ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرفسورة حم، الزخرف، مكية.
قوله تعالى: ﴿حم* والكتاب المبين﴾ إلى قوله ﴿ومضى مَثَلُ الأولين﴾ قد تقدم ذكر حم.
وقوله: ﴿والكتاب المبين﴾: قسم، أي: المبين لمن تديره وفكر في عبره وعظاته.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾، أي: أنزلناه بلسان العرب إذ كنتم أيها المنذرون به من العرب.
" وجعلناه " هنا، يتعدى إلى مفعولين، " فالهاء " الأول، " وقرآناً " الثاني.
ومثله قوله تعالى: ﴿الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾ [الحجر: ٩١]، فلو كان بمعنى " خلق " لصار المعنى أنهم خلقوا القرآن، وهذا محال.
ولم يُلْقِهِم في هذا الخطأ العظيم، والجهل الظاهر إلا قلّة علمهم بتصاريف اللغات وضعفهم في معرفة الإعراب. وقوله: ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، معناه: أنزلنا القرآن بلسانكم لتعقلوا معانيه ومواعظَه، ولم ننزله بلسان العجم فتقولوا نحن عَرَبٌ، وهذا كلام لا نفقه معانيَه.
قال قتادة: " والكتاب المبين: مبين - والله - بركته وهداه ورشده ". وقيل: المبين، أي: أبان الهدى من الضلالة، والحق من الباطل.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، أي: وإن القرآن في أم الكتاب، يعني: اللوح المحفوظ: وأم الكتاب: أصله.
وقوله: ﴿لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، أي: عندنا لذو علو ورفعة وقيل معنى " عَلِيٌّ ": قاهر لا يقدر أحد أن يدفعه ويبله، معجز لا يؤتى بمثله، حكيم أحكمت آياته ثم فصلت، فهو ذو حكمة.
وقيل: حكيم، أي: محكم في أحكامه ووصفه.
قال ابن عباس: " أو لما خلق الله تعالى القلم: أمره أن يكتب ما يريد أن يخلق. قال: فالكتاب عنده.
روى مالك عن (عمران عن) عكرمة أنه قال " أم الكتاب القرآن ".
ثم قال تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً﴾ " صفحاً " مصدر، كأنه قال: أفنصفح عنكم صفحاً.
ويجوز أن يكون صفحا بمعنى: ذو صفح، كما تقول: رجل عدل (ورضى أي: عادل وراضٍ)، وذو عدل وذو رضى. يقال: أضربت عنك بمعنى: أعرضت عنك وتركتك.
والمعنى: أفنعرض عنكم أيها الناس ونترككم سدى لا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون.
قال مجاهد: معناه، أفتذكبون بالقرآن ولا تعاقبون.
وقال السدي: معناه: " أفنضرب عنكم العذاب ".
وقال ابن عباس: معناه: " أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا
وقال قتادة: (معنى): ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ﴾، أي: مشركين /، والله لو كان هذا القرآن " رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء من ذلك ".
قال الضحاك: الذكر هنا: القرآن، وقال أبو صالح: الذكر: العذاب. وقيل: " الذكر: التذكير ". والمعنى: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن فلا نذكركم به عقاب الله وثوابه لأن كنتم قوما مسرفين. وهو مروي عن ابن عباس.
وهذا كله على قراءة من فتح " أن "، فأما من كسر " أن " فقد رده أبو حاتم وغيره، لأنهم إنما وبخوا على شيء قد ثبت ومضى؛ فهذا موضع المفتوحة لأنها لما مضى.
والمكسورة معناها لما يأتي. فكيف يربخون على شيء لم يفعلوه بعد.
والكسر عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء جيد حسن، ومعناه الحال عند الزجاج لأن في الكلام معنى التقرير والتوبيخ.
وقال سيبويه: سألت الخليل عن (قول الشاعر وهو) الفرزدق:
أَتَغْضَبُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا | جِهَاراً وَلَمْ تَغْضض لِقَتْلِ ابْنِ حَازِمِ. |
وأن المكسورة يجوز ذلك فيها على إضمار فعل آخر، قال الله جل ذكره: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: ٦] (أي: وإن استجارك أحد من المشركين واستجارك). فعلى هذا التقدير البيت إن كسرت والتقدير: إن حُزَّتْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا.
وعلى ذلك يتأول قول الله جل ذكره ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ﴾ [الكهف: ٦] والكسر في هذا إجماع من القراء وتركهم للإيمان أَمْرٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَكَانَ. فهو - لو حمل على نظائره - في موضع المفتوحة. ولم يقرأ به أحد. فدل ذلك على جواز الكسر وحسنه في هذه السورة وفي المائدة (وفي غيرها) على معنى: إن وقع ذلك. وعلى ذلك اختلف القراء في قوله: ﴿وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا﴾ [الأحزاب: ٥٠].
والمشهورون من القراء على الكسر أجمعوا.
والكسر على معنى: إن وقع ذلك فيما يستقبل، وعلى هذا يجوز في البيت الكسر وفي (الآيات المذكورات).
ثم قال تعالى: ﴿أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين﴾، أي: وكثيراً أرسلنا من الأنبياء في الأمم الماضية كما أرسلناك يا محمد إلى قومك.
﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: ما يأتي الأمم الماضية من نبي يدعوهم إلى الهدى إلا كذبوه واستهزءوا به كما استهزأ بك قومك يا محمد.
فلا يعظمن عليك ما يفعل بك قومك، فإنما سلكوا من مضى من الأمم المكذبة لرسلها.
فهذا نص يُسَلِّ الله تعالى به نبيه ﷺ ويصبره على ما يلقى من المكذبين له، ويعلمه أنه قد فُعِلَ ذلك بمن بُعِثَ قبله من الأنبياء.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً﴾، أي: فأهلكنا الأمم الماضية على تكذيبهم واستهزائهم بالرسل وهم أشد من قومك قة وآثاراً وتصرفاً في الأرض، فلم
ثم قال: ﴿ومضى مَثَلُ الأولين﴾، أي: ومضى لهؤلاء المشركين المستهزئين بك، يا محمد مثل (ما مضى للأمم) قبلهم من العقوبات إن أقاموا على شركهم وتكذيبهم لك. قال قتادة: ﴿مَثَلُ الأولين﴾: عقوبتنا لهم. وقال مجاهد: سنتنافيهم.
وقيل: " مثل " هنا، بمعنى: صفة، أي: صفتهم بأنهم أهلكوا على كفرهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض﴾ إلى قوله: ﴿لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾.
أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، من خلق السماوات
ثم قال تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾، أي بساطاً فسهل عليكم / التصرف فيها من بلد إلى بلد.
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾، أي: طرقاً.
﴿لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، أي: كي تهتدوا في تصرفكم بتلك الطرق فتتوجهوا حيث شئتم. ولولا ذلك (لم يطق) أحد برَاحاً من موضعه ومنشئه.
قوله: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾ ليس بمتصل بما قبله، لأن ما قبله من جواب المشركين - حكاه الله عنهم.
ولو اتصل بما قبله لكام: " الذي جعل لنا الأرض ".
لكن معناه: إن الله جل ذكره وصف نفسه بنعمه بعد جواب المشركين.
فثم إضمار " هو "، هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، ثم وصف نعمه -
ثم قال تعالى: ﴿والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ﴾، أي: مطر بمقدار الحاجة بكم إليه. ولم يجعله كالطوفان فيكون عذاباً بغرق، (ولا جعله) قليلاً (لا ينبت) به الزرع والنبات، ولكنه جعله بمقدار حاجتكم إليه.
وقوله تعالى: ﴿فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾، أي: فأحيينا بذلك المطر بلداً لا نبات فيه ولا زرع فأنبت، فهو كالحياة له.
فكما أحيى الأرض بالمطر فأنبتت ولم يكن فيها نبات يحيي الموتى بالمطر فيخرجون من قبورهم (إلى ربهم).
وروى ابن مسعود أنه قال: يرسل الله جل ثناؤه ماء مثل مني الرجال، وليس شيء مما خلق الله من الأرض إلا وقد بقي منه شيء، فينبت بذلك الماء: الجسمان واللحوم، تنبت من (الثرى والمطر)، ثم قرأ ابن مسعود:
ثم قال تعالى: ﴿والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا﴾، أي: الأجناس والأصناف من الخلق.
وقيل: معنى خلق كل شيء فزوجه، بأن خلق الذكور من الإناث أزواجاً، وخلق الإناث من الذكور أزواجاً.
وواحد الأزواج على " فَعْل " وكان بابه أن يجمع على " أَفْعُلٌ " إلا أنهم استثقلوا الضمة في الواو فنقلوه إلى جمع " فعل " فجمعوه على " أفعال " (وبابه " أفعال ") فشبه فعلاً بفعل إذ عدد الحروف متساوية، وعلى ذلك (أيضاً شبهوا) " فَعَلاً " بـ " فَعْل " وجمعوه على " أَفْعُل " وبابه " أَفْعَال " قالوا: زَمَنٌ وَأَزْمُنٌ.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾ يعني: السفن في البحر، والإبل والخيل والبغال والحمير في البر، تركبون ذلك حيث شئتم.
وقال الفراء: معناه: على ظهور هذا الجنس، فهو عنده بمنزلة " كَثُرَ الدِّرْهَمُ.
والأحسن أن تكون مردودة على لفظ " ما " في قوله: ﴿مَا تَرْكَبُونَ﴾ و " ما " مذكرة اللفظ موحدة. ومثله الهاء في قوله: ﴿إِذَا استويتم عَلَيْهِ﴾. وإنما أتى " ظهوره " بالجمع، لأنه رد على المعنى الواحد فيه بمعنى الجمع، ورجعت الهاء على " ما " على اللفظ.
وهذا نادر قدم فيه الحمل على المعنى (على الحمل على اللفظ وباب " من " و " ما " أن يقدم فيه الحمل على اللفظ قبل الحمل على المعنى) ونظيره قوله
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ﴾، أي: نعمة ربكم التي أنعم عليكم بها إذا سخر لكم ما تركبون في البر والبحر.
ثم قال: ﴿وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا﴾، أي: وتقولوا تنزيها لله (وبراءة له) من السوء الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه.
قال قتادة: علمكم الله كيف تقولون إذا ركبتم الفلك: تقولون:
وعلمكم (ما تقولون) إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعاً، تقولون: اللهم انزلنا ﴿مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾ [المؤمنون: ٢٩].
وكان طاوس إذا ركب يقول: اللهم هذا من فضلك ومنك ثم يقول: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾.
ومعنى ﴿مُقْرِنِينَ﴾: مطيقين، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد، أي لم نطق على الانتفاع بهذه الأنعام إلا بك.
وحكى أهل اللغة: أقرن له، إذا أطاقه. وحكوا أنا مقرن لهذا أي: مطيق له.
وحكى أنه يقال: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له ".
وقد روي عن علي بم أبي طالب رضي الله عنهـ أنه كان (إذا جعل رجله في الركاب يقول): بسم الله، فإذا استوى راكباً قال: الحمد لله، ثم يقول: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ اللهم لا إله إلا أنت قد عملت سوءاً (وظلمت نفسي) فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ثم يقول: رأيت رسول الله ﷺ فعل كفعلي.
وقال مجاهد: من ركب ولم يقل: ﴿سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا...﴾ الآية، قال له الشيطان تَغَنَّهْ؛ فإن لم يحسن قاله تَمَنَّهْ.
وهذا كله في معنى الأمر بذكر نعم الله تعالى على خلقه وشكره عليها.
وقد قيل: إن التقدير: ليأمركم إذا استويتم على ظهوره أن تذكروا نعمته، وهو مثل قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، أي: لأمرهم أن يعبدون، فقد أمرهم تعالى ذكره بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾، يعني: ما أضاف المشركون إلى الله جل ذكره من البنات تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومعنى ﴿وَجَعَلُواْ﴾ (ها هنا:) قالوا ووصفوا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى، قاله مجاهد والسدي.
قال قتادة: الجزء هنا: العدل، أي: جعل له المشركون عدلاً، وهي الأصنام.
وقال عطاء: جزءاً، أي: نصيباً، شريكاً وهو قول الضحاك والربيع بن أنس،
وذكر الزجاج أن الجزء هنا: البنات وأنشد:
إِن أَجْزَتْ (حُرَّةُ) يَوْماً فَلاَ عَجَبَ | قَدْ (تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَاناً |
وقال المبرد: الجزء: البنت.
وقوله تعالى بعد الآية: ﴿أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ [الزخرف: ١٦]، وقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين
وقوله: ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾، أي: إن الإنسان لجحود لنعم ربه، يتبين كفرانه للنعم لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله. وهو هنا الكافر.
(ثم قال تعالى: ﴿أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾، إلى قوله: ﴿عَاقِبَةُ المكذبين﴾، معناه، لم يتخذ ذلك فأنتم أيها المشركون مبطلون في قولكم (تعالى عن ذلك علواً) كبيراً.
وهذا لفظ استفهام معناه التوبيخ، أي: كيف يتخذ البنات على قولكم وأنتم (لا ترضونهن) لأنفسكم (أفأصفاكم واختصكم) بالبنين.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً﴾ أي: وإذا بشر أحدكم هؤلاء الجاعلين لله سبحانه من عباده جزءاً بما وصف ربه به من اتخاذ البنات سبحانه وتعالى صار وجهه مسوداً وهو كظيم، أي حابس لغمه وحزنه وكربه.
ثم قال: ﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ " من " في موضع رفع بالابتداء.
ويجوز أن يكون في موضع نصب ترده على ﴿أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ فتبدله من البنات.
ويجوز أن يكون في موضع خفض (تبدله من " ما ") في قوله: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً﴾.
وفي جواز هذين الوجهين في البدل ضعف لدخول ألف الاستفهام قبل " من " فهي تحول بين البدل والمبدل منه.
والمعنى: أجعلتم لله جزءاً ممن يرى في الحلية ويتزين بها، وهو في مخاصمة
والتقدير: أو من ينشأ في الحلية يجعلون لله نصيباً. قال ابن عباس: عنى بذلك المرأة.
وقال مجاهد: " رخص للنساء في الحرير والذهب، وهن الجواري؛ جعلوهن للرحمن ولداً؛ كيف يحكمون ".
وقال قتادة: وقوله: ﴿وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ﴾ يعني النساء فقلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾، أي: ووصفوا الملائكة بهذا الوصف.
فجعل هنا بمعنى " وصف " تقول: جعلت فلان أعلم الناس /، أي: وصفته بهذا يتعدى إلى مفعول واحد (في الأصل).
ثم قال: ﴿أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ﴾ هذا على التقرير والتوبيخ لهم، ومعناه: لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف تجرؤوا على وصفهم بالإناث.
ثم قال تعالى: على التهدد والوعيد لمن فعل ذلك (ولمن يقول ذلك): ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾، أي: يسألون عن قولهم وافترائهم يوم القيامة، ولن يجدوا إلى الاعتذار من قولهم سبيلاً.
قال مجاهد: لو شاء الرحمن ما عبدناهم يعني الأوثان، والمعنى: هو أمرنا بعبادتها، دل على ذلك: قوله: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾، أي: يكذبون. فهذا الرد عليهم لا يحتمل أن يكون رد الظاهر من قولهم: ﴿وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾، لأنه قول صحيح لا يرد ولا ينكر. كما أن قولهم - إذا سُئِلُوا عمن خلق السماوات والأرض فقالوا خلقهن العزيز العليم لا يرد ولا ينكر.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ هذا مردود إلى أول الآية.
والتقدير: ﴿وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً﴾ ﴿مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾، أي: ما لهم بقولهم الملائكة إناثاً من علم، وقيل: إن ذلك مردود على ما قبله، والتقدير: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان، ثم قال الله: ما لهم بذلك من علم، أي: من عذر يقوم لهم في عبادتهم الأوثان لأنهم رأوا أن ذلك
فالمعنى: ما لهم من علم بحقيقة ما يقولون: (من ذلك)، إنما يقولونه تخرصاً واختراعاً من عند أنفسهم لأنهم لا خبر عندهم من الله تعالى أن الله سبحانه شاء عبادتهم الأوثان، ورضي بذلك منهم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾، أي: يخرصون ويكذبون في قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ أي: آتينا هؤلاء المتخرصين كتاباً يدل على حقيقة ما يقولون فيحتجون به.
والهاء في " من قبله " تعود على القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ﴾، أي: لم يأتهم كتاب بعبادتهم الأوثان ولكنهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على دين وملة، فنحن نتبع ما كانوا عليه.
وقرأ مجاهد وعمر بن عبد العزيز " على إمّةٍ " بكسر الهمزة قال الكسائي:
وحكي عن العرب: " ما أحسن إِمَّتَهُ وعِمَّته وجِلسته ".
ثم قال: ﴿وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾، أي: قالوا: وجدنا آباءنا على دين، فنحن متبعون لما كانوا عليه. هذا كله حكاية عن قريش.
ثم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾، أي: كما قال لك (يا محمد قومك) إنهم متبعون في دينهم لما كان عليه آباؤهم كذلك قال من كان قبلهم من مترفي الأمم لرسلهم الذين ينذرونهم من عقاب الله تعالى. والمترفون: الرؤساء
ومعنى " مقتدون " أي: تقتدي بفعلهم، فاتبعوهم على الكفر.
ثم قال تعالى: ﴿قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ﴾، أي: قل يا محمد لهؤلاء المتبعين ما وجدوا عليه آباءهم من الدين، أَوَلَوْا جِئْتُكُمْ أيها المشركون - من عند ربكم - بأهدى مما كان عليه آباؤكم من (الدين تتبعون) ما وجدتم عليه آباءكم، وغيره أهدى إلى الحق وأصوب منه!
ثم قال تعالى: ﴿قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾، أي: فقال محمد ﷺ ذلك لهم فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون، أي: جاحدون منكرون.
وجمع في قوله: " أرسلتم " لأن من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء.
ثم قال تعالى: ﴿فانتقمنا مِنْهُمْ﴾، أي: فانتقمنا من هؤلاء الذين كذبوا رسلهم، فانظر يا محمد كيف كان عاقبة المكذبين، فكذلك ننتقم من قومك إن تمادوا على تكذيبك.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ﴾ - إلى قوله - ﴿خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، " براء " مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. تقول:
والمعنى / أنني ذو البراء منك، ونحن ذو البراء كما تقول: رجل عدل، (وامرأة عدل، وقوم عدل)، أي: ذوو عدل. ونظيره: ﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧]، أي: ولكن ذو البر.
وقرأ ابن مسعود: " إنني بريء " على " فعيل ". فتجوز التثنية والجمع والتأنيث على هذه القراءة.
وجمعه في التكسير: " بُرَآء " (ك " كُرَمَاء ").
وقوله: ﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾، هذا استثناء من قوله " مما تعبدون ".
ويجوز أن يكون ايتثناء ليس من الأول منقطعاً.
ومعنى الآية: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إذ كانوا يعبدون ما بعيد قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله، إلا من الذي فطرني، أي: خلقني، فإني لا أبرأ منه.
﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾، أي سيقونا للحق في ديني.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾.
قال قتادة: الكلمة هي شهادة ألا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها من بعده، وقاله السدي، وقال ابن زيد: الكلمة: الإسلام، وهو قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين﴾ [البقرة: ١٣١].
والضمير في قوله: ﴿وَجَعَلَهَا﴾ عائد على قوله: ﴿إِلاَّ الذي فَطَرَنِي﴾ وضمير الفاعل يعود على الله جل ذكره، أي: وجعلها الله سبحانه كلمة باقية في عقب إبراهيم، فلا يزال من ولد إبراهيم من يوحد الله.
وقيل: الضمير المرفوع يعود على إبراهيم، أي: وجعل إبراهيم الكلمة باقية في عقبه، أي: عرفهم التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله وأوصاهم به، وهو قوله: ﴿ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ...﴾ [البقرة: ١٣٢] الآية. فتوارثوا ذلك فلا يزال من ذريته موحد لله.
وقال ابن عباس: العقب هنا من يأتي بعده.
وقال السدي: في عقب إبراهيم: آل محمد ﷺ.
وقال ابن شهاب: العقب: " الولد، وولد الولد ".
وقال ابن زيد: " عقبه: ذريته ".
وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، معناه يرجعون إلى طاعة ربهم ويتوبون إليه.
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي: قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. ففي الكلام تقديم وتأخير.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ﴾، أي: بل منعت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك وَمَتَّعْتُ آباءهم من قبلهم بالحياة ولم أعاجلهم (بالعقوبة على كفرهم حتى جاء الحق، يعني: القرآن، ورسول مبين،
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾، أي: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآن إعذاراً وإنذاراً، ورسول منهم يبين ما أرسل به ويبلغه إليهم، قالوا: هذا الذي جاءنا به سحر، وليس بوحي من عند الله، وقالوا إنا به جاحدون، أي: ننكر أن يكون من عند الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾، أي: وقال مشركو قريش هلا نزل هذا القرآن الذي جاءنا به محمد على رجل من القريتين، (أي: القريتين، ثم) حذف، مثل: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من أهل الطائف، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: هما: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل من الطائف.
وقال قتادة: هما: الوليد بن المغيرة من أهل مكة و (عنبة بن مسعود من أهل الطائف.
وقيل هو) عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، قاله ابن زيد.
وقال السدي: هما الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وكنانة (ابن عبد بن عمرو بن) عمير من أهل الطائف.
وعن مجاهد أنهما: عتبة بن ربيعة من أهل مكة، وأبو مسعود الثقفي من أهل
وقيل: هما الوليد بن بن المغيرة من أهل مكة، وأبو سعيد عمر بن عمير الثقفي سيد ثقيف. ثم قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ (أي: أهؤلاء القائلون هلا نزل القرآن على أحد رجلي القريتين يقسمون رحمة ربك) يا محمد بين خلقه، فيجعلون إكرامه لمن شاءوا، وعند من أرادوا، بل الله يقسم ذلك فيعطيه من أراد، ويحرمه من شاء.
قال ابن عباس: لما بعث الله جل ذكره محمداً ﷺ أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله / بشراً مثل محمد، فأنزل الله جل ذكره: {أَكَانَ
[يوسف: ١٠٩]، أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم فال: فلما كرر (عليهم تعالى) الحُجَج، قالوا: فإن كان بشراً فغير محمد أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أي: كل واحد منهما أشرف من محمد في المال والذكر، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان يسمى ريحانة قريش - من أهل مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الثقفي من أهل الطائف، قال الله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾، أي: ربك يا محمد يفعل ما يشاء.
قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾، أي: نحن نقسم الرحمة بين من شئنا من خلقنا فنجعل من شئنا نبياً، ومن شئنا مؤمناً، ومن شئنا كافراً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون فيها في دنياهم، فجعلنا بعضهم أرفع من بعض، فوسعنا على بعض وضيقنا على بعض، وجعلنا بعضهم ملوكاً وبعضهم مملوكين.
وقيل: إنها مخصومة في المماليك، روى ذلك عن ابن عباس، أي: فضل بعضهم على بعض فجعل بعضهم مالكاً وبعضهم مملوكاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، يعني: الجنة خير مما يجمعون في دنياهم من الأموال.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ - إلى قوله - ﴿فَبِئْسَ القرين﴾، أي: ولولا أن يكون الناس كلهم (كفاراً) لجعل الله لبيوت من يكفر سقفاً من فضة، ولكن لم يفعل ذلك ليكون في الخلق مؤمنون وكافرون على ما تقدم في علم الله تعالى وتقديره فيهم.
وقيل: المعنى: لولا أن يميل الناس كلهم إلى طلب الدنيا ورفض الآخرة
يدل الواحد على الجمع كما نقول: زيد كثير (الدرهم والدينار) وكثير الشاة والبعير. فيرد الواحد على الجنس كله.
وقيل: المعنى عند من وحد: لجعلنا لبيت كل من كفر بالرحمن سقفاً. فوحد على المعنى.
وقيل: المعنى: لولا ما قدرنا من اختلاف الأرزاق في الناس فيكون في
ففي هذا الفعل تنبيه على تحقير الدنيا وتصغير ما فيها.
ومن قرأ بالجمع فإنه حمل على اللفظ، فجمع السقف لجمع البيوت، وجمع السرر والأبواب، وهو جمع سقيفة، كقطيفة وقُطُف.
وقيل: هو جمع الجمع، كأنه جمع " سقْفاً " على " سُقُوف ". كفَلْس وفُلُوس. ثم جمع سقوفاً على سُقُف كحمار وحُمُر.
وقال أبو عبيدة: (سُقُف جمع كرُهُن ورَهْن، ورُهُن عند أكثر النحويين إنما هو جمع رِهَان، ورهان جمع رَهْن فرُهُن أيضاً، جمعُ جمعٍ.
وجعل الله السقوف للبيوت كما جعل الأبواب للبيوت.
فهو يدل على أن السقف لاَحَقَّ لِرَبِّ العلو فيه، وهو قول مالك وأصحابه.
وقال الكسائي: معناها لولا إرادتنا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا أن نجعل سقوف بيوتهم من فضة وذلك لهوان الدنيا عند الله، وقال الفراء: لبيوتهم: على بيوتهم.
قال الشعبي: سُقُفاً من فضة، أي: جذوعاً. ومعارج، أي: دُرُجاً من فضة. عليها يظهرون، أي: يصعدون على السُّقُفِ والغُرَفِ.
وقوله: ﴿وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً﴾، يعني: من فضة.
﴿وَسُرُراً﴾، أي: من فضة عليها يتكئون، قاله ابن زيد وغيره.
وقوله: ﴿وَزُخْرُفاً﴾، أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: الذهب، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي والضحاك وقال ابن زيد: الزخرف: ما يتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والأثاث.
وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى وجدته في قراءة عبد الله ذهباً.
والزخرف في اللغة: الزينة، يقال: زخرف داره، أي: زينها. والتقدير في الآية عند من جعل الزخرف الذهب: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومن
قال الطبري: لو كانت القراءة في الزخرف بالخفض لكان حسناً على معنى: / من فضة ومن زخرف.
وقيل: التقدير: وجعلنا لهم زخرفاً - بغير حذف خفض - وهو أقوى وأحسن.
والمعارج: الدرج، وجمعت على مفاعل وواحدهما معراج، وكان حقها معاريج بالياء، كمناديل جمع منديل، لكنها جمعت على الواحد معرج وهي لغة، يقول: (مَعْرَجٌ وَمِعْرَاجٌ) كَمَفْتَح ومِفْتَاح.
ولذلك تقول في جمع مَفْتَح: (مَفَاتِح، وإن شئت)، مفاتيح على جمع مَفْتَاح.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا﴾ هذا تقليل وتصغير لأمر الدنيا، إذ هي زائلة عن قليل، ولا خير في شيء لا يدوم.
والمعنى: وما كل ما تقدم ذكره من (الفضة والذهب) والسرر وإلا مسافة
﴿والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أي: وزينة الآخرة ونعيمها خير عند ربك لمن اتقاه فَجَدَّ في طَاعَتِهِ وَتَجَنَّبَ مَعَاصيَه.
والمعنى: وثواب الآخرة وجزاء الآخرة خير عند ربك للمتقين. واللام (من و " لما ") عند الكوفيين بمعنى إلا، وهي لام التوكيد عند البصريين. و " ما ". زائدة، وقيل: هي بمعنى: " شيء ".
ثم قال تعالى: جل ذكره: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، أي: ومن يعرض عن الإيمان بما أنزل الله تعالى من كتابه. هذا قول قتادة، وهو قول الفراء، وقال المبرد: " يَعشُ: يتعامى ".
ومنه قول الشاعر:
متى تأتِهِ تعْشو إلى ضوء ناره | إلى ضوء ناره (تَجِدْ خَيْرَ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ) |
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ | (تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ) |
وحكى بعض أهل اللغة: عشى عن ذكر الله، إذا لم ينتفع به، كما أن الأعشى لا
ويقال: عشى يعشى، إذا صار أعشى. وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى، وهو من ذوات الواو لقولهم: امرأة عشواء. فالياء هي عشى منقلبة من واو. ولذلك قال النحويون: العشا في البصر يكتب بالألف.
فتحقيق معنى الآية: ومن لا ينظر في حجج الله تعالى قريناً من الشياطين.
قال السدي: ومن يعش: من يُعْرِض.
وقال ابن عباس وابن زيد: ومن يعش: يعم.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل﴾، أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله سبحانه فيحببون لهم الضلالة، ويحسب هؤلاء الكفار
ثم قال: ﴿حتى إِذَا جَآءَنَا﴾، يعني: الكافر وقرينه من الشياطين. ومن وَحَّدّ " جاء " أراد الكافر وحده، وقد علم أن شيطانه ملازم له فاستغنى عن ذكره.
ثم قال تعالى: ﴿ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين﴾، أي: حتى إذا جاء الكافر وقرينه من الشياطين: قال الكافر للشيطان حين أورده النار: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين، يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف.
وقيل: عنى بذلك المشرق والمغرب، وثنى بلفظ (" مشرق " كما) قيل: سيرة العمرين في أبي بكر وعمر.
قال الله جل ثناؤه: ﴿فَبِئْسَ القرين﴾، أي: فيبس الشيطان قريناً لمن قارنه لأنه
قوله تعالى: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ﴾ - إلى قوله: - ﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾، أي: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، (أي: لن يخفف) عنكم ما أنتم فيه من العذاب لاشتراككم فيه، بل كل واحد منكم يناله نصيبه من العذاب. فَحَرَمَ الله تعالى أهل النار هذا المقدار من التأسي فلا راحة لهم في شيء، حتى في التأسي لا راحة لهم فيه.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: أفأنت يا محمد تسمع من أصمه الله عن مساع الهدى على شريطه الانتفاع به، أو تهدي من أعمى الله قلبه وبصره على أن يرى ما يهتدى به، أو تهدي من هو في جور عن الحق بعيد عن الصواب، ليس ذلك إليك يا محمد إنما هو إلى الله تعالى الذي يوفق من يشاء فيهتدي بتوفيقه إياه، ويخذل من يشاء فيضل بخذلانه إياه.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ﴾.
وقال قتادة: لم تقع النقمة، بل قد أذهب الله نبيه ولم ير في أمته إلا الذي تقر به عينه. قال / وليس من نبي إلا وقد رأى في أمته ما لا يشتهي.
قال قتادة: ذُكِر لنا أن النبي ﷺ أُرِيَ ما يصيب أمته بعده، فما زال منقبضاً ما استبسط ضاحكاً حتى لقي الله جل ذكره.
وقال السدي: هذه الآية عُني بها أهل الشرك من قومه ﷺ، وقد أراه النقمة فيهم وأظهره عليهم.
فالمعنى: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين، فإنا منهم
ومعنى: الذي وعدناهم: الذي وعدناك فيهم من النصر.
وقيل: هو راجع إلى قوله: ﴿والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٣٥].
فيكون المعنى: أو نريك الذي وعدنا المتقين من النصر.
ثم قال تعالى: ﴿فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ يعني القرآن، أي: الزمه واعمل بما فيه أنت ومن آمن بك.
ثم قال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾، أي: وإن هذا القرآن لشرفٌ لك ولقومك، يعني: قريشاً، وسوف تسألون عن الشكر على ما فضلكم به من إنزال كتابه عليكم.
وقيل: المعنى: وسوف تسألون عما عملتم فيه من قبولكم لأوامره ونواهيه.
ثم قال تعالى: ﴿وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾، يعني: اسأل يا محمد أهل الكتابين عن ذلك. فالتقدير: وأسال من أرسلنا إليهم قبلك رسلنا. و " من " زائدة.
وقال ابن زيد: أمر النبي ﷺ أن يسأل الأنبياء عن ذلك ليلة جُمُعوا له في الإسراء إلى بيت المقدس. فكان النبي ﷺ أشد إيماناً ويقيناً أن الله تعالى لم يأمر بعبادة غيره من أن يحتاج أن يسأل احداً. " فمن " على هذا القول غير زائدة.
" ويروى أن النبي ﷺ لما نزل عليه ذلك قال له جبريل: سل يا محمد الأنبياء الذين أريتهم في الإسراء قال: " لاَ أَسْأَلُ قَدِ اكْتَفِيْتُ ".
وقيل: تقدير الآية: واسأل يا محمد أمم من أرسلنا قبلك (من رسلنا)، ثم حذف المضاف.
فيكون المسؤول أهل الكتابين وغيرهم من جميع الأمم، أي: سلهم هل وجدوا في كتبهم أن الله تعالى أمر أن يعبد معه غيره.
والتقدير في الآية عند ابن قتيبة: واسأل من أرسلنا إليك قبلك رسلاً من رسلنا، فحذف " إليه " لأن في الكلام ما يدل عليه فالخطاب عنده للنبي ﷺ والمراد: المشركون. وحذف رسلاً لأن ﴿مِن رُّسُلِنَآ﴾ يدل عليه كما قال:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ.
وقيل: المعنى: " سلنا عن الأنبياء الذين أرسلناهم قبلك ".
ويتم الكلام على " رسلنا " و " عن " محذوفة، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار، أي: ما جعلنا آلهة تعبد من دون الله.
وأخبر الآلهة كما يخبر عمن، فقال: " يعبدون " ولم يقل " تعبد " ولا " يعبدون "، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فعظموها كما يعظمون الملوك فأجرى الخبر عنها مجرى الخبر عن من يعقل.
فلما جاءهم موسى بآياتنا وأدلتنا إذا هم منها يضحكون، أي: يهزءون ويسخرون كما فعل بك قومك يا محمد.
وهذا كله تسلية وتصبير للنبي ﷺ على ما ناله من قومه، فأعلمه أن ما نزل به من قومه قد نزل بمن كان قبله من الأنبياء فندبه تعالى إلى الصبر فقال: ﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾ [الأحقاف: ٣٥].
قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا﴾ إلى قوله - ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، أي: وما نرى آل فرعون من حجة على صدق ما جاءهم به موسى إلا هي أكبر من أختها، أي: هي أبين وآكد عليهم في الحجة من التي مضت قبلها.
ثم قال: ﴿وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، أي: (وأخذنا آل) فرعون بالجدب والسنين والجراد والقمل والضفادع والدم، لعلهم يتوبون إلى الله تعالى ويتركون الكفر. /
وإنما خاكبوه بالساحر وهم يسألونه أن يدعو الله لهم ويعدوه بالإيمان، لأن الساحر عندهم: العالم، ولم يكن الساحر عندهم ذماً، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم.
وقيل: خاطبوه بذلك على عادتهم معه، ووعدوه أنهم سيؤمنون به فيما يستقبل، ومعنى: إننا لمهتدون، أي: إننا لمتبعوك ومصدقوك إن كشفت عنا العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾. في الكلام حذف،
قال قتادة: ينكثون: يغدرون.
ثم قال تعالى: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ الآية، أي: ونادى فرعون في قومه من القبط ﴿قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي﴾، أي: من بين يدي في الجنات.
قال قتادة: تجري من تحتي، قال: كانت له جنات وأنهار ماء.
وقوله: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾: (معناه: أفلا تبصرون أيها) القوم ما أنا فيه من النعيم والملك وما فيه موسى من الفقر وَعَيَّ اللسان.
ويكون " أم أنا خير " بمعنى: أم أنتم بصراء، لأنهم لو قالو له أنت خير لكانوا عند بصراء.
وقوله: ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾، أي: قال فرعون لقومه: بل أنا خير من موسى الذي هو مهين لا عِزَّ له ولا ملك ولا مال يمتهن نفسه في حاجته.
" ولا يكاد يبين "، (أي: لا يبين) كلامه، للعقدة التي كانت فيه.
قال أحمد بن جعفر: تقف على " أفلا تبصرون "، ثم تبتدئ " أم أنا خير "، بمعنى: بل أنا خير.
وقال يعقوب: الوقف: " أفلا تبصرون أم " ويبتدئ: " أنا خير ". وروى عن مجاهد أنه قال: " أفلا تبصرون أم " انقطع الكلام ثم قال: أنا خير من هذا الذي هو مهين "، وكذلك روي عن عيسى بن عمر.
والتقدير على هذا الوقف: أفلا تبصرون أم تبصرون فيتم الكلام.
ثم حذف " تبصرون " الثاني لدلالة الأول عليه فتقف على " أم " لأنها منتهى الكلام.
وقيل: إن من وقف على " أم " جعلها زائدة، وكأنه وقف على " تبصرون " من
ولا يتم الكلام على " تبصرون " عند الخليل وسيبويه لأن " أم " تقتضي الاتصال بما قبلها. وقوله: " أنا خير من هذا الذي هو مهين " مع " أم " في موضع قوله: أم أنتم بصراء.
ثم قال تعالى: حكاية عن قول فرعون: ﴿فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ﴾، أي: فهلا كان في يد موسى أساورة ذهباً وواحد الأساورة: إسوار. وفي قراءة أبي: أَسَاوِرُ من ذَهَبٍ.
فهذا يدل على أن الواحد إسوار. ولكن لما دخلت الهاء في أساورة حذفت الياء لأنهما يتعاقبان في هذا النحو، نحو: دهاقين ودهاقنة، (وجحاجيح وجحاحجة)، وزناديق وزنادقة، الهاء عوض من الياء، والواحد دهقان وجحجاح وزنديق، وحسن انصرافه لدخول هاء التأنيث فيه.
وقيل: إن أساورة يجوز (أن يكون) جمع أسورة، وأسورة جمع سُوار وَسِوَار.
والعرب تسمي الرجل الحاذق بالرمي (بِأُسْوَارُ) إذا كان من رجال العجم.
وقوله: ﴿أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ﴾.
هذا من قول فرعون، أي: لو كان موسى صادقا لجاء معه الملائكة، قد اقترن بعضهم ببعض متتابعين، يشهدون بصدقه فيما يقول.
قال مجاهد: مقترنين: " يمشون معه ".
وقال قتادة: مقترنين: متتابعين، وقال السدي: " يقارن بعضهم بعضاً ".
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، أي: خارجين عن طاعة الله سبحانه بكفرهم وتكذيبهم لموسى وتركهم قبول ما جاء هم به.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ﴾ - إلى قوله -: ﴿صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي: فلما أغضبونا حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين.
قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا.
وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا.
حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين.
قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا.
وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا.
ثم قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ﴾. السَّلَف، جمع سَالِف، كخَادِم
وقرأ الكسائي وحمزة: " سُلُفًا " بضمتين وهو جمع سليف حكاه الفراء.
وقرأ حميد الأعرج: " سُلَفاً " بضم السين وفتح اللام، وجمع سلفة، والسلفة: الفرقة المتقدمة.
والمعنى: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقنا مقدمة يتقدمون إلى النار كما سنفعل بكفار قومك يا محمد.
وقوله: ﴿وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ﴾، أي: عبرة وعظة لمن يأتي بعدهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾، أي: ولما شبه الله تعالى عيسى في إحداثه إياه من غير فحل بآدم إذا قومك يا محمد منه يضحكون ويقولون: ما يريد منا إلا أن نتخذه إلها كما تخذت النصارى المسيح، قاله مجاهد.
" وقال ابن عباس لما قال الله تعالى لقريش: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾، قالت قريش للنبي ﷺ فما ابن مريم؟ فقال: ذلك عبد الله ورسوله: فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم رباً. فقال الله: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ".
قال الكسائي والفراء: " يصدون " (بالضم والكسر) لغتان، بعمنى يعرضون. وقال قطرب هما لغتان بمعنى يضحكون.
والاختيار في القراءة عند أبي عبيد بالكسر على معنى يضجون لأنها لو كانت بالضم على معنى يعرضون لكان اللفظ: إذا قومك عنه يَصُدُّون.
ثم قال تعالى: ﴿وقالواءَأَ الهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ﴾، أي: وقال مشركو قومك يا محمد: أآلهتنا خير أم محمد، فنعبد محمداً ونترك آلهتنا.
وفي خرف أُبي: " ءالهتنا خير أم هذا "، يعني: محمداً ﷺ.
وقال السدي معناه: أآلهتنا خير أم عيسى قال: وذلك أنهم خاصموه فقالوا:
وقوله: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً﴾، أي: ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد إلا للجدل والخصومة. أي: لم يقولوا هذا على طريق المناظرة ولا على (وجه التثبت)، إنما قالوه طلباً للخصومة في الباطل.
وهذا فرق بين الجدال والمناظرة، لأن المتناظرين كل واحد منهما يطلب الصواب. والمتجادلين إنما يطلبان تثبيت ما لم يتيقنا صحته، أو ما قد علما باطله. فالمجادل يحاول إثبات الباطل على نفسه، والمناظر يحاول إظهار الصواب عند نفسه.
قال سفيان: " بل هم قوم خصمون "، حُدِّثْتُ أنها نزلت في ابن الزبعرى. ثم قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾، أي: ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالتوفيق بالإيمان، وجعله الله آية لبني إسرائيل، وحجة عليهم، وهو قوله، ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ﴾. وقيل معنى مثلاً، أي بشراً مثلهم، فضل عليهم.
ثم قال: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ﴾، أي: ولو نشاء يا معشر بني آدم أهلكناهم وجعلنا منكم بدلاً في الأرض من الملائكة يعبدون الله، وهو نحو قوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ [النساء: ١٣٣]، و ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ﴾ [الأنعام: ١٣٣].
وقال ابن عباس: " يخلفون، " يخلفون، أي: يخلف بعضهم بعضاً "، وقاله قتادة. وقال
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ﴾، أي: وإن ظهور عيسى علم يعلم به قرب قيام الساعة أي: هو من أشراطها، ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا وإقبال الآخرة هذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد.
فالهاء في: " وإنه " تعود على عيسى على قولهم.
وقد قرأ مجاهد: " وإنه لَعَلَمٌ " بفتحتيت على معنى: وإن نزول عيسى لعلامة لقرب الساعة.
ورُوي عن الحسن أنه قال معناه: وإن هذا القرآن لعلم للساعة، وحكي مثله
روي عن النبي ﷺ أنه قال: " لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً فَلَيَكْسِرْنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ ".
وروى مالك عن ابن شهاب عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال:
" لَيَهلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ (الرَّوْحَاءِ حَاجّاً ومُعْتَمِراً) أَوْ لَيُثَنِّهِمَا جَميعاً ".
وقال النبي ﷺ: " يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَالَ (بِبابِ لُدٍّ) ".
قال ابن القاسم عن مالك: بينهما الناس (بباب لد) إذ يسمعون الإقامة، فتغاشهم غمامة، فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.
وروي (عن ابن عمر) أنه قال: " يخرج الدجال، ويبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيطلبه ويهلكه.
وروي عنه ﷺ أنه قال: " لاَ تَهْلَكُ أُمَّةً أَنَا أَوَّلُها والمَسِيحُ آخِرُهَا ".
قال عبد الله بن سلام: نجد في التوراة أن عيسى يدفن مع محمد ﷺ.
وكان بعض الصحابة يتوقع قرب نزوله.
وروي عن أبي هريرة أنه كان يلقى الغلام الشاب فيقول له: إن لقيت عيسى بن مريم فأَقْرَه عني السلام، وقاله أبو ذر لبعض جلسائه.
وقيل: المعنى: وإن محمداً لعلم للساعة لأنه خاتم النبيين. فيكون معناه: يُعْلِمُ بَعْثُهُ قُرْبَ قيام الساعة. وهي في قراءة أبي: " وإِنَّهُ لَذِكْرٌ للسَّاعَةِ ".
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾، أي: لا تشكن في قيام الساعة أيها الناس.
ثم قال: ﴿واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، أي: وأطيعون أيها الناس، هذا الذي جئتكم به طريق لا عوج فيه.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان﴾ - إلى قوله -: ﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾، أي: ولا يمنعكم الشيطان من اتباع الحق.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة﴾، أي: ولما جاء عيسى) بني إسرائيل) بني إسرائيل بالآيات الواضحات. يعني: المعجزات.
وقيل: بالبينات: بالإنجيل: قاله قتادة، قال لهم قد جئتكم بالحكمة.
قال السدي: الحكمة ها هنا النبوءة.
وقيل: الحكمة، الإنجيل.
ثم قال: ﴿وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾.
قال أبو عبيدة: " بعض " بمعنى: " كل " وَرَدَّ ذلك أكثر العلماء لأن فيه التباسَ المعاني وفسادَ الأصول ونقضَ العربية.
والمعنى عند الزجاج: ولأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه. (فبين
وقيل معناه: إنه يبين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على مقدار ما سألوه عنه، ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عن بيانها.
قال مجاهد/ معناه: ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوارة.
وقيل المعنى إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موسى في أِشياء من أمر دينهم، وأشياء من أمر دنياهم/ فبين لهم عيسى بعض ما اختلفوا فيه وهو أمر دينهم خاصة، فلذلك قال: ﴿بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾.
ثم قال: ﴿فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ﴾، أي: فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعون فيما أقول لكم.
﴿هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، أي: هذا الذي أمرتكم به هو الطريق المقوم الذي لا يوصل إلى رضى الله إلا باتباعه.
ثم قال تعالى: ﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ﴾.
قال قتادة: الأحزاب هنا، هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى.
فكر ابن حبيب أن النصارى افترقت في عيسى بعد رفعه على ثلاث فرق:
فرقة قالت: هو الله، هم اليعقوبية قال الله عنهم:
وفرقة ثانية قالت: هو ابن الله، وهم النسطورية. وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾ [التوبة: ٣٠].
وفرقة ثالثى قالت: هم ثلاثة: الله إله، وعيسى إله، وأمه إله وهم الملكانية. وهم الذي قال الله فيهم: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣].
وقال السدي: " الأحزاب: اليهود والنصارى ".
ومعنى من بينهم، أي: من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته.
ثم قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، أي: فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله من عذاب يوم أليم، وهو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾، أي: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى إلا الساعة (بغتى، أي: فجأة).
" وأن " في موضع نصب بدل من " الساعة " بدل الاشتمال.
﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، أي: لا يعلمون بمجيئها.
ثم قال تعالى: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ أي: المتخالون على
قال ابن عباس: " كل خلة في الدنيا هي عداوة يوم القيامة، إلا خلى المتقين ".
وقال مجاهد، معناه: الأخلاء في الدنيا على معصية الله متعادون يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ وفي الكلام حذف، أي: إلا المتقين، فإنه يقال لهم يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا، لأنكم قَدِمْتُمْ على ما هو أفضل منها.
وروي (أن الناس) ينادون بهذا النداء يوم القيامة فيطمع فيها من ليس من أهلها، حتى إذا سمع قوله: ﴿الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾ (فييئس منها عند ذلك كل أحد إلا المسلمين ومعنى " وكانوا مسلمين "، أي: وكانوا أهل خضوع لله تعالى
وقيل: ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ﴾ [النمل: ١٣، غافر: ٨٣] الرسل واستسلام له.
وروي عن بعض التابعين أنه قال يخرجون من القبور وكلهم مدعين فيناديهم منادٍ: ﴿ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فيطمع فيها الخلق كلهم/ فيتبعها: ﴿الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾. فيئس منها الخلق إلا أهل الإسلام.
قال (ابن عباس): يخرجون فينطرزن إلى الأرض غير الأرض التي عهدوا، (وإلى الناس غير الناس الذين عهدوا).
وكان ابن عباس يتمثل بعد هذا القول بقول الشاعر:
فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الذِينَ عَهِدتَّهُمْ ولا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كَنْتَ تَعْرِفُ
وروي أن النبي ﷺ سئل هل تحبرون فقال: " اللَّذَّةُ والسَّماعُ بِمَا شَلءَ اللهُ (مِن ذِكْرِهِ) ".
" فالذين " يحتمل أن يكون مبتدأ " وادخلوا " الخبر على حذف القول، أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة.
ويجوز أن يكون نعتاً " للعباد " في موضع نصب، يدل على ذلك قوله: ﴿ادخلوا الجنة﴾ وما بعده. فأتى بلفظ الخطاب.
ويدل على الوجه الأول قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ﴾ وما بعده، فأتى بلفظ الغيبة. فالعباد مخاطبون لأن المنادى مخاطب.
" والذين " لفظهم لفظ غيبة. فكلا (الوجهين له) دليل.
ثم قال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾، أي: يطاف على هؤلاء الذين آمنوا في الجنة بقصاع من ذهب وأكواب من ذهب، أي: يطوف عليهم بذلك الغلمان.
وقال قتادة: هي دون الأباريق. وقيل: الكوب الإبريق المستدير الذي لا أذن له ولا خرطوم.
والمعنى: يطاف عليهم في الجنة بصحاف الطعام وأكواب الطعام وأكواب الشراب من ذهب. فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب لمعرفة السامعين بمعناه.
قال ابن جبير: إن أدنى أهل الجنة منزلة مَنْ له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبتها. لو فَتَحَ بابه فضافَه أهل الدنيا لوسعهم، ر يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك قوله: ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا﴾ [ق: ٣٥] ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس﴾.
وقوله: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس﴾، أي: وفي الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون وتلذ أعينكم. ﴿وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي: ماكثون أبداً.
" وروى سفيان أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال يا رسول الله، إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال له: " إنْ يُدْخِلكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَلاَ تَشَاءُ أََنْ تَرْكَبَ فَرَساً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطيرُ بِكَ في أَيِّ الجَنَّةِ شِئْتَ إِلاَّ فَعَلْتَ. فقال الأعرابي: يا رسول الله، إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يَا أَعْرَابِيُّ، إِنْ يُدْخِلَكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَفِيها مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ لَكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ".
وقال أبو طيبة السلمي: إن الشَّرْبَ من أهل الجنة لَتُظِلُّهُم السحاب، فقال فتقول: ما ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع شيئاً إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أتراباً.
ثم قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، (أي: وتلك الجنة أورثكموها الله عن أهل النار، بما كنتم تعملون) في الدنيا من الخير.
﴿مِّنْهَا تَأْكُلُونَ﴾، أي: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم.
وقد قال ابن خالويه: إنما أشار إلى الجنة بإِارة البعيد فقال: " وتلك " وأشار إلى جهنم في (قوله: هذه) جهنم بإشارة القريب لتأكيد التخويف من جهنم لأن الله تعالى قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب الله تعالى قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب أحد منهم إلى على ذنب اكتسبه، فحذرهم الله تعالى في النار وقَرَّب الإشارة إليها، (أكثر مما شوقهم) إلى الجنة، فجعل جهنم كأنه يُنظر إليها كالحاضرة، تخويفاً منها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ﴾، إلى آخر السورة، أي: إن الذين اكتسبوا الكفر في الدنيا يوم القيامة في عذاب جهنم ماكثون أبداً، لا يخفف عنهم العذاب.
وقال السدي: " مُبلسون: متغير حالهم ".
وقال الزجاج: " الملبس: الساكن، الممسك إمساك يائس من فرجٍ ".
وقال الطبري: المبلس: اليأس من النجاة.
وقال النحاس: المبلس: المتحير الذي قد يئس من الخير.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين﴾، أي لم نظلمهم في عذابنا لهم (ولكن هم) ظلموا أنفسهم بكفرهم في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ أي: ونادى المجرمون بعد دخولهم جهنم مالك خازن فقالوا: يا مالك لِيُمِتْنَا رَبُّكَ فيفرغ من إماتتنا.
روي أن مالك لا يجيبهم في وقت دعائهم، ويدعهم ألف عام ثم يجيبهم
وقال ابن عمر: إن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً فلا يجيبهم ثم يقول: ﴿إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾، ثم ينادون ربهم: ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧] فيدعوهم مثل الدنيا ثم يرد عليهم ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ [الؤمنون: ١٠٨] فما نفس القوم بعد ذلك بكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم.
وقال نوف البكالي يتركهم مالك مائة سنة مما تعدون (ثم يناديهم)
وقال السدي: يمكثون ألف سنة مما تعدون، ثم يجيبهم بعد ألف عام، إنكم ماكثون.
قال ابن زيد وغيره: ليقض علينا ربك: ليمتنا. القضاء هنا الموت.
ثم قال: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق﴾، أي: لقد جاءتكم الرسل من عند ربكم.
﴿ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾، أي أكثرهم لا يقبل الحق فهذا الذي أنتم فيه جزاء فعلكم.
ثم قال: ﴿أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾، (أي: أم أبرم) هؤلاء المشركون من قريش أمراً يكبدون به الحق فإنا مبرمون. أي: نخزيهم ونذلهم ونظفرك
قال مجاهد: معناه إن كادوا بشرٍّ كدناهم مثله.
وقال قتادة: معناه: (أم أجمعوا) أمراً فإنا مجمعون ".
وقال ابن زيد معناه: (أم أحكموا) أمرهم فإنا محكمون لأمرنا.
وقال الفراء معناه: أم أحكموا أمراً ينجيهم من عذابنا على قولهم فإنا نعذبهم.
يقال: أبرم الأمر إذا بالغ في إحكامه. وأبرم الفاتل إذا أدغم، وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل كما قال زهير:
ثم قال: ﴿وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾، أي والحَفَظَةُ عندهم يكتبون ما نطقوا به.
ويروى " أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر تدارءوا في سماعالله تعالى كلام عبادة ".
قال محمد بن كعب القرظي: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي، أو ثقفيان، وقرشي، فقال واحد من الثلاثة: ترون أن الله يسمع كلامنا؟! فقال: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾، أي: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد على زعمكم فأنا أول المؤمنين بالله في تكذيبكم فقولوا ما شئتم، هذا معنى قول مجاهد.
وقال ابن عباس / معناه: لم يكن ولد فأنا أول الشاهدين " (فمعنى الكلام) على قول ابن عباس: ما كان ذلك ولا ينبغي أن يكون، وهو معنى قول قتادة وابن زيد، وهو قول زيد بن أسلم. ف " إن " معنى: (" ما " التي للنفي).
فجعل " إن " للشرط، وهو اختيار الطبري، لأنك إذا جعلت " إن " بمعنى " ما " أوهمت أنك إنما نفيت عن الله سبحانه الولد فيما مضى دون ما هو آت.
وإذا جعلت " إن " للشرط أخبرت أنه كان له ولد على قولكم فأنا أول من عبده على ذلك ولكن لا ولد، ولا ينبغي أن يكون، وهذا عنده (من الإلطاف) في الكلام، وحسن المخاطبة بمنزلة قوله: ﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤]، وقد
حكى: ما عبد فلان إن فعل كذا، أي: ما أنف.
وهذا قول مردود لأنه يلزم منه أن يقول العابدين. إنما يقال، فلان عبد من كذا، أي: آنف منه. ولا يقال عابد بمعنى: أنف.
وقال: أبو عبيد مجازها: فأنا أول العابدين، أي: الجاحدين من عبد يعبد إذا حجد. وحكى: فلان عَبَدَني حَقّاً، أي: جحدني.
ثم قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض﴾، أي: تبرئة له وتنزيهاً له من الولد وغير ذلك من الأشياء المذمومة.
وقوله: ﴿رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ﴾، أي يكذبون.
وحكى أبو حاتم أن قوماً يقفون ﴿قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ﴾، ثم يبتدؤون:
ثم قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ﴾.
هذا تهدد ووعيد من الله جل ذكره للمشركين، أي: سيعلمون يوم القيامة جزاء لعبهم خوضهم في الباطل.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله﴾، أي: هو المعبود في السماء وفي الأرض، فلا شيء تصلح له الألوهية إلا هو.
قال قتادة: معنى الآية: وهو الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض.
ثم قال: ﴿وَهُوَ الحكيم العليم﴾، أي: وهو الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم.
وفي حرف ابن مسعود: (وهو الذي في السماء وفي الأرض الله)، وهي
ثم قال تعالى: ﴿وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، أي: وتعالى الذي في ملكه ذلك وكله وفي تدبيره وبيده.
وقوله: ﴿وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾، أي: وتفرد بعلم قيام الساعة، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي: تردون بعد مماتكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة﴾، أي، ولا تملك الآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من دون الله تعالى شفاعة لمن عبدهم، قال مجاهد. والقول الأول قاله قتادة.
﴿إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق﴾، أي: بالتوحيد لله والطاعة له.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أي: يعلمون (أن ما أقروا به حق).
وقيل معنى ﴿إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق﴾، يعني: عيسى وعزيرُ والملائكة فإنهم
قال مجاهد، معناه: لا يشفع المسيح وعزير والملائكة إلا من شهد بالحق، أي: قال لا إله إلا الله. فهذا يدل على أنه استثناء ليس من الأول.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله﴾، أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من خلقهم ليقولون خلقهم الله.
ثم قال: ﴿فأنى يُؤْفَكُونَ﴾، أي: فمن أي وجه يصرفون عن عبادة الله الذي خلقهم، ويحرمون أتباع رضاه.
ثم قال تعالى: ﴿وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ من نصب " وقيله " عطفه، عند الأخفش على " سرهم ونجواهم " (أي: نسمع سرهم ونجواهم وقيله.
وقيل إنما) يجوز نصبه على المصدر.
وقيل هو معطوف على مفعول " يعلمون " المحذوف، والتقدير: هم يعلمون الحق وقيله.
وقيل معطوف على مفعول " يكتبون " المحذوف، والتقدير: ورسلنا لديهم يكتبون ذلك وقيله.
ومن خفضه عطفه على لفظ " الساعة "، أي: وعنده علم الساعة وعلم قيله.
والمعنى: ونسمع شكوى محمد وقيله: يا رب، إن هؤلاء الذين أمرتني أن تدعوهم وننذرهم لا يؤمنون. وهذا قول كان يقول له النبي ﷺ لما امتنعت عليه قريش من الإيمان فأنزله الله جل ذكره.
قال مجاهد وقتادة: هذا قول نبيكم ﷺ يشكو / قومه إلى ربه، حكاه الله جل ذكره لنا في كتابه.
والهاء في " وقيله " عائد على النبي ﷺ وقيل: تعود على عيسى، فترجع على قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً﴾ [الزخرف: ٥٧]- الآية.
ثم قال تعالى: ﴿فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ﴾، أي: دعهم واغفر لهم قولهم
وهذا كان قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال.
وقال الفراء: التقدير: وقل سلام عليكم، ثم حذف، وهو بعيد لم يؤمر النبي ﷺ بأن يجيبهم، إنما أمر (بأن يسالمهم) حتى يأتيه أمر الله تعالى.
وقد نهى النبي ﷺ أن يبدأ النصارى واليهود بالسلام فكيف يأمره الله بذلك للمشركين وينهاه عنه.
قال ابن عباس: " فاصفح عنهم، أي: أعرض عنهم ".
ثم قال: (فسوف تعلمون).
هذا تهدد ووعيد، أي: سوف تلقون ما يسوؤكم إن تماديتم على كفركم.
مكية
قال الحسن: "من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة غفر له".
ومن رواية ابن وهب أن النبي - ﷺ - قال: (من قرأ يس وحم الدخان في ليلة جمعة إيماناً واحتِسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).
سورة الزخرف
سورة (الزُّخْرف) من السُّوَر المكية، من مجموعة سُوَر (الحواميم)، افتُتحت ببيان عظمة هذا الكتاب، وقُدْرتِه على البيان والإبلاغ، وجاءت ببشارةِ الأمَّة بعلوِّ قَدْرها ورفعتها، محذِّرةً إياها من زخارفِ هذه الدنيا وزَيْفِها؛ فهي دارُ مَمَرٍّ، لا دارُ مستقرٍّ، وخُتمت السورة بتنزيه الله عز وجل عن الولدِ والشريك؛ لكمالِ اتصافه بصفات الألوهية الحَقَّة.
ترتيبها المصحفي
43نوعها
مكيةألفاظها
837ترتيب نزولها
63العد المدني الأول
89العد المدني الأخير
89العد البصري
89العد الكوفي
89العد الشامي
88* قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]:
عن أبي يَحيَى مولَى ابنِ عَقِيلٍ الأنصاريِّ، قال: «قال ابنُ عباسٍ: لقد عَلِمْتُ آيةً مِن القرآنِ ما سألَني عنها رجُلٌ قطُّ، فما أدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها فيَسألوا عنها؟ ثم طَفِقَ يُحدِّثُنا، فلمَّا قامَ، تلاوَمْنا ألَّا نكونَ سأَلْناه عنها، فقلتُ: أنا لها إذا راحَ غدًا، فلما راحَ الغَدَ، قلتُ: يا بنَ عباسٍ، ذكَرْتَ أمسِ أنَّ آيةً مِن القرآنِ لم يَسأَلْك عنها رجُلٌ قطُّ، فلا تَدري أعَلِمَها الناسُ فلم يَسألوا عنها، أم لم يَفطَنوا لها؟ فقلتُ: أخبِرْني عنها، وعن اللَّاتي قرأتَ قبلها، قال: نَعم، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لقُرَيشٍ: يا معشرَ قُرَيشٍ، إنَّه ليس أحدٌ يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ فيه خيرٌ، وقد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنَّ النَّصارى تعبُدُ عيسى ابنَ مَرْيَمَ، وما تقولُ في مُحمَّدٍ، فقالوا: يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى كان نبيًّا وعبدًا مِن عبادِ اللهِ صالحًا، فلَئِنْ كنتَ صادقًا، فإنَّ آلهتَهم لكما تقولون؟! قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]، قال: قلتُ: ما {يَصِدُّونَ}؟ قال: يَضِجُّون، {وَإِنَّهُۥ لَعِلْمٞ لِّلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61]، قال: هو خروجُ عيسى ابنِ مَرْيَمَ عليه السلام قبلَ يومِ القيامةِ». أخرجه أحمد (٢٩١٨).
*(سورةُ الزُّخْرف):
سُمِّيت (سورةُ الزُّخْرف) بهذا الاسم؛ لمجيء لفظ (الزُّخْرف) في وصفِ الحياة الدنيا في قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَٰبٗا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـُٔونَ ٣٤ وَزُخْرُفٗاۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَٰعُ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَاۚ وَاْلْأٓخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 34-35].
1. مكانة القرآن، وعاقبة المستهزئين بالمرسلين (١-٨).
2. إقرار المشركين بربوبية الله تعالى (٩-١٤).
3. ضلال المشركين في العبادة (١٥-٢٥).
4. حِكْمة الله تعالى في اختيار رسله (٢٦-٣٥).
5. حال المُعرِض عن ذكرِ الله، وتسليةُ النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦-٤٥).
6. قصة موسى عليه السلام مع فرعون (٤٦-٥٦).
7. قصة عيسى عليه السلام (٥٧-٦٦).
8. عباد الله المؤمنين ونِعَمُ الله عليهم (٦٧-٧٣).
9. الأشقياء الفُجَّار يوم القيامة (٧٤-٨٠).
10. تنزيه الله تعالى عن الولدِ والشريك (٨١-٨٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /102).
مقصدُ سورة (الزُّخْرف) هو البِشارة بإعلاء الله لهذه الأمَّة، وتفضيلها على باقي الأُمَم؛ فالأمة الإسلامية هي أعلى الأمم شأنًا ورفعةً، ولتحقيق ذلك لا بد من الارتباط بالآخرة، وتركِ زَيْفِ الدنيا وزُخْرُفها، وعدمِ التعلق بها.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /466).