تفسير سورة الزلزلة

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الزلزلة
هذه السورة مكية فيقول ابن عباس ومجاهد وعطاء، مدنية في قول قتادة ومقاتل، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة.

سورة الزّلزلة
[سورة الزلزلة (٩٩) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)
الذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ صَغِيرَةٌ حَمْرَاءُ رَقِيقَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَصْغُرُ مَا تَكُونُ إِذَا مَضَى لَهَا حَوْلٌ.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَمِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لودب مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا
وَقِيلَ: الذَّرُّ: مَا يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ مِنَ الْهَبَاءِ.
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها، وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ، لِأَنَّ آخِرَهَا نَزَلَ بِسَبَبِ رَجُلَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا كَوْنَ الْكُفَّارِ يَكُونُونَ فِي النَّارِ، وَجَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَتَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها.
قِيلَ: وَالْعَامِلُ فِيهَا مُضْمَرٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمَلِ الْآتِيَةِ تَقْدِيرُهُ: تُحْشَرُونَ. وَقِيلَ:
اذْكُرْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَحَدَّثْ، انْتَهَى. وَأُضِيفَ الزِّلْزَالُ إِلَى الْأَرْضِ، إِذِ الْمَعْنَى زِلْزَالَهَا
521
الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ وَيَقْتَضِيهِ جِرْمُهَا وَعِظَمُهَا، وَلَوْ لَمْ يُضَفْ لَصَدَقَ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنَ الزِّلْزَالِ وَإِنْ قَلَّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَكْرَمْتُ زَيْدًا كَرَامَةً وَكَرَامَتَهُ وَاضِحٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: زِلْزالَها بِكَسْرِ الزَّايِ وَالْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى: بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْوَسْوَاسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَكْسُورُ مَصْدَرٌ، وَالْمَفْتُوحُ اسْمٌ، وَلَيْسَ فِي الْأَبْنِيَةِ فَعْلَالٌ بِالْفَتْحِ إِلَّا فِي الْمُضَاعَفِ، انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَفْتُوحُ اسْمٌ، فَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مَصْدَرًا جَاءَ عَلَى فَعْلَالٍ بِالْفَتْحِ.
ثُمَّ قِيلَ: قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَتَقُولُ: فَضْفَاضٌ فِي مَعْنَى مُفَضْفَضٍ، وَصَلْصَالٌ:
فِي مَعْنَى مُصَلْصَلٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَيْسَ فِي الْأَبْنِيَةِ إِلَخْ فَقَدْ وُجِدَ فِيهَا فَعْلَالٌ بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ الْمُضَاعَفِ، قَالُوا: نَاقَةٌ بِهَا خَزْعَانٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَلَيْسَ بِمُضَاعَفٍ.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها: جَعَلَ مَا فِي بَطْنِهَا أَثْقَالًا. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَالزَّجَّاجُ وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: أَثْقَالُهَا: كُنُوزُهَا وَمَوْتَاهَا.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْكُنُوزَ إِنَّمَا تَخْرُجُ وَقْتَ الدَّجَّالِ، لَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
، وَقَائِلُ ذَلِكَ يَقُولُ: هُوَ الزِّلْزَالُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَزِلْزَالُ: يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ «١»، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ أَخَذَ الزِّلْزَالَ عَامًّا بِاعْتِبَارِ وَقْتَيْهِ. فَفِي الْأَوَّلِ أَخْرَجَتْ كُنُوزَهَا، وَفِي الثَّانِي أَخْرَجَتْ مَوْتَاهَا، وَصَدَّقَتْ أَنَّهَا زُلْزِلَتْ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا. وَقِيلَ أَثْقَالُهَا كُنُوزُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تُلْقِي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَوْتَاهَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، فَهُوَ زِلْزَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا الزِّلْزَالُ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَشْرَاطِ.
وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها: يَعْنِي مَعْنَى التَّعَجُّبِ لِمَا يَرَى مِنَ الْهَوْلِ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي ظَنِّهِ قَطُّ وَلَا صَدَّقَهُ، وَالْمُؤْمِنُ، وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ، فَإِنَّهُ اسْتَهْوَلَ الْمَرْأَى. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ». قَالَ الْجُمْهُورُ:
الْإِنْسَانُ هُوَ الْكَافِرُ يَرَى مَا لَمْ يَظُنَّ. يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ إِذْ زُلْزِلَتْ وَأَخْرَجَتْ تُحَدِّثُ، وَيَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِنْ إِذَا، فَيَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، أَوِ الْمُكَرَّرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ. تُحَدِّثُ أَخْبارَها: الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَحْدِيثٌ وَكَلَامٌ حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا، فَتَشْهَدُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ صَالِحٍ أَوْ فَاسِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «بِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
، وَمَا جَاءَ
فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: «أتدرون ما
(١) سورة النازعات: ٧٩/ ٦- ٧.
522
أَخْبَارُهَا» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، تَقُولُ عَمِلَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا».
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَوْمٌ التَّحْدِيثُ مَجَازٌ عَنْ إِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا الْأَحْوَالَ مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّحْدِيثِ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَنْظُرَ مَنْ يَقُولُ مَا لَهَا إِلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ، فَيَعْلَمُ لِمَ زُلْزِلَتْ، وَلِمَ لَفَظَتِ الْأَمْوَاتَ، وَأَنَّ هَذَا مَا كَانَتِ الأنبياء يندوا بِهِ وَيُحَدِّثُونَ عَنْهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ:
تُحَدِّثُ بِمَا أَخْرَجَتْ مِنْ أَثْقَالِهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الزَّلْزَلَةَ هِيَ الَّتِي مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ حَدِيثٌ فِي آخِرِهِ تَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي».
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تُحَدِّثُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ إِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، فَتُخْبِرُ أَنَّ أَمْرَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَى، وَأَمْرَ الْآخِرَةِ قَدْ أَتَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُمْ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ. وَتُحَدِّثُ هُنَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تُحَدِّثُ النَّاسَ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَعْلَمَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ عَلَّمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ فَتَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ.
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها: أَيْ بِسَبَبِ إِيحَاءِ اللَّهِ، فَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتُحَدِّثُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ بِتَحْدِيثٍ أَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا أَخْبَارَهَا، عَلَى أَنَّ تَحْدِيثَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لها تحديث بأخبارها، كَمَا تَقُولُ: نَصَحْتَنِي كُلَّ نَصِيحَةٍ بِأَنْ نَصَحْتَنِي فِي الدِّينِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ عَفَشٌ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِأَنَّ رَبَّكَ بَدَلًا مِنْ أَخْبارَها، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ بِأَخْبَارِهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، لِأَنَّكَ تَقُولُ: حَدَّثْتُهُ كَذَا وَحَدَّثْتُهُ بِكَذَا، انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ تَارَةً يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَتَارَةً يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَحَرْفُ الْجَرِّ لَيْسَ بِزَائِدٍ، فَلَا يَجُوزُ فِي تَابِعِهِ إِلَّا الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِعْرَابِ. فَلَا يَجُوزُ اسْتَغْفَرْتُ الذَّنْبَ الْعَظِيمِ، بِنَصْبِ الذَّنْبِ وَجَرِّ الْعَظِيمِ لِجَوَازِ أَنَّكَ تَقُولُ مِنَ الذَّنْبِ، وَلَا اخْتَرْتُ زَيْدًا الرِّجَالَ الْكِرَامِ، بِنَصْبِ الرِّجَالِ وَخَفْضِ الْكِرَامِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: اسْتَغْفَرْتُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمَ، بِجَرِّ الذَّنْبِ وَنَصْبِ الْعَظِيمِ، وَكَذَلِكَ فِي اخْتَرْتُ. فَلَوْ كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ زَائِدًا، جَازَ الْإِتِّبَاعُ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْمِ بِشُرُوطِهِ الْمُحَرَّرَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ عَاقِلًا، لِأَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ، وَمِنْ رَجُلٍ عَاقِلٍ عَلَى اللَّفْظِ. وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ رَجُلٍ وَجَرُّ عَاقِلٍ عَلَى مُرَاعَاةِ جَوَازِ دُخُولِ مِنْ، وَإِنْ وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبَابُهُ الشِّعْرُ. وَعَدَّى أَوْحَى بِاللَّامِ لَا بِإِلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ تَعْدِيَتَهَا بِإِلَى لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ. قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ الْأَرْضَ:
523
أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ
فَعَدَّاهَا بِاللَّامِ. وَقِيلَ: الْمُوحَى إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَوْحَى إِلَى مَلَائِكَتِهِ الْمُصَرِّفِينَ أَنْ تَفْعَلَ فِي الْأَرْضِ تِلْكَ الْأَفْعَالَ. وَاللَّامُ فِي لَهَا لِلسَّبَبِ، أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَمِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فِيهَا. وَإِذَا كَانَ الْإِيحَاءُ إِلَيْهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَحْيَ إِلْهَامٍ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِرَسُولٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ: انْتَصَبَ يَوْمَئِذٍ بَيَصْدُرُ، وَالصَّدْرُ يَكُونُ عَنْ وِرْدٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ كَوْنُهُمْ فِي الْأَرْضِ مَدْفُونِينَ، وَالصَّدْرُ قيامهم للبعث، وأَشْتاتاً: جَمْعُ شَتٍّ، أَيْ فِرَقًا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَعَاصٍ سَائِرُونَ إِلَى الْعَرْضِ، لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الصَّدْرُ قَوْمٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَوْمٌ إِلَى النَّارِ، وَوِرْدُهُمْ هُوَ وِرْدُ الْمَحْشَرِ. فَعَلَى الْأَوَّلِ الْمَعْنَى: لِيُرَى عَمَلَهُ وَيَقِفَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ النَّقَّاشِ: لِيُرَى جَزَاءَ عَمَلِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ.
وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ لِيُرَوْا بِقَوْلِهِ يَصْدُرُ. وَقِيلَ: بِأَوْحَى لَهَا وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْتَاتًا: مُتَفَرِّقِينَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، أَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى حِدَةٍ، وَأَهْلُ كُلِّ دِينٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَشْتَاتًا: بِيضَ الْوُجُوهِ آمِنِينَ، وَسُودَ الْوُجُوهِ فَزِعِينَ، انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشْتَاتًا، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ، لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا عَاضِدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «١».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيُرَوْا بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعِيسَى وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ: بِفَتْحِهَا، وَالظَّاهِرُ تَخْصِيصُ الْعَامِلِ، أَيْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً مِنَ السُّعَدَاءِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرَى خَيْرًا في الآخرة، وتعميم وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من الفريقين، لأنه تقسيم جاء بعد قوله: يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ هذه الأعمال في الآخرة، فيرى الخير كله من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا لِأَنَّ خَيْرَهُ قَدْ عُجِّلَ لَهُ فِي دُنْيَاهُ، وَالْمُؤْمِنُ تعجل له سيآته الصَّغَائِرُ فِي دُنْيَاهُ فِي الْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا، وَمَا عَمِلَ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ رَآهُ. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: مِثْقالَ ذَرَّةٍ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ يَرَاهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَهَذَا يُسَمَّى مَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، بَلْ يَكُونُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «٢». وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ خَيْرًا وَشَرًّا عَلَى التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ مِثْقَالَ ذَرَّةِ مِقْدَارٌ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ مِثْقَالٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٤.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٣.
524
فِيهِمَا، أَيْ يَرَى جَزَاءَهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.
وَقَرَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ حُمَيْدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ: بِضَمِّهَا
وَهِشَامٌ وَأَبُو بَكْرٍ: بِسُكُونِ الْهَاءِ فِيهِمَا وَأَبُو عَمْرٍو: بِضَمِّهِمَا مُشْبَعَتَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِإِشْبَاعِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، وَالْإِسْكَانُ فِي الْوَصْلِ لُغَةٌ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ وَلَمْ يَحْكِهَا سِيبَوَيْهِ، وَحَكَاهَا الْكِسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ بَنِي كِلَابٍ وَبَنِي عَقِيلٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ بَصَرٍ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَيْسَتْ بِرُؤْيَةِ بَصَرٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى يُصِيبُهُ وَيَنَالُهُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: يَرَاهُ بِالْأَلِفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَرَى الْجَزْمَ بِحَذْفِ الْحَرَكَةِ الْمُقَدَّرَةِ فِي حُرُوفِ الْعِلَّةِ، حَكَاهَا الْأَخْفَشُ أَوَ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ لَا شَرْطِيَّةٌ، كَمَا قِيلَ فِي إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَثْبَتَ يَاءَ يَتَّقِي وَجَزَمَ يَصْبِرْ، تَوَّهَمَ أَنَّ مَنْ شَرْطِيَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ، فَجَزَمَ وَيَصْبِرْ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
525
سورة الزلزلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الزَّلْزلة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (النساء)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن؛ كما صح في الحديث، وقد تحدثت عن أهوالِ يوم القيامة، وحالِ الناس يوم البعث، وما يعتريهم من الفزعِ والخوف، وأُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في صلاة الفجر.

ترتيبها المصحفي
99
نوعها
مدنية
ألفاظها
35
ترتيب نزولها
93
العد المدني الأول
8
العد المدني الأخير
9
العد البصري
9
العد الكوفي
8
العد الشامي
9

* سورة (الزَّلْزلة):

سُمِّيت سورة (الزَّلْزلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].

* سورة (الزَّلْزلة) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

* أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجُلًا بقراءة سورة (الزَّلْزلة):

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «أتى رجُلٌ رسولَ اللهِ ﷺ، فقال: أقرِئْني يا رسولَ اللهِ، فقال: «اقرَأْ ثلاثًا مِن ذواتِ {الٓر}»، فقال: كَبِرتْ سِنِّي، واشتَدَّ قلبي، وغلُظَ لساني، قال: «فاقرَأْ ثلاثًا مِن ذواتِ {حمٓ}»، فقال مِثْلَ مقالتِه، فقال: اقرَأْ ثلاثًا مِن (المُسبِّحاتِ)»، فقال مِثْلَ مقالتِه، فقال الرجُلُ: يا رسولَ اللهِ، أقرِئْني سورةً جامعةً، فأقرَأَه النبيُّ ﷺ: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ} حتى فرَغَ منها، فقال الرجُلُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، لا أَزيدُ عليها أبدًا، ثم أدبَرَ الرجُلُ، فقال النبيُّ ﷺ: «أفلَحَ الرُّوَيجِلُ» مرَّتَينِ». أخرجه أبو داود (١٣٩٩).

* ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الزَّلْزلة) في صلاة الفجر:

عن مُعاذِ بن عبدِ اللهِ الجُهَنيِّ: «أنَّ رجُلًا مِن جُهَينةَ أخبَرَه أنَّه سَمِعَ النبيَّ ﷺ يَقرأُ في الصُّبْحِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الرَّكعتَينِ كلتَيْهما، فلا أدري أنَسِيَ رسولُ اللهِ ﷺ أم قرَأَ ذلك عمدًا؟». أخرجه أبو داود (٨١٦).

* كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتَينِ بعد الوترِ يقرأ فيهما (الزلزلة) و(الكافرون):

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (٢٦٣٥).

1. أهوال القيامة وشدائدها (١-٥).

2. مآل الخلائقِ يوم الحساب (٦-٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /287).

إثباتُ البعثِ ووقوعِ القيامةِ وما يعتري الناسَ من الأهوال؛ وبذلك تنكشفُ الأمور، وينقسمُ الناس إلى أشقياءَ وسعداءَ.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /231).