بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة القلموهي مكية في قول الأكثرين. وعن بعضهم : أن بعضها مكية، وبعضها مدنية.
ﰡ
وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن جَمِيع الْمِيَاه تنصب من شدقها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اسْم من أَسمَاء السُّورَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه حرف من حُرُوف التهجي.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن " الر " و " حم " و " ن " مَجْمُوع من اسْم الرَّحْمَن.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن النُّون هِيَ الدواة، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَفِيه خبر مأثور بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله خلق أول مَا خلق الْقَلَم، ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة، ثمَّ قَالَ للقلم: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ ! فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يكون وَمَا كَانَ من عمل وَأجل ورزق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
فَكتب الْقَلَم وَختم الله على فيِّ الْقَلَم فَلم ينْطق، وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ خلق الْعقل، وَقَالَ لَهُ: مَا خلقت خلقا أعجب إِلَيّ مِنْك، وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت، ولأنقصنك فِيمَن أبغضت، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " أكمل النَّاس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بِطَاعَتِهِ، وأنقص النَّاس عقلا أطوعهم للشَّيْطَان وأعملهم بِطَاعَتِهِ ".
قَوْله ﴿والقلم﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه خلق من نور، وَطوله مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَفِي خبر عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.
فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الدواة والقلم، الْأَكْثَرُونَ أَنه الدواة والقلم الَّذِي كتب بِهِ الذّكر فِي السَّمَاء.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الدواة والقلم الَّذِي يكْتب بِهِ بَنو آدم.
وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه.
وَقَالَ قَتَادَة: لَوْلَا الْقَلَم مَا قَامَ لله دين، وَلَا كَانَ لِلْخلقِ عَيْش.
وَقَوله: ﴿وَمَا يسطرون﴾ أَي: مَا يَكْتُبُونَ من أَعمال بني آدم يَعْنِي: الْمَلَائِكَة.
وَحكى النقاش عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكفَّار لَا يكْتب لَهُم حَسَنَات وَلَا سيئات، وَإِنَّمَا يكْتب ذَلِك للْمُؤْمِنين وَمَا يَفْعَلُونَ من الْحَسَنَات فِي الدُّنْيَا ويكافئون عَلَيْهَا، وَمَا يَفْعَلُونَ من السَّيِّئَات، فالشرك أعظم من ذَلِك كُله.
وَقَوله: ﴿بِنِعْمَة رَبك﴾ أَي: برحمة رَبك.
وَيُقَال: بإنعامه عَلَيْك، كَأَنَّهُ نفى عَنهُ الْجُنُون بِمَا أنعم الله عَلَيْهِ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: أَنْت عَاقل أَو غَنِي بِنِعْمَة الله عَلَيْك.
وَيُقَال: غير مَحْسُوب.
وَيُقَال: غير ممتن بِهِ عَلَيْك.
وَفِي حَدِيث سعد بن هِشَام أَنه سَأَلَ عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن خلق النَّبِي فَقَالَت: " كَانَ خلقه الْقُرْآن ".
أَي: كَانَ مُوَافقا لما نزل بِهِ الْقُرْآن.
وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا قَالَت: " لم يكن رَسُول الله فحاشا وَلَا متفحشا، وَلَا يُجزئ السَّيئَة بِمِثْلِهَا، وَلَكِن يعْفُو ويصفح ".
وَقَالَ السّديّ: وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم أَي: على الْإِسْلَام.
وَقَالَ زيد بن أسلم: على دين عَظِيم، وَهُوَ الدّين الَّذِي رضيه الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ أحب الْأَدْيَان إِلَى الله تَعَالَى.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا، فَمن جَاءَ بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة ".
وَعنهُ أَنه قَالَ: " بعثت لأتمم مصَالح
وَقيل: على خلق عَظِيم أَي: طبع كريم.
وَمَعْنَاهُ: أَيّكُم الْمفْتُون، وَأنْشد شعرًا:
(نضرب بِالسَّيْفِ ونرجوا بالفرج... )
أَي: الْفرج.
وَأما الْفراء والزجاج وَسَائِر النَّحْوِيين لم يرْضوا هَذَا القَوْل، وَذكروا قَوْلَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: ﴿بأيكم الْمفْتُون﴾ أَي: بأيكم الْفِتْنَة يُقَال: مَا لفُلَان مَعْقُول وَلَا مجلود أَي: عقل وَلَا جلد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيكم الْمفْتُون أَي: فِي أَيّكُم الْمفْتُون (يَعْنِي) : فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه، أَو فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا أَبُو جهل وذووه.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تبصرون يَوْم الْقِيَامَة، وتعلمون أَن الْمَجْنُون كَانَ فِيكُم، لَا فِي رَسُول الله وَأَصْحَابه أَي: فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه.
وَذكر النّحاس قَوْلَيْنِ أَيْضا قَالَ: معنى قَوْله ﴿بأيكم الْمفْتُون﴾ أَي: بأيكم فتْنَة الْمفْتُون مثل قَوْله
والمداهنة معاشرة فِي الظَّاهِر، ومحالمة من غير مُوَافقَة الْبَاطِن.
وَقَالَ القتيبي فِي معنى الْآيَة: إِن الْكفَّار قَالُوا للنَّبِي نعْبد مَعَك إلهك مُدَّة، وَتعبد مَعنا إلهنا مُدَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿ودوا لَو تدهن فيدهنون﴾ أَي: تميل إِلَى مُرَادهم فيميلون إِلَى مرادك.
وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الْأسود بن عبد يَغُوث.
وَعَن بَعضهم: هُوَ الْأَخْنَس بن شريق.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم.
وَقَوله: ﴿كل حلاف﴾ أَي: كثير الْحلف.
وَقَوله: ﴿مهين﴾ أَي: حقير، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: قلَّة الرَّأْي والتمييز.
وَقَوله: ﴿مشاء بنميم﴾ أَي: بالنميمة، وَهُوَ نقل الحَدِيث من قوم إِلَى قوم.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة حُذَيْفَة أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات) أَي: نمام.
وَعنهُ
وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: يفْسد النمام فِي يَوْم مَا لَا يُفْسِدهُ السَّاحر فِي شهر.
وَكَانَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ لِبَنِيهِ وَأَهله: من أسلم مِنْكُم قطعت مِنْهُ رفدي ورفقي.
وَقَوله: ﴿مُعْتَد﴾ أَي: متجاوز فِي الظُّلم.
وَقَوله: ﴿أثيم﴾ أَي: كثير الْإِثْم.
وَقيل: الجافي الغليظ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من يعْمل السوء وَيعرف بِهِ.
أوردهُ النقاش.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا أنبئكم بِأَهْل النَّار؟ كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بِاللَّيْلِ حمَار بِالنَّهَارِ، وعالم بالدنيا جَاهِل بِالآخِرَة ".
فَمَعْنَى الجعظري: هُوَ الأكول الشروب الظلوم، وَهُوَ كالعتل.
والجواظ: هُوَ الْجِمَاع المناع، ذكره شَدَّاد بن أَوْس، وَقَالَ ثَعْلَب: الجواظ: هُوَ الْكثير اللَّحْم المختال فِي مشيته.
وَيُقَال: فلَان جظ، أَي: ضخم.
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " تبْكي السَّمَاء من عبد أصح الله جِسْمه، وأرحب جَوْفه، وَأَعْطَاهُ مقضما ثمَّ يكون ظلوما، وتبكي السَّمَاء من شيخ زَان، وتكاد الأَرْض لَا تقله ".
وَقَوله: ﴿بعد ذَلِك زنيم﴾ أَي: دعِي.
وَقيل: ملصق بالقوم وَلَيْسَ مِنْهُم.
وَيُقَال: الَّذِي لَهُ زنمة فِي الشَّرّ يعرف بهَا مثل زنمة الشَّاة.
قَالَ حسان فِي الزنيم:
(زنيم تداعاه الرِّجَال زِيَادَة | كَمَا زيد فِي عرض الْأَدِيم الأكاريع) |
(لما وضعت على الفرزدق ميسمي | وعَلى البعيث جدعت أنف الأخطل) |
وَقيل: يلصق بِهِ عارا ومسبة وشيئا لَا يُفَارِقهُ أبدا.
وَقَوله: ﴿كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة﴾ فِي أَكثر التفاسير أَن هَذَا رجل شيخ بِالْيمن كَانَ لَهُ بنُون، وَله بُسْتَان يتَصَدَّق مِنْهُ على الْمَسَاكِين، وَينْفق مِنْهُ على نَفسه وَأَوْلَاده.
وَيُقَال: كَانَ يتَصَدَّق بِالثُّلثِ، وَينْفق على نَفسه وَأَوْلَاده الثُّلُث، وَيرد الثُّلُث فِي عمَارَة الْجنَّة، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخ قَالَ بنوه: الْعِيَال كثير، والدخل قَلِيل وَلَا يَفِي بِإِعْطَاء الْمَسَاكِين، فتوافقوا على أَن يذهبوا إِلَى الْبُسْتَان حِين يُصْبِحُونَ على سدفة من اللَّيْل، فيصرموا ويقطعوا قبل أَن يعلم الْمَسَاكِين.
وَكَانَ الْمَسَاكِين قد اعتادوا الْحُضُور عِنْد الْجذاذ والصرام؛ فحين اتَّفقُوا على ذَلِك أرسل الله تَعَالَى نَارا من السَّمَاء فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَاحْتَرَقَ الْبُسْتَان وَالْأَشْجَار، وَيُقَال: إِن هَذَا الرجل هُوَ رجل من ثَقِيف.
وَقَوله: ﴿إِذا أَقْسمُوا﴾ أَي: حلفوا.
وَقَوله: ﴿ليصرمنها مصبحين﴾ أَي: يقطعون فِي الْوَقْت الَّذِي قُلْنَا.
وَالْعرب لَا تسْتَعْمل الطَّائِف إِلَّا فِي الْعَذَاب.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى أَمر ملكا حَتَّى اقتلع تِلْكَ الْجنَّة بأشجارها وغروسها فوضعها فِي مَوضِع الطَّائِف الْيَوْم.
وَقَوله: ﴿وهم نائمون﴾ ذكرنَا.
وَيُقَال: كالنهار الَّذِي لَا شَيْء فِيهِ.
وَالْعرب تسمي العامر من الأَرْض نَهَارا لبياضه، والغامر لَيْلًا لسواده وخضرته.
والصريم من الأضداد، هُوَ اسْم لِليْل وَالنَّهَار جَمِيعًا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يقطع عَن صَاحبه.
وَيُقَال: كالصريم أَي: المصروم فَاعل بِمَعْنى مفعول يَعْنِي: أَنه لم يبْق شَيْء فِيهَا.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت لَهُم حروث وأعناب.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم صارمين﴾ أَي: قاطعين.
يُقَال: فِي الْعِنَب الصرام، وَفِي الزَّرْع الْحَصاد.
قَالَ الشَّاعِر:
(غَدَوْت عَلَيْهِ غدْوَة فَوَجَدته | قعُودا عَلَيْهِ بالصريم عواذله) |
وَقد ذكره ابْن فَارس فِي معنى الصريم الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قبل.
وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: خرجت عنق من النَّار من جَوف وَادِيهمْ فأحرقت جنتهم.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم صارمين﴾ قَالَ مُجَاهِد: المُرَاد مِنْهُ صرام الْعِنَب.
وَكَانَ حرثهم الْعِنَب.
وَعَن الشّعبِيّ وسُفْيَان أَنَّهُمَا قَالَا: على غضب.
أَي: على الْمَسَاكِين.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " على حرد " أَي: على منع.
يُقَال: حاردت السّنة فَلَيْسَ فِيهَا مطر، وحاردت النَّاقة إِذا لم يكن بهَا لبن.
وَمعنى الْمَنْع هُوَ مَا عقدوه من منع الْمَسَاكِين.
وَعَن الْحسن فِي رِوَايَة: على حرص.
وَقيل: على قصد.
قَالَ الشَّاعِر:
(أقبل سيل جَاءَ من أَمر الله | يحرد حرد الْجنَّة المغلة) |
وَعَن السّديّ: أَن الحرد اسْم جنتهم.
وَقَوله: ﴿قَادِرين﴾ أَي: قَادِرين عِنْد أنفسهم على الصرام.
وَقيل: " قَادِرين " أَي: على أَمر أسسوه بَينهم.
وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا﴾ أَي: عدلا خيارا.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: أعقلهم.
وَقَوله: ﴿ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون﴾ أَي: هلا قُلْتُمْ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوضع التَّسْبِيح هَا هُنَا مَوضِع الْمَشِيئَة؛ لِأَن التَّسْبِيح هُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن كل سوء.
وَقَوله: إِن شَاءَ الله فِيهِ معنى التَّنْزِيه، وَهُوَ أَنه لَا يملك أحد فعل شَيْء إِلَّا بِمَشِيئَة، فينزه أَن
يكون شَيْء فِي ملكه إِلَّا أَن يُريدهُ.
وَعَن عِكْرِمَة: أَنه كَانَ استثناؤهم هُوَ التَّسْبِيح يَعْنِي: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَكَان قَوْلنَا إِن شَاءَ الله: سُبْحَانَ الله.
وَقَوله: ﴿إِنَّا طنا طاغين﴾ أَي: ظالمين.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى قبل تَوْبَتهمْ وَأَعْطَاهُمْ جنَّة خيرا مِنْهَا.
وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون﴾ أَي: بسؤالنا.
وَقَوله: ﴿ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ أَي: عَذَاب الْآخِرَة.
وَيُقَال: كَمَا عذبنا هَؤُلَاءِ وأنزلنا بهم، كَذَلِك نعذب قُريْشًا وننزله بهم.
وروى فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أنزل الْعَذَاب بهم يَوْم بدر، فَإِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بدر قَالُوا: لنقتلنهم ولنقتلن مُحَمَّدًا ولنأسرنهم، وَنَرْجِع إِلَى مَكَّة فنطوف بِالْبَيْتِ ونحلق رءوسنا، وَنَشْرَب الْخمر، وتعزف على رءوسنا القيان، وحلفوا على ذَلِك، فأخلف الله ظنهم وَنزل بهم مَا نزل من الْقَتْل والأسر.
وَقيل: ترددون النّظر فِيهِ، فتحكمون مِنْهُ لأنفسكم مَا حكمتم.
وَقَوله: ﴿إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾ يَعْنِي: اللُّزُوم والثبات، وَقيل: ألكم أَيْمَان مُؤَكدَة أَلا نعذبكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿إِن لكم لما تحكمون﴾ تَفْسِير لما وَقع عَلَيْهِ الْيَمين.
وَمَعْنَاهُ: عِنْدهم وَفِي زعمهم.
وَقيل: أم بِهَذَا شهد الشُّرَكَاء بِمَعْنى الشُّهَدَاء، ذكره النقاش.
وَقَوله: ﴿فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين﴾ أَي: بشركاء فيهم على زعمهم على القَوْل الأول، وعَلى القَوْل الثَّانِي بشهاداتهم إِن كَانُوا صَادِقين.
(وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق... )
وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْأَمر عبروا بِهَذَا اللَّفْظ؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا وَقع لَهُ الْأَمر وَأَخذه بجد وَجهد يَقُول: شمر عَن سَاقه، فَوضعت السَّاق مَوضِع الشدَّة.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَخُو الْحَرْب إِن عضت بِهِ الْحَرْب عضها... وَإِن شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا)
وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة:
(كميش الْإِزَار خَارج نصف سَاقه... صبور على العوراء (طلاع) أنجد)
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: عَن هول وكربة وَشدَّة، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ أول سَاعَة من سَاعَات الْقِيَامَة، وَهِي أفظعها وأشدها على النَّاس.
هَذَا كُله قَول وَاحِد.
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يكْشف رَبنَا عَن سَاقه فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيذْهب المُنَافِقُونَ ليسجدوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ".
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ نَحوا من هَذَا.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: السّتْر بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَيُقَال: الغطاء بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ومعناهما قريب.
وَقَوله: ﴿وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أَي: لَا يَسْتَطِيع المُنَافِقُونَ: السُّجُود.
وَفِي الْخَبَر: فيعقم أصلابهم أَي أصلاب الْمُنَافِقين وَقَوله: يعقم أَي: يصير طبقًا وَاحِدًا.
وَفِي رِوَايَة: تصير كسفا قيد الْحَدِيد.
وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانَ [يعبدونه] فِي الدُّنْيَا فيتبعونه، وَيبقى أهل التَّوْحِيد فَيُقَال لَهُم: قد ذهب النَّاس فَمَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده.
فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفونه لَو رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم.
فَيُقَال [لَهُم] : كَيفَ تعرفونه وَلم تروه؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّه لَا شبه لَهُ.
فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيبقى المُنَافِقُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُود، وَتصير ظُهُورهمْ كصياص الْبَقر.
فَيَقُول الله تَعَالَى للْمُؤْمِنين: ارْفَعُوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل [مِنْكُم رجلا] من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار ".
وَقَوله: ﴿ترهقهم ذلة﴾ أَي: يَغْشَاهُم الذل والهوان.
وَقَوله: ﴿وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وَهُوَ سَالِمُونَ﴾ أَي: يدعونَ إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة وهم سَالِمُونَ أَي: معافون، والآن السُّجُود لَهُم (مهيات).
وَظَاهر الْآيَة أَن مَعْنَاهَا السُّجُود فِي الصَّلَاة.
وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: هُوَ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يدعونَ إِلَى السُّجُود بحي على الْفَلاح وهم سَالِمُونَ فَلَا يجيبون.
وَقيل ذَرْنِي أَي: لَا تشغل قَلْبك بِهِ، وَدعنِي وإياه فَإِنِّي مجازيه ومكافئه، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
وَالْعرب تَقول مثل هَذَا القَوْل، وَإِن لم يكن هُنَاكَ أحد يمنعهُ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر:
(ذَرِينِي والثعلب أم سعد | تُقِلني الأَرْض (أَو بَيْتك) أمالا) |
وروى عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْخُرَيْبِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: الاستدراج هُوَ إسباغ النعم، وَمنع الشُّكْر.
وَقيل: هُوَ أَنه كلما جدد ذَنبا جدد الله لَهُ نعْمَة.
وَعَن عقبَة بن مُسلم قَالَ: إِذا كَانَ العَبْد على مَعْصِيّة الله ثمَّ أعطَاهُ الله مَا يحب، فَليعلم أَنه فِي اسْتِدْرَاج.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: كم من مستدرج يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، ومغرور يستر الله عَلَيْهِ.
(وَقيل) : سنستدرجهم أَي: نمكر بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.
وَقد بَينا معنى الْإِمْهَال والإملاء من قبل.
وَقَوله: ﴿إِن كيدي متين﴾ أَي: شَدِيد.
وَقَوله: ﴿فهم يَكْتُبُونَ﴾ أَي: يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ وَيَقَع بشهواتهم.
وَيُقَال: لَا تغاضب كَمَا غاضب صَاحب الْحُوت، وَهُوَ ذُو النُّون، واسْمه يُونُس بن مَتى صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم﴾ أَي: مَمْلُوء كربا وغما.
وَيُقَال: كظم الْبَعِير بجرته إِذا حَبسهَا، وَالْمعْنَى: أَنه لم يجد للغم الَّذِي فِي قلبه نفاذا ومساغا فكظم عَلَيْهِ أَي: حَبسه.
وَقَوله: ﴿لنبذ بالعراء﴾ العراء هُوَ وَجه الأَرْض.
وَيُقَال: الْمَكَان الْخَالِي البارز.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ مَذْمُوم﴾ أَي: نبذ غير مَذْمُوم، وَلَوْلَا رَحْمَة ربه لَكَانَ مذموما.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَجعله من الصَّالِحين﴾ أَي: من عباده الصَّالِحين.
وَقد ذكرنَا قصَّته من قبل.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ أَي: يعتانونك، وَمَعْنَاهُ: يصيبونك بأعينهم.
ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا، وَذكره الْفراء أَيْضا فِي كِتَابه.
وروى أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ يجوع نَفسه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يخرج فتمر عَلَيْهِ إبل جَاره أَو غنمه فَيَقُول: مَا أحْسنهَا، وَمَا أعظمها، وَمَا أسمنها وَمثل هَذَا؛ فَيسْقط (مِنْهَا﴾ الْعدة فتهلك.
وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا كَانَ فِي بني أَسد من الْعَرَب وَكَانَ الرجل يعتان إبل الْوَاحِد مِنْهُم أَو الْغنم، ثمَّ يَقُول لغلامه: اذْهَبْ بمكتل وَدِرْهَم لتأْخذ لنا من لَحْمه، وَكَانَ يتَيَقَّن أَنه يسْقط فينحر.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة - وَهُوَ أحسن الْقَوْلَيْنِ - أَن المُرَاد مِنْهَا هُوَ أَنهم ينظرُونَ إِلَيْك نظر الْبغضَاء والعداوة فيكادون من شدَّة نظرهم أَي: يصرعونك ويسقطونك، وَهَذَا على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب.
تَقول الْعَرَب: نظر فلَان نظرا يكَاد يصرعه أَو يَأْكُلهُ، أَو ينظر إِلَيّ فلَان نظرا يكَاد يصرعني أَو يكَاد يأكلني بِهِ أَي: لَو أمكنه أَن يصرعني بِهِ يصرعني أَو يأكلني بِهِ لأكلني.
وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.
وأنشدوا:
(يتلاحظون إِذا الْتَقَوْا فِي موطن | نظرا يزِيل (مَوَاطِن) الْأَقْدَام) |
وَقَوله: ﴿وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون﴾ اسْم سموهُ بِهِ.
وَالْأَظْهَر أَن الْقُرْآن ذكر للْعَالمين.
وَقيل: الرَّسُول مُذَكّر للْعَالمين، وَقد بَينا معنى الْعَالمين من قبل.
وَهِي مَكِّيَّة
وَذكر النقاش فِي كِتَابه بروايته أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعرضت لرَسُول الله قبل أَن أسلم - فمضيت إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته قد سبقني إِلَيْهِ، وَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْت خَلفه - فَقَرَأَ سُورَة الحاقة، فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن، وَأَقُول: هُوَ شَاعِر كَمَا يَقُوله قُرَيْش حَتَّى بلغ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم مَا هُوَ بقول شَاعِر﴾ إِلَى آخر السُّورَة، فَعلمت أَنه لَيْسَ بشاعر، وَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿الحاقة (١) مَا الحاقة (٢) وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة (٣) كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة (٤) فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية (٥) ﴾.سورة القلم
سورة (القَلَم) من السُّوَر المكية، وقد جاءت ببيانِ إعجاز هذا الكتاب للكفار، وتأكيدِ صدقِ نبوَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عندِ الله؛ فلن يستطيع الكفارُ أن يأتوا بمثل هذه الحروف أبدًا، وفي ذلك تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيت له، وخُتمت بتخويفِ الكفار من بطشِ الله، وتوصيةِ النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.
ترتيبها المصحفي
68نوعها
مكيةألفاظها
301ترتيب نزولها
2العد المدني الأول
52العد المدني الأخير
52العد البصري
52العد الكوفي
52العد الشامي
52* سورة (القلم):
سُمِّيت سورة (القلم) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله بـ(القلم).
* سورة {نٓ}:
وسُمِّيت بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا الحرفِ {نٓ}.
1. بيان رِفْعة قَدْرِ النبي عليه السلام (١-٧).
2. تحقير شأن الكافرين، وذمُّهم (٨-١٦).
3. قصة أصحاب الجنَّة (١٧-٣٣).
4. جزاء المؤمنين، وأسئلة إقناعية للكافرين (٣٤-٤٣).
5. تخويف الكفار من بطشِ الله، وتوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر (٤٤ -٥٢).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /292).
تَحدِّي الكفار والمعانِدين بهذا الكتاب، والدلالةُ على عجزِهم عن الإتيان بمثل سُوَرِه، وإبطالُ مطاعنِ المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم، وإثباتُ صدقِه، ومن ثم تسليةُ الله له وتثبيته.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /58).