تفسير سورة الممتحنة

معاني القرآن

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم :
قوله عز وجل :﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾.
دخول الباء في : المودة، وسقوطها سواء، هذا بمنزلة قولك : أظن أنك قائم، وأظن بأنك قائم، وأريد بأن تذهب، وأريد بأن تقوم. وقد قال الله جلَّ وعز :
﴿ ومَنْ يُرِدْ فيه بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ﴾ فأدخل الباء، والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا.
أنشدني أبو الجراح :
فلما رجتْ بالشُّرب هزَّلها العصا شحيحٌ لهُ عند الإزاء نهيمُ
معناه : فلما رجت أن تشرب. ونزلت هذه السورة في حاطب بن أبي بلتعة، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو أهل مكة، قدمت عليه امرأة من موالي بني المطلب، فوصلها المسلمون، فلما أرادت الرجوع أتاها حاطب بن أبي بلتعة، فقال : إني معطيك عشرة دنانير، وكاسيك بردا على أن تبلغي أهل مكة كتابا، فكتب معها، ومضت تريد مكة، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليهما وسلم بالخبر، فأرسل عليًّا والزبير في إثرها، فقال : إن دفَعَتْ إليكما الكتاب [ وإلا فاضربا ] [ ١٩٧/ا ] عنقها فلحقاها، فقالت : تنحيا عني، فإني أعلم أنكما لن تصدقاني حتى تفتشاني، قال : فأخَذَت الكتاب، فجعلته بين قرنين من قرونها، ففتشاها، فلم يريا شيئا، فانصرفا راجعين، فقال علي للزبير : ماذا صنعنا ؟ يخبرنا رسول الله أن معها كتابا ونصدقها ؟ فكرّا عليها، فقالا : لتخرِجِنَّ كتابك أو لنضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجت الكتاب.
وكان فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة :
أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم مع أشياء كتب بها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاطب، فأقرّ له، وقال : حملني على ذلك أن أهلي بمكة وليس من أصحابك [ أحد ] إلا وله بمكة من يذب عن أهله، فأحببت أن أتقرّب إليهم ليحفظوني في عيالي، ولقد علمت أن لن ينفعهم كتابي، وأن الله بالغ فيهم أمره، فقال عمر بن الخطاب : دعني فأضرب عنقه، قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال : وما يدريك لعل الله قد نظر إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال الفراء : حدثني بهذا حِبان بإسناده.
وقوله :﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾. مِن صلة الأولياء، كقولك : لا تتخذنّه رجلا تلقى إليه كلّ ما عندك.
وقوله :﴿ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ ﴾. إِن آمنتم ولإن آمنتم، ثم قال عز وجل :﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي ﴾ فلا تتخذونهم أولياء.
وقوله :﴿ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ﴾ قرأها يحيى بن وثاب : يُفصِّل بينكم، قال : وكذلك يقرأ أبو زكريا، وقرأها عاصم والحسن يَفْصل، وقرأها أهل المدينة : يُفْصَل.
وقوله :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ يعني حاطبا، «فيهم » في إبراهيم. يقول : في فعل إبراهيم، والذين معه إذا تبروءا من قومهم يقول : ألا تأسيت يا حاطب بإبراهيم ؛ فتبرأ من أهلك كما برئ إبراهيم ؟ ثم قال :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾ أي : قد كانت لكم أسوة في أفاعيلهم إلاّ في قول إبراهيم : لأستغفرن ؛ فإِنه ليس لكم فيه أسوة.
وقوله :﴿ إِنا بُرَاء مِّنْكُمْ ﴾ إن تركتَ الهمز من براء أشرت إليه بصدرك، فقلت : بُراء. وقال الفراء : مدّة، وإشارة إلى الهمز، وليس يضبَط إلاّ بالسمع، [ ولم يجرها ]. ومن العرب من يقول : إِنا بِراء منكم، فيجري، ولو قرئت كذلك كان وجها.
وقوله :﴿ رَّبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ﴾ أي : فقولوا هذا القول أنتم، ويقال : إنه من قيل إبراهيم عليه السلام وقومه.
وقوله :﴿ رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً ﴾. لا تظهَرنّ علينا الكفار فيروا أنهم على حق، وأنا على باطل.
وقوله :﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾.
يقول : عسى أن ترجع عدواة بينكم إلى المودة، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، فكانت المصاهرة مودة.
وقوله :﴿ لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ﴾.
هؤلاء خزاعة كانوا عاقدوا النبي صلى الله عليه وسلم ألا [ ١٩٧/ب ] يقاتلوه، ولا يخرجوه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ببرهم، والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
ثم قال :﴿ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ أن تنصروهم، يعني الباقين من أهل مكة.
وقوله :﴿ إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾.
يعني : فاستحلفوهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل مكة بالحديبية فلما ختم الكتاب خرجت إليه سُبَيْعة بنت الحارث الأسلمية مُسْلِمَةً، فجاء زوجها فقال : ردَّها على فإِن ذلك في الشرط لنا عليك، وَهذه طينة الكتابة لم تجف، فنزلت هذه الآية ﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾.
فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أخرجكِ إلينا إلا الحرص على الإسلام والرغبة فيه، ولا أخرجك حدث أحدثتِه، ولا بغض لزوجك، فحلفتْ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها، ونزل التنزيل :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾.
من كانت له امرأة بمكة أبت أن تُسلم فقد انقطعت العصمة فيما بينها وبين زوجها، ومن خرج إلى المسلمين من نسائهم مُسْلمةً، فقد انقطعت عصمتها من زوجها الكافر، وللمسلمين أن يتزوجوها بغير عدة.
وقوله :﴿ وَاسْأَلُواْ ما أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ ما أَنفَقُواْ ﴾يقول : اسألوا أهل مكة أن يردوا عليكم مهور النساء اللاتي يخرجن إليهم منكم مرتدات، وليسألوا مهور من خرج إليكم من نسائهم.
وقوله :﴿ وَلاَ تُمْسِكُواْ ﴾ قرأها يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة مخففة، وقرأها الحسن : تُمسّكوا، ومعناه متقارب، والعرب تقول : أمسكت بك، ومسكت بك، وتمسّكت بك.
وقوله :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ ﴾ أعجزكم. وهي في قراءة عبد الله :
«وإن فاتكم أحد من أزواجكم »، وأحدٌ يصلح في موضع شيء، وشيء يصلح في موضع أحد في الناس، فإذا كانت شيء في غير الناس، لم يصلح أحد في موضعها.
وقوله :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ ﴾.
يقول : أعجزكم إن ذهبت امرأة فلحقت بأهل مكة كافرة، وليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم، يقول : فغنمتم، فأعطوا زوجها مهرها من الغنيمة قبل الخمس.
[ حدثنا محمد بن الجهم ] حدثنا الفراء قال : حدثني قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق أنه قرأ «فعاقبتم »، وفسرها : فغنمتم، وقرأها حميد الأعرج : فعقّبتم مشددة، وهي كقولك : تصعّر، وتصاعر في حروف قد أنبأتك بها في تآخي : فعلت، وفاعلت.
وقوله :﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾.
قرأها السُّلَمي وحده : ولا يقتّلن أولادهن، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة قعد على الصفا وإلى جنبه عمر، فجاءه النساء يبايعنه ؛ وفيهن بنت عتبة، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً ﴾ يقول : لا تعبدن الأوثان، ولا تسرقن، ولا تزنين. قالت هند : وهل تزني الحرة ؟ قال : فضحك عمر، ثم قال : لا، لعمري، ما تزني الحرة. قال : فلما قال : لا تقتلن أولادكن، هذا فيما كان أهل الجاهلية يئدون، فبويعوا على ألا يفعلوا، فقالت هند : قد ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا.
وقوله :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾.
كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها : هذا ولدي منك. فذلك البهتان المفترى [ ١٩٨/ا ].
وقوله :﴿ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْما غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ ﴾.
يقول : من نعيم الآخرة وثوابها، كما يئس الكفار من أهل القبور، يقول : علموا ألا نعيم لهم في الدنيا، وقد ماتوا ودخلوا القبور.
ويقال : كما يئسَ الكفار من أصحابِ القبورِ : من ثواب الآخرة ونعيمها.
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).