تفسير سورة الممتحنة

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن الفرس . المتوفي سنة 595 هـ
مدنية. وفيها مواضع من الأحكام والنسخ ١.
١ أوصلها ابن الفرس إلى ست آيات..

– قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم... ﴾ إلى قوله :﴿ بالمودة ﴾ :
الكلام في هذه الآية كالكلام فيما مضى من نظائرها مما فيه النهي عن موالاة الكفار فلا معنى لإعادته. والآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يعلمهم بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ١. ويؤخذ من هذه الآية دليل على أن خوف الجائحة على المال والولد لا يبيح التقية في دين الله، وأن العذر الذي قاله حاطب لا أثر له. ويحتمل أن يقال إن ما فعله حاطب لم يكن خوفا على ما ذكر وإنما كان توددا إلى الكفار ولما كان تأمله من نفع من جهتهم.
١ راجع أسباب النزول للواحدي ص ٣١٤، ٣١٥..
– قوله تعالى :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه... ﴾ يعني التأسي بإبراهيم ومن معه في تبريهم من الكفار.
وقوله :﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾ أي فلا تتأسوا به في الاستغفار، قاله مجاهد وغيره، فالمعنى : تأسوا به في التبري من الكفار ولا تتأسوا به في الاستغفار لهم. وإنما لم يتأس به في الاستغفار لأن الأصل في ذلك المنع. وإنما جاز له لعلة وهي الموعدة التي كان وعدها إياها. وقد مر الكلام على هذا في موضعه فلا معنى لإعادته.
– قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾تضمنت هذه الآية قوله :﴿ لا ينهاكم الله ﴾ إلى قوله ﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ إباحة مهادنة من لم يقاتل وبرهم. واختلف فيها على ذلك هل هي منسوخة أم لا ؟ ١ فذهب قوم إلى أنها منسوخة بآية القتال، واختلفوا فيمن كان المشار إليهم في الآية من الكفار. فقال قوم : أراد من كان من كفار قريش لم يقاتل ولا أخرج ولا أظهر سوء، وعلى هذا يأتي قول الهمداني ٢ إنها نزلت في قوم من بني هاشم، منهم العباس. وقال أبو صالح ٣ والحسن ٤ أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب وقبائل من العرب كفارا إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره منهم كنانة و بنو الحرث بن عبد مناف ومزينة. كذا ساق بعضهم هذا القول على أن الآية منسوخة. وساقه مكي على أنها محكمة إلا أنه قال : وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وهذا حسن. وفي الآية على هذا القول دليل على جواز الصدقة على أهل الذمة دون أهل الحرب ووجوب النفقة للأبوين الكافرين، فأما الأب الحربي فيجب قتله. وذهب قوم إلى أنها محكمة واختلفوا فيمن المشار إليه بالآية، فقيل هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة، قاله مجاهد. وقيل هم المؤمنون التاركون للهجرة، كانوا من أهل مكة أو غيرها، وقيل هم المستضعفون من المسلمين الذين لم يستطيعوا الهجرة، قاله النحاس وغيره.
والآية على هذه الثلاثة أقوال في المؤمنين، وقيل هم النساء والصبيان من الكفار، ونزلت الآية بسبب أم أسماء حين استأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها، فأذن لها. وكانت المرأة خالتها على ما روي، فسمتها في الحديث أما ٥. وذهب إلى هذا القول عبد الله بن رواحة، فيأتي على هذا في الآية قولان : هل هي في المؤمنين أو الكفار ؟ وإذا كانت في الكفار ففيها قولان : هل هي محكمة أو منسوخة ؟.
١ راجع الإيضاح ص ٣٧٢..
٢ الهمداني: لعله مران بن ذي عمير بن أبي مران الهمداني من ملوك همدان باليمن. أسلم فيمن أسلم منهم. توفي نحو سنة ٢٠هـ/ ٦٤٠م. انظر الإصابة ٣/ ٤٦٤..
٣ أبو صالح: لعله أبو صالح منصور بن عبد الوهاب البزار. راجع أسباب النزول للواحدي ص ٣١٤..
٤ الحسن: لعله الحسن بن محمد الفارسي. راجع أسباب النزول للواحدي ص ٣١٤..
٥ نقله السيوطي عن البخاري. راجع لباب النقول ص ٧٦٤..
– قوله تعالى :﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين... ﴾ الآية : بمعنى مودة قريش.
– وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم ﴾ :
نزلت هذه الآية إثر صلح الحديبية، وكان ذلك الصلح قد تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل أو امرأة، وتقرر ذلك بالسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنسخ الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية، وحكم بأن المهاجرة المؤمنة لا ترد إلى الكفار بل تتقي وتستبرأ وتتزوج ويعطي زوجها الكافر الصداق الذي أنفق، وهذا من نسخ السنة بالقرآن، واختلف في الرجال هل أمرهم في ذلك منسوخ كالنساء ولا تجوز المهادنة على مثله أو محكم فتجوز المهادنة حتى الآن عليه على قولين الأظهر منهما أنه محكم لأن الناسخ لذلك غير معلوم وإنما أخذه من أنه لا يجوز إقامة المسلم بدار الشرك، ومثل هذا لا يكون به نسخ، وقد رد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل ١ وأبا بصير ٢ وسمى الله تعالى في هذه الآية المهاجرات مؤمنات قبل أن يعلم إيمانهن إنما كان ذلك ظاهر أمرهن ٣.
وقوله تعالى :﴿ فامتحنوهن ﴾ : معناه فجربوهن واستخبروا ما عندهن، واختلف أهل العلم في كيفية هذا الامتحان. فقيل بأن تستحلف المرأة بأنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جنتها ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم. وقيل هو بأن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلت ذلك لم ترد، قاله ابن عباس أيضا، وقيل هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذه من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها، قالته عائشة وغيرها. واختلفت في المرأة التي جاءت من الكفار بعد عقد الصلح مسلمة فنزلت هذه الآية بسببها فلم ترد إلى الكفار، فقيل أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان الدحداحة ٤ وقيل سبيعة بنت الحرث ولما خرجت جاء زوجها فقال : يا محمد ردها علينا فإن ذلك في الشرط لنا عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف فنزلت الآية، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردها وأعطى لزوجها مهرها ٥.
وقوله تعالى :﴿ فإن علمتموهن مؤمنات ﴾ : والعلم بذلك لا يمكن. معناه علمتم ظاهر قولهن.
وقوله تعالى :﴿ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ : ذكر تعالى في هذه الآية أن العلة في أن لا يرد إلى الكفار النساء امتناع الوطء. وفيه دليل على ارتفاع النكاح، ودليل على أن المنع من الرد لمكان الإسلام. فإنه تعالى قال :﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ﴾ فلم يجعل الفرقة لاختلاف الدار على ما قاله أبو حنيفة، وإنما جعلها للإسلام.
وقوله تعالى :﴿ وآتوهم ما أنفقوا ﴾ : أمر الله تعالى بأن يعطى الكفار مهور نسائهم اللائي هاجرن مؤمنات. وقد ذكرناه فيما قبل.
قوله تعالى :﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ : رفع تعالى الجناح في أن يتزوج بأجورهن، وهي الصدقات. وقد ذكرنا ذلك أيضا.
قوله تعالى :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ : اختلف فيه، هل هذا النهي عن إمساك الرجال والنساء أو عن إمساك النساء خاصة. فذهب بعضهم إلى أنه في الفريقين. قال أبو علي الفارسي ٦ سمعت الليلة أبا الحسن الكرخي ٧يقول في تفسير قوله تعالى :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ أنه في الرجال والنساء. فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء لأن الكوافر جمع كافرة. قال : وأي شيء يمنع من هذا ؟ أليس الناس يقولون : طائفة كافرة وفرقة كافرة. فبهت وقلت هذا تأويل٨ والمشهور أنه في النساء، ولا خلاف أنه كان لا يمسك من النساء من كان مجيؤها هربا من زوجها خاصة، وما جاء من الرجال كذلك. وهذه الآية تقتضي ذلك، وأنه إذا أسلم الرجل وله امرأة، وقعت الفرقة بينهما. إلا أنه اختلف في الكوافر المعينات بالآية من النساء من هن ؟ فقيل : عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحه. والآية على هذا محكمة. وقيل هي عامة للنساء الكافرات عابدات الأوثان وغيرهن من أهل الكتاب ٩. والآية على هذا القول قد نسخ منها نساء أهل الكتاب لأن نكاح المؤمن إياها ثابت، فإذا أسلم الزوج لم تقع الفرقة بينهما، وفي تسمية مثل هذا نسخا خلاف، وقد مر الكلام عليه في غير موضع ١٠.
قوله تعالى :﴿ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ﴾ : أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين أن يسألوا الكافرين ما أنفقوا من الصدقات على من تزوجوه من نسائهم اللائي فررن إليهم ١١ كما لزم المؤمنين أن يعطوا الكفار ما أنفقوا من الصدقات على نسائهم الفارات إليهم، فلذلك قال تعالى :﴿ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ﴾ وقرر الحكم بذلك على الجميع. فروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ﴾ فأمر المؤمنين إذا أبى الكفار من دفع الصدقات على الوجه الذي تقدم أن يدفعوا إلى من فرت زوجته منهم ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق. واختلف العلماء من أي مال يدفع إليه الصداق ؟ فقيل يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواج الكفار فأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا بحكمه حسبما تقدم. قاله ابن شهاب، وهو قول حسن يقتضيه قوله تعالى :﴿ فعاقبتم ﴾. وقيل يدفع إليه من مغانم المغازي، قاله مجاهد وقتادة، وقال : المعاقبة : الغزو والمغنم. وعاقبتم، وعقبتم سواء، أي أصبتم غنما، وقيل يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن، قاله الزهري أيضا. وقد قال بعض المفسرين في هذه الآية كلها إنها مما رفع حكمه وبقي رسمه لأنها كلها نزلت في شيء بعينه لعلة بعينها، فلما زالت العلة ارتفع الحكم، وذلك أنها نزلت في مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم مشركي العرب من قريش وغيرهم. فزال حكم الهدنة، إذ لا يجوز لنا اليوم أن نهادن أحدا منهم لقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ]، فلما ارتفع حكم الهدنة بالآية في مشركي العرب ارتفع حكم الآية بعدم وجود الهدنة، فإنما الهدنة باقية بيننا وبين أهل الكتاب وبين المجوس لقوله عليه الصلاة والسلام : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ١٢ ولا هدنة بيننا وبين مشركي العرب، إنما هو الإسلام أو السيف، لأن الآية بينت ذلك إذ قال تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾، وقال في أهل الكتاب :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] فبان أن الآية ناسخة للهدنة بيننا وبين مشركي العرب. فلما زالت الهدنة بالآية زال أيضا حكمها، ولهذا قال بعضهم أيضا ١٣ عن قتادة أن ما في هذه الآية منسوخ بما في براءة، حكي عن الزهري أنه قال : انقطع هذا يوم الفتح.
١ أبا جندل: هو عبد الله بن سهيل بن عمر القرشي. مات شهيدا باليمامة. انظر الإصابة ٤/ ٣٤..
٢ أبا بصير: اختلف في اسمه فقيل عبيد بن أسيد وقيل عتبة بن أسيد بن جارية. انظر الاستيعاب ٤/ ٢١..
٣ راجع الإيضاح ص ٣٧٤..
٤ ذكره السيوطي في لباب النقول ص ٧٦٦..
٥ ذكره ابن عباس في تنوير المقباس ص ٤٦٧، ٤٦٨، والواحدي في أسباب النزول ص ٣١٨..
٦ أبو علي الفارسي: هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي. أحد أئمة اللغة. توفي سنة ٣٧٧هـ/ ٩٨٧م. انظر بغية الوعاة للسيوطي ١/ ٤٩٦..
٧ أبا الحسن الكرخي: هو عبد الله بن الحسين الكرخي، أبو الحسن. فقيه انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق. توفي سنة ٣٤٠هـ/ ٩٥٢م. انظر الأعلام ٤/ ١٩٣..
٨ في (ح): "تأبيد"..
٩ "ومن لا يجوز نكاحه... إلى: أهل الكتاب" كلام ساقط في (أ)، (هـ)..
١٠ راجع الإيضاح ص ٣٧٥..
١١ "إليهم": كلمة ساقطة في (ح)..
١٢ الحديث أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس ١/ ٢٧٨..
١٣ "أيضا" كلمة ساقطة في غير (أ)، (ز)..
– وقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا.... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ :
هذه هي بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا. وسماهن المؤمنات بحسب الظاهر كما تقدم.
قوله تعالى :﴿ على أن لا يشركن بالله شيئا ﴾ : أي على أن يرفضن الشرك، ورفضه هو خالص الإيمان.
قوله تعالى :﴿ ولا يسرقن ولا يزنين ﴾ : بين.
قوله تعالى :﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾ : هو من خوف الفقر، وكانت العرب تفعل ذلك.
قوله تعالى :﴿ ولا يأتين ببهتان ﴾ :
اختلف في معناه. فقال كثير من المفسرين : معناه أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس له.
وقال قوم : الآية على العموم في أن ينسب إلى الرجل غير ولده. وفي الفرية بالقول على أحد وفي الكذب فيما أؤتمن فيه من الحيض والعمل وبعض ذلك أقوى من بعض. وإلى نحو هذا أشار بعضهم فقال : ما بين أيديهن، يريد به اللسان والفم في الكلام والقبلة ونحوه. وبين الأرجل يراد به الفروج وولد الإلحاق ونحوه ١.
قوله تعالى :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ :
قال ابن عباس وأنس وغيرهما : هو النوح وشق الجيوب ووشم الخدود ووصل الشعر وغير ذلك مما أمرت السنة بتركه فرضا كان أو ندبا. وفي الحديث أن جماعة نساء فيهن هند بنت عتبة ٢ بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهن الآية، فلما قررهن على أن لا يشركن قالت هند : وكيف نطمع أن تقبل منا ما لم تقبله من الرجال، أي هذا بين لزومه. ولما وقفها على السرقة قالت : والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان ولا أدري هل يحل لي ذلك. فقال أبو سفيان : ذلك حلال فيما مضى وفيما بقي. وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". ولما وقفها على الزنا قالت : يا رسول الله وهل تزني الحرة ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ما تزني الحرة " وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء في الغالب. ولما وقفها على قتل الأولاد قالت : نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وقفها على العصيان في المعروف قالت : ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك. وروي أن جماعة من النساء بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في الآية، فلما فرغن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" فيما استطعتن وأطعتن ". فقلن الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا ٣.
قوله تعالى :﴿ فبايعهن ﴾ :
أي إذا أقررن لك فامض معهن صفقة الإيمان. واختلف في الهيئة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها النساء بعد الاتفاق على أن يده لم تمس يد امرأة أجنبية قط، فذكرت عائشة أنه بايع باللسان قولا. وقال إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، وجاء في نحو ذلك حديث عن أسماء بنت يزيد بن السكن ٤ وذكر بعضهم أن نساء من الأنصار بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من خارج بيت ومد النساء أيديهن من داخله فبايعهن. وروي عن الشعبي أنه لف ثوبا كثيفا قطريا على يده وجاءت نسوة فلمسن يده كذلك. وروي أن نسوة بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر بن الخطاب يلمس أيدي النساء وهو خارج من البيت والنساء في داخل البيت، بحيث لا يراهن. وروي أيضا أنه عليه الصلاة والسلام بايعه النساء على الصفا بمكة وعمر بن الخطاب يصافحهن. وروي عن ابن عباس وعروة الثقفي ٥ أنه عليه الصلاة والسلام غمس يده المباركة في إناء فيه ماء ثم دفعه إلى النساء فغمسن فيه أيديهن ثم أمره تعالى بالاستغفار لهن ورجاهن غفرانه ورحمته بقوله تعالى :﴿ واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ وهذه الآية غير معمول بها اليوم لأنه قد أجمع الناس أنه ليس على الإمام أن يشترط عليهن ذلك. فإما أن تكون منسوخة ولم يذكر ذلك، وإما أن يكون ندبا لا إيجابا. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.
١ راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٨/ ٧٢..
٢ هند بنت عتبة: انظر ترجمتها بالصفحة رقم ٤٦٨..
٣ راجع أحكام القرآن لابن العربي ٤/ ١٧٨٠ – ١٧٨٣، والجامع لأحكام القرآن ١٨/ ٧٤، ٧٥..
٤ أسماء بنت يزيد بن السكن: هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية. من أخطب نساء العرب ومن ذوات الشجاعة. توفيت سنة ٣٠هـ/ ٦٨٠م. انظر الإصابة ٨/ ١٢. والحديث أخرجه أحمد في مسنده ٦/ ٤٥٢..
٥ عروة الثقفي: هو عروة بن مسعود بن معتب الثقفي. صحابي مشهور قتله قومه حين دعاهم إلى الإسلام سنة ٩هـ/ ٦٣٠م. انظر الإصابة ٢/ ٤٧٠..
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).