تفسير سورة الممتحنة

التحرير والتنوير

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب( سورة الممتحنة ). قال القرطبي : والمشهور على الألسنة النطق في كلمة ﴿ الممتحنة ﴾ بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي.
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية ﴿ يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ﴾ إلى قوله ﴿ بعصم الكوافر ﴾. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان. وأضيفت السورة إلى تلك الآية.
وقال السهيلي : أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة. يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر : وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف. كما سميت سورة قد سمع الله ( سورة المجادلة ) بكسر الدال.
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس، أي النساء الممتحنة.
قال في الإتقان : وتسمى ﴿ سورة الامتحان ﴾، ﴿ وسورة المودة ﴾، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده.
وهذه السورة مدنية بالاتفاق.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية. وآياتها طوال.
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة.
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال : قال عمرو بن دينار : نزلت فيه ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ قال سفيان : هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو. حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اه.
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية. وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اه. ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك.
واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري، قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة. فكتب حاطب إلى أهل مكة... إلى آخره، فإن قوله : أفشى، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة. ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين : وقال ابن عطية : نزلت هذه السورة سنة ست.
وقال جماعة : كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات، ودرج عليه معظم المفسرين.
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية. ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم : إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور. عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء.
أغراض هذه السورة
اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخروجهم من بلادهم.
وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه.
وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة.
وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين.
ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة.
وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة.

وَمُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ لِيُعْرَفَ الْتِزَامُهُنَّ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَهِيَ الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ.
وَتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكَاتِ وَهَذَا فِي الْآيَتَيْنِ الْعَاشِرَةِ وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ.
وَالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَأَنَّهُمْ أَشْبَهُوا الْمُشْرِكِينَ وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ.
[١]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي.
اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَثَبَتَ فِي «صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ» أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ حَاطِبُ بِنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ حَاطِبٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
وَحَاصِلُ الْقِصَّةِ مَأْخُوذَةٌ مِمَّا
فِي «صَحِيحِ الْآثَارِ» وَمَشْهُورِ السِّيرَةِ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ تَجَهَّزَ قَاصِدًا مَكَّةَ. قِيلَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ لِأَجْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَقَدِمَتْ أَيَّامَئِذٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ امْرَأَةٌ تُسَمَّى سَارَةٌ مَوْلَاةٌ لِأَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَتْ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَقَالَتْ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كُنْتُمُ الْأَهْلَ وَالْمَوَالِيَ وَالْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ الْمُوَالِي (تَعْنِي مَنْ قُتِلَ مِنْ مَوَالِيهَا يَوْمَ بَدْرٍ). وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِيَ الْحَاجَةُ فَقَدَمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُونِي فَحَثَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى إِعْطَائِهَا، فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا وَحَمَلُوهَا، وَجَاءَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ فَأَعْطَاهَا كِتَابًا لِتُبَلِّغَهُ إِلَى مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، وَآجَرَهَا عَلَى إِبْلَاغِهِ فَخَرَجَتْ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَكَانُوا فُرْسَانًا. وَقَالَ: انْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً وَمَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَخُذُوهُ مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا. فَخَرَجُوا تَتَعَادَى بِهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى بَلَغُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِذَا هُمْ
132
بِالْمَرْأَةِ. فَقَالُوا:
أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقَالُوا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ (يَعْنُونَ أَنَّهُمْ يُجَرِّدُونَهَا) فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حُجْزَتِهَا.
فَأتوا بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِمَنْ كَانَ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي (يُرِيدُ أُمَّهُ وَإِخْوَتَهُ)، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». وَقَالَ: لَا تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إِلَّا خَيْرًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
الْآيَاتِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ مُتَجَسِّسَةً إِذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَمِّنْ يَوْمَ الْفَتْحِ أَرْبَعَةً مِنْهُمْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ لَكِنْ هَذَا يُعَارِضُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْقِصَّةِ مِنْ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا مِنْهَا الْكِتَابَ وَخَلُّوا سَبِيلَهَا»
. وَقَدْ وُجِّهَ الْخِطَابُ بِالنَّهِي إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ تَحْذِيرًا مِنْ إتْيَان مثل فِعْلِ حَاطِبٍ.
وَالْعَدُوُّ: ذُو الْعَدَاوَةِ، وَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ: عَدَا يَعْدُو، مِثْلِ عَفُوٍّ. وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ مِثْلِ قَبُولٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مصَادر قَليلَة. ولكونه عَلَى زِنَةِ الْمَصَادِرِ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَصْدَرِ فَاسْتَوَى فِي الْوَصْفِ بِهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعُ. قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاء: ٧٧]، وَتقدم عَنهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَالْمَعْنَى: لَا تَتَّخِذُوا أَعْدَائِي وَأَعْدَاءَكُمْ أَوْلِيَاءَ. وَالْمُرَادُ الْعَدَاوَةُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْمُؤمنِينَ لم يبدأوهم بِالْعَدَاوَةِ وَإِنَّمَا أَبْدَى الْمُشْرِكُونَ عَدَاوَةَ الْمُؤْمِنِينَ انْتِصَارًا لِشِرْكِهِمْ فَعَدُّوا مَنْ خَرَجُوا عَنِ الشِّرْكِ أَعْدَاءً لَهُمْ. وَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مُتَفَاوِتِينَ فِي مُنَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ خُزَاعَةَ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا موالين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
133
فَمَعْنَى إِضَافَةِ عَدُوٍّ إِلَى يَاء التَّكَلُّم عَلَى تَقْدِيرِ: عَدُوِّ دِينِي، أَوْ رَسُولِي.
وَالِاتِّخَاذُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ صِيغَ الِافْتِعَالُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْأَخْذِ الْمَجَازِيِّ فَأُطْلِقَ عَلَى التَّلَبُّسِ وَالْمُلَازَمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧١]. وَلِذَلِكَ لَزِمَهُ ذِكْرُ حَالٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ لِتَدُلَّ عَلَى تَعْيِينِ جَانِبِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. فَعُومِلَ هَذَا الْفِعْلُ مُعَامَلَةَ صَيَّرَ. وَاعْتُبِرَتِ الْحَالُ الَّتِي بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِلِزُومِ ذِكْرِهَا وَهَلِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهِ إِلَّا حَالٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٤].
وَجُمْلَةُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَتَّخِذُوا، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ أَوْلِياءَ أَوْ بَيَانٍ لِمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تَتَّخِذُوا لِأَنَّ جَعْلَهَا حَالًا يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إِلَى التَّعْجِيبِ مِنْ إِلْقَائِهِمْ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.
وَالْإِلْقَاءُ حَقِيقَتُهُ رَمْيُ مَا فِي الْيَدِ عَلَى الْأَرْضِ. وَاسْتُعِيرَ لِإِيقَاعِ الشَّيْءِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ فِي
مَوْقِعِهِ، أَيْ تَصْرِفُونَ إِلَيْهِمْ مَوَدَّتَكُمْ بِغَيْرِ تَأْمُّلٍ. قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٨٦].
وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: تُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْمَوَدَّةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [الْبَقَرَة: ١٩٥] وَقَوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] وَذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِقَوَّةِ مَوَدَّتِهِمْ لَهُمْ.
وَزِيدَ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهِيَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ إِلَيْهِمْ أَوْ مِنْ عَدُوِّي.
«وَمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» هُوَ الْقُرْآنُ وَالدِّينُ فَذُكِرَ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا أَتَاهُمْ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيذَانِ بِتَشْنِيعِ كُفْرِهِمْ بِأَنَّهُ كُفْرٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكْفُرَ بِهِ طُلَّابُ الْهُدَى فَإِنَّ الْحَقَّ مَحْبُوبٌ مَرْغُوبٌ.
134
وَتَعْدِيَةُ جَاءَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُمِ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِذِلِكَ الْحَقِّ وَتَقَبَّلُوهُ فَكَأَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى غَيْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّهُ جَاءَ لِدَعْوَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَالْمُشْرِكِينَ فَقَبِلَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَنَبَذَهُ الْمُشْرِكُونَ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافرين بِهِ ناشىء عَنْ حَسَدِهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَهُمْ.
وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِلْهَابٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَحْذَرُوا مِنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كَفَرُوا، أَيْ لَمْ يَكْتَفُوا بِكُفْرِهِمْ بِمَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ فَتَلَبَّسُوا مَعَهُ بِإِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِخْرَاجِكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، أَيْ هُوَ اعْتِدَاءٌ حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ أَنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ. وَأَنَّ ذَلِكَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ إِيمَانَكُمْ لَا يَضِيرُهُمْ. وَلِذَلِكَ أُجْرِيَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَصْفُ رَبِّكُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ١- ٣] ثُمَّ قَالَ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الْكَافِرُونَ: ٦].
وَحُكِيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ الْحَالَةِ لَأَنَّ الْجُمْلَةَ لَمَّا وَقَعَتْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ وَقَدْ كَفَرُوا كَانَ إِخْرَاج الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَمَلًا فَظِيعًا، فَأُرِيدَ اسْتِحْضَارُ صُورَةِ ذَلِكَ الْإِخْرَاجِ الْعَظِيمِ فَظَاعَةَ اعْتِلَالِهِمْ لَهُ.
وَالْإِخْرَاجُ أُرِيدَ بِهِ: الْحَمْلُ عَلَى الْخُرُوجِ بِإِتْيَانِ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ تَضْيِيقٍ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَأَذًى لَهُمْ.
وَأُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَى ضَمِيرِ الْعَدُوِّ كُلِّهِمْ لَأَنَّ جَمِيعَهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ. وَرُبَّمَا أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَالْإِخْرَاجُ مَجَازٌ فِي أَسْبَابِهِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِمَجْمُوعِهَا لَا تَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَجْمُوعُهَا هُوَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تُؤْمِنُوا، لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ مَا سَبَّبَ لَهُمُ الْخُرُوجَ مِنْ بِلَادِهِمْ.
135
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي شَرْطٌ ذُيِّلَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ. وَهَذَا مَقَامٌ يُسْتَعْمَلُ فِي مِثْلِهِ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ التَّتْمِيمِ لِمَا قَبْلَهُ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ مَا قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ، أَيْ لَا يُقْصَدُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِعْلُ الشَّرْطِ انْتَفَى مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الشُّرُوطِ بَلْ يَقْصِدُ تَأْكِيدَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَيَكُونُ كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ فِي صُورَةِ الشَّرْطِ مَعَ ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِحُصُولِ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَيْثُ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ غَيْرُ مَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ فَتَكُونُ صِيغَةُ الشَّرْطِ مُرَادًا بِهَا التَّحْذِيرُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فِي الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرْطِ يَلْزَمُهُ التَّرَدُّدُ غَالِبًا. وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ وَاثِقًا بِحُصُولِ مَضْمُونِهِ مُتَحَقِّقًا صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ قَبْلَ الشَّرْطِ. كَمَا ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٥١]، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ فَتَكُونُ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ مَعَ أَنَّهُمْ مُتَحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ فَطَمِعُوا فِي مَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ لِتَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ فِي مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ وَتَكُونُ أَدَاةُ الشَّرْطِ مِثْلَ (إِذْ) أَوْ لَامِ التَّعْلِيلِ.
وَقَدْ يَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مَنْ يُظْهِرُ وُجُوبَ الْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى مَا حَصَلَ مِنْ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَنْ لَا يُخَالِفَ مُقْتَضَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الْأَنْفَال: ٤١] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا [الْأَنْفَال: ٤١]، أَيْ فَإِيمَانُكُمْ وَيَقِينُكُمْ مِمَّا أَنْزَلْنَا يُوجِبَانِ أَنْ تَرْضَوْا بِصَرْفِ الْغَنِيمَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ. وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ إِذَا تَتَبَّعْتَ مَوَاقِعَهُ.
وَيَغْلِبُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ فِعْلَ كَوْنٍ إِيذَانًا بِأَنَّ الشَّرْطَ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ.
وَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَالْمَقْصُودُ اسْتِقْرَارُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ عَدُوِّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَعَقَّبَ بِفَرْضٍ شَرْطُهُ مَوْثُوقٌ بِأَنَّ الَّذِينَ نُهُوا مُتَلَبِّسُونَ بِمَضْمُونِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ مِمَّا يَزِيدُ تَأْكِيدَ الِانْكِفَافِ.
وَلِذَلِكَ يُجَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِذْ هُوَ يُشْبِهُ التَّتْمِيمَ وَالتَّذْيِيلَ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
136
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فِي سُورَة الْفرْقَان [٤٢] و (لَوْلَا) فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةُ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ. وَقَالَ هُنَا إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدِلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. اه. يَعْنِي أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ كَلَامِ النَّحْوِيِّينَ وَبَيْنَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ مِنْ جَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِ لَا تَتَّخِذُوا فَإِنَّهُ جَعَلَ جَوَابَ الشَّرْطِ غَيْرَ مَنْوِيٍّ. قُلْتُ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ كَلَامُهُ مِنْ فُرُوقِ اسْتِعْمَالِ الشُّرُوطِ مِثْلَ فُرُوقِ الْخَبَرِ وَفُرُوقِ الْحَالِ الْمُبَوَّبِ لِكِلَيْهِمَا فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ». وَكَلَامُ النُّحَاةِ جَرَى عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَتَأَخَّرُ عَنْ جَوَابِهَا نَحْوَ: اقْبَلْ شَفَاعَةَ فُلَانٍ إِنْ شَفِعَ عِنْدَكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَطَلَّبَ لِتَقْدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ إِذَا حُذِفَ نُكْتَةٌ فِي غَيْرِ مَا جَرَى عَلَى اسْتِعْمَالِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَالتَّتْمِيمِ.
وَأَدَاةُ الشَّرْطِ فِي مِثْلِهِ تُشْبِهُ أَنْ الْوَصْلِيَّةَ وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» هُنَا: إِنَّ جُمْلَةَ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي تَعَلُّقَ الْحَالِ بِعَامِلِهَا، أَيْ وَالْحَالُ حَالُ خُرُوجِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْتِغَائِكُمْ مَرْضَاتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْطَ أَنْ. وَ (لَوْ) الْوَصْلِيَّتَيْنِ يُعْتَبَرُ حَالًا. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ شَرْطَهُمَا يَقْتَرِنُ بِوَاوِ الْحَالِ لِأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ وَالزَّمَخْشَرِيَّ سَوَّغَا خُلُوَّ الْحَالِ فِي مِثْلِهِ عَنِ الْوَاوِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَشْهَدُ لَهُمَا.
وَالْمَعْنَى: لَا يَقَعُ مِنْكُمُ اتِّخَاذُ عَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ أَوْلِيَاءَ وَمَوَدَّتُهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، وَأَخْرَجُوكُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي، فَكَيْفَ تُوَالُونَ مَنْ أَخْرَجُوكُمْ وَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ إِيَّاكُمْ لِأَجْلِي وَأَنَا رَبُّكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْخُرُوجِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجَرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ. فَالْخِطَابُ خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ عَلَى طَرِيقَةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ رُوعِيَ فِي هَذَا التَّخْصِيصِ قَرِينَةُ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَادِثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.
وجِهاداً، وابْتِغاءَ مَرْضاتِي مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ.
137
تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهَا فَإِنَّ الْإِسْرَارَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيبِ، فَالتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِيقَاعِ الْخَبَرِ عَقِبَ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّعْجِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِجُمْلَةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، أَيْ كَيْفَ تَظُنُّونَ أَنَّ إِسْرَارَكُمْ إِلَيْهِمْ يَخْفَى عَلَيْنَا وَلَا نُطْلِعُ عَلَيْهِ رَسُولَنَا.
وَالْإِسْرَارُ: التَّحَدُّثُ وَالْإِخْبَارُ سِرًّا.
وَمَفْعُولُ تُسِرُّونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِتَصْوِيرِ حَالَةِ الْإِسْرَارِ إِلَيْهِ تَفْظِيعًا لَهَا.
وَالْبَاءُ فِي بِالْمَوَدَّةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُخْبِرُونَهُمْ سِرًّا بِسَبَبِ الْمَوَدَّةِ أَيْ بِسَبَبِ طَلَبِ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ كَمَا هُوَ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ تُسِرُّونَ وَالْبَاءُ زَائِدَةً لِتَأْكِيدِ الْمَفْعُولِيَّةِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَجُمْلَةُ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُسِرُّونَ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَهَذَا مَنَاطُ التَّعْجِيبِ مِنْ فِعْلِ الْمُعَرَّضِ بِهِ وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ. وَتَقْدِيمُ الْإِخْفَاءِ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَأَنَا أَعْلَمُ. وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْقِصَّةِ.
وأَعْلَمُ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ فَالتَّقْدِيرُ:
أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَمِنْكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ.
وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَهِيَ بِمَعْنَى الْمُصَاحِبَةِ.
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.
138
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، عُطِفَ عَلَى النَّهْيِ التَّوَعُّدُ عَلَى عَدَمِ الِانْتِهَاءِ بِأَنَّ مِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ ضَالٌّ عَنِ الْهُدَى.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي يَفْعَلْهُ عَائِدٌ إِلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي أَيْ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ فَهُوَ قَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وسَواءَ السَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِأَعْمَالِ الصَّلَاحِ وَالْهُدَى لِشَبَهِهَا بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي الَّذِي يَبْلُغُ مَنْ سَلَكَهُ إِلَى بُغْيَتِهِ وَيَقَع من انحرف عَنْهُ فِي هَلَكَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ضَلَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَضَلَّ عَنِ الرُّشْدِ.
ومِنَ شُرْطِيَّةٌ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ وَهُوَ وَعِيدٌ لِلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّوْبِيخُ والتفظيع لعمله.
[٢]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٢]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢)
تُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمُفَادِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:
١] بِاعْتِبَارِ بَعْضَ مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَهُوَ الضَّلَالُ عَنِ الرُّشْدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى وَيُظَنُّ أَنَّ فِي تَطَلُّبِ مَوَدَّةِ الْعَدُوِّ فَائِدَةٌ، كَمَا هُوَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٤١]، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مُوَالَاتَهُمْ مِنَ الدَّهَاءِ وَالْحَزْمِ رَجَاءَ نَفْعِهِمْ إِنْ دَالَتْ لَهُمُ الدَّوْلَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَ هَذَا الظَّنِّ، وَأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَفَادُوا مِنْ مَوَدَّتِهِمْ إِيَّاهُمْ إِطِّلَاعًا عَلَى قُوَّتِهِمْ فَتَأَهَّبُوا لَهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَرْقَبُوا فِيهِمْ إِلَّا وَلَا ذِمَّةٍ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُمْ لَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ لِأَنَّ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ زَمَنًا يَعْسُرُ أَنْ يَنْقَلِبَ وَدُودًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَنَقِ عَلَى مَا لَقَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِبْطَالِ دِينِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيرِ أَهْلِهِ وَأَصْنَامِهِمْ.
وَفِعْلُ يَكُونُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ قَدِيمَةٌ وَأَنَّهَا تَسْتَمِرُّ.
وَالْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِكْثَارِ لِمَا شَاعَ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَثِيرِ بِالْوَاسِعِ وَالطَّوِيلِ، وَتَشْبِيهِ ضِدِّهِ
وَهُوَ الْقَبْضُ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَبَسْطُ الْيَدِ الْإِكْثَارُ مِنْ عَمَلِهَا.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: عَمَلُ الْيَدِ الَّذِي يَضُرُّ مِثْلُ الضَّرْبِ وَالتَّقْيِيدِ وَالطَّعْنِ، وَعَمَلِ اللِّسَانِ الَّذِي يُؤْذِي مِثْلِ الشَّتْمِ وَالتَّهَكُّمِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: بِالسُّوءِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ يَبْسُطُوا الَّذِي مَفْعُولُهُ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَكُونُوا، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ وَهُمْ قَدْ وَدُّوا مِنَ الْآنِ أَنْ تَكْفُرُوا فَكَيْفَ لَوْ يَأْسِرُونَكُمْ أَلَيْسَ أَهَمُّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، فَجُمْلَةُ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْطُوفٍ مُقَدَّرٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً إِلَى آخِرِهِ، وَيَرُدُّوكُمْ كُفَّارًا، وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ مَحَبَّتَهُمْ أَنْ يَكْفُرَ الْمُسْلِمُونَ مَحَبَّةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ فِعْلُ وَدُّوا مَاضِيًا وَلَمْ يَقَعْ مُضَارِعًا مِثْلَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِمَّا فِي كِتَابِ «الْإِيضَاحِ» لِلْقَزْوِينِي فِي بَحْثِ تَقْيِيدِ الْمُسْنَدِ بِالشَّرْطِ، إِذِ اسْتَظْهَرَ أَنْ يَكُونَ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ.
وَنَظَّرَهُ بِجُمْلَةِ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١١١]. فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ بِ (ثُمَّ) فِيهَا عَطْفٌ عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَجَوَابِهِ لَا عَلَى جُمْلَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ.
ولَوْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ فَفِعْلُ تَكْفُرُونَ مُؤَوَّلٌ بِمَصْدَرٍ، أَيْ ودّوا كفركم.
[٣]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٣]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
تَخَلَّصَ مِنْ تَبْيِينِ سُوءِ عَاقِبَةِ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِلَى بَيَانِ سُوءِ
140
عَاقِبَةِ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ فِي الْآخِرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ حُسْنِ التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: ٢] الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ وِدَادَتَهُمْ كُفْرَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَثْقَفُوكُمْ تَنْقَلِبُ إِلَى أَنْ يُكْرِهُوكُمْ عَلَى الْكفْر حِين يثقفونكم، فَلَا تنفعكم ذَوا أَرْحَامِكُمْ مِثْلُ الْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ، وَلَلْأُمِّ، وَلَا أَوْلَادُكُمْ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ إِنْ كَانُوا قَدْ نَفَعُوكُمْ فِي الدُّنْيَا بِصِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَنُصْرَةِ الْأَوْلَادِ.
فَجُمْلَةُ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ سُؤَالٍ مَفْرُوضٍ مِمَّنْ يَسْمَعُ جُمْلَةَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: ٢]، أَيْ مِنْ حَقِّ ذَلِكَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ آثَارِهِ لِخَطَرِ أَمْرِهَا.
وَإِذَا كَانَ نَاشِئًا عَنْ كَلَامٍ جَرَى مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة: ١]، فَهُوَ أَيْضًا مُفِيدٌ تَعْلِيلًا ثَانِيًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَلَوْلَا إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَادَ ذَلِكَ حُسْنًا أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ حَاطِبِ ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ مِمَّا عُدَّ عَلَيْهِ هُوَ مُوَالَاةٌ لِلْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ اعْتَذَرَ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتَهُ (أَي أمه وأخواته). وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ فِي نَفْيِ النَّفْعِ بِذِكْرِ الْأَرْحَامِ لِمُوَافَقَةِ قِصَّةِ حَاطِبٍ لِأَنَّ الْأُمَّ ذَاتُ رَحِمٍ وَالْإِخْوَةُ أَبْنَاؤُهَا هُمْ إِخْوَتُهُ مِنْ رَحِمَهِ.
وَأَمَّا عَطْفُ وَلا أَوْلادُكُمْ فَتَتْمِيمٌ لِشِمُولِ النَّهْيِ قَوْمًا لَهُمْ أَبْنَاءٌ فِي مَكَّةَ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْحَامِ: ذَوُو الْأَرْحَامِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ لِظُهُورِ الْقَرِينَةِ.
ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظَرْفٌ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ، وَفِعْلِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ.
إِذْ لَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْعَامِلَيْنِ عَلَى الْمَعْمُولِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِذَا كَانَ ظَرْفًا لِأَنَّ الظُّرُوفَ تَتَقَدَّمُ عَلَى عَوَامِلِهَا وَأَنْ أَبَيْتَ هَذَا التَّنَازُعَ فَقُلْ هُوَ ظَرْفُ تَنْفَعَكُمْ وَاجْعَلْ لِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ظَرْفًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ.
وَالْفَصْلُ هُنَا: التَّفْرِيقُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَضَاءَ. وَالْمَعْنَى: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَوِي أَرْحَامِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٤- ٣٧].
141
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَكُمْ تَرْفُضُونَ حَقَّ اللَّهِ مُرَاعَاةً لَهُمْ وَهُمْ يَفِرُّونَ مِنْكُمْ يَوْمَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، خَطَّأَ رَأْيَهُمْ فِي مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ أَوَّلًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنْ وَالَوْهُ. ثُمَّ خَطَّأَهُ ثَانِيًا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ مَنِ اسْتَعْمَلُوا الْمُوَالَاةَ لِأَجْلِهِمْ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ حَاطِبٌ مِنْ أَيِّ جِهَةِ نَظَرٍ إِلَيْهِ يَكُونُ خَطَأً وَبَاطِلًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بِبِنَاءِ يَفْصِلُ لِلْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَفْصِلُ بِالْبِنَاءِ الْفَاعِل، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ يَفْصِلُ مُشَدَّدَ الصَّادِ مَكْسُورَةً مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُبَالَغَةً فِي الْفَصْلِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَقَامِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ يَفْصِلُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ مَفْتُوحَةً مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ مِنْ فَصَّلَ الْمُشَدِّدِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ.
[٤]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٤]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةُ يُفِيدُ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة: ٢] وَجُمْلَةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ [الممتحنة: ٣]، لِأَنَّهَا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَنَّ الْمُوَجَّهِ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ خَالَفُوا الْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ تُقَوِّي إِثْبَاتَ الْخَطَأِ الْمُسْتَوْجِبِ لِلتَّوْبِيخِ.
ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ بَيَانِ خَطَأِ مَنْ يُوَالِي عَدُوَّ اللَّهِ بِمَا يَجُرُّ إِلَى أَصْحَابِهِ مِنْ مَضَارٍّ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الصَّالِحَةِ بِمِثَالٍ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ وَالِاسْتِقَامَةِ الْقَوِيمَةِ وَنَاهِيكَ بِهَا أُسْوَةٌ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِكَلِمَتَيْ قَدْ كانَتْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ قَدْ مَعَ فِعْلِ الْكَوْنِ يُرَادُ بِهِمَا التَّعْرِيضُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَلَوْمِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا
142
تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ كَقَوْلِ عُمَرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ طَعَنَهُ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ: «قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ يَكْثُرَ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَاجُ بِالْمَدِينَةِ»، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ [ق: ٢٢] تَوْبِيخًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ إِنْكَارٍ لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: ٤٣] وَقَوْلُهُ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الْأَحْزَاب: ٢١].
وَيَتَعَلَّقُ لَكُمْ بِفِعْلِ «كَانَ»، أَوْ هُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَثَلٌ فِي الْيَقِينِ بِاللَّه وَالْغَضَب بِهِ، عَرَفَ ذَلِكَ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى مِنَ الْأُمَمِ، وَشَاعَ بَيْنَ الْأُمَمِ الْمُجَاوِرَةِ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْأَرَامِيِّينَ، وَلَعَلَّهُ بَلَغَ إِلَى الْهِنْدِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْمَ (برهما) معبود البراهة مِنَ الْهُنُودِ مُحَرَّفٌ عَنِ (اسْمِ إِبْرَاهِيمَ) وَهُوَ احْتِمَالٌ.
وَعُطِفَ وَالَّذِينَ مَعَهُ لِيَتِمَّ التَّمْثِيلُ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِينَ مَعَهُ، أَيْ أَنْ يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ تَابِعِينَ لرضى رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الَّذِينَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ مَعَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَاتَّبَعُوا هَدْيَهُ وَهُمْ زَوْجُهُ سَارَةُ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ وَلَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ أَبْنَاءٌ، فَضَمِيرُ إِذْ قالُوا عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ فَهُمْ ثَلَاثَةٌ.
وإِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ بِمَعْنَى حِينَ، أَيِ الْأُسْوَةُ فِيهِ وَفِيهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ.
وَالْمُرَادُ بِالزَّمَنِ: الْأَحْوَالُ الْكَائِنَةُ فِيهِ، وَهُوَ مَا تُبَيِّنُهُ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا الظَّرْفُ وَهِيَ جُمْلَةُ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إِلَخْ.
وَالْأِسْوَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا: الْقُدْوَةُ الَّتِي يُقْتَدَى بِهَا فِي فِعْلٍ مَا. فَوُصِفَتْ فِي الْآيَةِ بِ حَسَنَةٌ وَصْفًا لِلْمَدْحِ لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً قَدْ عُلِمَ مِنْ سِيَاقِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْوَةٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِضَمِّهَا. وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ
143
وَحَرْفُ فِي مُسْتَعَارٌ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ إِذْ جَعَلَ تَلَبُّسَ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِكَوْنِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً، بِمَنْزِلَةِ تَلَبُّسِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ فِي شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَصْفِ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَعْنَى:
قَدْ كَانَ لَكُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَهُ أُسْوَةً فِي حِينِ قَوْلِهِمْ لِقَوْمِهِمْ. فَلَيْسَ قَوْلُهُ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي خَالِدِ العتابي.
وَفِي الرّحمان لِلضُّعَفَاءِ كَافِ (١) لِأَنَّ الْأُسْوَةَ هُنَا هِيَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ لَا أنفسهم.
وبُرَآؤُا بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فُعَلَاءَ جَمْعُ بَرِيءٍ مِثْلُ كَرِيمِ وَكُرَمَاءَ.
وَبَرِيءٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعل من برىء من شَيْء إِذَا خَلَا مِنْهُ سَوَاءً بَعْدَ مُلَابَسَتِهِ أَوْ بِدُونِ مُلَابَسَةٍ.
وَالْمُرَادُ هُنَا التبرؤ من مخالطتهم وَمُلَابَسَتِهِمْ.. وَعطف عَلَيْهِ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَي من الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ بُرَآءُ مِنْ عِبَادَتِهَا.
وَجُمْلَةُ كَفَرْنا بِكُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَانٌ لِمَعْنَى جملَة إِنَّا بُرَآؤُا.
وَضَمِيرُ بِكُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ مَعَ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيُفَسَّرُ الْكُفْرُ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ والمعطوف، أَيْ كَفَرْنَا بِجَمِيعِكُمْ فَكُفْرُهُمْ بِالْقَوْمِ غَيْرُ كُفْرِهِمْ بِمَا يَعْبُدُهُ قَوْمُهُمْ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً وَبَدَا مَعْنَاهُ: ظَهَرَ وَنَشَأَ، أَيْ أَحْدَثْنَا مَعَكُمُ الْعَدَاوَةَ ظَاهِرَةً لَا مُوَارَبَةَ فِيهَا، أَيْ لَيْسَتْ عَدَاوَةٌ فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً بَلْ هِيَ عَدَاوَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَانِيَةٌ بِالْقَوْلِ وَالْقَلْبِ. وَهُوَ أَقْصَى مَا
_________
(١) من شَوَاهِد «الْكَشَّاف» وَصدر الْبَيْت:
وَلَوْلَا هنّ قد سوّمت مهري.
وَقَبله:
144
يَسْتَطِيعُهُ أَمْثَالُهُمْ مِنْ دَرَجَاتِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْلِّسَانِ إِذْ لَيْسُوا بِمُسْتَطِيعِينَ تَغْيِيرِ مَا عَلَيْهِ قَوْمُهُمْ بِالْيَدِ لِقِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ بَيْنَ قَوْمِهِمْ.
والْعَداوَةُ الْمُعَامَلَةُ بِالسُّوءِ وَالِاعْتِدَاءِ.
والْبَغْضاءُ: نَفْرَةُ النَّفْسِ، وَالْكَرَاهِيَةُ وَقَدْ تُطْلَقُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى إِذَا افْتَرَقَتَا، فَذِكْرُهُمَا مَعًا هُنَا مَقْصُودٌ بِهِ حُصُولُ الْحَالَتَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمْ: حَالَةُ الْمُعَامَلَةِ بِالْعُدْوَانِ، وَحَالَةُ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ، أَيْ نُسِيءُ مُعَامَلَتَكُمْ وَنُضْمِرُ لَكُمُ الْكَرَاهِيَة حَتَّى تؤمنوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ إِشْرَاكٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِقَوْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ مَقَالَ الصَّادِقِ فِي قَوْلِهِ، فَالِائْتِسَاءِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُتَرْجِمُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِمَّا فِي النُّفُوسِ، فَالْمُؤْتَسَى بِهِ أَنَّهُمْ كَاشَفُوا قَوْمَهُمْ بِالْمُنَافَرَةِ، وَصَرَّحُوا لَهُمْ بِالْبَغْضَاءِ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَلِمَ يُصَانِعُوهُمْ وَيَغُضُّوا عَنْ كُفْرِهِمْ لِاكْتِسَابِ مَوَدَّتِهِمْ كَمَا فَعَلَ الْمُوَبَّخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمَلِ حِكَايَةِ مَقَالِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ وَجُمْلَةِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦]، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ إِذْ لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِنْسِ قَوْلهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إِلَخْ، فَإِنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ رِفْقٌ بِأَبِيهِ وَهُوَ يُغَايِرُ التَّبَرُّؤَ مِنْهُ، فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ عَنْ قَوْلِهِ: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ الشَّامِلِ لِمَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَهُمْ لِاخْتِلَافِ جِنْسَيِ الْقَوْلَيْنِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فِي سُورَة الْحجر (١) [٥٨، ٥٩]. أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْمٍ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالْإِجْرَامِ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الْجِنْسَانِ اهـ. فَجَعَلَ اخْتِلَافَ جِنْسَيِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُوجِبًا اعْتِبَارَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا. وَفَائِدَةُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِخَطَأِ حَاطِبِ ابْن أَبِي بَلْتَعَةَ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَذِرِينَ فَلْيَكُنْ عُذْرُكُمْ فِي مُوَاصَلَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْ تَوَدُّوا لَهُمُ مَغْفِرَةَ كُفْرِهِمْ بِاسْتِدْعَاءِ سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ إِلَى
_________
(١) فِي المطبوعة (الشُّعَرَاء) وَهُوَ خطأ.
145
الدِّينِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمُصَانَعَةٍ لَا يَفْهَمُونَ مِنْهَا أَنَّهُمْ مِنْكُمْ بِمَحَلِّ الْمَوَدَّةِ وَالْعِنَايَةِ فَيَزْدَادُوا تَعَنُّتًا فِي كُفْرِهِمْ.
وَحِكَايَةُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمِ لِأَبِيهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِكْمَالٌ لِجُمْلَةِ مَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُجَرَّدَ وَعْدِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُ فَبُنِيَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ قَدْ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ.
وَالْوَاوُ فِي وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يجوز أَن تكون لِلْحَالِ أَوْ لِلْعَطْفِ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَمَعْنَى الْحَالِ أَوْضَحُ وَهُوَ تَذْيِيلٌ.
وَمَعْنَى الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْلِكُ الْقُدْرَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
ومِنْ شَيْءٍ عامّ للمغفرة المسئولة وَغَيْرِهَا مِمَّا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ.
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ وَجُمْلَةُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إِلَى آخِرِهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ فَهُوَ مِمَّا أَمَرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَأْتَسُوا بِهِ، وَبِهِ يَكُونُ الْكَلَامُ شَدِيدَ
الِاتِّصَالِ مَعَ قَوْلِهِ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: ٦].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْكَلَامَ وَيَسْتَحْضِرُوا مَعَانِيَهُ لِيَجْرِيَ عَمَلَهُمْ بِمُقْتَضَاهُ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَوْلِ الْعَمَلُ بِالْقَوْلِ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُجَدَّدُ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَيُذَكِّرُ السَّامِعَ مِنْ غَفْلَتِهِ. وَهَذَا تَتْمِيمٌ لِمَا أَوْصَاهُمْ بِهِ مِنْ مُقَاطَعَةِ الْكُفَّارِ بَعْدَ التَّحْرِيضِ عَلَى الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ.
فَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَكُونُ حِكَايَةً لِمَا قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ وَقَوْمُهُ بِمَا يُفِيدُ حَاصِلَ مَعَانِيهِ فَقَدْ يَكُونُ هُوَ مَعْنَى مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ:
146
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨٢].
فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فِي أُمُورِ الْحَيَاةِ بِسُؤَالِهِ النَّجَاحَ فِي مَا يُصْلِحُ أَعْمَالَ الْعَبْدِ فِي مَسَاعِيهِ وَأَعْظَمُهُ النَّجَاحَ فِي دِينِهِ وَمَا فِيهِ قِوَامُ عَيْشِهِ ثُمَّ مَا فِيهِ دَفْعُ الضُّرِّ. وَقَدْ جَمَعَهَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ هُنَاكَ فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.
وَهَذَا جَمَعَهُ قَوْلُهُ هُنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ جَمَعَهُ قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَإِنَّ الْمَصِيرَ مَصِيرَانِ مَصِيرٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ وَمَصِيرٌ بَعْدَ الْبَعْثِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي فَإِنَّ وَسِيلَة الطمع هِيَ التَّوْبَة وَقد تضمنها قَوْلُهُ: وَإِلَيْكَ أَنَبْنا.
وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْرِفُوا تَوَجُّهَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِإِرْضَائِهِ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا لَا يَرْضَاهُ وَإِنْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَإِنَّ رِضَى اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا دُونَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى التَّوَكُّلِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٥]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٣١].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، وَهُوَ قَصْرٌ بَعْضُهُ ادِّعَائِيٌّ وَبَعْضُهُ حَقِيقِيٌّ كَمَا تُصْرَفُ إِلَيْهِ الْقَرِينَةُ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنا إِظْهَارٌ لِلتَّضَرُّعِ مَعَ كُلِّ دَعْوَةٍ مِنَ الدَّعْوَات الثَّلَاث.
[٥]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٥]
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
الْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَال وفساده، وَهِي اسْمُ مَصْدَرٍ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، [الْبَقَرَة: ١٩١] وَتَجِيءُ وَصْفًا لِلْمَفْتُونِ وَالْفَاتِنِ.
147
وَمَعْنَى جَعْلِهِمْ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: جَعْلُهُمْ مَفْتُونِينَ يَفْتِنُهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَيُصَدَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَيُفْتَنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج:
١٠] إِلَخْ. وَيُصَدَّقُ أَيْضًا بِأَنْ تَخْتَلَّ أُمُورُ دِينِهِمْ بِسَبَبِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ بِمَحَبَّتِهِمْ وَالتَّقَرُّبِ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ دُعَاءِ مُوسَى إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ [الْأَعْرَاف:
١٥٥].
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْفِتْنَةُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٨٥].
وَاللَّامُ فِي لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِلْمِلْكِ، أَيْ مَفْتُونِينَ مُسَخَّرِينَ لَهُمْ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ فِتْنَةً مَصْدَرًا بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ لَا تَجْعَلْنَا فَاتِنَيْنِ، أَيْ سَبَبَ فِتْنَةٍ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى لَا تُغَلِّبِ الَّذِينَ كَفَّرُوا عَلَيْنَا وَاصْرِفْ عَنَّا مَا يَكُونُ بِهِ اخْتِلَالُ أَمْرِنَا وَسُوءُ الْأَحْوَالِ كَيْلَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاتَنًا الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ مُقَوِّيًا فِتْنَتَهُمْ فَيُفْتَتَنُوا فِي دِينِهِمْ، أَيْ يَزْدَادُوا كُفْرًا وَهُوَ فِتْنَةٌ فِي الدِّينِ، أَيْ فَيَظُنُّوا أَنَّا عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْفِتْنَةُ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى غُرُورٍ فِي الدِّينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٤٩] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١١١].
وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَامُ التَّبْلِيغِ وَهَذِهِ مَعَانٍ جَمَّةٌ أَفَادَتْهَا الْآيَةُ.
وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا.
أَعْقَبُوا دَعَوَاتِهِمُ الَّتِي تَعُودُ إِلَى إِصْلَاحِ دِينِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِطَلَبِ مَا يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَمَا يُوجِبُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ رِضَاهُ يُفْضِي إِلَى عنايته بهم بتسيير أُمُورِهِمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ. وَلِلْإِشْعَارِ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ عَطَفَتْ هَذِهِ الْوَاوُ وَلَمْ تَعْطِفِ الَّتِي قَبْلَهَا.
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
148
تَعْلِيلٌ لِلدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالْإِنَابَةَ وَالْمَصِيرَ تُنَاسِبُ صِفَةَ الْعَزِيزُ إِذْ مِثْلُهُ يُعَامِلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَطَلَبَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةً بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهِ يُنَاسِبُ صِفَةَ الْحَكِيمُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَهَلُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةَ الْكَافِرِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ رَأَوْا أَنَّ حِكْمَتَهُ تُنَاسِبُهَا إِجَابَةُ دُعَائِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحهمْ وَقد جاؤوا سائلينه.
[٦]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٦]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)
تَكْرِيرُ قَوْلِهِ آنِفًا قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: ٤] إِلَخْ، أُعِيدَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَةِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ إِلَخْ.
وَقَرَنَ هَذَا التَّأْكِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ كانَ تَاءُ تَأْنِيثٍ مَعَ أَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ أُسْوَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
وَالْإِسْوَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هَمْزَتِهَا فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
لَكُمْ وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ لَكُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] فَلَيْسَ ذِكْرُ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقْتَضِي تَأَسِّيَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنَ وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ.
وَالْقَصْدُ هُوَ زِيَادَةُ الْحَثِّ عَلَى الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَمن مَعَه، وليرتب عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدِ لِمَا نُهُوا عَنْهُ.
فَفِعْلُ يَتَوَلَّ مُضَارِعُ تَوَلَّى، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيهِ بِمَعْنَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ مَنْ لَا يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَيُعْرِضُ عَنْ نَهْيِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ امْتِثَالِهِ. وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ
يَكُونَ مَاضِيهِ مِنَ التَّوَلِّي بِمَعْنَى اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ، أَيْ مَنْ يَتَّخِذُ عَدُوَّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥١].
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْغَنِيُّ تَوْكِيدٌ لِلْحَصْرِ الَّذِي أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغِنَى غَيْرِهِ وَلَا بِحَمْدِهِ، أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْمُتَوَلِّينَ لَأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا نُهُوا عَنهُ إِنَّمَا هُوَ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُفِيدُ اللَّهَ شَيْئًا فَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَإِتْبَاعُ الْغَنِيُّ بِوَصْفِ الْحَمِيدُ تَتْمِيمٌ، أَيِ الْحَمِيدِ لِمَنْ يَمْتَثِلُ أَمْرَهُ وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُ أَوِ الْحَمِيدُ لِمَنْ لَا يَتَّخِذُ عَدُوَّهُ وَلِيًّا عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: ٧].
[٧]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٧]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
اعْتِرَاضٌ وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ تَسْلِيَةً لَهُمْ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ مُوَاصَلَةِ أَقْرِبَائِهِمْ، بِأَنْ يَرْجُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَل قطيعتهم آئلة إِلَى مَوَدَّةٍ بِأَنْ يَسْلَمَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَرَابَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ ذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِإِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ تزوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ بَعْدَ أَنْ تَنَصَّرَ زَوْجُهَا فَلَمَّا تزَوجهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَانَتْ عَرِيكَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَصَرَّحَ بِفضل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ»
(رُوِيَ بِدَالٍ بَعْدَ الْقَافِ يُقَالُ: قَدَعَ أَنْفَهُ. إِذَا ضَرَبَ أَنْفَهُ بِالرُّمْحِ) وَهَذَا تَمْثِيلٌ، كَانُوا إِذَا نَزَا فَحَلٌ غَيْرُ كَرِيمٍ عَلَى نَاقَةٍ
كَرِيمَةٍ دَفَعُوهُ عَنْهَا بِضَرْبِ أَنْفِهِ بِالرُّمْحِ لِئَلَا يَكُونُ نَتَاجُهَا هَجِينًا. وَإِذَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ تزوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ حَبِيبَةٍ فِي مُدَّةِ مُهَاجَرَتِهَا بِالْحَبَشَةِ وَتِلْكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ. يَعْنِي فَتَكُونُ آيَةُ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ إِلَخْ نَزَلَتْ قَبْلَ نِزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ لِحُصُولِ الْمَوَدَّةِ مَعَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، وَحُصُولُ مِثْلِ تِلْكَ الْمَوَدَّة يهيّيء صَاحِبَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاسْتَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ صِحَّةَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وعَسَى فِعْلُ مُقَارَبَةٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي رَجَاءِ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَعْدِ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الرَّجَاءِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ فِي بَعْضِ الْحَوَائِجِ عَسَى أَوْ لَعَلَّ فَلَا تَبْقَى شُبْهَةٌ لِلْمُحْتَاجِ فِي تَمَامِ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١].
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الْأَحْوَالَ فَيَصِيرُ الْمُشْرِكُونَ مُؤْمِنِينَ صَادِقِينَ وَتَصِيرُونَ أَوِدَّاءَ لَهُمْ.
وَعَطَفَ عَلَى التَّذْيِيلِ جُمْلَةَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَيْ يَغْفِرُ لِمَنْ أَنَابُوا إِلَيْهِ وَيَرْحَمُهُمْ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَصِيرُوا أَوِدَّاءَ لَكُمْ كَمَا تَصِيرُونَ أوداء لَهُم.
[٨]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٨]
لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)
اسْتِئْنَافٌ هُوَ مَنْطُوقٌ لِمَفْهُومِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا الْعَدُوُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: ١] وَقَوْلُهُ: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: ٢]، الْمَسُوقَةِ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهِي عَنْ اتِّخَاذِ عَدُوِّ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، اسْتَثْنَى اللَّهُ أَقْوَامًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غَيْرَ مُضْمِرِينَ الْعَدَاوَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ دِينُهُمْ شَدِيدَ الْمُنَافَرَةِ مَعَ دِينِ الْإِسْلَامِ.
151
فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى وَصْفِ الْعَدُوِّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى حَالَةِ مُعَادَاةِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ وَنَظَرْنَا مَعَ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، كَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَى آخِرِهِ، بَيَانًا لِمَعْنَى الْعَدَاوَةِ الْمَجْعُولَةِ عِلَّةً لِلنَّهِي عَنِ الْمُوَالَاةِ وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنَاطَ النَّهْيِ هُوَ مَجْمُوعُ الصِّفَات الْمَذْكُورَة لَا كل صِفَةٍ عَلَى حِيَالِهَا.
وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى أَنَّ وَصْفَ الْعَدُوِّ هُوَ عَدُوُّ الدِّينِ، أَيْ مُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهِ مَعَ ضَمِيمَةِ وَصْفِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، كَانَ مَضْمُونُ لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إِلَى آخِرِهِ تَخْصِيصًا لِلنَّهْيِ بِخُصُوصِ أَعْدَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ أَخْرَجَتْ مِنْ حُكْمِ النَّهْيِ الْقَوْمَ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَاتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا يَجْعَلُ الِاعْتِبَارَيْنِ سَوَاءً فَدَخَلَ فِي حكم هَذِه الْآيَةِ أَصْنَافٌ وَهُمْ حلفاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ خُزَاعَةَ، وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَمُزَيْنَةَ كَانَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مظاهرين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحِبُّونَ ظُهُورَهُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَمِثْلُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَتْ قُتَيْلَةُ (بِالتَّصْغِيرِ وَيُقَالُ لَهَا: قَتَلَةُ، مُكَبَّرًا) بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَهِيَ أُمُّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ إِلَى الْمَدِينَةِ زَائِرَةً ابْنَتَهَا وَقُتَيْلَةُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكَةٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْمُهَادَنَةُ بَيْنَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ (وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا هَذِهِ السُّورَةُ)
فَسَأَلَتْ أَسْمَاءُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَصِلُ أُمَّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»
، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ إِلَخْ، لِأَنَّ وُجُودَ ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ فِي الْمُبْدَلِ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَنْ تَبَرُّوهُمْ يَجْعَلُ بِرَّ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ مِمَّا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ. فَدَخَلَ فِي الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالَّذِينَ شَمَلَتْهُمْ أَحْكَامُ هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّهُمْ قَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ سَبَبُ نُزُولِهَا وَإِنَّمَا هُوَ شُمُولٌ وَمَا هُوَ بِسَبَبِ نُزُولٍ.
152
وَالْبِرُّ: حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَالْإِكْرَامُ. وَهُوَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، يُقَالُ: بَرَّ بِهِ، فَتَعْدِيَتُهُ هُنَا بِنَفْسِهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ. وَضَمَّنَ تُقْسِطُوا مَعْنَى تُفْضُوا فَعُدِّيَ بِ (إِلَى) وَكَانَ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِاللَّامِ. عَلَى أَنَّ اللَّامَ وَ (إِلَى) يَتَعَاقَبَانِ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ، أَيْ أَنْ تُعَامِلُوهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَكُمْ بِهِ مِنَ التَّقَرُّبِ، فَإِنَّ مُعَامَلَةَ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا عَامَلَ بِهِ مِنَ الْعَدْلِ.
وَجُمْلَةُ وإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ تَذْيِيلٌ، أَيْ يُحِبُّ كُلَّ مُقْسِطٍ فَيَدْخُلُ الَّذِينَ يُقْسِطُونَ لِلَّذِينَ حَالَفُوهُمْ فِي الدِّينِ إِذَا كَانُوا مَعَ الْمُخَالَفَةِ مُحْسِنِينَ مُعَامَلَتَهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ قَالَ:
نَسَخَهَا الْقِتَالُ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ، لِأَن بر الْمُؤمن بِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ بِمَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ غَيْرُ مَحَرَّمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عَوْرَةٍ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. اه.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْإِحْسَانِ وَجَوَازُ الاحتفاء بأعيانهم.
[٩]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٩]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
فَلذَلِك لِمَا تَقَدَّمَ وَحَصْرٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَهِيَ تُؤْذِنُ بِانْتِهَاءِ الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جُمْلَةِ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا قَصْرٌ قُلِبَ لِرَدِّ اعْتِقَادِ مَنْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ فِي جَوَازِ صِلَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالَّذِينَ تَحَقَّقَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ هُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ، وأَنْ تَوَلَّوْهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ شَرْطٌ، وَجِيءَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ الْحُكْمِ.
وَالْمُظَاهَرَةُ: المعاونة. وَذَلِكَ أَن أَهْلَ مَكَّةَ فَرِيقَانِ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُ الْمُسْلِمُونَ مَعَهَا الْبَقَاءَ بِمَكَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَيُغْرِي عَلَيْهِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، أَيْ أَنَّ ظُلْمَهُمْ لِشِدَّتِهِ وَوُقُوعِهُ بَعْدَ النَّهْيِ الشَّدِيدِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْأَخْطَاءِ وَالْعِصْيَانِ ظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى حَقِّ الظَّالِمِ نَفْسِهِ.
[١٠]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
لَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِه الْآيَات إِلَى آخِرَ السُّورَةِ نَزَلَتْ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا رَجَّحْنَا أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ وَأَنَّ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ عِنْدَ تَجَهُّزِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحُدَيْبِيَةِ.
وَمُنَاسِبَةُ وُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ مَا قَبْلَهَا، أَيِ النَّهْيُ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ يَتَطَرَّقُ إِلَى مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ عُقُودِ النِّكَاحِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْمُسْلِمُ زَوْجًا لِمُشْرِكَةٍ
وَتَكُونُ الْمُسْلِمَةُ زَوْجًا لِمُشْرِكٍ فَتَحْدُثُ فِي ذَلِكَ حَوَادِثُ لَا يَسْتَغْنِي الْمُسْلِمُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا.
وَقَدْ حَدَثَ عَقِبَ الصُّلْحِ الَّذِي انْعَقَدَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين الْمُشْرِكِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مَجِيءُ أَبِي جندل بن سُهَيْل بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ وَكَانَ مُسلما وَكَانَ مُوَثَّقًا فِي الْقُيُودِ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَكَةَ فَانْفَلَتَ وَجَاءَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ مِنْ شُرُوطِ الصُّلْحِ «أَنَّ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إِذَنِ وَلِيِّهِ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ» فَرده النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ هَارِبَةً مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ مُهَاجِرَةً هَارِبَةً مِنْ
154
زَوْجِهَا صَيْفِيِّ بْنِ الرَّاهِبِ أَوْ مُسَافِرٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَجَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ هَارِبَةً مِنْ زَوْجِهَا ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ وَقِيلَ: حسان بن الدحداحة. وَطَلَبَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ فَجَاءَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ جَاءَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَةِ يَطْلُبُ رَدَّهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ طِينَةَ الْكِتَابِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأبى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ وَاحِدَةً إِلَيْهِمْ وَبَقِيَتْ بِالْمَدِينَةِ فَتَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَتزَوج سبيعة عمر رَضِي الله عَنهُ (١) وَتَزَوَّجَ أُمَيْمَةَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ (٢).
وَجَاءَتْ زَيْنَبُ بنت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمَةً وَلَحِقَ بِهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ سِنِينَ مُشْرِكًا ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْمَدِينَةِ فَردهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ: هَلْ كَانَ النَّهْيُ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ أَنْ يَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ نَسْخًا لما تضمنته شَرط الصُّلْحِ الَّذِي بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين الْمُشْرِكِينَ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ غَيْرَ مُصَرَّحٍ فِيهِ بِإِرْجَاعِ النِّسَاءِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةٌ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَاعْتُبِرَ مُجْمَلًا وَكَانَ النَّهْيُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانًا لِذَلِكَ الْمُجْمَلُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصُّلْحَ صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّ مَنْ جَاءَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهِ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ يُرَدُّ إِلَى وَلِيِّهِ. فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَ صَرِيحًا وَكَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا فعله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالَّذِي فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ خَلِيٌّ مِنْ هَذَا التَّصْرِيحِ وَلِذَلِكَ كَانَ لَفْظُ الصُّلْحِ مُحْتَمِلًا لِإِرَادَةِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا ضَمَائِرُ تَذْكِيرٍ.
وَقَدْ
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَذِينَ سَأَلُوهُ إِرْجَاعَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَطَلَبُوا تَنْفِيذَ شُرُوطِ الصُّلْحِ: إِنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ
فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَشْرِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ إِذَا جَاءَهُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ وَإِيذَانًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ شَرْطَهُمْ غَيْرُ نَصٍّ، وَشَأْنُ شُرُوطُ الصُّلْحِ الصَّرَاحَةُ لِعِظَمِ أَمْرِ الْمُصَالَحَاتِ وَالْحُقُوقِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَذْهَلَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الِاحْتِيَاطِ فِي شَرْطِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالنِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُنَّ مخرجا وتأييدا لرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا لِقَصْدِ أَنْ يَشْتَرِكَ مَنْ يُمْكِنُهُ الِاطِّلَاعُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ تَعَاوُنًا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْلِيفِ يَرْجِعُ كَثِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ نِسَائِهِمْ.
_________
(١) فِي المطبوعة: «سهل بن حنيف» والمثبت من «تَفْسِير الْبَغَوِيّ» (٤/ ٣٣٣) و «الْإِصَابَة» (٤/ ٣٢٥).
(٢) انْظُر «الْإِصَابَة» (٤/ ٢٣٩).
155
وَالِامْتِحَانُ: الِاخْتِبَارُ. وَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ إِيمَانِهِنَّ.
وَجُمْلَةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ مُعْتَرِضَةٌ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سَرَائِرَهُنَّ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَخْتَبِرُوا ذَلِكَ بِمَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ.
وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَى مَا قَبْلَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلَهُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ إِلَخْ، أَيْ إِنْ حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُنَ مُؤْمِنَاتٌ غَيْرُ كَاذِبَاتٍ فِي دَعْوَاهُنَّ. وَهَذَا الِالْتِحَاقُ هُوَ الَّذِي سُمِّيَ الْمُبَايَعَةَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ الْآيَة [الممتحنة: ١٢].
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَقُولُ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: ١٢] وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَتِ الْمُمْتَحَنَةُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ أَنَّهَا مَا خَرَجَتْ بُغْضًا لِزَوْجِهَا، وَلَا رَغْبَةً مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلَا الْتِمَاسَ دُنْيَا، وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَّا، وَلَا بِجَرِيرَةٍ جَرَّتْهَا بَلْ حُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا حَلَفَتْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَى ذَلِكَ أعْطى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا. وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِتَوَلِّي تَحْلِيفِهِنَّ فَإِذَا تَبَيَّنَ إِيمَانُ الْمَرْأَةِ لَمْ يردهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ
. وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ مَوْقِعُ الْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ لِلنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تَحْقِيقًا لِوُجُوُبِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَزَوْجِهَا الْكَافِرِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ النَّهْيِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إِلَى آخِرِهِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَقُومَ بِتَنْفِيذِهِ مَنْ إِلَيْهِ تَنْفِيذُ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَكُلِّ زَمَانٍ وَهُمْ وُلَاةُ الْأُمُورِ مِنْ أُمَرَاءَ وَقُضَاةٍ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا خُوطِبُوا بِهِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْتِزَامُ الْعَمَلِ بِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَالْتِزَامُ الِامْتِثَالِ لِمَا يُقَرِّرُهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ.
156
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْمَلُ لَفْظِ الْحِلِّ وَمَا تصرف مِنْهُ فِي كَلَامُ الشَّارِعِ مُنْصَرِفًا إِلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الْجَوَازُ وَضِدُّ التَّحْرِيمِ.
وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابَاتُ التَّكْلِيفِ بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ فَمُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِمَسْأَلَةِ: خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، مَسْأَلَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهَا بَلْهَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهَا.
وَإِذْ قَدْ عُلِّقَ حُكْمُ نَفْيِ حِلِّ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى حُرْمَةِ دَوَامِ عِصْمَتِهَا عَلَى ضَمِيرِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ. وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ صَالِحِينَ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا التَّحْرِيمِ فَقَدْ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ وَصْفِ الْحِلِّ الْمَنْفِيِّ إِلَى النِّسَاءِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَإِبْدَاءِ وَجْهِ الْإِتْيَانِ بِالْجُمِلَتَيْنِ وَوَجْهِ التَّعَاكُسِ فِي تَرْتِيبِ أَجْزَائِهِمَا. وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ المؤمنة إِلَى الزَّوْج الْكَافِرِ يَقَعُ عَلَى صُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْكفْر، وَذَلِكَ هُوَ مَا أَلَحَّ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ لَمَّا جَاءَتْ بَعْضُ الْمُؤْمِنَاتِ مُهَاجِرَاتٍ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ يُقِيمُ مَعَهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا وَمُنِعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا. وَكِلْتَا الصُّورَتَيْنِ غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَا يُجِيزُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الصُّورَةِ الْأُولَى بِجُمْلَةِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ إِذْ جُعِلَ فِيهَا وَصْفُ حِلٌّ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ النِّسَاءِ وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَهِيَ لَامُ تَعْدِيَةِ الْحِلِّ وَأَصْلُهَا لَامُ الْمِلْكِ فَأَفَادَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الرِّجَالُ الْكُفَّارُ عِصْمَةَ أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ بَقَاءَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ الْكَافِرِينَ غَيْرُ حَلَالٍ، أَيْ لَمْ يُحْلِلْهُنَّ الْإِسْلَامُ لَهُمْ.
وَقُدِّمَ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَةِ الْأَكْثَرِ أَهَمِّيَّةً عِنْدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْأَلُونَ إِرْجَاعَ النِّسَاءِ إِلَيْهِمْ وَيُرْسِلُونَ الْوَسَائِطَ فِي ذَلِكَ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا.
وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حِلٌّ الْمُفِيدَةُ لِثُبُوتِ الْوَصْفِ
157
إِذْ كَانَ الرِّجَالُ الْكَافِرُونَ يَظُنُّونَ أَنَّ الْعِصْمَةَ الَّتِي لَهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَات مثبتة أَنهم حِلٌّ لَهُمْ.
وَعُبِّرَ عَنِ الثَّانِيَةِ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فَعُكِسَ الْإِخْبَارُ بِالْحِلِّ إِذْ جُعِلَ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَعُدِّيَ الْفِعْلُ إِلَى الْمُحَلَّلِ بِاللَّامِ دَاخِلَةٍ عَلَى ضَمِيرِ النِّسَاء فَأفَاد أَنهم لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ الْكَافِرُونَ وَلَوْ بَقَى الزَّوْجُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.
وَلِهَذَا ذُكِرَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ كَالتَّتِمَّةِ لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِدِلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِإِفَادَةِ نَفْيِ الطَّمَاعِيَةِ فِي التَّحْلِيلِ وَلَوْ بِتَجَدُّدِهِ فِي الْحَالِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ أَوِ اتِّفَاقٍ جَدِيدٍ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ إِذْ قَالَ: إِنَّ مُوجِبَ الْفُرْقَةِ هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا اخْتِلَافُ الدِّينِ.
وَيَجُوزُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ نَفْيِ الْحَالِ فَبَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا أَكَّدَ بِجُمْلَةِ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أَيْ أَنَّ انْتِفَاءَ الْحِلِّ حَاصِلٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٧] تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ التَّلَبُّسِ وَالِاتِّصَالِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وَفِي الْكَلَامِ مُحَسِّنُ الْعَكْسِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ بَيْنَ حِلٌّ ويَحِلُّونَ اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ، وَإِنَّمَا يُوَفَّرُ حَظُّ التَّحْسِينِ بِمِقْدَارِ مَا يَسْمَحُ لَهُ بِهِ مُقْتَضَى حَالُ الْبَلَاغَةِ.
وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا.
الْمُرَادُ بِ مَا أَنْفَقُوا مَا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ، وَالْعُدُولُ عَنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُهُورِ وَالْأُجُورِ عَلَى مَا دَفَعَهُ الْمُشْركُونَ لنسائهم اللاء أَسْلَمْنَ مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءَ أَصْبَحْنَ غَيْرَ زَوْجَاتٍ. فَأُلْغِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُهُورِ عَلَى مَا يُدْفَعُ لَهُمْ.
158
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُعْطِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَهُنَّ أُجُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وَالْمُكَلَّفُ بِإِرْجَاعِ مُهُورِ الْأَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِمْ هُمْ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خُصُوصِ قَوْلِهِ: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لِئَلَّا يُظَنُّ أَنَّ مَا دُفِعَ لِلزَّوْجِ السَّابِقِ مُسْقِطٌ اسْتِحْقَاقَ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ مِمَّنْ يَرُومُ تَزْوِيجَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ.
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِبْقَاءِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ فِي عِصْمَتِهِمْ وَهن النِّسَاء اللاء لَمْ يَخْرُجْنَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ لِكُفْرِهِنَّ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍ بِمَكَّةَ، فَطَلَّقَ عُمَرُ امْرَأَتَيْنِ لَهُ بِقَيَتَا بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ، وَهُمَا: قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيَّةُ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَوَافِرِ: الْمُشْرِكَاتُ. وَهُنَّ مَوْضُوعُ هَذِهِ التَّشْرِيعَاتِ لِأَنَّهَا فِي حَالَةٍ وَاقِعَةٍ فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ بَقَاءِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي عِصْمَةِ زَوْجٍ مُشْرِكٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ حُكْمُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَأَيْتُ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْفَقِيهَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أَنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسْوَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: النَّحْوِيُّونَ لَا يَرَوْنَهُ إِلَّا فِي النِّسَاءِ لِأَنَّ كَوَافِرَ جُمَعُ كَافِرَةٍ، فَقَالَ: وَآيْشُ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا، أَلَيْسَ النَّاسُ يَقُولُونَ: طَائِفَةٌ كَافِرَةٌ، وَفِرْقَةٌ كَافِرَةٌ، فَبُهِتُّ وَقُلْتُ: هَذَا تَأْيِيدٌ اه.
وَجَوَابُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ
159
يَمْنَعُ مِنْهُ ضَمِيرَ الذُّكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا فَهُمُ الرِّجَالُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَوَافِرُ نِسَاؤُهُمْ. وَمِنَ الْعَجِيبِ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ: فَبُهِتُّ وَقُلْتُ... إِلَخْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلا تُمْسِكُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ مَكْسُورَةً مُضَارِعُ مَسَّكَ بِمَعْنى أمسك.
وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِحُكْمِهِ، أَيْ كَمَا تُعْطُونَهُمْ مُهُور أَزوَاجهم اللاء فَرَرْنَ مِنْهُمْ مُسَلَّمَاتٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَّتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَةُ مُسْلِمٍ كَافِرَةً وَلَا قُدْرَةَ
لَكُمْ عَلَى إِرْجَاعِهَا إِلَيْكُمْ تَسْأَلُونَ الْمُشْرِكِينَ إِرْجَاعَ مَهْرِهَا إِلَى زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ الَّذِي فَرَّتْ مِنْهُ وَهَذَا إِنْصَافٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْأَمْرُ للْإِبَاحَة.
وَقَوله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا تَكْمِلَة لقَوْله: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ لِإِفَادَةِ أَنَّ مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ هُنَا عَلَى الْمَعِيَّةِ بِالْقَرِينَةِ لِأَن قَوْله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا لَوْ أُرِيدَ حُكْمُهُ بِمُفْرَدِهِ لَكَانَ مُغْنِيًا عَنْهُ قَوْلُهُ: وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، فَلَمَّا كُرِّرَ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ جَمْعُ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ إِذَا أَعْطَوْا مَا عَلَيْهِمْ أَعْطُوهُمْ مَا عَلَيْكُمْ وَإِلَّا فَلَا. فَالْوَاوُ مُفِيدَةٌ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ هُنَا بِالْقَرِينَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ الْمَعِيَّةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ فِي مَعَانِي الْوَاوِ: «اشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا لِلْمَعِيَّةِ. وَقَدْ زَلَّ الْفَرِيقَانِ» اه.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَلَمْ يَرُدُّهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ الْبُرْهَانِ» :«وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا تَأْكُلُ السَّمَكَ وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ»، فَإِنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ تَنَاوُلِ السَّمَكِ وَتَنَاوُلِ اللَّبَنِ فَيَكُونُ الْإِعْرَابُ مُخْتَلِفًا فَإِذَا قَالَ: وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ بِفَتْحِ الْبَاءِ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْجَمْعِ وَيَكُونُ الِانْتِصَابُ بِمَعْنَى تَقْدِيرِ حَرْفِ (أَنْ) اه. وَهُوَ يَرْمِي إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ يَحْتَاجُ إِلَى قَرِينَةٍ.
فَأفَاد قَوْله: وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَبَوْا مِنْ دَفْعِ مُهُورِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَفِرُّونَ إِلَيْهِمْ كَانَ ذَلِكَ مُخَوِّلًا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُعْطُوهُمْ مُهُورَ مَنْ فَرُّوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يُقَالُ فِي الْفِقْهِ: خَيْرَتُهُ تَنْفِي ضَرَرَهُ.
160
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِأحد جانبيه وَيتْرك الْآخَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْعَهْدُ لَأُمْسِكَ النِّسَاءُ وَلَمْ يُرَدُّ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ صَدَاقٌ. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ حَالًا مِنْ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ بِصَاحِبِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يَحْكُمُهُ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِحَاجَاتِ عِبَادِهِ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ إِذْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ التَّرَادِّ فِي الْمُهُورِ شَرْعًا فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ اقْتَضَاهَا اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ الْمُهَادِنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ خَاصًّا بِذَلِكَ الزَّمَانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو بكر الْجَصَّاص.
[١١]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١١]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
عَطْفٌ على جملَة وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: ١٠] فَإِنَّهَا لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى نُزُولِهَا إِبَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا إِلَى أَزوَاج النِّسَاء اللاء بَقَيْنَ عَلَى الْكفْر بِمَكَّة واللاء فَرَرْنَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقْنَ بِأَهْلِ الْكفْر بِمَكَّة مهورهن الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا نِسَاءَهُمْ، عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ رَدِّ تِلْكَ الْمُهُورِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّرَادِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: ١٠].
فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دَفْعِ مُهُورِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ.
161
وَأَصْلُ الْفَوْتِ: الْمُفَارَقَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ، وَالتَّفَاوُتُ: الْمُتَبَاعَدُ. وَالْفَوْتُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِضَيَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ أَوْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
لقد زَاد الْحَيَاة إليّ حبّا بَنَاتِي إنَّهُنَّ من الضِّعَاف
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ
أَيْ فَلَا ضَيَاعَ عَلَيَّ بِمَا أَذْنَبْتُمْ، أَيْ فَإِنَّا كَمَنْ لَمْ يَضِعْ لَهُ حَقٌّ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ فَرَّتْ بَعْضُ أَزْوَاجِكُمْ وَلَحِقَتْ بِالْكُفَّارِ وَحَصَلَ التَّعَاقُبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَعَقَّبْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِ الْكُفَّارِ وَعَقَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ وَأَبَى الْكُفَّارُ مِنْ دَفَعِ مُهُورِ بعض النِّسَاء اللاء ذَهَبْنَ إِلَيْهِمْ، فَادْفَعُوا أَنْتُمْ لِمَنْ حَرَمُهُ الْكُفَّارُ مَهْرَ امْرَأَتَهُ، أَيْ مَا هُوَ حَقُّهُ، واحجزوا ذَلِك عَن الْكُفَّارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مُهُورَ مَنْ فَاتَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ وَبَقِيَ لِلْمُشْرِكِينَ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْكُفَّارِ. هَذَا تَفْسِيرُ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ: الَّذِينَ فَاتَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يُعْطَوْنَ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنْ مَغَانِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى الْإِعْطَاءِ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ
مِنْ مُهُورِ نسَاء الْمُشْركين اللاء أَتَيْنَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَصِرْنَ أَزْوَاجًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْكَلَامُ إِيجَازُ حَذْفٍ شَدِيدٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَلْفَاظِ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ.
وَلَفَظُ شَيْءٌ هَنَا مُرَادٌ بِهِ: بَعْضُ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَيَانٌ لِ شَيْءٌ، وَأُرِيدَ بِ شَيْءٌ تحقير الزَّوْجَات اللاء أَبَيْنَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ قَدْ فَاتَتْ ذَاتُهَا عَنْ زَوْجِهَا فَلَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا.
وَضُمِّنَ فِعْلُ فاتَكُمْ مَعْنَى الْفِرَارِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ إِلَى أَيْ فَرَرْنَ إِلَى الْكُفَّارِ.
162
وَ «عَاقَبْتُمْ» صِيغَةُ تَفَاعُلٍ مِنَ الْعُقْبَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهِيَ النَّوْبَةُ، أَيْ مَصِيرُ أَحَدٍ إِلَى حَالٍ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُ. وَأَصْلُهَا فِي رُكُوبِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ أَنْ يَرْكَبَ أَحَدٌ عُقْبَةً وَآخَرُ عُقْبَةً شَبَّهَ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ أَدَاءِ أُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ بِمَرْكُوبٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ.
فَفِعْلُ ذَهَبَتْ مَجَازٌ مِثْلُ فِعْلِ فاتَكُمْ فِي مَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ هُمْ أَيْضًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: فَلْيُعْطِ الْمُؤْمِنُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مَا يُمَاثِلُ مَا كَانُوا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ لِزَوْجَاتِهِمْ.
وَالَّذِي يَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ هُنَا هُوَ كَمَا قَرَّرَنَا فِي قَوْلِهِ: آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: ١٠] أَيْ يُدْفَعُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَنَائِمِ وَالْأَخْمَاسِ وَنَحْوِهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ: أعْطى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعِيَاضَ بْنَ أَبِي شَدَّادٍ الْفِهْرِيَّ، وَشَمَّاسَ بْنَ عُثْمَانَ، وَهِشَامَ بْنَ الْعَاصِ، مُهُورَ نِسَائِهِمُ اللَّاحِقَاتِ بِالْمُشِرِكِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَأَفَادَ لَفْظُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الْمُعْطَى مُسَاوِيًا لِمَا كَانَ أُعْطَاهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَا نَقْصَ فِيهِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى نِسْوَةٍ مِنْ نِسَاءٍ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يُسْلِمْنَ وَهُنَّ ثَمَانُ نِسَاءٍ: أَمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَيُقَالُ: قُرَيْبَةُ وَهِيَ أُخْتُ أَمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ،
وَبَرَوْعُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمُحَدِّثُونَ يَكْسِرُونَهَا) بِنْتُ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ وَشَهْبَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَقِيلَ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ وَهِنْدُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَرْوَى بْنِتُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ وَبَقِيَتْ زَوْجُهُ مُشْرِكَةً بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ طَلَّقَهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.
163
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ زَوْجَتَيْهِ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ جَرْوَلٍ، فَلَمْ تَكُونَا مِمَّنْ لَحِقْنَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَتَا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ طَلَّقَهُمَا عُمَرُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ جَمِيعَهُنَّ إِنَّمَا طَلَّقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠].
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَأَنْ لَا يَصُدَّهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِبَعْضِهِ مُعَامَلَةُ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْجَوْرِ وَقِلَّةِ النُّصْفَةِ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْمُسْلِمُونَ لِإِخْوَانِهِمْ مُهُور النِّسَاء اللاء فَارَقُوهُنَّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْرِكُونَ بِإِعْطَائِهِمْ مُهُورَهُنَّ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ انْتَفَى مِنْهُمْ وَازِعُ الْإِنْصَافِ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي الصِّلَةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ثبات إِيمَانهم.
[١٢]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١٢]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
هَذِهِ تَكْمِلَةٌ لِامْتِحَانِ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الْآيَة [الممتحنة: ١٠]. وَبَيَانٌ لِتَفْصِيلِ آثَارِهِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وَبَيِّنُوا لَهُنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. وَآيَةُ الِامْتِحَانِ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَأْنِ مَنْ هَاجَرْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَهُنَّ:
أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا صِحَّةَ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْشَؤُهَا التَّخْلِيطُ فِي الْحَوَادِثِ وَاشْتِبَاهُ الْمُكَرَّرِ بِالْأُنُفِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ
164
مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ بَايَعْتُكِ
. وَالْمُقْتَضَى لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتْ أَحْكَامُ الدِّينِ فِي مُدَّةِ سِنِينَ لَمْ يَشْهَدْنَ فِيهَا مَا شَهِدَهُ الرِّجَالُ مِنِ اتِّسَاعِ التَّشْرِيعِ آنًا فَآنًا، وَلِهَذَا ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بِالنِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيْ قَدِمْنَ عَلَيْكَ مِنْ مَكَّةَ فَهِيَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: ١٠]. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا.
وأجرى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْبَيْعَةَ عَلَى نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَيْضًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً
الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْخطْبَة فَنزل نبيء اللَّهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ»
. وَأَجْرَى هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ عَلَى الرِّجَالِ أَيْضًا.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كُنَّا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا، وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ (أَيِ النَّازِلَةَ بِخِطَابِ النِّسَاءِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ) فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»
. وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمُبَايَعَةِ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا رِجَالًا وَنِسَاءً فَجَلَسَ ثَانِي يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى الصَّفَا يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
165
وَجَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ بَايَعَتْهُ مِنَ النِّسَاءِ يَوْمَئِذٍ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ رَافِعٍ.
وَجُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِناتُ عَلَى مَعْنَى: يُرِدْنَ الْمُبَايَعَةَ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجَوَابُ إِذا فَبايِعْهُنَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ جَوَابَ إِذا.
وَمَعْنَى إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيِ الدَّاخِلَاتُ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْإِجْمَالِ، لَا يَعْلَمْنَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُبايِعْنَكَ فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ، أَيْ فَلْيُبَايِعْنَكَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَبايِعْهُنَّ تَفْرِيعًا لِجُمْلَةِ يُبايِعْنَكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.
وَقَدْ شَمَلَتِ الْآيَةُ التَّخَلِّيَ عَنْ خِصَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَمَّا وَلَدَتْ زَوْجُهُ بِنْتًا: وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدُ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَأْدُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِبَنَاتِهِمْ، وَثَانِيهِمَا إِسْقَاطُ الْأَجِنَّةِ وَهُوَ الْإِجْهَاضُ.
وَأُسْنِدَ الْقَتْلُ إِلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَرْضَيْنَ بِهِ أَوْ يَسْكُتْنَ عَلَيْهِ.
وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْمَكْذُوبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِكَاذِبِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَبْهَتُ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ.
وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، أَيْ لَا يَخْتَلِقْنَ أَخْبَارًا بِأَشْيَاءَ لَمْ تَقَعْ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يَتَعَلَّقُ بِ يَأْتِينَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ بِاخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَكِنَايَةٍ، فَالْبُهْتَانُ حَقِيقَتُهُ: الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَيُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَحَقِيقَةُ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ: أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ حَاصِلًا فِي مَكَانٍ يَتَوَسَّطُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ كَانَ افْتِرَاؤُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ أَنَّهُ كَذَبَ مُوَاجَهَةً فِي وَجْهِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهَا: يَا فُلَانَةُ زَنَيْتِ
166
مَعَ فُلَانٍ، أَوْ سَرَقْتِ حَلْيَ فُلَانَةٍ. لِتَبْهَتَهَا فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ أَنْت بنت زنا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ بِمَعْنَى الْمَكْذُوبِ كَانَ مَعْنَى افْتِرَائِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ كِنَايَةً عَنِ ادِّعَاءِ الْحَمْلِ بِأَنْ تَشْرَبَ مَا يَنْفُخُ بَطْنَهَا فَتُوهِمَ زَوْجَهَا أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ تُظْهِرَ الطَّلْقَ وَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ تَلْتَقِطُهُ وَتَنْسِبُهُ إِلَى زَوْجِهَا لِئَلَّا يُطَلِّقَهَا، أَوْ لِئَلَّا يَرِثَهُ عُصْبَتُهُ، فَهِيَ تُعَظِّمُ بَطْنَهَا وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِبَّانَ إِظْهَارِ الطَّلْقِ وَضَعَتِ الطِّفْلَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَتَحَدَّثَتْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَبْهُوتٌ عَلَيْهِ. فَالِافْتِرَاءُ هُوَ ادِّعَاؤُهَا ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْبُهْتَانِ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ مُسْتَعَارًا لِلْبَاطِلِ الشَّبِيهِ بِالْخَبَرِ الْبُهْتَانِ، كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ مُحْتَمِلًا لِلْكِنَايَةِ عَنْ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا يقبلهَا أَو يحبسها، فَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا أَوْ يَزْنِي بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ أَرْجُلِهَا.
وَفَسَّرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِالسِّحْرِ إِذْ تُعَالِجُ أُمُورَهُ بِيَدَيْهَا، وَهِيَ جَالِسَةٌ تَضَعُ أَشْيَاءَ السِّحْرِ بَيْنَ رِجْلَيْهَا.
وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمِثْلِهَا. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرِّجَالِ إِذْ يُؤْخَذُ لِكُلِّ صِنْفٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا.
وَبَعْدَ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لِخَطَرِ شَأْنِهَا عَمَّمَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا لَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْرُوفُ فِي الدِّينِ، فَالتَّقْيِيدُ بِهِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِنَّ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَمَا فَعَلَتْ بَرِيرَةُ إِذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِرْجَاعِهَا زَوْجَهَا مُغِيثًا إِذْ بَانَتْ مِنْهُ بِسَبَبِ عِتْقِهَا وَهُوَ رَقِيقٌ.
وَقَدْ
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا
. وَإِنَّمَا هَذَا مِثَالٌ لِبَعْضِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكُهُ فَاشٍ فِيهِنَّ.
وَوَرَدَ فِي أَخْبَارٍ أَنَّهُ نَهَاهُنَّ عَنْ تَبَرُّجِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَنْ أَنْ يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ
167
لَيْسُوا بِمَحْرَمٍ فَقَالَ عبد الرحمان بْنُ عَوْف: يَا نبيء اللَّهِ إِنَّ لَنَا أَضْيَافًا وَإِنَّا نَغِيبُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَاهُنَّ عَنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَخَدْشِ الْوُجُوهِ وَتَقْطِيعِ الشُّعُورِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ
، أَي من شؤون النِّيَاحَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَخَذَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ جَالِسَةً مَعَ النِّسَاءِ مُتَنَكِّرَةً خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا عَلَى شَقِّهَا بَطْنَ حَمْزَةَ وَإِخْرَاجِهَا كَبِدَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا قَالَ: عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، قَالَتْ هِنْدُ: وَكَيْفَ نَطْمَعُ أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا شَيْئًا لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ. فَلَمَّا قَالَ: وَلا يَسْرِقْنَ. قَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ هَنَاتٍ فَمَا أَدْرِي أَتَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ. فَضَحِكَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا فَدَعَاهَا فَأَتَتْهُ فَعَاذَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ: وَلا يَزْنِينَ. فَقَالَت: أَو تَزني الْحُرَّةُ. قَالَ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.
فَقَالَتْ هِنْدُ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ. تُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوا ابْنَهَا حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ.
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَقَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ
. فَقَوْلُهُ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كَانَ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ لَا نَنُوحَ. قَالَتْ: فَقَلَتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا آلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ أُسْعِدَهُمْ. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا آلَ فُلَانٍ
، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمِّ عَطِيَّةَ وَبِمَنْ سَمَّتْهُمْ.
وَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَوْلُهُ: فَبايِعْهُنَّ جَوَابُ إِذا تَفْرِيعٌ عَلَى يُبايِعْنَكَ، أَيْ فَاقْبَلْ مِنْهُنَّ مَا بَايَعْنَكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ عِنْدَهُ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهَا صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، أَيْ فِيمَا فُرِّطَ مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا خُصَّ بِالنَّهِي فِي شُرُوطِ الْبَيْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لفعل اسْتَغْفِرْ.
168

[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ١٣]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
بَعْدَ أَنِ اسْتَقْصَتِ السُّورَةُ إِرْشَادَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يَجِبُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، جَاءَ فِي خَاتِمَتِهَا الْإِرْشَادُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ قَوْمٍ لَيْسُوا دُونَ الْمُشْرِكِينَ فِي وُجُوبِ الْحَذَرِ مِنْهُمْ وَهُمُ الْيَهُودُ، فَالْمُرَادُ بِهِمْ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ شُبِّهَ يَأْسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ غَيْرُ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَكُونَ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ صِفَةٌ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ إِلْحَاقُهَا بِالْيَهُودِ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٧].
ذَلِكَ أَنَّ يَهُودَ خَيْبَرَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بِجِوَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَعْمَلُونَ عِنْدَ الْيَهُودِ وَيُواَصِلُونَهُمْ لِيُصِيبُوا بِذَلِكَ مِنْ ثِمَارِهِمْ، وَرُبَّمَا أَخْبَرُوا الْيَهُودَ بِأَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ غَفْلَةٍ وَقِلَّةِ حَذَرٍ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَى أَنْ لَا يَتَوَلَّوْهُمْ.
وَالْيَأْسُ: عَدَمُ تَوَقُّعِ الشَّيْءِ فَإِذَا عُلِّقَ بِذَاتٍ كَانَ دَالًّا عَلَى عَدَمِ تَوَقُّعِ وُجُودِهَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْيَهُودُ لَا يُنْكِرُونَ الدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ مَعْنَى يَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ فَكَأَنَّهُمْ فِي إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا آيِسُونَ مِنْهَا، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٦].
وَتَشْبِيهُ إِعْرَاضِهِمْ هَذَا بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ وَجْهُهُ شِدَّةُ الْإِعْرَاضِ وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِي الْأَمْرِ، شُبِّهَ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ لِنَفْعِ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ حَيَاةِ الْمَوْتَى وَالْبَعْثِ وَفِيهِ تَشْنِيعُ الْمُشَبَّهِ، ومِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ يَئِسُوا.
والْكُفَّارُ: الْمُشْرِكُونَ.
169
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بَيَانًا لِلْكُفَّارِ، أَيِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ هَلَكُوا وَرَأَوْا أَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي خَيْرِ الْآخِرَةِ فَشُبِّهَ إِعْرَاضُ الْيَهُودِ عَنِ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ تَحَقُّقُ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى كَيَأْسِ الْكُفَّارِ الْأَمْوَاتِ، أَيْ يَأْسًا مِنَ الْآخِرَةِ.
وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْلُومٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِالِاعْتِقَادِ فَالْكَلَامُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ.
وَفِي اسْتِعَارَةِ الْيَأْسِ لِلْإِعْرَاضِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَأْسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ أُطْلِقَ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.
فَالْمَعْنَى: قَدْ أَيْأَسْنَاهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٢٣].
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ مَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] فَالْقَوْمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُمْ وُصِفُوا بِالْعَدُوِّ لِلَّهِ وَالْعَدُوُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ وَنُسِبَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاس. وَجعل بأسهم مِنَ الْآخِرَةِ هُوَ إِنْكَارَهُمُ الْبَعْثَ.
وَجَعْلُ تَشْبِيهِ يَأْسِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ بِيَأْسِ الْكُفَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَنَّ يَأْسَ الْكُفَّارِ الْأَحْيَاءِ كَيَأْسِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْكُفَّارِ، أَيْ كَيَأْسِ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ هُمْ فِي الْقُبُورِ إِذْ كَانُوا فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِمْ آيِسِينَ مِنَ الْآخِرَةِ فَتَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً صِفَةً لِلْكُفَّارِ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ يَئِسَ فَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْكُفَّارُ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُشَبَّهَ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ تُوُهِّمَ.
170

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦١- سُورَةُ الصَّفِّ
اشْتُهِرَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاسْمِ «سُورَةِ الصَّفِّ» وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سَنَدَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: «لَوْ أَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ نَسْأَلُهُ عَنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ» إِلَى أَنْ قَالَ: «فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ حَتَّى جَمَعَهُمْ وَنَزَلَتْ فِيهِمْ «سُورَةُ سَبَّحَ لِلَّهِ الصَّفِّ» الْحَدِيثَ، رَوَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ
، وَبِذَلِكَ عُنْوِنَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ»، وَكَذَلِكَ كُتِبَ اسْمُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ لفظ صَفًّا [الصَّفّ: ٤] فِيهَا وَهُوَ صَفُّ الْقِتَالِ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْحَوَارِيِّينَ» وَلَمْ يُسْنِدْهُ. وَقَالَ الْآلُوسِيُّ تُسَمَّى «سُورَةَ عِيسَى» وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نِسْبَتِهِ لِقَائِلٍ. وَأَصْلُهُ لِلطَّبْرَسِيِّ فَلَعَلَّهُ أُخِذَ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ فِي فَضْلِهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِلَفْظِ «سُورَةِ عِيسَى». وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْسُومٌ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَالطَّبَرْسِيُّ يُكْثِرُ مِنْ تَخْرِيجِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ. فَتَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ الْحَوَارِيِّينَ» لِذِكْرِ الْحَوَارِيِّينَ فِيهَا. وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ الْحَوَارِيِّينَ.
وَإِذَا ثَبَتَ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةَ عِيسَى» فَلِمَا فِيهَا مِنْ ذكر عِيسَى [الصَّفّ: ٦ و١٤] مَرَّتَيْنِ
171
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَدَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» وَالْفَخْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَصَحُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الْمَكِّيُّ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَهَلْ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً مُتَلَاحِقَةً.
وَفِي «جَامِعْ التِّرْمِذِيِّ» «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قَعَدْنَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَذَاكَرْنَا فَقُلْنَا: لَوُ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: ١، ٢] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ فِي «مُسْنَدِهِ» وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالدَّارِمِيُّ بِزِيَادَةِ فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى خَتَمَهَا أَوْ فَقَرَأَهَا كُلَّهَا
. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ قَبْلَ أَنْ يُخْلِفُوا مَا وَعَدُوا بِهِ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّحْذِيرِ مِنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا نَذَرُوهُ وَوَعَدُوا بِهِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ يَقُولُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ دَلَّنَا عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ فَنَعْمَلَ بِهِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ: إِيمَانٌ بِهِ وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ. فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ كَرِهَ ذَلِكَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ.
وَمِثْلُهُ عَنْ أبي صَالح يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ بِآيَاتِ غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَبَعْدَ أَنْ وَعَدُوا بِالِانْتِدَابِ لِلْجِهَادِ ثُمَّ تَقَاعَدُوا عَنْهُ وَكَرِهُوهُ. وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَوْضَحُ وَأَوْفَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفّ: ٣].
وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَا بِهِ فَدَلَّهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصَّفّ: ٤]، فَابْتُلُوا يَوْمَ
172
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).