ﰡ
[تفسير سُورَةُ الزُّخْرُفِ]
سُورَةُ الزُّخْرُفِ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَقَالَ مقاتل: إلا قوله" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا" «١» [الزخرف: ٤٥]. وَهِيَ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ آيَةً.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ". تَقَدَّمَ «٢» الْكَلَامُ فِيهِ. وَقِيلَ:" حم" قَسَمٌ." وَالْكِتابِ الْمُبِينِ" قَسَمٌ ثَانٍ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ. وَالْجَوَابُ" إِنَّا جَعَلْناهُ". وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَنْ جَعَلَ جَوَابَ" وَالْكِتابِ"" حم"- كَمَا تَقُولُ نَزَلَ وَاللَّهِ وَجَبَ وَاللَّهِ- وَقَفَ عَلَى" الْكِتابِ الْمُبِينِ". وَمَنْ جَعَلَ جَوَابَ الْقَسَمِ" إِنَّا جَعَلْناهُ" لَمْ يَقِفْ عَلَى" الْكِتابِ الْمُبِينِ". وَمَعْنَى" جَعَلْناهُ" أَيْ سَمَّيْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ، وَلِذَلِكَ تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ" «٣» [المائدة: ١٠٣]. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا. مُجَاهِدٌ: قُلْنَاهُ. الزَّجَّاجُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَيَّنَّاهُ." عَرَبِيًّا" أَيْ أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ كِتَابُهُ بلسان قومه، قاله سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ السَّمَاءِ عَرَبِيٌّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ اسْمُ جِنْسٍ فَكَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا. وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ" جَعَلْناهُ" تَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَقَوْلِهِ تعالى:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" «٤».] الْقَدْرِ: ١]." لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أَيْ تَفْهَمُونَ أَحْكَامَهُ وَمَعَانِيهِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ خَاصًّا لِلْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خِطَابًا عَامًّا «٥» لِلْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَنَعَتَ الْكِتَابَ بِالْمُبِينِ لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِيهِ أَحْكَامَهُ وَفَرَائِضَهُ، عَلَى مَا تقدم في غير موضع.
(٢). راجع ١٥ ص (٢٨٩)
(٣). آية ١٠٣ سورة المائدة.]
(٤). راجع ج ٢٠ ص ١٢٩
(٥). لفظة عاما ساقطة من ح ز ك هـ
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٤]
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ" يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ" لَدَيْنا" عِنْدَنَا" لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" أَيْ رَفِيعٌ مُحْكَمٌ لَا يُوجَدُ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ" «١» [الواقعة: ٧٨ - ٧٧] وَقَالَ تَعَالَى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ «٢» مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" [البروج: ٢٢ - ٢١]. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِنَّهُ" أَيْ «٣» أَعْمَالُ الْخَلْقِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ." لَعَلِيٌّ" أَيْ رَفِيعٌ عَنْ أَنْ يُنَالَ فَيُبَدَّلُ" حَكِيمٌ" أَيْ مَحْفُوظٌ مِنْ نَقْصٍ أَوْ تَغْيِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ، فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ" وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ". وَكَسَرَ الْهَمْزَةَ مِنْ" أُمِّ الْكِتابِ" حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَضَمَّ الباقون، وقد تقدم».
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" يَعْنِي: الْقُرْآنَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْعَذَابُ، أَيْ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ «٥» وَلَا نُعَاقِبُكُمْ عَلَى إِسْرَافِكُمْ وَكُفْرِكُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَفَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ وَلَّمَا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى أَتُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَا تُعَاقَبُونَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: الْمَعْنَى أَفَنَتْرُكُكُمْ سُدًى فَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى أَفَنُهْلِكُكُمْ وَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَفَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا نُنَزِّلُهُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّدَتْهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَدَّدَهُ وَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلَا تُوعَظُونَ وَلَا تُؤْمَرُونَ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ التَّذَكُّرُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَتَحَ. وَمَنْ كَسَرَ جعلها للشرط
(٢). آية ٢١ سورة البروج.
(٣). لفظة أى ساقطة من جميع النسخ ما عدا أ
(٤). راجع ج ٥ ص ٧٢
(٥). ما بين المربعين ساقط من ل
صفوحًا فما تلقاك إلا بخيلَةً | فمن مَلَّ منها ذلك الوصلَ ملَّتِ |
٢ هو كثير عزة..
صُفُوحًا فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً | فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ |
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٦ الى ٨]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ" كَمْ" هُنَا خَبَرِيَّةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ، وَالْمَعْنَى مَا أَكْثَرَ مَا أَرْسَلْنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. كَمَا قَالَ" كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ" «٣» [الدخان: ٢٥] أَيْ مَا أَكْثَرَ مَا تَرَكُوا." وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ" أَيْ لَمْ يَكُنْ يَأْتِيهِمْ نَبِيٌّ" إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ" كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ. يُعَزِّي نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسَلِّيهِ." فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً" أَيْ قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. وَالْكِنَايَةُ فِي" مِنْهُمْ" تَرْجِعُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً" فَكَنَّى عَنْهُمْ بَعْدَ أن خاطبهم. و" أَشَدَّ" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ هُوَ مَفْعُولٌ، أَيْ فقد أهلكنا
(٢). هو كثير عزة.
(٣). آية ٢٥ سورة الدخان.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٩]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ" يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ." مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" فَأَقَرُّوا لَهُ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، ثُمَّ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ جَهْلًا مِنْهُمْ. وَقَدْ مضى في غير «١» موضع.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ١٠]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً" وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ. وَهَذَا ابْتِدَاءُ إِخْبَارٍ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لَقَالَ الَّذِي جَعَلَ لَنَا الْأَرْضَ." مِهاداً" فِرَاشًا وَبِسَاطًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢».. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" مَهْداً"" جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا" أَيْ مَعَايِشَ. وَقِيلَ طُرُقًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا إِلَى حَيْثُ أَرَدْتُمْ." لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" فَتَسْتَدِلُّونَ بِمَقْدُورَاتِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ. وَقِيلَ" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" فِي أَسْفَارِكُمْ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى. وَقِيلَ: لَعَلَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جبير. وقيل: تهتدون إلى معايشكم.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ١١]
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا كَمَا أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدَرٍ حَتَّى أَغْرَقَهُمْ، بَلْ هُوَ بِقَدَرٍ لَا طُوفَانَ مُغْرِقٌ وَلَا قَاصِرَ عن الحاجة، حتى
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٠٩
قوله تعالى :" لعلكم تهتدون " فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل :" لعلكم تهتدون " في أسفاركم. قاله ابن عيسى. وقيل : لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم. قاله سعيد بن جبير. وقيل : تهتدون إلى معايشكم.
" بلدة ميتا " أي مقفرة من النبات. " كذلك تخرجون " أي من قبوركم ؛ لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في " الأعراف " مجودا١. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر " يخرجون " بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ١٢ الى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ" أَيْ وَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ الْأَصْنَافَ كُلَّهَا. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات وَالْأَرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَقِيلَ: أَزْوَاجَ الْحَيَوَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى. وَقِيلَ: أَرَادَ أَزْوَاجَ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" «٢» [ق: ٧] و" مِنْ كُلِّ زَوْجٍ «٣» كَرِيمٍ" [لقمان: ١٠]. وَقِيلَ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفَقْرٍ وَغِنًى، وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَعُمُّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا وَيَجْمَعُهَا بِعُمُومِهِ." وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ" السُّفُنِ" والْأَنْعامِ" الْإِبِلِ" مَا تَرْكَبُونَ" فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ." لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ" ذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ" مَا تَرْكَبُونَ"، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَضَافَ الظُّهُورَ إِلَى وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ، فَصَارَ الْوَاحِدُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجَيْشِ وَالْجُنْدِ، فَلِذَلِكَ ذُكِّرَ، وَجَمَعَ الظُّهُورَ، أَيْ عَلَى ظُهُورِ هذا الجنس.
(٢). آية ٧ سورة ق.
(٣). آية ٧ سورة الشعراء.
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عُقَيْلٌ | لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا |
رَكِبْتُمْ صَعْبَتِي أَشَرًا وَحَيْفًا | وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٧٢ [..... ]
(٢). تقحم الفرس براكبه ألقاء على وجهه.
(٣). في الأصول:" فهلكت".
(٤). وجد على هامش نسخة من الأصل بخط ناسخه:" الرازم من الإبل: الثابت على الأرض الذي لا يقوم من الهزال. وقد رَزَمَتِ النَّاقَةُ تَرْزُمُ وَتَرْزِمُ رُزُومًا وَرُزَامًا قَامَتْ من الإعياء والهزال فلم يتحرك فهي رازم. قاله الجوهري في "الصحاح".
(٥). هذه عبارة ابن العربي والأصول: ويلاحظ أن القعود مذكر
(٢). الطلاء: ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه. وبعض العرب يسمى الخمر الطلاه، يريد بذلك تحسين اسمها.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ١٥]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" أَيْ عِدْلًا، عَنْ قَتَادَةَ. يَعْنِي مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا «١» أَوْ وَلَدًا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ قَدَرَ على خلق السموات وَالْأَرْضِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يُعْتَضَدُ بِهِ أَوْ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجُزْءُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ الْبَنَاتُ، يُقَالُ: قَدْ أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ البنات، قال الشاعر:
إن أجزأت حرة يَوْمًا فَلَا عَجَبَ | قَدْ تُجْزِئُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانَا |
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبُ | زُوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً «٢» |
(٢). وتمامه كما في اللسان مادة جزأ:
للعوسج اللدن في أبياتها زجل
(٣). في ز: بضعا.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ١٦]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ" الْمِيمُ صِلَةٌ، تَقْدِيرُهُ أتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَلَفْظُهُ لفظ الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ." وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ أَيِ اخْتَصَّكُمْ وَأَخْلَصَكُمْ بِالْبَنِينَ، يُقَالُ: أَصْفَيْتُهُ بِكَذَا، أَيْ آثَرْتُهُ به. وأصفيته الود أخلصته له. وصافيته وَتَصَافَيْنَا تَخَالَصْنَا. عَجِبَ مِنْ إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ اخْتِيَارَ الْبَنَاتِ مَعَ اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ إِنْ تَوَهَّمَ جَاهِلٌ أَنَّهُ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ وَلَدًا فَهَلَّا أَضَافَ إِلَيْهِ أَرْفَعَ الْجِنْسَيْنِ! وَلِمَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ أَشْرَفَ الْجِنْسَيْنِ وَلَهُ الْأَخَسَّ؟ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:" أَلَكُمُ الذَّكَرُ «١» وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى " [النجم: ٢٢ - ٢١].
[سورة الزخرف (٤٣): آية ١٧]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا" أَيْ بِأَنَّهُ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ" ظَلَّ وَجْهُهُ" أَيْ صَارَ وَجْهُهُ" مُسْوَدًّا" قِيلَ بِبُطْلَانِ مَثَلِهِ الَّذِي ضَرَبَهُ. وَقِيلَ: بِمَا بُشِّرَ بِهِ مِنَ الْأُنْثَى، دَلِيلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ" وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى " «٢» [النحل: ٥٨]. وَمِنْ حَالِهِمْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُ قَدْ وُلِدَتْ لَهُ أُنْثَى «٣» اغْتَمَّ وَارْبَدَّ وَجْهُهُ غَيْظًا وَتَأَسُّفًا وَهُوَ مَمْلُوءٌ مِنَ الْكَرْبِ. وَعَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَضَعَتْ أُنْثَى فَهَجَرَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الْمَرْأَةُ فَقَالَتْ:
مَا لِأَبِي حَمْزَةَ «٤» لَا يَأْتِينَا | يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِينَا |
غَضْبَانَ أَلَّا نَلِدَ الْبَنِينَا | وَإِنَّمَا نَأْخُذُ ما أعطينا |
(٢). راجع ج ١٠ ص ١١٦.
(٣). في ك: ولدت لك
(٤). في رواية" جمرة" بالجيم. وفي بلوغ الارب للآلوسي:" لابي والذلقاء". [..... ]
ما لأبي حمزةَ٢ لا يأتينا | يظلُّ في البيت الذي يلينا |
غضبانَ ألا نلد البَنِينَا | وإنما نأخذ ما أُعْطينا |
٢ في رواية "جمرة" بالجيم. وفي بلوغ الأرب للآلوسي:" لأبي الذلفاء".
٣ راجع ج ١٠ ص ١١٦..
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ١٨ الى ١٩]
أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
قوله تعالى:" أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا" أَيْ يُرَبَّى وَيَشِبُّ. وَالنُّشُوءُ: التَّرْبِيَةُ، يُقَالُ: نَشَأْتُ في بني فلان نشأ وَنُشُوءًا إِذَا شَبَبْتُ فِيهِمْ. وَنُشِّئَ وَأُنْشِئَ بِمَعْنًى. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَحَفْصٌ وحمزة والكسائي وخلف" يُنَشَّؤُا" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، أَيْ يُرَبَّى وَيُكَبَّرُ فِي الْحِلْيَةِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لان الاسناد فيها أعلى. وقرا الباقون" يُنَشَّؤُا" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، أَيْ يُرَسَّخُ وَيَنْبُتُ، وَأَصْلُهُ مِنْ نَشَأَ أَيِ ارتفع، قاله الهروي. ف" ينشأ" مُتَعَدٍّ، وَ" يَنْشَأُ" لَازِمٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي الْحِلْيَةِ" أَيْ فِي الزِّينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُنَّ الْجَوَارِي زِيُّهُنَّ غَيْرُ زِيِّ الرِّجَالِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: رُخِّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ إِلْكِيَا: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْحُلِيِّ لِلنِّسَاءِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عليه والاخبار فيه لا تحصى.
(٢). آية ١٠٢ سورة الكهف.
(٣). آية ١٩٤ سورة الأعراف.
(٤). آخرة سورة الأعراف.
(٥). آية ١٩ سورة الأنبياء.
بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ دَاخِلَةٍ عَلَى هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مُسَهَّلَةٍ، وَلَا يُمَدُّ سِوَى مَا رَوَى الْمُسَيِّبِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُمَدُّ. وَرَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَتَحَقُّقَ الْهَمْزَتَيْنِ. وَالْبَاقُونَ" أَشَهِدُوا" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ" أُشْهِدُوا خَلْقَهُمْ" عَلَى الْخَبَرِ،" سَتُكْتَبُ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ" شَهادَتُهُمْ" رَفْعًا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ" سَنَكْتُبُ" بِنُونٍ،" شَهادَتُهُمْ" نَصْبًا بِتَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ" سَتُكْتَبُ شَهَادَاتُهُمْ" بالجمع.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ" يَعْنِي قَالَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ عَلَى زَعْمِكُمْ مَا عَبَدْنَا هَذِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مِنْهُمْ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. وَكُلُّ شَيْءٍ بِإِرَادَةِ اللَّهِ، وَإِرَادَتُهُ تَجِبُ وَكَذَا عِلْمُهُ فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ وَالْمُرَادُ مَقْدُورٌ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ. وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ بَدَلَ الْأَصْنَامِ لَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ مِنْهُمْ مَا حَصَلَ مِنْهُمْ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلُهُ" سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا" «٢» [الانعام: ١٤٨] وَفِي يس:" أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ" «٣» [يس: ٤٧]. وَقَوْلُهُ" مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ" مَرْدُودٌ إلى
(٢). راجع ج ٧ ص ٣ (١٢٨)
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣٧
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٢١]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)
هَذَا مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ" أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ". وَالْمَعْنَى: أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِمَا ادَّعَوْهُ، فَهُمْ به متمسكون يعملون بما فيه.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٢٢ الى ٢٣]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَلى أُمَّةٍ" أَيْ عَلَى طَرِيقَةٍ وَمَذْهَبٍ، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ يَقْرَأُ هُوَ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ" عَلَى إِمَّةٍ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ. وَالْإِمَّةُ الطَّرِيقَةُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْإِمَّةُ (بِالْكَسْرِ): النِّعْمَةُ. وَالْإِمَّةُ أَيْضًا لُغَةٌ فِي الْأُمَّةِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي النِّعْمَةِ:
ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ والملك والا | مه وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ |
كنا على أمة ءابائنا | وَيَقْتَدِي الْآخِرُ بِالْأَوَّلِ |
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً | وَهَلْ يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ |
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٢٤]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤)
قوله تعالى:" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى " أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لقومك: أو ليس قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَهْدَى، يُرِيدُ بِأَرْشَدَ." مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" يَعْنِي بِكُلِّ مَا أُرْسِلَ بِهِ الرُّسُلُ. فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْجَمْعِ، لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ تكذيب لمن سواه. وقرى" قُلْ وَقَالَ وَجِئْتُكُمْ وَجِئْنَاكُمْ" يَعْنِي أَتَتَّبِعُونَ آبَاءَكُمْ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِدِينٍ أَهْدَى مِنْ دِينِ آبَائِكُمْ؟ قَالُوا إِنَّا ثَابِتُونَ عَلَى دِينِ آبَائِنَا لَا نَنْفَكُّ عَنْهُ وَإِنْ جِئْتِنَا بِمَا هُوَ أَهْدَى. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٣» الْقَوْلُ فِي التَّقْلِيدِ وذمة فلا معنى لإعادته.
(٢). آية ٤٣ سورة فصلت.
(٣). آية ٤٣ سورة فصلت.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٢٥]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ" بِالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ" فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" آخِرُ أَمْرِ من كذب الرسل.] وقراءة العامة «١» " قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ". وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ" قَالَ أَوَلَوْ" عَلَى الْخَبَرِ عَنِ النَّذِيرِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" قُلْ أَوَلَوْ جِئْنَاكُمْ" بِنُونٍ وَأَلِفٍ، عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جميع الرسل. [
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ قالَ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ إِذْ قَالَ." إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ" الْبَرَاءُ يُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ فَمَا فَوْقَهُ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ النَّعْتِ، لَا يُقَالُ: الْبَرَاءَانِ وَالْبَرَاءُونَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى ذُو الْبَرَاءِ وَذَوُو الْبَرَاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَبَرَّأْتُ مِنْ كَذَا، وَأَنَا مِنْهُ بَرَاءٌ، وَخَلَاءٍ مِنْهُ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، مِثْلُ: سَمِعَ سَمَاعًا. فَإِذَا قلت: أنا برئ مِنْهُ وَخَلِيٌّ ثُنِّيَتْ وَجُمِعَتْ وَأُنِّثَتْ، وَقُلْتُ فِي الْجَمْعِ: نَحْنُ مِنْهُ بُرَآءُ مِثْلُ فَقِيهٍ وَفُقَهَاءَ، وَبِرَاءٍ أَيْضًا مِثْلِ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ، وَأَبْرَاءٌ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ، وَأَبْرِيَاءٌ مِثْلُ نَصِيبٍ وَأَنْصِبَاءَ، وَبَرِيئُونَ. وامرأة بريئة وهما بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل برئ وَبُرَاءٌ مِثْلُ عَجِيبٍ وَعُجَابٍ. وَالْبَرَاءُ (بِالْفَتْحِ) أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَبَرُّؤِ الْقَمَرِ من الشمس." إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي" استثناء مُتَّصِلٌ، لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ مَعَ آلِهَتِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَقُولُونَ اللَّهُ رَبُّنَا، مَعَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. قَالَ ذَلِكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَنْبِيهًا لِقَوْمِهِ أَنَّ الْهِدَايَةَ مِنْ رَبِّهِ.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٢٨]
وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
(٢). آية (١٣٢)
(٣). آية ١٢٤ سورة البقرة.
(٤). آية ٣٥ سورة إبراهيم.
(٥). آية ٨٤ سورة الشعراء.
(٦). العمرى (كحبلى): تمليك الشيء مدة العمر.
(٢). آية ٢٣ سورة النساء.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣١
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا، وَبَنَاتِنَا | بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ |
(٢). آية ٨٤ سورة الانعام.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣١.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٠٧ طبعه ثانية.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣١. [..... ]
(٢). آية ٢٣ سورة الشورى.
(٣). آية ٢١٤ سورة الشعراء. راجع ج ١٣ ص ١٤٣
والبراء ( بالفتح ) أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس.
الأولى- قوله تعالى :" وجعلها كلمة باقية " الضمير في " جعلها " عائد على قوله :" إلا الذي فطرني ". وضمير الفاعل في " جعلها " لله عز وجل، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي : هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : قوله :" في عقبه " أي في خلقه. وفي الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك : الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة : الإسلام ؛ لقوله تعالى :" هو سماكم المسلمين من قبل " ١ [ الحج : ٧٨ ]. القرظي : وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله :" يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ". [ البقرة : ١٣٢ ] الآية المذكورة في البقرة٢ - كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد : الكلمة قوله :" أسلمت لرب العالمين " [ البقرة : ١٣١ ] وقرأ " سماكم المسلمين من قبل ". وقيل : الكلمة النبوة. قال ابن العربي : ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم.
الثانية- قال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين، إحداهما في قوله :" إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " ٣ [ البقرة : ١٢٤ ] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله :" واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " ٤ [ إبراهيم : ٣٥ ]. وقيل : بل الأولى قوله :" واجعل لي لسان صدق في الآخرين " ٥ [ الشعراء : ٨٤ ] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح.
الثالثة- قال ابن العربي : جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى٦ والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم :( أيما رجل أعمر عُمْرَى له وأعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ). وهي ترد على أحد عشر لفظا : اللفظ الأول : الولد، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا ؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ، قاله مالك في المجموعة وغيرها.
قلت : هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى :" يوصيكم الله في أولادكم " ٧ [ النساء : ١١ ]. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس، يقول المحبس : حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره، واحتجوا بقول الله جل وعز :" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " ٨ [ النساء : ٢٣ ]. قالوا : فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه. وقد مضى هذا المعنى في " الأنعام " ٩ مستوفى.
اللفظ الثاني : البنون، فإن قال : هذا حبس على ابني، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته، فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته ( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ). قلنا : هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ؛ لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها١٠. ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه ؛ ولذلك قيل في عبد الله بن عباس : إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية.
قلت : هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى :" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " [ النساء : ٢٣ ]. وقال تعالى :" ومن ذريته داود وسليمان " إلى قوله " من الصالحين " ١١ [ الأنعام : ٨٤ - ٨٥ ] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فإن قيل فقد قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا، وبناتُنا | بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعدِ |
اللفظ الثامن : قرابة، فيه أربعة أقوال : الأول : قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني : يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه، قاله علي بن زياد. الثالث : قال أشهب : يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع : قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى :" قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ١٧ [ الشورى : ٢٣ ] قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة، فهذا يضبطه والله أعلم.
اللفظ التاسع : العشيرة، ويضبطه الحديث الصحيح : إن الله تعالى لما أنزل :" وأنذر عشيرتك الأقربين " ١٨ [ الشعراء : ٢١٤ ] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون، وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا.
اللفظ العاشر : القوم، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقول يشمل الرجال والنساء، وإن كان الشاعر قد قال :
وما أدري وسوف إِخَالُ أدري | أقوم آل حِصْنٍ أم نساء |
٢ آية ١٣٢..
٣ آية ١٢٤ سورة البقرة..
٤ آية ٣٥ سورة إبراهيم..
٥ آية ٨٤ سورة الشعراء..
٦ العمري (كحبلى): تمليك الشيء مدّة العمر..
٧ آية ١١ سورة النساء..
٨ آية ٢٣ سورة النساء..
٩ راجع ج ٧ ص ٣١..
١٠ في نسخة من الأصل:" مشبهاتها". وفي ابن العربي "مسمياتها..
١١ آية ٨٤ سورة الأنعام. راجع ج ٧ ص ٣١..
١٢ آية ٨٤ سورة الأنعام. راجع ج ٧ ص ٣١..
١٣ راجع ج ٢ ص ١٠٧ طبعة ثانية..
١٤ آية ٢ سورة الواقعة..
١٥ راجع ج ٧ ص ٣١..
١٦ في الأصول:"ومن دخل في العقد". وفي ابن العربي:"ومن دخل في العقدة" وقد أثبتناه كما ترى استئناسا بما في شرح الباجي على الموطأ، وعبارته:"... ولا يدخل في ذلك الخالات. ومعنى ذلك عندي العصبة أو من كان في قعددهن من النساء. والقعدد (بضم أوله وسكون ثانيه وضم ثالثه وفتحه): القربى..
١٧ آية ٢٣ سورة الشورى..
١٨ آية ٢١٤ سورة الشعراء. راجع ج ١٣ ص ١٤٣..
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي | أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ |
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٢٩ الى ٣٢]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَلْ مَتَّعْتُ" وقرى" بَلْ مَتَّعْنَا"." هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ" أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِمْهَالِ." حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ" أَيْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بَقَّاهَا اللَّهُ فِي عَقِبِهِ." وَرَسُولٌ مُبِينٌ" أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا بِهِمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ." وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." قالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ" جاحدون." وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ" أَيْ هَلَّا نَزَلَ" هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ"
(٢). في ح ز ل: مفتر عليه بالفاء.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٣٣]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْعُلَمَاءُ: ذَكَرَ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَقِلَّةَ خَطَرِهَا، وَأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنَ الْهَوَانِ بِحَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ بُيُوتَ الْكَفَرَةِ وَدَرَجَهَا ذَهَبًا وَفِضَّةً لَوْلَا غَلَبَةُ حُبِّ الدُّنْيَا عَلَى الْقُلُوبِ، فَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَكْفُرَ النَّاسُ جَمِيعًا بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَتَرْكِهِمُ الْآخِرَةَ لَأَعْطَيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا وَصَفْنَاهُ، لِهَوَانِ الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زيد:" وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً" فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَاخْتِيَارِهَا عَلَى الْآخِرَةِ" لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى لَوْلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْكُفَّارِ غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ وَفِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ ذَلِكَ لَأَعْطَيْنَا الْكُفَّارَ مِنَ الدُّنْيَا هَذَا لِهَوَانِهَا. الثَّانِيَةُ- قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" سَقْفًا" بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْوَاحِدِ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى" فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ «١» مِنْ فَوْقِهِمْ" [النحل: ٢٦]. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ عَلَى الْجَمْعِ، مِثْلَ رَهْنٍ وَرُهُنٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ سَقِيفٍ، مِثْلَ كَثِيبٍ وَكُثُبٍ، وَرَغِيفٍ وَرُغُفٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ سُقُوفٍ، فَيَصِيرُ جَمْعُ الْجَمْعِ: سَقْفٌ وَسُقُوفٌ، نَحْوَ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ. ثُمَّ جَعَلُوا فُعُولًا كَأَنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ فَجَمَعُوهُ عَلَى فُعُلٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ" سَقْفًا" بِإِسْكَانِ الْقَافِ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي" لِبُيُوتِهِمْ" بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى بُيُوتِهِمْ. وَقِيلَ: بَدَلٌ، كَمَا تَقُولُ فَعَلْتُ هَذَا لِزَيْدٍ لِكَرَامَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ" «٢» [النساء: ١ ١] كَذَلِكَ قَالَ هُنَا" لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ".
(٢). راجع ج ٥ ص ٥٤.
عَلَوْنَا السَّمَاءَ عِزَّةً وَمَهَابَةً | وَإِنَّا لَنَرْجُوُ فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا «١» |
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وروايته كما في جمهرة أشعار العرب:
بلغنا السما مجدا وجودا وسؤددا
وروايته كما في اللسان مادة" ظهر"
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
فَتَأَمَّلْ كُلًّا فِي موضعه تجده مبينا، والحمد لله.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً" أَيْ وَلَجَعَلْنَا لِبُيُوتِهِمْ. وَقِيلَ:" لِبُيُوتِهِمْ" بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ" لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ"." أَبْواباً" أَيْ مِنْ فِضَّةٍ." وَسُرُراً" كَذَلِكَ، وَهُوَ جَمْعُ السَّرِيرِ. وَقِيلَ: جَمْعُ الْأَسِرَّةِ، وَالْأَسِرَّةُ جَمْعُ السرير، فيكون جمع الجمع." يَتَّكِؤُنَ عليها" الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء، ومنه" أَتَوَكَّؤُا «٣» عَلَيْها". وَرَجُلٌ تُكَأَةٌ، مِثَالُ هُمَزَةٍ، كَثِيرُ الِاتِّكَاءِ. وَالتُّكَأَةُ أَيْضًا: مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ. وَاتَّكَأَ عَلَى الشَّيْءِ فَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَالْمَوْضِعُ مُتَّكَأٌ. وَطَعَنَهُ حَتَّى أَتْكَأَهُ (عَلَى أَفْعَلَهُ) أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَّكِئِ. وَتَوَكَّأْتُ عَلَى الْعَصَا. وَأَصْلُ التَّاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاوٌ، فَفَعَلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِاتَّزَنَ وَاتَّعَدَ." وَزُخْرُفاً" الزُّخْرُفُ هُنَا الذَّهَبُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. نَظِيرُهُ:" أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ" [الاسراء: ٩٣] وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤». وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النُّقُوشُ، وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ. يُقَالُ: زَخْرَفْتُ الدَّارَ، أَيْ زَيَّنْتُهَا. وَتَزَخْرَفَ فُلَانٌ، أَيْ تَزَيَّنَ. وَانْتَصَبَ" زُخْرُفاً" عَلَى مَعْنَى وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذلك زخرفا. وقيل: ينزع الْخَافِضِ، وَالْمَعْنَى فَجَعَلْنَا لَهُمْ سُقُفًا وَأَبْوَابًا وَسُرَرًا مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا حَذَفَ" مِنْ" قَالَ" وَزُخْرُفاً" فَنَصَبَ." وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا" قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ" وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا" بِالتَّشْدِيدِ. الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ كَسْرُ اللَّامِ مِنْ" لَمَّا"، فَ" مَا" عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُلُّ ذلك للذي
(٢). راجع ج ٤ ص ٨٦ فما بعدها.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٧٦
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٣١
فَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا جَزَاءً لِمُحْسِنٍ | إِذًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعَاشٌ لِظَالِمِ |
لَقَدْ جَاعَ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ كَرَامَةً | وَقَدْ شَبِعَتْ فِيهَا بُطُونُ الْبَهَائِمِ |
تَمَتَّعْ مِنَ الْأَيَّامِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا | فَإِنَّكَ فِيهَا بَيْنَ نَاهٍ وَآمِرِ |
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ | فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ |
فَلَا تَزِنُ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ | وَلَا وَزْنَ رَقٍّ مِنْ جَنَاحٍ لِطَائِرِ |
فَلَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيَا ثَوَابًا لِمُحْسِنٍ | وَلَا رَضِيَ الدُّنْيَا عقابا لكافر |
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
(٢). راجع ج ٧ ص ١٤٢
رَأَتْ رجلا غائب الوافدين | مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرَا «١» |
أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرَّ بِهِ | رَيْبُ الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُفْنِدٌ خَبِلُ |
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ | تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ «٢» |
لَنِعْمَ الْفَتَى يَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ | إِذَا الرِّيحُ هَبَّتْ وَالْمَكَانُ جَدِيبُ |
(٢). البيت للحطيئة.
(٣). آية ٥
وَعَيْنٌ لَهَا حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ | شُقَّتْ مَآقِيهِمَا مِنْ أخر «٣» |
(٢). آية ١٧ سورة الرحمن.
(٣). البيت لامرئ القيس: وحدرة: مكتنزة صلبة، وقيل الواسعة الجاحظة. وبدرة: تبدر بالنظر، وقيل تامة كالبدر.
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ | لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ |
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ فِعْلَهُمُ | وَالْعُمَرَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ |
قدني من نصر الخبيثين قَدِي
يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ وَمُصْعَبًا ابْنَيِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا أَبُو خُبَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ." فَبِئْسَ الْقَرِينُ" أَيْ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ أَنْتَ، لِأَنَّهُ يُورِدُهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: إِذَا بُعِثَ الْكَافِرُ زُوِّجَ بِقَرِينِهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَلَا يُفَارِقُهُ حتى يصير به إلى النار.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٣٩]
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ"" إِذْ" بَدَلٌ مِنَ الْيَوْمِ، أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ أَشْرَكْتُمْ فِي الدُّنْيَا هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الكافر" يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ" أَيْ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ الْيَوْمَ." إِنَّكُمْ" بِالْكَسْرِ" فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنُ عَامِرٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ. الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. وَهِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ، لِأَنَّ لِكُلٍ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ الْأَوْفَرَ مِنْهُ. أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَعَ أَهْلَ النَّارِ التَّأَسِّي كَمَا يَتَأَسَّى أَهْلُ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ التَّأَسِّيَ يَسْتَرْوِحَهُ أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِي فِي الْبَلَاءِ وَالْمُصِيبَةِ أُسْوَةٌ، فَيُسَكِّنُ ذَلِكَ مِنْ حُزْنِهِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي | عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي |
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ | أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي |
يا أيها الْقَلْبُ اللَّجُوجُ النَّفَسِ | أَفِقْ عَنِ الْبِيضِ الْحِسَانِ اللعس |
(٢). في كتاب روح المعاني للآلوسي:" والأنهار: الخلجان التي تخرج من النيل المبارك، كنهر الملك ونهر دمياط ونهر تنيس، ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك، لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام".
أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ | وَبَيْنَ النَّقَا أنت أَمْ أُمُّ سَالِمٍ «٢» |
(٢). القائل هو ذو الرمة. وللوعساء: رملة لينة. وجلاجل: موضع بعينه. والنقاء: الكثيب من الرمل.
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى | وَصُورَتِهَا أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ |
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٣]
فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
قوله تعالى:" فَلَوْلا" أي هلا" أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ" إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ عَادَةَ الْوَقْتِ وَزِيَّ أَهْلِ الشَّرَفِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ" أَسْوِرَةٌ" جَمْعُ سِوَارٍ، كَخِمَارٍ وَأَخْمِرَةٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ" أَسَاوِرُ" جَمْعُ إِسْوَارٍ. وَابْنُ مَسْعُودٍ" أَسَاوِيرُ". الْبَاقُونَ" أَسْوِرَةٌ" جَمْعُ الْأَسْوِرَةِ، فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" أَسَاوِرَةٌ" جَمْعَ" إِسْوَارٍ" وَأُلْحِقَتِ الْهَاءُ فِي الْجَمْعِ عِوَضًا مِنَ الْيَاءِ، فَهُوَ مِثْلُ زَنَادِيقَ وَزَنَادِقَةٍ، وَبَطَارِيقَ وَبَطَارِقَةٍ، وَشَبَهَهُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو ابن الْعَلَاءِ: وَاحِدُ الْأَسَاوِرَةِ وَالْأَسَاوِرِ وَالْأَسَاوِيرِ إِسْوَارٌ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي سِوَارٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّرُوا رَجُلًا سَوَّرُوهُ بِسِوَارَيْنِ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقِ ذَهَبٍ عَلَامَةً لِسِيَادَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: هَلَّا أَلْقَى رَبُّ مُوسَى عَلَيْهِ أَسَاوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ إِنْ كَانَ صَادِقًا! " أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ" يَعْنِي مُتَتَابِعِينَ، فِي قَوْلِ قَتَادَةَ. مُجَاهِدٌ: يَمْشُونَ مَعًا. ابْنُ عَبَّاسٍ: يُعَاوِنُونَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَالْمَعْنَى: هَلَّا ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّهَا عِنْدَ رَبِّهِ حَتَّى يَتَكَثَّرَ بِهِمْ وَيَصْرِفَهُمْ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَهْيَبَ فِي الْقُلُوبِ. فَأَوْهَمَ قَوْمَهُ أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ يكونوا
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٤]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ" قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْمَعْنَى فَاسْتَجْهَلَ قَوْمَهُ" فَأَطاعُوهُ" لِخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، يُقَالُ: اسْتَخَفَّهُ الْفَرَحُ أَيْ أَزْعَجَهُ، وَاسْتَخَفَّهُ أَيْ حَمَلَهُ عَلَى الْجَهْلِ، وَمِنْهُ" وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ" «١» [الروم: ٦٠]. وَقِيلَ: اسْتَفَزَّهُمْ بِالْقَوْلِ فَأَطَاعُوهُ عَلَى، التَّكْذِيبِ. وَقِيلَ: اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ «٢» أَيْ وَجَدَهُمْ خِفَافَ الْعُقُولِ. وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ بَعِيدٍ تَقْدِيرُهُ وَجَدَهُمْ خِفَافَ الْعُقُولِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْغِوَايَةِ فَأَطَاعُوهُ. وَقِيلَ: اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ وَقَهَرَهُمْ حَتَّى اتَّبَعُوهُ، يُقَالُ اسْتَخَفَّهُ خِلَافَ اسْتَثْقَلَهُ، وَاسْتَخَفَّ بِهِ أَهَانَهُ." إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ" أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٥]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ" رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ غَاظُونَا وَأَغْضَبُونَا. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: أَيْ أَسْخَطُونَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّخَطَ إِظْهَارُ الْكَرَاهَةِ، وَالْغَضَبَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ. الْقُشَيْرِيُّ: والأسف ها هنا بِمَعْنَى الْغَضَبِ، وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ إِمَّا إِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَإِمَّا عَيْنُ الْعُقُوبَةِ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَعْنَى قول الماوردي.
(٢). في أز ل... استخف بقومه...
وقال عمر بن ذر : يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه، فإنه قال :" فلما آسفونا انتقمنا منهم ". وقيل :" آسفونا " أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين، نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى :" يؤذون الله " ١ [ الأحزاب : ٥٧ ] و " يحاربون الله " ٢ [ المائدة : ٣٣ ] أي أولياءه ورسله.
٢ آية ٣٣ سورة المائدة..
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٦]
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً" أَيْ جَعَلْنَا قَوْمَ فِرْعَوْنَ سَلَفًا. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ:" سَلَفاً" لِمَنْ عَمِلَ عَمَلَهُمْ،" وَمَثَلًا" لِمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" سَلَفاً" إِخْبَارًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وَمَثَلًا" أَيْ عِبْرَةً لَهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا" سَلَفاً" لِكُفَّارِ قَوْمِكَ يَتَقَدَّمُونَهُمْ إِلَى النَّارِ. قَتَادَةُ:" سَلَفاً" إِلَى النَّارِ،" وَمَثَلًا" عِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَالسَّلَفُ الْمُتَقَدِّمُ، يُقَالُ: سَلَفَ يَسْلُفُ «٣» سَلَفًا، مِثْلَ طَلَبَ طَلَبًا، أَيْ تَقَدَّمَ وَمَضَى. وَسَلَفَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أَيْ تَقَدَّمَ. وَالْقَوْمُ السِّلَافُ الْمُتَقَدِّمُونَ. وَسَلَفُ الرَّجُلِ: آبَاؤُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَالْجَمْعُ أَسْلَافٌ وَسُلَّافٌ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" سَلَفاً" (بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ) جَمْعُ سَالِفٍ، كَخَادِمٍ وَخَدَمَ، وَرَاصِدٍ وَرَصَدَ، وَحَارِسٍ وَحَرَسَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" سُلُفًا" (بِضَمِّ السِّينِ وَاللَّامِ). قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ سَلِيفٍ، نَحْوَ سَرِيرٍ وَسُرَرٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعُ سَلَفٍ، نَحْوَ خَشَبٍ وَخُشُبٌ، وَثَمَرٍ وَثُمُرٌ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ" سُلَفًا" (بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ) جَمْعُ سُلْفَةٍ، أَيْ فِرْقَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ. قَالَ الْمُؤَرِّجُ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:" سَلَفاً" جَمْعُ سُلْفَةٍ، نَحْوَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٌ، وَطُرْفَةٍ وَطُرَفٌ، وَظُلْمَةٍ وَظُلَمٌ.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٧]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)
لما قال تعالى:" وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: ٤٥] تَعَلَّقَ الْمُشْرِكُونَ بِأَمْرِ عِيسَى وَقَالُوا: مَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَهُ إِلَهًا كَمَا اتَّخَذَتِ النصارى عيسى بن مريم إلها، قاله قَتَادَةُ. وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قالت إن محمدا
(٢). آية ٣٣ سورة المائدة.
(٣). لفظة يسلف ساقطة من ب ن ى.
(٢). آية ١٠١ سورة الأنبياء.
(٣). راجع ج ١١ ص ٣٤٣ فما بعدها.
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش :[ يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله ]. قالوا : أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله !. فأنزل الله تعالى :" ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون " أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي " يصدون " ( بضم الصاد ) ومعناه يعرضون، قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي : هما لغتان، مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري : وصد يصد صديدا، أي ضج. وقيل : إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب. قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لكانت : إذا قومك عنه يصدون. الفراء : هما سواء، منه وعنه. ابن المسيب : يصدون يضجون. الضحاك : يعجون. ابن عباس : يضحكون. أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون، فيكون المعنى : من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى " يصدون " بمن، ومن كسر فمعناه يضجون، ف " من " متصلة ب " يصدون " والمعنى يضجون منه.
٢ آية ١٠١ سورة الأنبياء..
٣ راجع ج ١١١ ص ٣٤٣ فما بعدها..
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٥٨]
وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ" أَيْ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ عِيسَى؟ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ: خَاصَمُوهُ وَقَالُوا إِنَّ كُلَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ، فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ وَعُزَيْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ" [الأنبياء: ١ ٠ ١] الْآيَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" أَمْ هُوَ" يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا". وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ قَتَادَةَ، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ فِي أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَيْرٌ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَيَعْقُوبُ" أَآلِهَتُنا" بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَلَيَّنَ الْبَاقُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ." مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا"" جَدَلًا" حَالٌ، أَيْ جَدِلِينَ. يَعْنِي مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَا الْمَثَلَ إِلَّا إِرَادَةَ الْجَدَلِ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِحَصَبِ جَهَنَّمَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْمَوَاتِ" بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" مُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ- ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةُ-" مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ" [.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٥٩ الى ٦٠]
إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ" أَيْ مَا عِيسَى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ آيَةً وَعِبْرَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ عِيسَى كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، ثُمَّ جُعِلَ إِلَيْهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَسْقَامِ كُلِّهَا مَا لَمْ يُجْعَلْ لِغَيْرِهِ فِي زَمَانِهِ، مَعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَوْمئِذٍ خَيْرَ الْخَلْقِ وَأَحَبَّهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ دُونَهُمْ، لَيْسَ أَحَدٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها" قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُرِيدُ الْقُرْآنَ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ مَجِيءِ السَّاعَةِ، أَوْ بِهِ تُعْلَمُ السَّاعَةُ وَأَهْوَالُهَا وَأَحْوَالُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: إِنَّهُ خُرُوجُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ السَّاعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُنَزِّلُهُ مِنَ السَّمَاءِ قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ مِنْ أَعْلَامِ السَّاعَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ" وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" (بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ) أَيْ أَمَارَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ" وَإِنَّهُ لَلْعِلْمُ" (بِلَامَيْنِ) وَذَلِكَ خِلَافٌ لِلْمَصَاحِفِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ، ثُمَّ سَأَلُوا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ منها علم، فرد الحديث إلى عيسى بن مَرْيَمَ قَالَ: قَدْ عُهِدَ إِلَيَّ فِيمَا دُونَ وَجْبَتِهَا فَأَمَّا وَجْبَتُهَا فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ- قَالَ: فَأَنْزِلُ فَأَقْتُلُهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سننه. وفي صحيح مسلم] فبينما هويعني المسيح الدجال- إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي
بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ «٤» وَشَعْرُ رَأْسِهِ دَهِينٌ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ يَقْتُلُ بِهَا الدَّجَّالَ فَيَأْتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَالنَّاسُ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَالْإِمَامُ يَؤُمُّ بِهِمْ فَيَتَأَخَّرُ الْإِمَامُ فَيُقَدِّمُهُ عِيسَى وَيُصَلِّي خَلْفَهُ عَلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقْتُلُ الْخَنَازِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيُخَرِّبُ الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسَ وَيَقْتُلُ النَّصَارَى إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ [. وَرَوَى خَالِدٌ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى بن مَرْيَمَ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ [. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحَكَى ابْنُ عِيسَى عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا نَزَلَ عِيسَى رُفِعَ التَّكْلِيفُ لِئَلَّا يَكُونَ رَسُولًا إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ يَأْمُرُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَنْهَاهُمْ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ، مِنْهَا الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّ بَقَاءَ الدُّنْيَا يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ يَنْزِلُ آمِرًا بِمَعْرُوفٍ وَنَاهِيًا عَنْ مُنْكَرٍ. وَلَيْسَ يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مَقْصُورًا عَلَى تَأْيِيدِ الْإِسْلَامِ وَالْأَمْرِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ. قُلْتُ: ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ [. وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ [وَفِي رِوَايَةٍ] فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ [قَالَ ابْنُ أَبِي ذئب: تدري] ما أمكم
(٢). لد (بالضم والتشديد): قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. [..... ]
(٣). في روح المعاني:" أفيق بفاء وقاف بوزن أمير، وهي هنا بالقدس الشريف نفسه... ".
(٤). الممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ وَخَلْقَ الطَّيْرِ وَالْمَائِدَةَ وَغَيْرَهَا، وَالْإِخْبَارَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْغُيُوبِ. وَقَالَ قتادة: البينات
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا | أَوْ تعتلق بعض النفوس حمامها |
وَسَائِلَةٌ بِثَعْلَبَةَ بْنِ سَيْرٍ «٣» | وَقَدْ عَلِقَتْ بِثَعْلَبَةَ الْعَلُوقُ |
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦)
(٢). آية ٢٨ سورة غافر.
(٣). يريد ثعلبة بن سيار.
(٤). آية ٥٠ سورة آل عمران.] [
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٦٧]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ" يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" أَيْ أَعْدَاءٌ، يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا." إِلَّا الْمُتَّقِينَ" فَإِنَّهُمْ أَخِلَّاءٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، كَانَا خَلِيلَيْنِ، وَكَانَ عُقْبَةُ يُجَالِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدْ صَبَأَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ تَتْفُلْ فِي وَجْهِهِ، فَفَعَلَ عُقْبَةُ ذَلِكَ، فَنَذَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا «٥»، وَقُتِلَ أُمَيَّةُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ «٦» قَالَ: كَانَ خَلِيلَانِ مُؤْمِنَانِ وَخَلِيلَانِ كَافِرَانِ، فَمَاتَ أَحَدُ الْمُؤْمِنَيْنِ فَقَالَ: يَا رب،
(٢). راجع ج ١١ ص ١٠٦، ١٠٨.
(٣). راجع ج ١ ص ١٩٧ طبعه ثانية أو ثالثة.
(٤). آية ٥٨ من هذه السورة.
(٥). الصبر: نصب الإنسان للقتل.
(٦). ما بين المربعين ساقط من هـ
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٦٨]
يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)
قَالَ مُقَاتِلٌ وَرَوَاهُ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: يُنَادِي مُنَادٍ فِي الْعَرَصَاتِ" يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"، فَيَرْفَعُ أهل العرصة رؤوسهم، فَيَقُولُ الْمُنَادِي:" الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ" فينكس أهل الأديان رؤوسهم غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي الرِّعَايَةِ: وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُنَادِيَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ:" يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ولا أنتم تحزنون" فيرفع الخلائق رؤوسهم، يَقُولُونَ: نَحْنُ عِبَادُ اللَّهِ. ثُمَّ يُنَادِي الثَّانِيَةَ:" الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ" فَيُنَكِّسُ الْكُفَّارُ رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثُمَّ يُنَادِي الثَّالِثَةَ:" الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ" [يونس: ٦٣] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قَدْ أَزَالَ عَنْهُمُ الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ كَمَا وَعَدَهُمْ، لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، لَا يَخْذُلُ وَلِيَّهُ وَلَا يسلمه عند الهلكة. وقرى" يا عباد".
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٦٩ الى ٧٠]
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)قَالَ الزَّجَّاجُ:" الَّذِينَ" نُصِبَ عَلَى النَّعْتِ لِ" عِبادِي" لِأَنَّ" عِبادِي" مُنَادَى مُضَافٌ. وَقِيلَ:" الَّذِينَ آمَنُوا" [خَبَرٌ لِمُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أَوِ «١» [ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا أَوِ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَالُ لَهُمُ" ادْخُلُوا الجنة". قرأ أَبُو بَكْرٍ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ" يَا عِبَادِيَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَهَا نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرُوَيْسٌ سَاكِنَةً فِي الْحَالَيْنِ. وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مُثْبَتَةٌ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْمَدِينَةِ لَا غَيْرَ." ادْخُلُوا الْجَنَّةَ". أَيْ يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، أَوْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ." أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ" الْمُسْلِمَاتُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: قُرَنَاؤُكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: زَوْجَاتُكُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ." تُحْبَرُونَ" تُكْرَمُونَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَرَامَةُ فِي الْمَنْزِلَةِ. الْحَسَنُ: تَفْرَحُونَ، وَالْفَرَحُ فِي القلب. قتادة: تنعمون، وَالنَّعِيمُ فِي الْبَدَنِ. مُجَاهِدٌ: تُسَرُّونَ، وَالسُّرُورُ فِي العين. ابن أبي نجيح: تعجبون، والعجب ها هنا دَرْكُ مَا يُسْتَطْرَفُ. يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: هُوَ التَّلَذُّذُ بِالسَّمَاعِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الروم" «٢».
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧١]
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ" أَيْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَطْعِمَةٌ وَأَشْرِبَةٌ يُطَافُ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَطْعِمَةَ وَالْأَشْرِبَةَ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْإِطَافَةِ بِالصِّحَافِ وَالْأَكْوَابِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يكون فيها شي. وَذَكَرَ الذَّهَبَ فِي الصِّحَافِ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى:
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٢
(٢). قوله" في صحافها" على حد قوله تعالى:
" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها | فالضمير" عائد على الفضة، ويلزم حكم الذهب بطريق الاولى. |
(٤). آية ١٥ سورة الإنسان.
(٢). الطنبور: من آلات الطرب ذو عنق طويل وستة أوتار من نحاس، معرب.
صِرِيفِيَّةٌ طَيِّبٌ طَعْمُهَا | لَهَا زَبَدٌ بَيْنَ كُوبٍ وَدَنٍّ «١» |
مُتَّكِئًا تَصْفِقُ أَبْوَابُهُ | يَسْعَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِالْكُوبِ |
(٢). هو عدي بن زيد.
(٣). من أح ز ن هـ
(٤). زيادة عن سنن الترمذي.
الأولى- قوله تعالى :" يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب " أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة ؛ لأنه يعلم أنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب، كقوله تعالى :" والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " ١ [ الأحزاب : ٣٥ ]. وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :[ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها٢ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ]. وقد مضى في سورة " الحج " ٣ أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤيدا. والله أعلم. وقال المفسرون : يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليه بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا.
" وأكواب " أي ويطاف عليهم بأكواب، كما قال تعالى :" ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب " ٤ [ الإنسان : ١٥ ]. وذكر ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال : يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك، ثم قرأ " شرابا طهورا " [ الإنسان : ٢١ ]. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :[ إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس ].
الثانية- روى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وقال :( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ) وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك. واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي : والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شيء لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والحرير :( هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها ). والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل على تحريم استعمالها ؛ لأنه نوع من المتاع فلم يجز أصله الأكل والشرب، ولأن العلة في ذلك استعجال أمر٥ الآخرة، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال :( هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ) فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا.
الثالثة- إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما، فقال مالك : لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرأة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه.
وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال : لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين : كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة، فقال أبو طلحة : لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه.
الرابعة- إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها ؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور٦. وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه.
قوله تعالى :" بصحاف " قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. " وأكواب " قال الجوهري : الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب قال الأعشى يصف الخمر :
صَرِيفيَّةٌ طَيِّبٌ طعمُها | لها زَبَدٌ بينَ كُوبٍ ودَنّ٧ |
مُتَّكِئًا تَصْفِق أبوابُه | يسعى عليه العبدُ بالكُوب |
قلت : وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى.
قوله تعالى :" وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل في الجنة من خيل ؟ قال :[ إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة٩ حيث شئت ]. قال : وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل ؟ قال : فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال :[ إن أدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك ]. وقرأ أهل المدينة، ابن عامر وأهل الشام " وفيها ما تشتهيه الأنفس "، الباقون " تشتهي الأنفس " أي تشتهيه الأنفس، تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد. " وتلذ الأعين " تقول : لذ الشيء يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشيء ألذ ( بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل ) لذاذا ولذاذة، أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير :" وتلذ الأعين " النظر إلى الله عز وجل ؛ كما في الخبر :[ أسألك لذة النظر إلى وجهك ]. " وأنتم فيها خالدون " باقون دائمون ؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت.
٢ قوله "في صحافها" على حدّ قوله تعالى:" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها... فالضمير" عائد على الفضة، ويلزم حكم الذهب بطريق الأولى..
٣ راجع ج ١٢ ص ٢٩..
٤ آية ١٥ سورة الإنسان..
٥ في ابن العربي:" أجر"..
٦ الطنبور: من آلات الطرب ذو عنق طويل وستة أوتار من نحاس، معرّب..
٧ الصريفية: الخمر المنسوبة إلى صريفون، وهي قرية عند عكبراء، أو لأنها أخذت من الدنّ ساعتئذ كاللبن الصريف (الحليب الحار ساعة يصرف من الضرع)..
٨ هو عدي بن زيد..
٩ زيادة عن سنن الترمذي..
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧٢]
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتِلْكَ الْجَنَّةُ" أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذِهِ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُوصَفُ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: أَشَارَ تَعَالَى إِلَى الْجَنَّةِ بِتِلْكَ وَإِلَى جَهَنَّمَ بِهَذِهِ، لِيُخَوَّفَ بِجَهَنَّمَ وَيُؤَكِّدَ التَّحْذِيرَ مِنْهَا. وَجَعَلَهَا بِالْإِشَارَةِ الْقَرِيبَةِ كَالْحَاضِرَةِ الَّتِي يَنْظُرُ إِلَيْهَا." الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ اللَّهُ لِكُلِّ نَفْسٍ جَنَّةً وَنَارًا، فَالْكَافِرُ يَرِثُ نَارَ الْمُسْلِمِ، وَالْمُسْلِمُ يَرِثُ جَنَّةَ الْكَافِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هذا مرفوعا في" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" «١» [الْمُؤْمِنُونَ: ١] مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي" الْأَعْرَافِ" «٢» أيضا.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧٣]
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
الْفَاكِهَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَأَجْنَاسُهَا الْفَوَاكِهُ، وَالْفَاكِهَانِيُّ الَّذِي يَبِيعُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا، رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، أَيْ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ سِوَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فاكهة كثيرة يأكلون منها.
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٧٤ الى ٧٦]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ" لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَكَرَ أَحْوَالَ أَهْلِ النَّارِ أَيْضًا لِيُبَيِّنَ فَضْلَ الْمُطِيعِ عَلَى الْعَاصِي" لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ" أَيْ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ." وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ" أَيْ آيِسُونَ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: سَاكِتُونَ سُكُوتَ يَأْسٍ، وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" «٣» " وَما ظَلَمْناهُمْ" بِالْعَذَابِ" وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ" أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ. وَيَجُوزُ" وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمُونَ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خبر كان.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧٧]
وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧)
(٢). راجع ج ٧ ص (٢٠٨)
(٣). راجع ج ٦ ص ٤٢٦ [..... ]
يَا حَارِ لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ... لَمْ يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي وَلَا مَلِكُ «١»
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَحَارِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ... كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ «٢»
وَقَالَ أَيْضًا:
أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أزمعت صرمي فأجمل «٣»
وَقَالَ آخَرُ: «٤»
يَا مَرْوَ إِنَّ مَطِيَّتِي مَحْبُوسَةٌ... تَرْجُو الْحِبَاءَ وَرَبُّهَا لَمْ يَيْأَسْ
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ (أَيْ فُلُ، هَلُمَّ). وَلَكَ فِي آخِرِ الِاسْمِ الْمُرَخَّمِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ تُبْقِيَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَذْفِ. وَالْآخَرُ- أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى الضَّمِّ، مِثْلُ: يَا زَيْدُ، كَأَنَّكَ أَنْزَلْتَهُ مَنْزِلَتَهُ وَلَمْ تُرَاعِ الْمَحْذُوفَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ- وَهُوَ ابْنُ سَعْدَانَ- قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ بن
(٢). يروى" أصاح". والحبي: السحاب المعترض بالأفق. والمكلل: المتراكب.
(٣). فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر. والصرم (بالضم): القطيعة.
(٤). هو الفرزدق يخاطب مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة فوفد عليه مادحا له، فأبطأ عليه جائزته... والحباء (بكسر الحاء المهملة): العطاء. وجعل الرجل للناقة وهو يريد نفسه مجازا. (شرح الشواهد للشنتمري).
، وَكُنَّا لَا نَدْرِي" وَنادَوْا يَا مالِكُ" أَوْ يَا مَلَكُ «٢» (بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا) حَتَّى وَجَدْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" وَنَادَوْا يَا مَالِ" عَلَى التَّرْخِيمِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يُعْمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ بِأَنْ يُحْتَاطَ لَهُ وَيُنْفَى عَنْهُ الْبَاطِلُ. قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ" وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ" بِإِثْبَاتِ الْكَافِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: بَلَغَنِي- أَوْ ذُكِرَ لِي- أَنَّ أَهْلَ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ" «٣» [غافر: ٤٩] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب، فَرَدَّتْ عَلَيْهِمْ" أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ" [غافر: ٥٠] قَالَ: فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ نَادَوْا مَالِكًا، وَهُوَ عَلَيْهِمْ وَلَهُ مَجْلِسٌ فِي وَسَطِهَا، وَجُسُورٌ تَمُرُّ عَلَيْهَا مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَهُوَ يَرَى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا:" يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ" قال: سَأَلُوا الْمَوْتَ، قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُمْ لَا يُجِيبُهُمْ ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالَ: وَالسَّنَةُ سِتُّونَ وَثَلَاثُمَائَةِ يَوْمٍ، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ لَحَظَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الثَّمَانِينَ فَقَالَ:" إِنَّكُمْ ماكِثُونَ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] فَيَقُولُونَ ادْعُوَا مَالِكًا فَيَقُولُونَ يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [. قَالَ الْأَعْمَشُ: نُبِّئْتُ أَنَّ بَيْنَ دُعَائِهِمْ وَبَيْنَ إِجَابَةِ مَالِكٍ إِيَّاهُمْ أَلْفَ عَامٍ، خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ فَلَا يُجِيبُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَنَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: بَيْنَ نِدَائِهِمْ وَإِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ مِائَةُ سَنَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ.
(٢). لفظة: أو يا ملك ساقطة من ن ز.
(٣). آية ٤٩ سورة غافر.
يا حار لا أُرْمَيْن منكم به بداهية | لم يلقَها سُوقَةٌ قَبْلِي ولا مَلِكُ١ |
أحار ترى بَرْقًا أريكَ وميضَه | كلمع اليدين في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ٢ |
أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدَلُّلِ | وإن كنتِ قد أزمعْتِ صَرْمِي فأجملِي٣ |
يا مروَ إن مطيَّتِي محبوسةٌ | ترجُو الحِبَاءَ ورَبُّهَا لم يَيْأَسِ |
قلت : وفي صحيح البخاري عنه صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر :" ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " بإثبات الكاف.
وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى :" وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " ٦ [ غافر : ٤٩ ] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب، فردت عليهم :" قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " [ غافر : ٥٠ ] قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا، وهو عليهم وله مجلس في وسطها، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا :" يا مالك ليقض علينا ربك " سألوا الموت، قال : فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال : والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال :" إنكم ماكثون " وذكر الحديث. ذكره ابن المبارك. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ فيقولون ادعوا مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ]. قال الأعمش : نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام. خرجه الترمذي. وقال ابن عباس : يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة، ثم يقول إنكم ماكثون. وقال مجاهد ونوف البكالي : بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة. وقال عبد الله بن عمرو : أربعون سنة. ذكره ابن المبارك.
٢ يروى " أصاح". والحبي: السحاب المعترض بالأفق. والمكلل: المتراكب..
٣ فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر. والصرم (بالضم): القطيعة..
٤ هو الفرزدق يخاطب مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة فوفد عليه مادحا له، فأبطأ عليه جائزته... والحباء (بكسر الحاء المهملة): العطاء. وجعل الرجاء للناقة وهو يريد نفسه مجازا. (شرح الشواهد للشنتمري)..
٥ في قوله تعالى:" أو يكون لك بيت من زخرف" آية ٩٣ سورة الإسراء. راجع ج ١٠ ص ٣٣١..
٦ آية ٤٩ سورة غافر..
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧٨]
لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَهُمْ، أَيْ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ فِي النَّارِ لِأَنَّا جِئْنَاكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ فَلَمْ تَقْبَلُوا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُمُ الْيَوْمَ، أَيْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَدِلَّةَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ." وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ" أَيْ وَلَكِنَّ كُلَّكُمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْكَثْرَةِ الرُّؤَسَاءَ وَالْقَادَةَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْأَتْبَاعُ فَمَا كَانَ لَهُمْ أَثَرٌ" لِلْحَقِّ" أَيْ لِلْإِسْلَامِ وَدِينِ اللَّهِ" كارِهُونَ".
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٧٩]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
قَالَ مُقَاتِلٌ: نزلت في تدبيرهم بالمكر بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، حِينَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَبْرُزَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ لِيَشْتَرِكُوا فِي قَتْلِهِ فَتَضْعُفَ الْمُطَالَبَةُ بِدَمِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَتَلَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِبَدْرٍ." أَبْرَمُوا" أَحْكَمُوا. وَالْإِبْرَامُ الْإِحْكَامُ. أَبْرَمْتُ الشَّيْءَ أَحْكَمْتُهُ. وَأَبْرَمَ الْفِتَالَ إِذَا أَحْكَمَ الْفَتْلَ، وَهُوَ الْفَتْلُ الثَّانِي، وَالْأَوَّلُ سَحِيلٌ، كَمَا قَالَ:
... مِنْ سَحِيلٍ «١» وَمُبْرَمٍ
فَالْمَعْنَى أَمْ أَحْكَمُوا كَيْدًا فَإِنَّا مُحْكِمُونَ لَهُمْ كَيْدًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ. قَتَادَةُ: أَمْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّكْذِيبِ فَإِنَّا مُجْمِعُونَ عَلَى الْجَزَاءِ بِالْبَعْثِ. الْكَلْبِيُّ: أَمْ قَضَوْا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وام بِمَعْنَى بَلْ. وَقِيلَ:" أَمْ أَبْرَمُوا" عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ" أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" «٢» [الزخرف: ٤٥]. وَقِيلَ: أَيْ وَلَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ فَلَمْ تَسْمَعُوا، أَمْ سَمِعُوا فَأَعْرَضُوا لِأَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَبْرَمُوا أمرا أمنوا به العقاب.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٠]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
يمينا لنعم السيدان وجدتما | على كل حال من سحيل ومبرم |
(٢). آية ٤٥ من هذه السورة.
" أبرموا " أحكموا. والإبرام الإحكام. أبرمت الشيء أحكمته. وأبرم الفتال إذا أحكم الفتل، وهو الفتل الثاني، والأول سحيل، كما قال :
. . . من سحيل١ ومبرم
فالمعنى : أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا. قاله ابن زيد ومجاهد. قتادة : أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي : أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وأم بمعنى بل. وقيل :" أم أبرموا " عطف على قوله :" أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " ٢ [ الزخرف : ٤٥ ]. وقيل : أي ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا، أم سمعوا فأعرضوا لأنهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب.
يمينا لنعم السيدان وجدتما | على كل حال من سحيل ومبرم |
٢ آية ٤٥ من هذه السورة..
[سورة الزخرف (٤٣): الآيات ٨١ الى ٨٢]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَ" إِنْ" بِمَعْنَى مَا، وَيَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَامًّا، ثُمَّ تَبْتَدِئُ" فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ" أَيِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ. وَالْوَقْفُ عَلَى" الْعابِدِينَ" تَامٌّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ ثَبَتَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَعْبُدُ وَلَدَهُ، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تناظره: إن ثبت ما قلت بِالدَّلِيلِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَعْتَقِدُهُ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الِاسْتِبْعَادِ، أَيْ لَا سَبِيلَ إِلَى اعْتِقَادِهِ. وَهَذَا تَرْقِيقٌ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ:" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" «٢» [سبأ: ٢٤]. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْوَلَدِ تَعْظِيمٌ لِلْوَالِدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ عَبَدَهُ وَحْدَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا وَلَدَ لَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا: الْمَعْنَى لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ، عَلَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي ذلك. قال المهدوي: ف" إِنْ" عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِلشَّرْطِ، وَهُوَ الْأَجْوَدُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، لِأَنَّ كَوْنَهَا بِمَعْنَى مَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا مَضَى. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى" الْعابِدِينَ" الْآنِفِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْعَبِدِينَ.
(٢). آية ٤٢ سورة سبأ. راجع ج ١٤ ص ٢٩٨
أُولَئِكَ أَجْلَاسِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ | وَأَعْبُدُ أَنْ أهجو كليبا بِدَارِمِ |
أُولَئِكَ نَاسٌ إِنْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ | وَأَعْبُدُ أَنْ يُهْجَى كُلَيْبٌ بِدَارِمِ |
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٣]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
(٢). راجع ج ١٤ ص ٦٣.
(٣). لفظة أى جحدنى ساقط من ل. [..... ]
(٤). راجع ج ١١ ص ١٥٥
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٤]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤)
هَذَا تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا وَوَلَدًا، أَيْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ فِي الْأَرْضِ «٣»، وَكَذَلِكَ قَرَأَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعْبَدُ فِيهِمَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَرَأَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا" وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ" وَهَذَا خِلَافُ المصحف. و" إِلهٌ" رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ هُوَ إِلَهٌ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَحَسُنَ حَذْفُهُ لِطُولِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ:" فِي" بِمَعْنَى عَلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ" [طه: ٧١] أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ «٤»، أَيْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ." وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ" تَقَدَّمَ «٥».
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٥]
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
" تَبارَكَ" تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٦»." وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ" أَيْ وَقْتُ قِيَامِهَا." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" بِالْيَاءِ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. وَكَانَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يَفْتَحُونَ أَوَّلَهُ عَلَى أُصُولِهِمْ. وضم الباقون.
(٢). آية (٤٢)
(٣). في بعض نسخ الأصل:"... في السماء اله وفي الأرض... "
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٢٤.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٨٧ طبعه ثانية أو ثالثة.
(٦). راجع ج ٧ ص ٢٢٣
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٦]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ"" مِنْ" في موضع الخفض. وأراد ب" الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ" عِيسَى وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ. وَالْمَعْنَى وَلَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَآمَنَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَشَهَادَةُ الْحَقِّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ:" مَنْ" فِي مَحَلِّ رَفْعٍ، أَيْ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ، يَعْنِي الْآلِهَةَ- فِي قَوْلِ قَتَادَةَ- أَيْ لَا يَشْفَعُونَ لِعَابِدِيهَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ وَالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ." وَهُمْ يَعْلَمُونَ" حَقِيقَةَ مَا شهدوا به. وقيل: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَنَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَنَحْنُ نَتَوَلَّى الْمَلَائِكَةَ وَهُمْ أَحَقُّ بِالشَّفَاعَةِ لَنَا مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ" وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" أَيِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَوِ الْأَصْنَامَ أَوِ الْجِنَّ أَوِ الشَّيَاطِينَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَلَا شَفَاعَةَ لِأَحَدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَذِنَ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" أَيْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقِيلَ: أَيْ لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ الْعَابِدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يُشْفَعُ لَهُ ولا يشفع لمشرك. و" إِلَّا" بِمَعْنَى لَكِنْ، أَيْ لَا يَنَالُ الْمُشْرِكُونَ الشَّفَاعَةَ لَكِنْ يَنَالُ الشَّفَاعَةَ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، فَهُوَ استثناء مُنْقَطِعٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا، لِأَنَّ فِي جُمْلَةِ" الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ" الْمَلَائِكَةَ. وَيُقَالُ: شَفَعْتُهُ وَشَفَعْتُ لَهُ، مِثْلُ كِلْتُهُ وَكِلْتُ لَهُ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَاشْتِقَاقِهَا فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا «١». وَقِيلَ:" إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" إِلَّا مَنْ تَشْهَدُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِهِ، أو بأن شاهدوه على الايمان.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٧]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" أَيْ لَأَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا." فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون عنها حَتَّى أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ رَجَاءَ شَفَاعَتِهِمْ لَهُ. يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ أَفْكًا، أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا" «٢» [الأحقاف: ٢٢]. وقيل: أي ولين سَأَلْتَ الْمَلَائِكَةَ وَعِيسَى" مَنْ خَلَقَهُمْ" لَقَالُوا اللَّهُ." فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ" أَيْ فَأَنَّى يُؤْفَكُ هَؤُلَاءِ فِي ادعائهم إياهم آلهة.
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٨]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فِي" قِيلِهِ" ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: النَّصْبُ، وَالْجَرُّ، وَالرَّفْعُ. فَأَمَّا الْجَرُّ فَهِيَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ. وَبَقِيَّةُ السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ. وَأَمَّا الرَّفْعُ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ هُرْمُزٍ وَمُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ. فَمَنْ جَرَّ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ. وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى مَعْنَى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" قِيلِهِ" عَطْفًا عَلَى قوله" أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ" «٣» [الزخرف: ٨٠]. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ ابن يَزِيدَ الْمُبَرِّدَ بِأَيِ شَيْءٍ تَنْصِبُ الْقِيلَ؟ فَقَالَ: أَنْصِبُهُ عَلَى" وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيَعْلَمُ قِيلَهُ". فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى" تُرْجَعُونَ"، وَلَا عَلَى" يَعْلَمُونَ". وَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى" يَكْتُبُونَ" «٤». وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ أَنْ يَنْصِبَ الْقِيلَ على معنى: لا نسمع سرهم ونجواهم
(٢). آية ٢٢ سورة الأحقاف.
(٣). آية ٨٠ من هذه السورة.
(٤). في آية ٨٠.
وقال الفراء والأخفش : يجوز أن يكون " قيله " عطفا على قوله :" أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " ١ [ الزخرف : ٨٠ ]. قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال : أنصبه على " وعنده علم الساعة ويعلم قيله ". فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على " ترجعون "، ولا على " يعلمون ". ويحسن الوقف على " يكتبون " ٢. وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى : لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله، كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على " يكتبون ". وأجاز الفراء والأخفش أيضا : أن ينصب على المصدر، كأنه قال : وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير :
تمشي الوشاةُ جَنَابَيْهَا٣ وقيلِهم | إنك يا ابن أبي سلمى لمقتولُ |
٢ في الآية ٨٠..
٣ أي ناحيتيها..
٤ في الأصول:" الأوّل"..
٥ آية ١٢٢..
تمشي الوشاة جنابيها «١» وقيلهم | إنك يا بن أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ |
[سورة الزخرف (٤٣): آية ٨٩]
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
قَالَ قَتَادَةُ: أُمِرَ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ، فَصَارَ الصَّفْحُ مَنْسُوخًا بِالسَّيْفِ. وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عباس قال:" فَاصْفَحْ عَنْهُمْ" أي أَعْرِضْ عَنْهُمْ." وَقُلْ سَلامٌ" أَيْ مَعْرُوفًا، أَيْ قل لمشركي أَهْلِ مَكَّةَ" فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «٥» [التوبة: ٥] الْآيَةَ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ. وَقِرَاءَةُ العامة" فسوف
(٢). أو قيله هذا القول ساقط من ح وفي ز ل وفيه هذا القول. [..... ]
(٣). في الأصول:" الأول".
(٤). آية ١٢٢.
(٥). آية ٥.
سورة الزخرف
سورة (الزُّخْرف) من السُّوَر المكية، من مجموعة سُوَر (الحواميم)، افتُتحت ببيان عظمة هذا الكتاب، وقُدْرتِه على البيان والإبلاغ، وجاءت ببشارةِ الأمَّة بعلوِّ قَدْرها ورفعتها، محذِّرةً إياها من زخارفِ هذه الدنيا وزَيْفِها؛ فهي دارُ مَمَرٍّ، لا دارُ مستقرٍّ، وخُتمت السورة بتنزيه الله عز وجل عن الولدِ والشريك؛ لكمالِ اتصافه بصفات الألوهية الحَقَّة.
ترتيبها المصحفي
43نوعها
مكيةألفاظها
837ترتيب نزولها
63العد المدني الأول
89العد المدني الأخير
89العد البصري
89العد الكوفي
89العد الشامي
88* قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]:
عن أبي يَحيَى مولَى ابنِ عَقِيلٍ الأنصاريِّ، قال: «قال ابنُ عباسٍ: لقد عَلِمْتُ آيةً مِن القرآنِ ما سألَني عنها رجُلٌ قطُّ، فما أدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها فيَسألوا عنها؟ ثم طَفِقَ يُحدِّثُنا، فلمَّا قامَ، تلاوَمْنا ألَّا نكونَ سأَلْناه عنها، فقلتُ: أنا لها إذا راحَ غدًا، فلما راحَ الغَدَ، قلتُ: يا بنَ عباسٍ، ذكَرْتَ أمسِ أنَّ آيةً مِن القرآنِ لم يَسأَلْك عنها رجُلٌ قطُّ، فلا تَدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها؟ فقلتُ: أخبِرْني عنها، وعن اللَّاتي قرأتَ قبلها، قال: نَعم، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لقُرَيشٍ: يا معشرَ قُرَيشٍ، إنَّه ليس أحدٌ يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ فيه خيرٌ، وقد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنَّ النَّصارى تعبُدُ عيسى ابنَ مَرْيَمَ، وما تقولُ في مُحمَّدٍ، فقالوا: يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى كان نبيًّا وعبدًا مِن عبادِ اللهِ صالحًا، فلَئِنْ كنتَ صادقًا، فإنَّ آلهتَهم لكما تقولون؟! قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، قال: قلتُ: ما {يَصِدُّونَ}؟ قال: يَضِجُّون، {وَإِنَّهُۥ لَعِلْمٞ لِّلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61]، قال: هو خروجُ عيسى ابنِ مَرْيَمَ عليه السلام قبلَ يومِ القيامةِ». أخرجه أحمد (٢٩١٨).
*(سورةُ الزُّخْرف):
سُمِّيت (سورةُ الزُّخْرف) بهذا الاسم؛ لمجيء لفظ (الزُّخْرف) في وصفِ الحياة الدنيا في قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰبٗا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـُٔونَ ٣٤ وَزُخْرُفٗاۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَٰعُ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَاْلْأٓخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 34-35].
1. مكانة القرآن، وعاقبة المستهزئين بالمرسلين (١-٨).
2. إقرار المشركين بربوبية الله تعالى (٩-١٤).
3. ضلال المشركين في العبادة (١٥-٢٥).
4. حِكْمة الله تعالى في اختيار رسله (٢٦-٣٥).
5. حال المُعرِض عن ذكرِ الله، وتسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦-٤٥).
6. قصة موسى عليه السلام مع فرعون (٤٦-٥٦).
7. قصة عيسى عليه السلام (٥٧-٦٦).
8. عباد الله المؤمنين ونِعَمُ الله عليهم (٦٧-٧٣).
9. الأشقياء الفُجَّار يوم القيامة (٧٤-٨٠).
10. تنزيه الله تعالى عن الولدِ والشريك (٨١-٨٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /102).
مقصدُ سورة (الزُّخْرف) هو البِشارة بإعلاء الله لهذه الأمَّة، وتفضيلها على باقي الأُمَم؛ فالأمة الإسلامية هي أعلى الأمم شأنًا ورفعةً، ولتحقيق ذلك لا بد من الارتباط بالآخرة، وتركِ زَيْفِ الدنيا وزُخْرُفها، وعدمِ التعلق بها.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /466).