تفسير سورة الكافرون

تفسير القاسمي

تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي.
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٠٩ – سورة الكافرون
مكية، وآيها ست. قال ابن كثير : ثبت في ( صحيح مسلم ) ١ عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وب ﴿ قل هو الله أحد ﴾ في ركعتي الطواف ". وفي ( صحيح مسلم ) ٢ من حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر ". وروى الإمام أحمد٣ عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة، أو بعض عشرة مرة ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ ﴿ وقل هو الله أحد ﴾ ". وروى الإمام أحمد عن الحارث بن جبلة قال :" قلت : يا رسول الله، علمني شيئا أقوله عند منامي. قال :" إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ فإنها براءة من الشرك ". وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن. قال في ( اللباب ) : ووجه ذلك أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح، فحصل من ذلك أربعة أقسام، وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى، وهي من الاعتقاد، وذلك من أفعال القلوب، فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم. وسيأتي في تفسير الإخلاص سر آخر.
١ وهذان الحديثان أملني التنقيب عنهما ولم أعثر عليهما..
٢ أخرجه بالصفحة رقم ٥٨ من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم ٥٢١٥ (طبعة المعارف)..
٣ ليس من الصحابة من اسنه الحارث بين جبلة كما هنا ولكن هذا الحديث أخرجه عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه بالصفحة رقم ٤٥٦ من الجزء الخامس..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكافرون (١٠٩) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أي المشركون الجاحدون للحق، الذي وضحت حجته واتضحت محجته لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي من الآلهة والأوثان الآن وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ أي الآن وَلا أَنا عابِدٌ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي فيما مضى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ أي فيما تستقبلون أبدا ما أَعْبُدُ أي فيما أستقبل ما عَبَدْتُّمْ أي الآن وفيما أستقبل- هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله. ثم قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله ﷺ في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه ﷺ أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدثوا به أنفسهم. وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات. وآيس نبيّ الله ﷺ مع الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا. إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا. ثم
روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد ابن مينا قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف، رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد! هلم، فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذ منه بحظك. فأنزل الله قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
السورة
وفي رواية: وأنزل الله في ذلك هذه السورة، وقوله: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤- ٦٦]، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
انتهى.
557
وقيل: الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا كما أن الأوليين لنفسها استقبالا قال أبو السعود: وإنما لم يقل (ما عبدت) ليوافق (ما عبدتم) لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى.
وإيثار (ما) في ما أَعْبُدُ على (من) لأن المراد هو الوصف كأنه قيل: ما أَعْبُدُ من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته. وقيل: إن ما مصدرية. أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقيل: الأوليان بمعنى (الذي) والأخريان مصدريتان. وقيل: قوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ تأكيد لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ثانيا تأكيدا لمثله المذكور أولا. انتهى.
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل، لأنها جملة فعلية وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك. ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا وهو قول حسن.
واختار الإمام كون (ما) في الأوليين موصولة وفيما بعدهما مصدرية، قال:
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود. ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة. فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه. والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي؟ وقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ تقرير لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى: وَلِيَ دِينِ تقرير لقوله تعالى:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم، الذي هو الإشراك، مقصور على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا، كما تطمعون فيه. فإن ذلك من المحالات. وأن ديني الذي هو التوحيد، مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
تنبيه:
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
558
على أن الكفر كله ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به. لأن الأديان، ما عدا الإسلام، كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود، وبالعكس.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ (لا يتوارث أهل ملّتين شتّى)
559
سورة الكافرون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الكافرون) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الماعون)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن، وقد نزلت في إعلانِ البراءة من الشرك وأهله، وفي تأييسِ الكفار من أن يعبُدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلهتَهم، بأسلوبٍ بلاغي، وتوكيد بديع، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في مواضعَ كثيرة؛ منها: سُنَّة الفجر، وسُنَّة المغرب، وركعتا الوتر، وقبل النوم.

ترتيبها المصحفي
109
نوعها
مكية
ألفاظها
27
ترتيب نزولها
18
العد المدني الأول
6
العد المدني الأخير
6
العد البصري
6
العد الكوفي
6
العد الشامي
6

* سورة (الكافرون):

سُمِّيت سورة (الكافرون) بهذا الاسم؛ لمجيءِ لفظ {اْلْكَٰفِرُونَ} في فاتحتِها.

* سورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}:

سُمِّيت بسورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ لافتتاحها بهذه الجملة، وقد وردت هذه التسميةُ في عدد من الأحاديث؛ منها:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).
وغيره من الأحاديث.

* سورة (الكافرون) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورةَ (الكافرون) في غيرِ موضع:

* في سُنَّة الفجر:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي ركعتَينِ قبل الفجرِ، وكان يقولُ: «نِعْمَ السُّورتانِ يُقرَأُ بهما في ركعتَيِ الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}»». أخرجه ابن ماجه (١١٥٠).

وجاء عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ النبيَّ ﷺ شهرًا، فكان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه الترمذي (٤١٧).

* في الرَّكعتَينِ بعد الوتر:

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (2635).

* في صلاة الوتر:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في الوترِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ} في ركعةٍ ركعةٍ». أخرجه الترمذي (٤٦٢).

* في سُنَّة صلاة المغرب:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرينَ مرَّةً، يَقرأُ في الرَّكعتَينِ بعد المغربِ وفي الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (992).

* قبل النوم:

عن نَوْفلِ بن فَرْوةَ الأشجَعيِّ: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ: اقرَأْ عند منامِك: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ مِن الشِّرْكِ». أخرجه أبو داود (٥٠٥٥).

* في ركعتَيِ الطَّوافِ خلف مقام إبراهيمَ:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).

البراءة من الشرك (١-٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /407).

تأييسُ الكفَّار من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وإعلانُ البراءة من الشرك وأهله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /580).