحي. وبالملقيات ذكرا ؛ لإلقائهن الذكر إلى الأنبياء والرسل ليبلغوه للأمم للإعذار والإنذار. ومن المفسرين من جعل الأوصاف الخمسة للرياح ومنهم من جعلها كلها للملائكة، ومنهم من غاير بينها.

﴿ عرفا ﴾ متتابعة متلاحقة حين إرسالها. يقال : طار القطا عرفا عرفا ؛ أي بعضها خلف بعض، والمعنى على التشبيه. أي حال كونها في تتابعها وتلاحقها كعرف الفرس ونحوها، وهو منبت الشعر والريش من العنق.
﴿ فالملقيات ذكرا ﴾ أي وحيا إلى الأنبياء والرسل، يذكر الناس ويعظهم
﴿ عذرا ﴾ أي للإعذار، بمعنى إزالة أعذار الخلق ؛ على حد قوله تعالى : " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " ١. ﴿ أو نذرا ﴾ أي للإنذار والتخويف بالعقاب عند العصيان.
١ آية ١٦٥ النساء..
﴿ إن ما توعدون لواقع ﴾ أي إن الذي توعدون به من قيام الساعة لواقع لا محالة ! وهو جواب القسم.
﴿ فإذا النجوم طمست ﴾ محقت. أو ذهب ضوءها فلم يكن لها نور. يقال : طمست الشمس. – من باب ضرب – محوته واستأصلت أثره. وجواب " إذا " وما عطف عليها محذوف تقديره : وقع ما توعدون. أو بأن الأمر. وقيل : هو " لأي يوم أجلت " بإضمار القول. أي يقال لأي يوم أجلت.
﴿ وإذا السماء فرجت ﴾ شقت أو فتحت ؛ كما قال تعالى : " إذا السماء انشقت "، " وفتحت السماء فكانت أبوابا " ١. والفرجة : الشق بين الشيئين ؛ كفرجة الحائط. ومنه : " ومالها من فروج ٢ " أي شقوق وفتوق.
١ آية ١٩ النبأ..
٢ آية ٦ ق..
﴿ وإذا الجبال نسفت ﴾ اقتلعت وأزيلت من أماكنها. يقال : نسف البناء ينسفه، قلعه من أصله. أو دكت وذريت في الهواء، كما تذري الرياح التبن.
﴿ وإذا الرسل أقتت ﴾ بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وهو يوم القيامة للفصل بينهم وبين المكذبين ؛ من التوقيت وهو جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود.
﴿ لأي يوم أجلت ﴾ أي أخرت الأمور المتعلقة بالرسل : من تعذيب الكفار وإهانتهم، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور أهوال الآخرة.
﴿ ويل يومئذ للمكذبين ﴾ هلاك أو عذاب يوم القيامة للمكذبين به وبأخباره. وهو وعيد شديد. تكررت هذه الآية في هذه السورة عشر مرات، عقب كل آية كذب بها الجاحدون. وكأن الويل قسم بينهم على قدر تكذيبهم ؛ فلكل مكذب بشيء نوع من العذاب غير النوع الذي لتكذيبه بآخر.
﴿ ألم نهلك الأولين ﴾ من الأمم المكذبة
﴿ ثم نتبعهم الآخرين ﴾ أي أهل مكة، وهو وعيدهم لهم ؛ لأنهم مثل السابقين.
﴿ من ماء مهين ﴾ من نطفة حقيرة ضعيفة. وفي القرطبي : إن هذه الآية أصل لمن ذهب إلى أن خلق الجنين إنما هو من ماءا لرجل وحده. اه. وليس كذلك ! فإن المراد بالماء جنسه الصادق بالمائين ؛ كما تشير إليه آيات أخرى، وكلاهما يطلق عليه نطفة ومني.
﴿ فجعلناه في قرار مكين ﴾. مقر يتمكن فيه، وهو الرحم
﴿ إلى قدر معلوم ﴾ أي مؤخرا إلى وقت معلوم عند الله تعالى لخروجه منه. ﴿ فقدرنا ﴾ على ذلك
﴿ فنعم القادرون ﴾ عليه نحن ! وقرئ " فقدرنا " بالتشديد ؛ أي فقدرنا ذلك الوقت المعلوم تقديرا محكما، لا يتقدم الانفصال عنه ولا يتأخر ؛ فهو كقوله تعالى : " من نطفة خلقه فقدره " ١. وقيل : القراءتان بمعنى التقدير.
١ آية ١٩ عبس.
﴿ كفاتا أحياء وأمواتا ﴾ الكفات : الموضع الذي يكتف فيه الشيء، أي يضم ويقبض. يقال : كفت الشيء يكفته كفتا، ضمه وقبضه ؛ فهو اسم آلة. و " أحياء وأمواتا " مفعول لفعل محذوف ؛ أي تكفت أحياء كثيرة على ظهرها، وأمواتا كثيرة في بطنها ؛ بمعنى تجمع وتضم. وقيل : هو جمع كفت وهو الوعاء، والأرض أوعية باعتبار أقطارها – للأحياء والأموات. و " أحياء وأمواتا " منصوبان على المفعولية ل " نجعل " بتقدير مضاف ؛ أي ذات أحياء وأموات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:﴿ كفاتا أحياء وأمواتا ﴾ الكفات : الموضع الذي يكتف فيه الشيء، أي يضم ويقبض. يقال : كفت الشيء يكفته كفتا، ضمه وقبضه ؛ فهو اسم آلة. و " أحياء وأمواتا " مفعول لفعل محذوف ؛ أي تكفت أحياء كثيرة على ظهرها، وأمواتا كثيرة في بطنها ؛ بمعنى تجمع وتضم. وقيل : هو جمع كفت وهو الوعاء، والأرض أوعية باعتبار أقطارها – للأحياء والأموات. و " أحياء وأمواتا " منصوبان على المفعولية ل " نجعل " بتقدير مضاف ؛ أي ذات أحياء وأموات.
﴿ وجعلنا فيها رواسي ﴾ جبالا ثوابت﴿ شامخات ﴾ مرتفعات. جمع شامخ، وهو المرتفع جدا. ﴿ ماء فراتا ﴾ عذبا من الأنهار الجارية، والآبار والعيون والأمطار ؛ تشربون منه أنتم ودوابكم، وتسقون زرعكم.
﴿ انطلقوا إلى ظل... ﴾ أي إلى ظل من دخان جهنم الذي يتصاعد من وقودها، ثم يتفرق ثلاث فرق ؛ شأن الدخان العظيم إذا ارتفع.
﴿ لا ضليل ﴾ لا مظلل لهم من حر ذلك اليوم. وهو تهكم بهم، ورد لما أوهمه لفظ الظل. ﴿ ولا يغني من اللهب ﴾ ولايدفع عنهم شيئا من حر اللهب. وعدى " يغني " ب " من " لتضمنه معنى يبعد.
﴿ إنها ﴾ أي جهنم﴿ ترمي بشرر ﴾ هو ما يتطاير من النار في كل جهة. واحده شررة﴿ كالقصر ﴾ أي كل واحدة منه في عظمها وإرتفاعها كالقصر وهو البناء العالي. وقيل : هو الغليظ من الشجر. أو هو قطع من الخشب نحو الذراع أو أقل أو أكثر يستعد به للشتاء : مفرده قصره.
﴿ كأنه جمالة صفر ﴾ جمع جمل ؛ كحجارة وحجر. وجمعها جمالات – بتثليث الجيم – وهي الإبل السود. وقيل : لما صفر وهي سود لأن سواد الإبل يضر إلى الصفرة ؛ كما قيل للظباء البيض : أدم، لما يعلو بياضها من الكدرة. شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر، وحين يأخذ في الارتفاع والانبساط لانشقاقه وتشعبه عن أعداد غير محصورة بالجمالة الصفر في اللون، وسرعة الحركة، والكثرة والانشقاق والتتابع ؛ إذ كان ذلك شأن هذه الإبل عند اجتماعها وتزاحمها واضطراب أمرها.
﴿ ولا يؤذن لهم ﴾ في الاعتذار والتنصل﴿ فيعتذرون ﴾ فيتنصّلون مما أجرموا في حق الله. يقال : اعتذرت إليه، أتيت بعذر. والعذر : هو تحّرى الإنسان ما يمحو به ذنوبه وإساءته.
﴿ إن المتقين ﴾ شروع في ذكر أحوال المؤمنين، بد الإطناب في ذكر أحوال الكافرين. أي إن المتقين متقلّبون في فنون الترفه وألوان التنعم في الجنة. ﴿ في ظلال ﴾ أي ظلال الأشجار وظلال القصور. جمع ظل : ضد الضحى، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس : ظل. والجنة لا شمس فيها. ﴿ وعيون ﴾ من ماء وعسل ولبن وخمر.
﴿ وفواكه ﴾ وهي ما يفتكه به ويتنعم. جمع فاكهة.
﴿ وإذا قيل لهم اركعوا... ﴾ أي صلوا مع محمد وأصحابه لا يصلون. وسميت الصلاة ركوعا باسم ركنها. أو اخشعوا واخضعوا وتواضعوا لله تعالى لا يقبلون علوا واستكبارا.
﴿ فبأي حديث بعده ﴾ أي بعد القرآن الناطق بأخبار النشأتين على نمط بديع معجز، مؤسس على حجج قاطعة. ﴿ يؤمنون ﴾ إذا لم يؤمنوا به ؛ أي لا يؤمنون بشيء بعده.
والله أعلم.
سورة المرسلات
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المُرسَلات) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الهُمَزة)، وقد جاءت ببيانِ قدرة الله على بعثِ الناس بعد هلاكهم؛ فهو المتصفُ بالرُّبوبية والألوهية، وقد افتُتحت بمَشاهدِ القيامة، والتذكير بمَصارعِ الغابرين، وذكَرتْ تأمُّلات في خَلْقِ الإنسان والكون؛ ليعودَ الخلقُ إلى أوامرِ الله، وليستجيبوا له سبحانه، و(المُرسَلات): هي الرِّياحُ التي تهُبُّ متتابِعةً.

ترتيبها المصحفي
77
نوعها
مكية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
33
العد المدني الأول
50
العد المدني الأخير
50
العد البصري
50
العد الكوفي
50
العد الشامي
50

* سورة (المُرسَلات):

سُمِّيت سورة (المُرسَلات) بذلك؛ لافتتاحها بالقَسَمِ الإلهيِّ بـ(المُرسَلات)؛ وهي: الرِّياح التي تهُبُّ متتابِعةً.

سورة (المُرسَلات) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، أراكَ قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ، والواقعةُ، والمُرسَلاتُ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}». أخرجه الحاكم (3314).

1. مَشاهد القيامة (١-١٥).

2. مَصارع الغابرين (١٦-١٩).

3. تأمُّلات في خَلْقِ الإنسان والكون (٢٠-٢٨).

4. عودٌ لمَشاهد القيامة (٢٩-٥٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /540).

مقصدُ سورة (المُرسَلات): الاستدلالُ على وقوع البعث بعد فَناء الدنيا، والاستدلال على إمكانِ إعادة الخَلْقِ بما سبَق من خَلْقِ الإنسان وخلق الأرض، وفي ذلك دلائلُ على قدرة الله، واتصافِه بالوَحْدانية والرُّبوبية.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /419).