بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الزخرف وهي مكيةﰡ
وَقد ورد الْجعل فِي الْقُرْآن لَا بِمَعْنى الْخلق، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنهم وصفوهم بالأنوثة وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم خلقوهم.
وَقَوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبيا﴾ أَي: بِلِسَان الْعَرَب.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ أَي: تعقلون مَا فِيهِ.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي [أَنه] قَالَ: " إِن أول مَا خلق الله تَعَالَى الْقَلَم، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: ﴿لدينا﴾ أَي: عندنَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لعلى﴾ أَي: رفيع لَا يَنَالهُ أحد بتبديل وَلَا تَغْيِير.
وَقَوله: ﴿حَكِيم﴾ أَي: أحكمت آيَاته لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص.
وَقَوله: ﴿من نَبِي فِي الْأَوَّلين﴾ أَي: فِي الْقُرُون الْمَاضِيَة.
وَقَوله: ﴿وَمضى مثل الْأَوَّلين﴾ أَي: عقوبات الْأَوَّلين، وَذكر بِلَفْظ الْمثل على
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم الآرض مهدا﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم فِيهَا سبلا﴾ أَي: [طرقا].
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ أَي: تهتدون بسلوكها فِي أسفاركم. وَقيل: فِي معايشكم وتصرفاتكم.
وَقَوله: ﴿فأنشرنا بِهِ بَلْدَة مَيتا﴾ مَعْنَاهُ: أحيينا بِهِ أَرضًا ميتَة.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك تخرجُونَ﴾ يَعْنِي: تبعثون يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾ الْفلك: هِيَ السفن، وَاخْتلف القَوْل فِي الْأَنْعَام، فَذهب مقَاتل إِلَى أَنَّهَا الْإِبِل وَالْبَقر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة، وَهُوَ الأولى، قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: وَمَتى ركبت الْبَقَرَة؟ ! وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا ركب بقرة فتكلمت الْبَقَرَة، وَقَالَت: مَا خلقنَا لهَذَا، وَإِنَّمَا خلقنَا للحرث.
وَقَوله: ﴿ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين﴾ أَي: مطيقين، أَي: مَا كُنَّا نطيق تذليله وتسخيره لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذلله وسخره لنا. قَالَ عَمْرو بن معد يكرب:
(وَقد علم الْقَبَائِل مَا عقيل | لنا فِي النائبات بمقرنينا) |
وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي كَانَ إِذا اسْتَوَى على بعيره مُتَوَجها فِي سفر،
وَفِي بعض الْكتب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه قَالَ: كُنَّا فِي سفر وَكَانَ النَّاس إِذا اسْتَووا على دوابهم قَالُوا: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين﴾ وَكَانَ أَعْرَابِي على بعير هزيل فَاسْتَوَى على بعيره وَقَالَ: أما إِنِّي لهَذَا مقرن، [فقمص] بِهِ، فَوَقع واندقت عُنُقه وَمَات.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن رجلا شَابًّا خرج فِي حلَّة لَهُ، قد رجل شعره، فَقيل لَهُ: إِنَّك لحميل الْيَوْم، فَقَالَ: إِن الله يعجب من جمالي؛ فمسخه الله تَعَالَى.
وَعَن بَعضهم أَيْضا أَنه كَانَ يكْتب الْقُرْآن فانعقد حبره وَلم يحضرهُ المَاء، فقطر فِيهِ قَطْرَة بَوْل فَكتب، فجفت يَده.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين﴾ أَي: كفور للنعم بَين الكفران.
وَقَوله: ﴿ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم﴾ أَي: حَزِين مكروب، وَيُقَال مَمْلُوء غما وهما.
وَقَوله: ﴿فِي الْحِلْية﴾ أَي: فِي الْحلِيّ، والحلية: الزِّينَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا مَشْغُولَة بزينتها لَيْسَ لَهَا رَأْي فِي الْأُمُور، وَلَا تصرف فِي الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين﴾ أَي: فِي الْجِدَال ضَعِيف القَوْل. وَفِي التَّفْسِير: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة فأمكنها أَن تبلغ حجتها، وَيُقَال: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة إِلَّا وتتكلم مَا يكون حجَّة عَلَيْهَا، وَالْآيَة وَردت للإنكار عَلَيْهِم يَعْنِي: أَنكُمْ جعلتم نَصِيبي من عبَادي مثل هَؤُلَاءِ، وجعلتم نصيبكم الْبَنِينَ.
وَقَوله: ﴿أشهدوا خلقهمْ﴾ مَعْنَاهُ: أحضروا خلقهمْ فعرفوا أَنهم خلقُوا إِنَاثًا، وَقُرِئَ: (اشْهَدُوا خلقهمْ) مَعْنَاهُ: احضروا.
وَقَوله: ﴿ستكتب شَهَادَتهم﴾ وَقُرِئَ (سنكتب) بالنُّون يعْنى: [أَنهم] يجازون بِشَهَادَتِهِم الكاذبة. وَقيل سنكتب ليجاوز.
وَقَوله: ﴿ويسألون﴾ أَي: يسْأَلُون عَن شَهَادَتهم يَوْم الْقِيَامَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿مَا لَهُم بذلك من علم﴾ أَي: مَا لَهُم فِي هَذَا القَوْل من عذر.
وَقَوله: ﴿إِن هم غلا يخرصون﴾ أَي: يطْلبُونَ مَا لَا يكون من طلب الْعذر بِهَذَا الْكَلَام، حَكَاهُ النّحاس، وَالْأول ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.
وَقَوله: ﴿فهم بِهِ مستمسكون﴾ أَي: مستمسكون، وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار أَيْضا.
(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة | وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع) |
وَأما الإمة بِكَسْر الْألف فَهِيَ بِمَعْنى الطَّرِيقَة، قَالَ الشَّاعِر:
(ثمَّ بعد الْفَلاح وَالْملك وإلامة | وارتهم هُنَاكَ الْقُبُور) |
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون﴾ أَي: متبعون.
وَقَوله: ﴿إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيل على ذمّ التَّقْلِيد وَالرُّجُوع إِلَى قَول الْآبَاء من غير حجَّة.
وَقَوله: ﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون﴾ أَي: جاحدون.
وَقَوله: ﴿فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين﴾ أَي: الجاحدين.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾ أَي: يرجعُونَ إِلَى الْهدى بعد الضَّلَالَة.
وَقَوله: ﴿حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين﴾ أَي: جَاءَهُم الْقُرْآن يبين الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْحق من الْبَاطِل.
وَقَوله: ﴿نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: كَمَا قسمنا معيشة الْحَيَاة الدُّنْيَا فاخترنا للغنى من شِئْنَا، وللفقر من شِئْنَا، فَكَذَلِك اخترنا واصطفينا للرسالة من شِئْنَا. وَقد روى ابْن مَسْعُود أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يُحِبهُ، وَمن أعطَاهُ الدّين فقد أحبه ". وَعَن قَتَادَة: رب رجل ضَعِيف (الجبلة) عيي اللِّسَان [مَبْسُوط لَهُ] فِي الرزق، وَرب رجل شَدِيد (الجبلة)، فصيح اللِّسَان مقتر عَلَيْهِ فِي الرزق.
وَقَوله: ﴿ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا، فغني وفقير، وفاضل ومفضول، وحر وَعبد، وصحيح وَسَقِيم، وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا﴾ أَي: خولا. وَقيل: بتسخير الْغَنِيّ الْفَقِير بِمَالِه، وَالْقَوِي الضَّعِيف بِفضل قوته. وَيُقَال: تتخذونهم مماليك وعبيدا، وَبِهَذَا الْقيام صَلَاح الْعَالم، وَأنْشد بَعضهم:
(سُبْحَانَ من سخر [الْأَنَام] بَعضهم | للْبَعْض حِين اسْتَوَى التَّدْبِير واطردا) |
(فَصَارَ يخْدم هَذَا ذَاك من جِهَة | وَذَاكَ من جِهَة هَذَا وَإِن بعدا) |
(كل بِمَا عِنْده مُسْتَبْشِرٍ فَرح | يرى السَّعَادَة فِيمَا نَالَ واعتقدا) |
وَقَوله: ﴿لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة﴾ وَقُرِئَ: " سقفا " بِفَتْح السِّين يَعْنِي: جعلنَا جدرها فضَّة.
وَقَوله: ﴿ومعارج عَلَيْهَا يظهرون﴾ أَي: جعلنَا لَهُم مراقي من فضَّة يظهرون عَلَيْهَا على السّقف. وَمَعْنَاهُ: يظهرون يصعدون ويعلون. وَفِي الْأَخْبَار: أَن نَابِغَة بن جعدة أنْشد للنَّبِي:
(بلغت السَّمَاء عفة وتكرما | وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا) |
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وزخرفا﴾ أَي: غنى. وَعَن الْحسن قَالَ: الزخرف هِيَ النقوش. وَقيل: كل مَا هُوَ زِينَة فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: تكون مُدَّة ويفنى سَرِيعا.
وَقَوله: ﴿وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين﴾ أَي: لِلْمُتقين من الشّرك والمعاصي.
وَقَوله: ﴿نقيض لَهُ شَيْطَانا﴾ أَي: نوكل بِهِ شَيْطَانا. وَيُقَال: نلقيه شَيْطَانا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر إِذا خرج من الْقَبْر لقِيه شَيْطَان، فَأدْخل يَده فِي يَده، وَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى النَّار، وَالْمُؤمن إِذا خرج من قَبره يلقاه ملك، فَيدْخل يَده فِي يَده، فَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿فَهُوَ لَهُ قرين﴾ أَي: مُقَارن. وَيُقَال: يجعلان فِي سلسلة وَاحِدَة.
وَقَوله: ﴿وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون﴾ أَي: الْكفَّار يحسبون أَنهم مهتدون بإرشاد الشَّيَاطِين.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " عَلَيْكُم بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَأَكْثرُوا مِنْهَا فَإِن إِبْلِيس قَالَ: أهلكت بني آدم بِالذنُوبِ،
وَقَوله: ﴿قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بعد الْمشرق من الْمغرب، وسماها مشرقين على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يذكرُونَ [شَيْئَيْنِ] مُخْتَلفين ويسمونهما باسم وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(أَخذنَا بآفاق السَّمَاء عَلَيْكُم | لنا قمراها والنجوم الطوالع) |
وَقَالَ آخر:
(وبصرة الأزد لنا وَالْعراق | والموصلان وَمنا مصر وَالْحرم) |
وروى أَن أهل الْبَصْرَة قَالُوا لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين حَارَبُوهُ مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل: إِنَّا نطلب مِنْك سنة العمرين يَعْنِي: أَبَا بكر وَعمر، وَقَالَ جرير:
(مَا كَانَ يرضى رَسُول الله فعلهم | والعمران أَبُو بكر وَلَا عمر) |
وَقَوله: ﴿فبئس القرين﴾ أَي: بئس الْمُقَارن أَنْت.
(وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي | على إخْوَانهمْ لقتلت نَفسِي) |
(وَمَا يَبْكُونَ مثل أخي وَلَكِن | أعزي النَّفس [عَنهُ] بالتأسي) |
(فيا ظَبْيَة الوغا بَين خلاخل | وَبَين النقا أَنْت أم سَالم) |
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين﴾ أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة. وَيُقَال: استخف قومه أَي: حملهمْ على خفَّة الْجَهْل، وَمَعَ الْعقل الْوَقار، وَمَعَ الْجَهْل الخفة.
وَالْجَوَاب [عَنهُ] : أَن مَعْنَاهُ الْغَضَب كَمَا بَينا، وَقَالَ بَعضهم: آسفونا أَي: فعلوا فعلا لَو فَعَلُوهُ مَعَ مَخْلُوق لَكَانَ متأسفا حَزينًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن عُرْوَة بن الزبير كَانَ جَالِسا مَعَ وهب بن مُنَبّه، فجَاء قوم فشكوا عاملهم، وَكَانَ الْعَامِل حَاضرا، فَغَضب وهب بن مُنَبّه وَأخذ عَصا وشج رَأس الْعَامِل، فَضَحِك عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا ينْهَى عَن الْغَضَب ويغضب؟ فَقَالَ وهب: لَا، لَا تلمني، فَإِن الله تَعَالَى يغْضب وَهُوَ خَالق الأحلام، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم﴾ وَمعنى قَوْله: ﴿انتقمنا مِنْهُم﴾ أَي: بالإغراق والإهلاك، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فأغرقناهم أَجْمَعِينَ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين﴾ أَي: سلفا للكبار وَمن بعدهمْ، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. وَمعنى " مثلا " أَي: عظة وعبرة. وَقُرِئَ " سلفا " وَهُوَ جمع سليف، وَقُرِئَ: " سلفا " وَالْمعْنَى فِي الْكل وَاحِد. وَعَن زيد بن أسلم قَالَ: مَا من أحد إِلَّا وَله سلف فِي الخيروالشر.
والجواب [ عنه ]٣ : أن معناه الغضب كما بينا، وقال بعضهم : آسفونا أي : فعلوا فعلا لو فعلوه مع مخلوق لكان متأسفا حزينا. وفي بعض الآثار : أن عروة بن الزبير كان جالسا مع وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وكان العامل حاضرا، فغضب وهب بن منبه وأخذ عصا٤ وشج رأس العامل، فضحك عروة بن الزبير فقال : انظروا إلى هذا ينهى عن الغضب ويغضب ؟ فقال وهب : لا، لا تلمني، فإن الله تعالى يغضب وهو خالق الأحلام، ثم قرأ قوله تعالى :( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) ومعنى قوله :( انتقمنا منهم ) أي : بالإغراق والإهلاك، وهو معنى قوله :( فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) أي : سلفا للكبار ومن بعدهم، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. ومعنى " مثلا " أي : عظة وعبرة. وقرئ " سلفا " وهو جمع سليف، وقرئ :" سلفا " ٥ والمعنى في الكل واحد. وعن زيد بن أسلم قال : ما من أحد إلا وله سلف في الخيروالشر.
وَقَوله: ﴿إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون﴾ بِكَسْر الصَّاد أَي: يضجون ضجاج المجادلين، وَيُقَال: يصدون أَي: يَضْحَكُونَ ويفرحون بقول ابْن الزبعري. وَقُرِئَ " " يصدون " بِضَم الصَّاد، وَمَعْنَاهُ: يعرضون، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن النَّبِي لما ذكر حَدِيث [عِيسَى] لقريش، وَأَنه خلقه الله تَعَالَى من غير أَب كَمَا خلق آدم من غير أَب، وَذكر مَا أظهر الله على يَده من الْآيَات جعلت قُرَيْش يَضْحَكُونَ، وقاوا مَا يُرِيد مُحَمَّد من ذكر عِيسَى إِلَّا أَن نعبده كَمَا عبدت النَّصَارَى عِيسَى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد.
وَقَوله: ﴿مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا﴾ يَعْنِي: مَا قَالُوا هَذَا القَوْل إِلَّا مجادلة بِالْبَاطِلِ؛
وَقَوله: ﴿بل هم قوم خصمون﴾ أَي: مخاصمون بِغَيْر الْحق، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون﴾. وَالْمرَاد بِالْآيَةِ المجادلة بِالْبَاطِلِ لَا المجادلة فِي طلب الْحق أَو لبَيَان الْحق؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾.
وَقَوله: ﴿وجعلناه مثلا﴾ أَي: عظة وعبرة لبني إِسْرَائِيل، وَيُقَال: جَعَلْنَاهُ مثلا لَهُم أَي: بشرا مثلهم.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه " ينزل على ثنية فَوق جبل من جبال بَيت الْمُقَدّس وليه ممصرتان وَبِيَدِهِ حَرْبَة يقتل بهَا الدَّجَّال "، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: ﴿وَإنَّهُ لعلم للساعة﴾ أَي: آيَة من آيَات حُضُورهَا.
قَالَ الفرزدق يمدح عَليّ بن الْحُسَيْن:
(هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته | والركن يعرفهُ والحل وَالْحرم) |
(هَذَا ابْن خير عباد الله كلهم | هَذَا التقي النقي الطَّاهِر الْعلم) |
وَقَوله: ﴿فَاتَّقُوا الله وأطيعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم﴾ أَي: موجع.
وَفِي التَّفْسِير: أَن كل أخوة تكون فِي الدُّنْيَا عَن مَعْصِيّة تصير عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة، وكل أخوة تكون عَن دين تبقى يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: أحب لله وَأبْغض لله، ووال فِي الله، وَعَاد فِي الله، فَإِنَّهُ لَا ينَال مَا عِنْد الله إِلَّا بِهَذَا.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ فَقَالَ: إِن هَذَا فِي أَصْحَاب النَّبِي حِين آخى رَسُول الله بَينهم قَالَ: رَسُول الله وعَلى أَخَوان، وَأَبُو بكر وَعمر أَخَوان، وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أَخَوان، وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَخَوان، إِلَى غير هَذَا.
وَقَوله: ﴿وأكواب﴾ الأكواب وَاحِدهَا كوب، وَهُوَ إِنَاء مستدير لَيْسَ لَهُ عُرْوَة وَلَا خرطوم.
وَقَوله: ﴿وفيهَا مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين﴾ أَي: تشتهيه الْأَنْفس، وَقد قرئَ هَكَذَا فِي بعض الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
وَقَوله: ﴿وتلذ الْأَعْين﴾ إِنَّمَا نسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن المناظر الْحَسَنَة تلذ النُّفُوس، فنسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن نسبتها كَانَت إِلَيْهَا أليق.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون لَا يخرجُون أبدا.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ فِيهِ مبلسون﴾ أَي: آيسون من الْخُرُوج، والملبس فِي اللُّغَة هُوَ السَّاكِت الَّذِي سكت تحيرا ويأسا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم للحق كَارِهُون﴾ أَي: كرهتم مَجِيء الْحق ودعوتكم إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿بلَى وَرُسُلنَا﴾ يَعْنِي: بلَى نسْمع ﴿وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ﴾ أَي: يَكْتُبُونَ بِمَا يعْملُونَ وَيَقُولُونَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " إِن " هَاهُنَا بِمَعْنى " مَا "، وَمَعْنَاهُ: قل مَا كَانَ للرحمن ولد وَتمّ الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: فَأَنا أول العابدين، وَأهل النَّحْو يستبعدون هَذَا، وَيَقُولُونَ: لَا يجوز أَن تكون " إِن " بِمَعْنى " مَا " إِلَّا على بعد عَظِيم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين أَي: الآنفين، يُقَال: عبد إِذا أنف، قَالَ الفرزدق:
(أُولَئِكَ آبَائِي فجئني بمثلهم... وأعبد أَن يهجى كُلَيْب بدارم) أَي: آنف. وَحكى بَعضهم: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قيل لي: إِنَّك قتلت عُثْمَان فعبدت وَسكت أَي: أنفت.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْآيَة على هَذَا القَوْل: أَنى غضب (وَله غضب) أنف أَن ينْسب إِلَيْهِ ولد كَمَا تَزْعُمُونَ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا على النَّفْي من الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى: إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين، وَلَيْسَ لَهُ ولد وَلَا أَنا أول عَابِد، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِن كنت كَاتبا فَأَنا حاسب يَعْنِي: لست بكاتب وَلَا أَنا حاسب، وَحكى هَذَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة والسدى.
وَقَوله: ﴿رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ﴾ أَي: عَمَّا يصفونه بِالْوَلَدِ.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ أَي: تردون.
وَقَوله: ﴿إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ﴾ مَعْنَاهُ على القَوْل الأول: إِلَّا لمن شهد بِالْحَقِّ، وَهُوَ من شهد بِلَا إِلَه إِلَّا الله. وعَلى القَوْل الثَّانِي: لَكِن من شهد بِالْحَقِّ وَهُوَ يشفع، فعلى
وَقَوله: ﴿وَهُوَ يعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ: يشْهدُونَ عَن علم.
وَأما الْقِرَاءَة بِكَسْر اللَّام فَمَعْنَاه: وَعِنْده علم قيله، وَهُوَ عطف على قَوْله تَعَالَى: ﴿وَعِنْده علم السَّاعَة﴾.
وَأما رفع اللَّام فعلى الِابْتِدَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَوله يارب، إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ.
وَقَوله: ﴿وَقل سَلام﴾ أَي: قل مَا تسلم بِهِ عَن شرهم، قَالَ الْحسن: " وَقل سَلام " أَي: احلم عَنْهُم. وَيُقَال: هَذَا سَلام توديع، وَلَيْسَ بِسَلام تَحِيَّة.
وَقَوله: ﴿فَسَوف يعلمُونَ﴾ تهديد ووعيد.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿حم (١) وَالْكتاب الْمُبين (٢) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مباركة إِنَّا كُنَّا منذرين (٣) فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم (٤) ﴾تَفْسِير سُورَة حم الدُّخان
وَهِي مَكِّيَّة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
سورة الزخرف
سورة (الزُّخْرف) من السُّوَر المكية، من مجموعة سُوَر (الحواميم)، افتُتحت ببيان عظمة هذا الكتاب، وقُدْرتِه على البيان والإبلاغ، وجاءت ببشارةِ الأمَّة بعلوِّ قَدْرها ورفعتها، محذِّرةً إياها من زخارفِ هذه الدنيا وزَيْفِها؛ فهي دارُ مَمَرٍّ، لا دارُ مستقرٍّ، وخُتمت السورة بتنزيه الله عز وجل عن الولدِ والشريك؛ لكمالِ اتصافه بصفات الألوهية الحَقَّة.
ترتيبها المصحفي
43نوعها
مكيةألفاظها
837ترتيب نزولها
63العد المدني الأول
89العد المدني الأخير
89العد البصري
89العد الكوفي
89العد الشامي
88* قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]:
عن أبي يَحيَى مولَى ابنِ عَقِيلٍ الأنصاريِّ، قال: «قال ابنُ عباسٍ: لقد عَلِمْتُ آيةً مِن القرآنِ ما سألَني عنها رجُلٌ قطُّ، فما أدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها فيَسألوا عنها؟ ثم طَفِقَ يُحدِّثُنا، فلمَّا قامَ، تلاوَمْنا ألَّا نكونَ سأَلْناه عنها، فقلتُ: أنا لها إذا راحَ غدًا، فلما راحَ الغَدَ، قلتُ: يا بنَ عباسٍ، ذكَرْتَ أمسِ أنَّ آيةً مِن القرآنِ لم يَسأَلْك عنها رجُلٌ قطُّ، فلا تَدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها؟ فقلتُ: أخبِرْني عنها، وعن اللَّاتي قرأتَ قبلها، قال: نَعم، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لقُرَيشٍ: يا معشرَ قُرَيشٍ، إنَّه ليس أحدٌ يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ فيه خيرٌ، وقد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنَّ النَّصارى تعبُدُ عيسى ابنَ مَرْيَمَ، وما تقولُ في مُحمَّدٍ، فقالوا: يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى كان نبيًّا وعبدًا مِن عبادِ اللهِ صالحًا، فلَئِنْ كنتَ صادقًا، فإنَّ آلهتَهم لكما تقولون؟! قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، قال: قلتُ: ما {يَصِدُّونَ}؟ قال: يَضِجُّون، {وَإِنَّهُۥ لَعِلْمٞ لِّلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61]، قال: هو خروجُ عيسى ابنِ مَرْيَمَ عليه السلام قبلَ يومِ القيامةِ». أخرجه أحمد (٢٩١٨).
*(سورةُ الزُّخْرف):
سُمِّيت (سورةُ الزُّخْرف) بهذا الاسم؛ لمجيء لفظ (الزُّخْرف) في وصفِ الحياة الدنيا في قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰبٗا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـُٔونَ ٣٤ وَزُخْرُفٗاۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَٰعُ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَاْلْأٓخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 34-35].
1. مكانة القرآن، وعاقبة المستهزئين بالمرسلين (١-٨).
2. إقرار المشركين بربوبية الله تعالى (٩-١٤).
3. ضلال المشركين في العبادة (١٥-٢٥).
4. حِكْمة الله تعالى في اختيار رسله (٢٦-٣٥).
5. حال المُعرِض عن ذكرِ الله، وتسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦-٤٥).
6. قصة موسى عليه السلام مع فرعون (٤٦-٥٦).
7. قصة عيسى عليه السلام (٥٧-٦٦).
8. عباد الله المؤمنين ونِعَمُ الله عليهم (٦٧-٧٣).
9. الأشقياء الفُجَّار يوم القيامة (٧٤-٨٠).
10. تنزيه الله تعالى عن الولدِ والشريك (٨١-٨٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /102).
مقصدُ سورة (الزُّخْرف) هو البِشارة بإعلاء الله لهذه الأمَّة، وتفضيلها على باقي الأُمَم؛ فالأمة الإسلامية هي أعلى الأمم شأنًا ورفعةً، ولتحقيق ذلك لا بد من الارتباط بالآخرة، وتركِ زَيْفِ الدنيا وزُخْرُفها، وعدمِ التعلق بها.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /466).