تفسير سورة المرسلات

التبيان في إعراب القرآن

تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب التبيان في إعراب القرآن
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (١) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (٣) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦)).
الْوَاوُ الْأُولَى لِلْقَسَمِ، وَمَا بَعْدَهَا لِلْعَطْفِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَتِ الْفَاءُ. وَ (عُرْفًا) : مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ مُتَتَابِعَةً، يَعْنِي الرِّيحَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَلَائِكَةُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِالْعُرْفِ أَوْ لِلْعُرْفِ.
وَ (عَصْفًا) : مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ. وَ (ذِكْرًا) : مَفْعُولٌ بِهِ.
وَفِي (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُمَا مَصْدَرَانِ يَسْكُنُ أَوْسَطُهُمَا وَيُضَمُّ.
وَالثَّانِي: هُمَا جَمْعُ عَذِيرٍ وَنَذِيرٍ؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْتَصِبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ «ذِكْرًا» أَوْ بِذِكْرًا. وَعَلَى الثَّانِي هُمَا حَالَانِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «الْمُلْقِيَاتِ» أَيْ مُعْذِرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا) :«مَا» هَاهُنَا: بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْخَبَرُ «لَوَاقِعٌ» وَلَا تَكُونُ «مَا» مَصْدَرِيَّةً هُنَا وَلَا كَافَّةً.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا النُّجُومُ) : جَوَابُ «إِذَا» مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بَانَ الْأَمْرُ أَوْ فُصِلَ،
أَوْ يُقَالُ: (لِأَيِّ يَوْمٍ) وَجَوَابُهَا الْعَامِلُ فِيهَا؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (طُمِسَتْ) جَوَابًا؛ لِأَنَّهُ الْفِعْلُ الْمُفَسِّرُ لِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، فَالْكَلَامُ لَا يَتِمُّ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا طُمِسَتِ النُّجُومُ، ثُمَّ حُذِفَ الْفِعْلُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الِاسْمُ بَعْدَ «إِذَا» مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِمَا فِي إِذَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ الْمُتَقَاضِي لِلْفِعْلِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وُقِّتَتْ) : بِالْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَقْتِ.
وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِتَابًا مَوْقُوتًا) [سُورَةُ النِّسَاءِ: ١٠٣].
وَقُرِئَ بِالْهَمْزِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ ضُمَّتْ ضَمًّا لَازِمًا، فَهُرِبَ مِنْهَا إِلَى الْهَمْزَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِأَيِّ يَوْمٍ) : أَيْ يُقَالُ لَهُمْ. وَ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : تَبْيِينٌ لِمَا قَبْلَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيْلٌ) : هُوَ مُبْتَدَأٌ. وَ (يَوْمَئِذٍ) : نَعْتٌ لَهُ، أَوْ ظَرْفٌ لَهُ. وَ (لِلْمُكَذِّبِينَ) : الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ) : الْجُمْهُورُ عَلَى الرَّفْعِ؛ أَيْ ثُمَّ نَحْنُ نُتْبِعُهُمْ؛ وَلَيْسَ
بِمَعْطُوفٍ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَهْلَكْنَا الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ أَتْبَعْنَاهُمُ الْآخِرِينَ فِي الْهَلَاكِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْآخِرِينَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ شَاذًّا؛ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ عَلَى التَّخْفِيفِ، لَا عَلَى الْجَزْمِ. وَالثَّانِي: هُوَ مَجْزُومٌ. وَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَتْبَعْنَاهُمُ الْآخِرِينَ فِي الْوَعْدِ بِالْإِهْلَاكِ، أَوْ أَرَادَ بِالْآخِرِينَ آخِرَ مَنْ أُهْلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣))
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَى قَدَرٍ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ مُؤَخَّرًا إِلَى قَدَرٍ.
وَ (قَدَرْنَا) - بِالتَّخْفِيفِ - أَجْوَدُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: «فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ» وَلَمْ يَقُلْ: الْمُقَدِّرُونَ، وَمَنْ شَدَّدَ الْفِعْلَ نَبَّهَ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ التَّكْثِيرِ بِتَشْدِيدِ الِاسْمِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ فَنِعَمَ الْقَادِرُونَ نَحْنُ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (٢٥) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (٢٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كِفَاتًا) : جَمْعُ كَافِتٍ، مِثْلُ صَائِمٍ وَصِيَامٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، مِثْلُ كِتَابٍ وَحِسَابٍ، وَالتَّقْدِيرُ: ذَاتُ كَفْتٍ؛ أَيْ جَمْعٍ. وَأَمَّا «أَحْيَاءً» فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَفْعُولُ «كِفَاتًا».
وَالثَّانِي: هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلْنَا بَعْضَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً بِالنَّبَاتِ؛ وَ «كِفَاتًا» عَلَى هَذَا حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (٢٧)).
وَالتَّاءُ فِي «فُرَاتٍ» أَصْلٌ.
قَالَ تَعَالَى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا ظَلِيلٍ) : نَعْتٌ لِظِلٍّ.
وَ (الْقَصْرُ) بِسُكُونِ الصَّادِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمَبْنِيُّ.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ جَمْعُ قَصَرَةٍ، وَهِيَ أَصْلُ النَّخْلَةِ وَالشَّجَرَةِ.
وَ (جِمَالَاتٌ) : جَمْعُ جِمَالَةٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ، مِثْلُ الذِّكَارَةِ وَالْحِجَارَةِ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا) : هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَ (يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) : خَبَرُهُ.
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْمِيمِ؛ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ؛ أَيْ هَذَا الْمَذْكُورُ فِي يَوْمِ لَا يَنْطِقُونَ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعَ الْمَوْضِعِ مَبْنِيَّ اللَّفْظِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيَعْتَذِرُونَ) : فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ نَفْيٌ كَالَّذِي قَبْلَهُ؛ أَيْ فَلَا يَعْتَذِرُونَ. وَالثَّانِي: هُوَ مُسْتَأْنَفٌ؛ أَيْ: فَهُمْ يَعْتَذِرُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ نُطْقًا يَنْفَعُهُمْ؛ أَيْ لَا يَنْطِقُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ، وَيَنْطِقُونَ فِي بَعْضِهَا؛ وَلَيْسَ بِجَوَابِ النَّفْيِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُذِفَ النُّونُ.
قَالَ تَعَالَى: (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَلِيلًا) : أَيْ تَمَتُّعًا أَوْ زَمَانًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سورة المرسلات
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المُرسَلات) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الهُمَزة)، وقد جاءت ببيانِ قدرة الله على بعثِ الناس بعد هلاكهم؛ فهو المتصفُ بالرُّبوبية والألوهية، وقد افتُتحت بمَشاهدِ القيامة، والتذكير بمَصارعِ الغابرين، وذكَرتْ تأمُّلات في خَلْقِ الإنسان والكون؛ ليعودَ الخلقُ إلى أوامرِ الله، وليستجيبوا له سبحانه، و(المُرسَلات): هي الرِّياحُ التي تهُبُّ متتابِعةً.

ترتيبها المصحفي
77
نوعها
مكية
ألفاظها
181
ترتيب نزولها
33
العد المدني الأول
50
العد المدني الأخير
50
العد البصري
50
العد الكوفي
50
العد الشامي
50

* سورة (المُرسَلات):

سُمِّيت سورة (المُرسَلات) بذلك؛ لافتتاحها بالقَسَمِ الإلهيِّ بـ(المُرسَلات)؛ وهي: الرِّياح التي تهُبُّ متتابِعةً.

سورة (المُرسَلات) من السُّوَر التي شيَّبتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ اللهِ، أراكَ قد شِبْتَ! قال: «شيَّبتْني هُودٌ، والواقعةُ، والمُرسَلاتُ، و{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ}، و{إِذَا اْلشَّمْسُ كُوِّرَتْ}». أخرجه الحاكم (3314).

1. مَشاهد القيامة (١-١٥).

2. مَصارع الغابرين (١٦-١٩).

3. تأمُّلات في خَلْقِ الإنسان والكون (٢٠-٢٨).

4. عودٌ لمَشاهد القيامة (٢٩-٥٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /540).

مقصدُ سورة (المُرسَلات): الاستدلالُ على وقوع البعث بعد فَناء الدنيا، والاستدلال على إمكانِ إعادة الخَلْقِ بما سبَق من خَلْقِ الإنسان وخلق الأرض، وفي ذلك دلائلُ على قدرة الله، واتصافِه بالوَحْدانية والرُّبوبية.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /419).