ﰡ
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فاحمدوا الله لذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين، فان مثل هذه الربوبية العامة يوجب الحمد والثناء على كل مربوب، وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وحق مثله أن يكبر ويعظم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» «١».
سورة الأحقاف
مكية [إلا الآيات ١٠ و ١٥ و ٣٥ فمدنية] وآياتها ٣٤ وقيل ٣٥ آية [نزلت بعد الجاثية] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)إِلَّا بِالْحَقِّ إلا خلقا ملتبسا بالحكمة والغرض الصحيح وَبتقدير أَجَلٍ مُسَمًّى ينتهى إليه وهو يوم القيامة وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له. ويجوز أن تكون ما مصدرية، أى: عن إنذارهم ذلك اليوم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٥]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَمَنْ أَضَلُّ معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا من عبدة الأصنام، «١» حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كلّ بغية ومرام، ويدعون من دونه جمادا لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس: كانوا لهم أعداء، وكانوا عليهم ضدا، فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرّة، لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم. وإنما قيل مَنْ وهُمْ لأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولى العلم من الاستجابة والغفلة، ولأنهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلا وغباوة. ويجوز أن يريد: كلّ معبود من دون الله من الجن
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٦ الى ٧]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
بَيِّناتٍ جمع بينة: وهي الحجة والشاهد. أو واضحات مبينات. واللام في لِلْحَقِّ مثلها في قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً أى لأجل الحق ولأجل الذين آمنوا «١». والمراد بالحق: الآيات، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع الضميرين، للتسجيل عليهم بالكفر، وللمتلوّ بالحق لَمَّا جاءَهُمْ أى: بادوه بالجحود ساعة أتاهم، وأوّل ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر. ومن عنادهم وظلمهم: أنهم سموه سحرا مبينا ظاهرا أمره في البطلان لا شبهة فيه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى ذكر قولهم: إن محمدا افتراه. ومعنى الهمزة في أم: الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضى منه العجب، وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمّة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريا. والضمير للحق، والمراد به الآيات قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على سبيل الفرض عاجلني الله تعالى لا محالة بعقوبة الافتراء عليه. فلا تقدرون
يقال: فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صمم، ومثله فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من الله شيئا» «١» ثم قال هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أى تندفعون فيه من القدح في وحى الله تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت: فما معنى إسناد الفعل إليهم «٢» في قوله تعالى فلا تملكون لي؟ قلت: كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم: إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة الله، فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى الله بعقوبة الافتراء عليه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
البدع، بمعنى: البديع، كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ: بدعا، بفتح الدال، أى: ذا بدع
(٢). قال محمود: فان قلت: ما معنى إسناد الفعل إليهم... الخ» قال أحمد: فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا. ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح، فان النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من الله تعالى، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك إلا من الوحي الحق لا غير، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء، وإنما يتم هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى، لأنه إذا أمر بطاعة من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال: إن الله حتم عليكم وجوب التوحيد، وأنا رسول الله إليكم. ولم يكن متعوقا: فانه محق في الأمر بالتوحيد، لأن العقل دل على وجوبه عندهم، وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من الله عز وجل. وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة: أن يكون إسناد الفعل لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم، فالمعنى إذا إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بى لا تدفعونها عنى، فمفهومه، وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وأمثاله كثيرة والله أعلم.
ألا ترى إلى قوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ كيف دخلت الياء في حيز أنّ وذلك لتناول النفي إياها مع ما في حيزها. وما في ما يُفْعَلُ يجوز أن تكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. وقرئ: يوحى، أى الله عز وجل.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
(٢). قال محمود: «أجود ما ذكر فيه حمله على الدراية المفصلة، يريد بذلك أن تفصيل ما يصير إليه من خير ويصيرون إليه من شر... الخ» قال أحمد: «بنى على أن المجرور معطوف على مثله، وأنهما جميعا في صلة موصول واحد، ولو قيل: إن المجرور الثاني من صلة موصول محذوف معطوف على مثله، حتى يكون التقدير: وما أدرى ما يفعل بى ولا ما يفعل بكم: لكانت لا واقعة بمكانة غير مفتقرة إلى تأويل، وحذف الموصول المعطوف وتفاصيله كثيرة. ومنه
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
يريد حسان رضى الله عنه: فمن يهجو رسول الله ﷺ ومن يمدحه سواء.
ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ والشاهد من بنى إسرائيل:
عبد الله بن سلام، لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب. وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال له: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبىّ: ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال عليه الصلاة والسلام «١». أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتوني «٢» عندك. فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أى رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبى وقاص ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشى على وجه الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام «٣»، وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ «٤» الضمير للقرآن، أى: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك، يعنى كونه من عند الله. فإن قلت:
أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف على معناه من جهة «٥» النظم. قلت: الواو الأولى عاطفة
(٢). قوله «بهتوني» أى: رموني بما ليس فىّ. (ع)
(٣). متفق عليه.
(٤). عند البخاري وشك في إدراجها. وروى الطبري من رواية محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال قال عبد الله بن سلام «فىّ نزلت هذه الآية. ثم روى عن الشعبي أنه أنكر ذلك لكون السورة مكية. كذا أخرجه ابن أبى شيبة عن الشعبي.
(٥). قال محمود: «إن قلت: أخبرنى عن نظم هذا الكلام لأقف عليه من جهة النظم... الخ» قال أحمد:
إنما لم يوجه المعطوف إلى جهة واحدة، لأن التفصيل قد يكون عطف مجموع مفردات على مجموع مفردات كل منهما والآية من هذا النمط، ومثلها قوله تعالى وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وقوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الآية، وقد تقدم تقرير ذلك في الآيتين فجدد به عهدا.
فقد عطفت جملة قوله. شهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم: على جملة قوله كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ونظيره قولك: إن أحسنت إليك وأسأت، وأقبلت عليك وأعرضت عنى، لم نتفق في أنك أخذت ضميمتين فعطفتهما على مثليهما، والمعنى: قل أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بنى إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به، مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ وقد جعل الإيمان في قوله فَآمَنَ مسببا عن الشهادة على مثله، لأنه لما علم أنّ مثله أنزل على موسى صلوات الله عليه، وأنه من جنس الوحى وليس من كلام البشر، وأنصف من نفسه فشهد عليه واعترف كان الإيمان نتيجة ذلك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجلهم وهو كلام كفار مكة، قالوا: عامّة من يتبع محمدا السقاط، يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود، فلو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء. وقيل:
لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار: قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم. وقيل: إن أمة لعمر أسلمت، فكان عمر يضر بها حتى يفتر ثم يقول لولا أنى فترت لزدتك ضربا، وكان كفار قريش يقولون: لو كان ما يدعو إليه محمد حقا ما سبقتنا إليه فلانة. وقيل: كان اليهود يقولونه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه. فإن قلت: لا بدّ من عامل في الظرف «١» في قوله وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ومن متعلق لقوله فَسَيَقُولُونَ وغير
والله أعلم.
وقرئ: ومن قبله كتاب موسى، على: وآتينا الذين قبله التوراة. ومعنى إِماماً: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، كما يؤتم بالإمام وَرَحْمَةً لمن آمن به وعمل بما فيه وَهذا القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى. أو لما بين يديه وتقدّمه من جميع الكتب. وقرئ:
مصدق لما بين يديه. ولِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير الكتاب في مصدق، والعامل فيه مُصَدِّقٌ ويجوز أن ينتصب حالا عن كتاب «١» لتخصصه بالصفة، ويعمل فيه معنى الإشارة. وجوّز أن يكون مفعولا لمصدق، أى: يصدق ذا لسان عربى وهو الرسول. وقرئ: لينذر بالياء والتاء، ولينذر: من نذر ينذر إذا حذر وَبُشْرى في محل النصب معطوف على محل لينذر، لأنه مفعول له.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)قرئ: حسنا، بضم الحاء وسكون السين. وبضمهما. وبفتحهما. وإحسانا. وكرها، بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة، كالفقر والفقر. وانتصابه على الحال: أى: ذات كره.
أو على أنه صفة للمصدر، أى: حملا ذا كره وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ومدّة حمله وفصاله ثَلاثُونَ شَهْراً وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بقيت للحمل ستة أشهر. وقرئ: وفصله.
والفصل والفصال: كالفطم والفطام، بناء ومعنى. فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهى به ويتم:
سمى فصالا، كما سمى المدّة بالأمد من قال:
كل حى مستكمل مدّة العمر | ومود إذا انتهى أمده «١» |
والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكرى النعمة عليه وعلى والديه، لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضى: هو الصلوات الخمس.
فإن قلت: ما معنى فِي في قوله وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي؟ قلت: معناه: أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح «٢» ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتى وأوقعه فيهم ونحوه:
يجرح في عراقيبها نصلى «٣»
مِنَ الْمُسْلِمِينَ من المخلصين. وقرئ: يتقبل، ويتجاوز، بفتح الياء، والضمير فيهما لله عز
(٢). قال محمود: «فان قلت: ما معنى في هاهنا، وأجاب بأن المراد جعل ذريته... الخ» قال أحمد: ومثله قوله تعالى إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى عدولا عن قوله: إلا مودة القربى. أو المودة للقربى، والله أعلم.
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.
أكرمنى الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمنى في جملة من أكرم منهم، ونظمنى في عدادهم، ومحله النصب على الحال، على معنى: كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد، لأن قوله: يتقبل، ويتجاوز: وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز. وقيل:
نزلت في أبى بكر رضى الله عنه وفي أبيه أبى قحافة وأمّه أم الخير وفي أولاده، واستجابة دعائه فيهم. وقيل: لم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبى بكر.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ مبتدأ خبره: أولئك الذين حق عليهم القول. والمراد بالذي قال:
الجنس القائل ذلك القول، ولذلك وقع الخبر مجموعا. وعن الحسن: هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وعن قتادة: هو نعت عبد سوء عاق لوالديه فاجر لربه. وقيل:
نزلت في عبد الرحمن بن أبى بكر «١» قبل إسلامه وقد دعاه أبوه أبو بكر وأمّه أمّ رومان إلى الإسلام، فأفف بهما وقال: ابعثوا لي جدعان بن عمرو وعثمان بن عمرو، وهما من أجداده حتى أسألهما
لقد جئتم بها هرقلية: تبايعون لأبنائكم، فقال مروان: يا أيها الناس، هو الذي قال الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فسمعت عائشة فغضبت وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته «١» ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله «٢». وقرئ: أف، بالكسر والفتح بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال: حس، علم منه أنه متوجع، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غير كما. وقرئ: أتعدانني: بنونين. وأ تعداني: بأحدهما. وأ تعداني:
بالإدغام. وقد قرأ بعضهم: أتعدانني بفتح النون، كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرتين والياء، ففتح الأولى تحريا للتخفيف، كما تحراه من أدغم ومن أطرح أحدهما أَنْ أُخْرَجَ أن ابعث وأخرج من الأرض. وقرئ: أخرج وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعنى: ولم يبعث منهم أحد يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله وَيْلَكَ دعاء عليه بالثبور: والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك فِي أُمَمٍ نحو قوله فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وقرئ: أن، بالفتح، على معنى: آمن بأن وعد الله حق.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٩]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَلِكُلٍّ من الجنسين المذكورين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أى منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ومن أجل ما عملوا منهما «٣». فإن قلت: كيف قيل: درجات، وقد جاء:
الجنة درجات والنار دركات؟ قلت: يجوز أن يقال ذلك على وجه التغليب، لاشتمال كل على الفريقين وَلِيُوَفِّيَهُمْ وقرئ: بالنون تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنه قيل:
هذا الذي أنزل- فذكر الآية فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب والله. ما هو به. فذكره. ولكن رسول الله ﷺ لعن أبا مروان ومروان في صلبه إلى آخره. ولفظ ابن أبى خيثمة «إن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم أن يبايع الناس ليزيد بن معاوية. فقال عبد الرحمن لقد جئتم بها هر قلبة- إلى آخر لفظ المصنف.
قلت: أصله في البخاري من رواية يوسف بن ماهك عن عائشة دون ما في آخره.
(٢). قوله «فأنت فضض من لعنة الله» في الصحاح كل شيء تفرق فهو فضض. وفي الحديث: أنت فضض من لعنة الله، يعنى: ما انفض من نطفة الرجل وتردد في صلبه. (ع)
(٣). قوله «ومن أجل ما عملوا منهما» لعله: أو من أجل. (ع)
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
ناصب الظرف هو القول المضمر قبل أَذْهَبْتُمْ وعرضهم على النار: تعذيبهم بها، من قولهم: عرض بنو فلان على السيف «١» إذا قتلوا به. ومنه قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها ويجوز أن يراد: عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض، يريدون: عرض الحوض عليها فقلبوا. ويدل عليه تفسير ابن عباس رضى الله عنه: يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ أى: ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم، وقد ذهبتم به وأخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وعن عمر رضى الله عنه:
لو شئت لدعوت بصلائق وصناب «٢» وكراكر وأسنمة، ولكنى رأيت الله تعالى نعى على قوم طيباتهم فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا «٣». وعنه: لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا، ولكنى أستبقى طيباتى: «٤» وعن رسول الله ﷺ أنه دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا، فقال: أأنتم اليوم خير أم يوم
(٢). قوله «بصلائق وصناب» في الصحاح: الصلائق: الخبز الرقاق. والصناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب. والكركرة: رحى زور البعير: والزور: أعلى الصدر اه أخذا من مواضع. (ع)
(٣). أخرجه ابن المبارك في الزهد أخبرنا جرير بن حازم أنه سمع الحسن يقول «قدم على أمير المؤمنين عمر وقد أهل البصرة مع أبى موسى الأشعرى قال لو كنا ندخل وأنه كل يوم خبز بيت. فذكر الحديث. وفيه «أما والله ما أجهل من كراكر وأسنمة وصلا وصناب وقال جرير: الصلا هو الشواء والصناب الخردل، والصلائق الخبز الرقاق. ولكن سمعت الله عير أقواما بأمر فعلوه. فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ الآية. وأخرجه أبو عبيدة في الغريب. وابن سعد وأحمد في الزهد. وأبو نعيم في الحلية كلهم من طريق جرير به.
(٤). أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال ذكر لنا عمر قال: فذكره.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
الأحقاف: جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، من احقوقف الشيء إذا اعوج، وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن. وقيل: بين عمان ومهرة. والنُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من قبله وَمِنْ خَلْفِهِ ومن بعده. وقرئ: من بين يديه ومن بعده. والمعنى: أنّ هودا عليه السلام قد أنذرهم فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم العذاب، وأعلمهم أنّ الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره وعن ابن عباس رضى الله عنه: يعنى الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه. ومعنى وَمِنْ خَلْفِهِ على هذا التفسير ومن بعد إنذاره، هذا إذا علقت، وقد خلت النذر بقوله: أنذر قومه، ولك أن تجعل قوله تعالى وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعتراضا بين أنذر قومه وبين أَلَّا تَعْبُدُوا ويكون المعنى: واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك، فاذكرهم.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٢]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢)
الإفك: الصرف. يقال أفكه عن رأيه عَنْ آلِهَتِنا عن عبادتها بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ صادقا في وعدك.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٣]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
فإن قلت: من أين طابق قوله تعالى إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ جوابا لقولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا؟
وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وقرئ بالتخفيف: أن الذي هو شأنى وشرطي: أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف والصرف عما يعرّضكم لسخط الله بجهدي، ولكنكم جاهلون لا تعلمون أنّ الرسل لم يبعثوا إلا منذرين لا مقترحين، ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْهُ في الضمير وجهان: أن يرجع إلى ما تعدنا، وأن يكون مبهما قد وضح أمره بقوله عارِضاً إما تمييزا وإما حالا. وهذا الوجه أعرب وأفصح. والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. ومثله: الحبى والعنان، من حبا وعنّ: إذا عرض. وإضافة مستقبل وممطر مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفا للنكرة بَلْ هُوَ القول قبله مضمر، والقائل: هود عليه السلام، والدليل عليه قراءة من قرأ: قال هود، بل هو. وقرئ: قل بل ما استعجلتم به هي ريح، أى قال الله تعالى: قل تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير، فعبر عن الكثرة بالكلية. وقرئ يدمر كل شيء من دمر دمارا إذا هلك لا تَرى الخطاب للرائى من كان. وقرئ: لا يرى، على البناء للمفعول بالياء والتاء، وتأويل القراءة بالتاء وهي عن الحسن رضى الله عنه: لا ترى بقايا ولا أشياء منهم إلا مساكنهم. ومنه بيت ذى الرمّة:
وما بقيت إلّا الضلوع الجراشع»
وليست بالقوية. وقرئ: لا ترى إلا مسكنهم، ولا يرى إلا مسكنهم. وروى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط والظعينة فترفعها في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة. وقيل:
أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار. وروى:
أوّل ما عرفوا به أنه عذاب: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
إِنْ نافية، أى: فيما ما مكنا كم فيه، إلا أنّ إِنْ أحسن في اللفظ، لما فيه مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع. ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في «مهما» :
«ماماز» لبشاعة التكرير: قلبوا الألف هاء. ولقد أغث «٢» أبو الطيب في قوله:
لعمرك ماما بان منك لضارب «٣»
وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب «٤»
(٢). قوله «ولقد أغث أبو الطيب» في الصحاح «أغث» : أى ردؤ وفسد، تقول: أغث الرجل في منطقه. (ع) [.....]
(٣).
لعمرك ماما بان منك لضارب | بأقتل مما بان منك لعائب |
(٤). قال أحمد: بيت المتنبي ليس كما أنشده، وإنما هو كما يروى:
لعمرك إن ما بان منك لضارب | بأقتل مما بان منك لعائب |
هو ابن رسول الله وابن صفيه | وشبههما شبهت بعد التجارب |
يرى أن إن ما بان منك لضارب
وهذا التكرار أثقل من تكرار «ما» بلا مراء. وإنما فنده الزمخشري وألزمه استعمال «إن» عوض «ما» لاعتقاده أن البيت كما أنشده:
لعمرك ما مابان منك لضارب | بأقتل مما بان منك لعائب |
يرجى المرء ما إن لا يراه | وتعرض دون أدناه الخطوب |