تفسير سورة الممتحنة

تفسير السمعاني

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني.
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم :
تفسير سورة الممتحنة وهي مدنية، والله أعلم.

قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء﴾ نزلت الْآيَة فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب كتابا إِلَى الْمُشْركين يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، وَالْخَبَر فِي ذَلِك مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، عَن عبيد الله بن أبي رَافع قَالَ: سَمِعت غليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " بَعَثَنِي رَسُول الله وَالزُّبَيْر والمقداد بن الْأسود فَقَالَ: انْطَلقُوا إِلَى رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب، فخرجنا [تَتَعَادَى] بِنَا خَيْلنَا حَتَّى بلغنَا رَوْضَة خَاخ، فَوَجَدنَا بهَا ظَعِينَة وَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكتاب. فَقَالَت: مَا معي كتاب. فَقُلْنَا: لتخْرجن الْكتاب أَو لنقلبن ثِيَابك. فأخرجت كتابا من غقاص شعرهَا، فأخذناه وأتينا بِهِ النَّبِي، فَإِذا هُوَ كتاب من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُشْركين بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، فَدَعَا حَاطِبًا وَقَالَ لَهُ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَا تعجل عَليّ، إِنِّي كنت أمرأ مُلْصقًا فِي قُرَيْش يَعْنِي حليفا وَلم اكن من أنفسهم، وَكَانَ من مَعَك من الْمُهَاجِرين لَهُم قراباتهم، قَرَابَات يحْمُونَ بهَا قراباتهم وَلم يكن لي بِمَكَّة قرَابَة، فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِك أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا قَرَابَتي، وَالله مَا فعلته شكا فِي الْإِسْلَام، وَلَا رضَا بالْكفْر، فَقَالَ النَّبِي: " لقد صدقكُم " فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق، فَقَالَ النَّبِي: " إِنَّه قد شهد بَدْرًا، وَلَعَلَّ الله
412
﴿بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ﴾ اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم ".
قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا أَرَادَ غزوا ورى بِغَيْرِهِ ". وَكَانَ يَقُول: " الْحَرْب خدعة " فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَغْزُو مَكَّة كتم أمره أَشد الكتمان، وَكتب حَاطِب بن أبي بلتعة على يَدي امْرَأَة تسمى سارة كتابا إِلَى أهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ بمسير النَّبِي، فَأطلع الله نبيه على ذَلِك، وَكَانَ الْأَمر على مَا بَينا، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فِي الْآيَة دَلِيل على أَن حَاطِب لم يخرج من الْإِيمَان بِفِعْلِهِ ذَلِك.
وَقَوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء﴾ أَي: أعدائي وأعداءكم، وهم مشركو قُرَيْش.
وَقَوله: ﴿تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة﴾ أَي: تلقونَ إِلَيْهِم أَخْبَار النَّبِي وسره بالمودة الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ. وَيُقَال: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالنَّصِيحَةِ، قَالَه مقَاتل. وَقيل: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالْكتاب. وَسمي ذَلِك مَوَدَّة وَكَذَلِكَ النَّصِيحَة؛ لِأَن ذَلِك دَلِيل الْمَوَدَّة.
وَقَوله: ﴿وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق﴾ الْوَاو وَاو الْحَال قَالَه الزّجاج. وَمَعْنَاهُ: وحالهم أَنهم كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق.
وَقَوله: ﴿يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم﴾ أَي: أخرجُوا الرَّسُول وأخرجوكم، وَمعنى الْإِخْرَاج هَاهُنَا هُوَ الإلجاء إِلَى الْخُرُوج.
413
﴿جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (١) إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لَو تكفرون (٢) قد كَانَت لكم﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم﴾ أَي: لأنكم آمنتم بِاللَّه ربكُم.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي﴾ قَالُوا: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي فَلَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء. وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تسروا إِلَيْهِم بالمودة إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿تسرون إِلَيْهِم بالمودة﴾ خبر بِمَعْنى النَّهْي.
وَقَوله: ﴿وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم﴾ أَي: بِمَا أسررتم وَمَا ظهرتم.
وَقَوله: ﴿وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل﴾ أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.
414
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء﴾ مَعْنَاهُ: إِن يظفروا بكم، وَالْعرب تَقول: فلَان ثقف لقف، إِذا كَانَ سريع الْأَخْذ.
وَقَوله: ﴿يَكُونُوا لكم أَعدَاء﴾ أيك يعاملونكم مُعَاملَة الْأَعْدَاء.
وَقَوله: ﴿ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء﴾ أَي: أَيْديهم بِالسَّيْفِ، وألسنتهم بالشتم.
وَقَوله: ﴿وودوا لَو تكفرون﴾ أَي: وأحبوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم﴾ يَعْنِي: أَنكُمْ فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ لأجل قراباتكم وأرحامكم، وَلنْ ينفعكم ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم﴾ أَي: يفصل بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة؛ فيبعث أهل الطَّاعَة إِلَى الْجنَّة، وَأهل الْمعْصِيَة إِلَى النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
414
﴿أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك وَمَا املك لَك من الله من شَيْء رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير (٤) رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا واغفر لنا رَبنَا إِنَّك﴾
415
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد كَانَت لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة﴾ أَي: قدوة حَسَنَة.
وَقَوله: ﴿فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا﴾ الْمَعْنى فِي الْكل: أَنه أَمرهم بِأَن تأسوا بإبراهيم فِي التبرؤ من الْمُشْركين وَترك الْمُوَالَاة مَعَهم.
وَقَوله: ﴿إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك﴾ قَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: اقتدوا بإبراهيم إِلَّا فِي هَذَا [الْموضع]، وَهُوَ استغفاره لِأَبِيهِ الْمُشرك، وَقد بَينا سَبَب اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ من قبل. وَقَوله: ﴿وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء﴾ أَي: لَا أدفَع عَنْك من الله من شَيْء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ.
وَقَوله: ﴿رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير﴾ إِخْبَار عَن إِبْرَاهِيم وَقَومه من الْمُؤمنِينَ يَعْنِي: إِنَّهُم ذَلِك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا﴾ قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: أَي: لَا تعذبنا بأيدي الْكفَّار وَلَا بِعَذَاب من عنْدك، فيظن الْكفَّار أَنا على غير الْحق حَيْثُ عذبنا، فَيصير فتْنَة لَهُم فِي دينهم، ويظنون أَنا كُنَّا على الْبَاطِل؛ لأَنهم يَقُولُونَ لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على الْحق لم يعذبوا وَلم يظفر بهم.
وَقَوله: ﴿واغفر لنا رَبنَا إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة﴾ كرر الْمَعْنى الأول على طَرِيق التَّأْكِيد.
415
﴿أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (٥) لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (٦) عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم (٧) لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يقاتلونكم فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب﴾
وَقَوله: ﴿لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر﴾ أَي: يخَاف الله، وَيخَاف يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد﴾ أَي: المستغني عَنْهُم، الحميد فِي فعاله. وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا خالفوا أمره، وتولوا الْكفَّار لم يعد إِلَى الله من ذَلِك شَيْء.
416
قَوْله تَعَالَى: ﴿عَسى الله﴾ قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتهم مِنْهُم مَوَدَّة﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ تَزْوِيج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان من رَسُول الله. وَقيل: هُوَ إِسْلَام أبي سُفْيَان بن حَرْب، وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي توفّي وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب أَمِير على بعض الْيمن، فَلَمَّا ارْتَدَّت الْعَرَب قَاتل هودا الْحمار وَقَومه على ردتهم، فَكَانَ [هُوَ] أول من يُجَاهد مَعَ الْمُرْتَدين.
وَقَوله: ﴿وَالله قدير﴾ أَي: قَادر على أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبينهمْ مَوَدَّة.
وَقَوله: ﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾ أَي: لما كَانَ مِنْهُم قبل إسْلَامهمْ، وَقبل حُدُوث الْمَوَدَّة بَيْنكُم وَبينهمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ قوم كَانُوا على عهد النَّبِي من الْكفَّار من خُزَاعَة، وَهِي مُدْلِج وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قتيلة [كَانَت كَافِرَة، و] كَانَت
416
﴿المقسطين (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (٩) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن﴾ أم أَسمَاء، فَلم تقبل أَسمَاء هديتها حَتَّى سَأَلت النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرخّص فِي الْقبُول والمكافأة، قَالَه عبد الله بن الزبير.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف، قَالَ قَتَادَة وَغَيره.
وَقَوله: ﴿أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم﴾ أَي: تحسنوا إِلَيْهِم، وتستعملوا الْعدْل مَعَهم أَي: الْمُكَافَأَة.
وَقَوله: ﴿إِن الله يحب المقسطين﴾ أَي: الفاعلين للعدل.
417
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم﴾ أَي: عاونوا على إخراجكم.
وَقَوله: ﴿أَن تولوهم﴾ مَعْنَاهُ: أَن تتولوهم.
وَقَوله: ﴿وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ﴾ أَي: وضعُوا الْمُوَالَاة فِي غير موضعهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات﴾ سماهن مؤمنات قبل وصولهن إِلَى النَّبِي؛ لِأَنَّهُنَّ على قصد الْإِيمَان وَتَقْدِيره، ذكره الْأَزْهَرِي.
وَقَوله: ﴿فامتحنوهن﴾ أَي: اختبروهن. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة " فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين النَّبِي وَبَين الْمُشْركين، وَهُوَ عهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ النَّبِي عَاهَدَ مَعَ الْمُشْركين على أَن من جَاءَهُ مِنْهُم يردهُ (عَلَيْهِم)، وَمن لحق بهم من الْمُؤمنِينَ لم يردوا "، وَأَن الله تَعَالَى نسخ هَذَا الْعَهْد، وَرَفعه فِي النِّسَاء وَأمره بالامتحان. وَقَالَ
417
﴿علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ وَلَا تمسكوا بعصم﴾ بَعضهم: كَانَ الْعَهْد مُطلقًا، وَلم يكن نَص فِي النِّسَاء بردهن عَلَيْهِم. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ قد نَص فِي النِّسَاء أَن يردهن عَلَيْهِم وَإِن جئن مؤمنات، ثمَّ نسخ، وَهُوَ الْأَشْهر، فَكَانَت الَّتِي أَتَت مُؤمنَة مهاجرة بعد الْعَهْد: أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط، وَأما الأمتحان، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن يحلفها أَنَّهَا مَا هَاجَرت إِلَّا جبا لله وَرَسُوله، ورغبة فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لم تهَاجر بِحَدَث أحدثته، وَلَا لِبُغْض زوج، وَلَا لرغبة فِي مَال، وَلَا حبا لإِنْسَان.
وَقَوله: ﴿الله أعلم بإيمانهن﴾ يَعْنِي: إخلاصهن فِي إيمانهن.
وَقَوله: ﴿فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التَّوْفِيق بَين قَوْله: ﴿فَإِن علمتموهن مؤمنات﴾ وَبَين قَوْله: ﴿وَالله أعلم بإيمانهن﴾ ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: ﴿فَإِن علمتموهن مؤمنات﴾ أَي: إِيمَان الْإِقْرَار والامتحان، كأنهن أقررن بِالْإِيمَان، وحلفن عِنْد الامتحان.
وَقَوله: ﴿فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار﴾ أَي: لَا ترودهن.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ﴾ أَي: لَا هن حل للْكفَّار نِكَاحا وَلَا هم يحلونَ للمؤمنات نِكَاحا.
وَقَوله: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا﴾ أوجب الله على الْمُسلمين أَن يردوا على أَزوَاجهنَّ مَا أعطوهن من المهور.
وَقَوله: ﴿وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذْ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ﴾ أَي: مهورهن، وَفِيه دَلِيل على أَن النِّكَاح لَا يكون إِلَّا بِمهْر.
وَقَوله: ﴿وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر﴾ أَي: لَا تمسكوا بِنِكَاح الكوافر، والكوافر جمع الْكَافِر، وَالْمعْنَى: أَن الرجل إِذا أسلم وَهَاجَر إِلَيْنَا، وَخلف امْرَأَته فِي دَار الْحَرْب
418
﴿الكوافر واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم (١٠) وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم فآتوا الَّذين ذهبت﴾ كَافِرَة لم يعْتد بهَا، وَلم يبْق نِكَاح بَينه وَبَينهَا. وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما هَاجر خلف امْرَأتَيْنِ بِمَكَّة مشركتين، فَتزَوج (إحديهما) مُعَاوِيَة، وَالْأُخْرَى صَفْوَان بن أُميَّة.
وَقَوله: ﴿واسألوا مَا أنفقتم﴾ أَي: مَا أعطيتم، وَهَذَا فِي الْمَرْأَة من المسلمات إِذا لحقت بالمشركين، فطالب زَوجهَا الْمُشْركين بِالْمهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا.
وَقَوله: ﴿وليسألوا مَا أَنْفقُوا﴾ أَي: مَا أعْطوا من الْمهْر وَهُوَ مَا قدمنَا، وَلَيْسَ هَذَا معنى الْأَمر وَالْوَاجِب أَن يسْأَلُوا لَا محَالة، وَلَكِن مَعْنَاهُ: إِن سَأَلُوا أعْطوا، وكل هَذَا مَنْسُوخ، وَقد كَانَ ذَلِك عهدا بَين الرَّسُول وَبينهمْ، وَقد ارْتَفع ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
419
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار﴾ أَي: [التحقت] وَاحِدَة من أزواجكم إِلَى الْكفَّار، يَعْنِي: النِّسَاء ﴿فعاقبتم﴾ أَي: غَنِمْتُم. قَالَ القتيبي: مَعْنَاهُ: كَانَت لكم عُقبى خير فِي الْغَنِيمَة والظفرة. وَقُرِئَ: " فعقبتم ". وَهُوَ (بذلك) الْمَعْنى أَيْضا.
قَوْله: ﴿فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا﴾ أَي: مثل الَّذِي أعْطوا من الْمهْر. وَمعنى الْآيَة: أَن امرآة الْمُسلم إِذا التحقت بالمشركين وَلم يردوا الْمهْر، وظفر الْمُسلمُونَ بهم وغنموا، يردون من الْغَنِيمَة الَّتِي أخذُوا مهر الزَّوْج الَّذِي أعطَاهُ.
وَقَوله: ﴿وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ﴾ أَي: مصدقون، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ أَيْضا.
419
﴿أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (١١) يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ﴾
420
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا ايها النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ﴾ الْآيَة وَردت فِي بيعَة النِّسَاء، وَكَانَ قد بَايع الرِّجَال على الْإِيمَان وَالْجهَاد فَحسب، وَبَايع النِّسَاء على هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا، فَروِيَ " أَن النَّبِي قعد على الصَّفَا حِين فتح مَكَّة، وَقعد دونه عمر، وجاءته النِّسَاء يبايعنه، وفيهن هِنْد بنت عتبَة منتقبة مُتَنَكِّرَة، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " إِنَّا نبايعكن على أَن لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا " قَالَت هِنْد: مَا جِئْنَا إِلَيْك وَقد بَقِي فِي قُلُوبنَا شرك، فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَن لَا تسرقن " قَالَت هِنْد: إِنِّي قد أخذت من مَال أبي سُفْيَان هَنَات وهنات وَلَا أَدْرِي أتحللها لي أَو لَا؟ وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا، فَقَالَ: حللتك عَمَّا مضى وَعَما بَقِي. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا لما قَالَت ذَلِك عرفهَا النَّبِي فَقَالَ: " أَو هِنْد بنت [عتبَة] ؟ " قَالَت: نعم، اعْفُ عَمَّا سلف يَا نَبِي الله، عَفا الله عَنْك، فَقَالَ: " إِن الْإِسْلَام يجب مَا قبله "، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وعَلى أَن لَا تزنين " قَالَت هِنْد: أَو تَزني الْحرَّة؟ ! فَضَحِك عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَلا تقتلن أَوْلَادكُنَّ وَالْمعْنَى: لَا تئدن أَوْلَادكُنَّ قَالَت هِنْد: رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا فَقَتَلْتُمُوهُمْ كبارًا وَكَانَ قتل ابْنهَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يَوْم بدر فَلَمَّا _ كَانَ) قَالَ: ﴿وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ﴾ قَالَت هِنْد: مَا علمت الْبُهْتَان إِلَّا قبيحا ". وَمعنى الْآيَة: لَا تلْحق الْمَرْأَة
420
﴿وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن﴾ بزوجها ولدا لَيْسَ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: أَن تلْتَقط ولدا، وَتقول لزَوجهَا: هَذَا وَلَدي مِنْك. وَمن حمل على هَذَا قَالَ: هَذَا أولى، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَلَا يَزْنِين﴾ فقد تضمن الْيَمين عَن الزِّنَا الْيَمين على الْمَعْنى الأول، فَلَا بُد لهَذَا من معنى آخر.
وَقَوله: ﴿يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ﴾ قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْوَلَد إِذا سقط من الْمَرْأَة سقط بَين يَديهَا ورجليها. وَقيل: لِأَن الثدي بَين يدين، والفرج بَين الرجلَيْن، وَالْمَرْأَة تضع وترضع. وَقيل: إِن ذكر الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ على طَرِيق التَّأْكِيد، مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِمَا [قدمت] أَيْدِيكُم﴾ يَعْنِي: بِمَا كسبتم، وَذكر الْأَيْدِي على طَرِيق التَّأْكِيد، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وَلَا تعصينني فِي مَعْرُوف " قَالَت هِنْد: مَا جئْنَاك لنعصيك. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: إِنَّك لتأمر بمكارم الْأَخْلَاق ".
وَأما الْمَعْرُوف فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَمِيع الطَّاعَات، وَالْآخر: أَنه النِّيَاحَة وَمَا يَفْعَله النِّسَاء على الْمَوْتَى من شقّ الْجُيُوب، وخمش الْوُجُوه، وَقطع الشُّعُور، وَمَا أشبه ذَلِك. وَهَذَا القَوْل هُوَ الْأَشْهر، وَقد روته أم عَطِيَّة مُسْندًا إِلَى النَّبِي فسر بالنياحة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " مَا وفت بذلك امْرَأَة إِلَّا أم عَطِيَّة ". وروى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة شهر ابْن حَوْشَب عَن أم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة من النسْوَة قَالَت: " مَا هَذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْبَغِي لنا أَن نَعْصِيك فِيهِ؟ قَالَ: " لَا تنحن " فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن بني فلَان قد أسعدوني على عمي وَلَا بُد من قضائهن، فعاتبته مرَارًا، فَأذن لي فِي قضائهن، فَلم أنح بعد فِي قضائهن وَلَا غَيره حَتَّى السَّاعَة، وَلم يبْق من النسْوَة امْرَأَة إِلَّا وَقد ناحت غَيْرِي ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس المحبوبي
421
﴿واستغفر لَهُنَّ الله إِن الله غَفُور رَحِيم (١٢) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله﴾ أخبرنَا أَبُو عِيسَى، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن أبي نعيم، عَن يزِيد بن عبد [الله] الشَّيْبَانِيّ، عَن شهر بن حَوْشَب.. الحَدِيث: قَالَ أَبُو عِيسَى: وَأم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة هِيَ أَسمَاء بنت يزِيد السكني.
وَقَوله: ﴿فبايعهن واستغفر لَهُنَّ الله﴾ أَي: قد غفر الله لَكِن.
وَقَوله: ﴿إِن الله غَفُور رَحِيم﴾ قد بَينا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة " أَن النَّبِي مَا مس بِيَدِهِ يَد امْرَأَة قطّ إِلَّا يَد امْرَأَة يملكهَا ". وَالْمَشْهُور فِي بيعَة النِّسَاء " أَنه دَعَا بِإِنَاء فِيهِ مَاء وغمس فِيهِ يَده فَجعل كل من بَايَعت غمست فِيهِ يَدهَا " وَقد قيل: " إِنَّه أَخذ بيدهن وَرَاء الثَّوْب " وَالأَصَح هُوَ الأول.
422
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم﴾ فِيهِ رُجُوع إِلَى قصَّة حَاطِب بن أبي بلتعة، وتأكيد النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار. وَقيل: إِن الْآيَة عَامَّة.
وَقَوله: ﴿قوما غضب الله عَلَيْهِم﴾ قيل: هم المُنَافِقُونَ. وَقيل: هم الْيَهُود، وعَلى
422
﴿عَلَيْهِم قد يئسوا من الْآخِرَة كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور (١٣).﴾ القَوْل الأول هم الْمُشْركُونَ.
وَقَوله: ﴿قد يئسوا من الْآخِرَة﴾ أَي: يئسوا من الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَهَذَا فِي الْمُشْركين ظَاهر؛ لأَنهم كَانُوا يُنكرُونَ الْبَعْث، وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر﴾ وَكَذَلِكَ فِي الْمُنَافِقين ظَاهر. وَأما إِذا حملنَا على الْيَهُود، فَالْمُرَاد من الْآيَة هم الْيَهُود الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي، ويعلمون أَنه نَبِي الله، وَيُنْكِرُونَ نبوته حسدا وبغيا. وَمعنى إياسهم من الْآخِرَة هُوَ الْيَأْس من الثَّوَاب؛ لأَنهم إِذا عرفُوا الْحق [وأنكروه] متعنتين عرفُوا حَقِيقَة أَنهم فِي النَّار فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِن الْمَعْنى على هَذَا القَوْل هُوَ أَن الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْجنَّة أكل وَلَا شرب وَلَا استمتاع، فَمَعْنَى الْيَأْس هُوَ يأسهم عَن هَذِه النعم لمَكَان اعْتِقَادهم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور عَن إصابتهم الثَّوَاب، ووصولهم إِلَى الْجنَّة؛ لأَنهم عاينوا الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم أهل النَّار قطعا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور أَنهم لَا يعودون إِلَيْهِم، فعلى القَوْل الأول المُرَاد من الْكفَّار هم الْكفَّار الَّذين مَاتُوا، وعَلى القَوْل الثَّانِي المُرَاد من الْكفَّار هم الْأَحْيَاء مِنْهُم. وَالله أعلم.
423

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (١) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) إِن الله﴾
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ
وَهِي مَدَنِيَّة
424
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).