تفسير سورة الممتحنة

جامع البيان في تفسير القرآن

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة وفيها ركوعان.

بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ نزلت في حاطب بن١ أبي بلتعة، لما كتب إلى كفار مكة، حين أراد عليه الصلاة والسلام الخروج إلى مكة- إن المؤمنين قد جاءوكم فاحذروا، وأرسل بيد امرأة، فبعث عليه السلام عليا وعمارا وغيرهما، وأخذوا منها الكتاب، فخاطب عليه السلام حاطبا فقال : يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، لكن كنت امرءا ملصقا في قريش، عندهم أهلي ومالي، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتب إليهم بذلك. فقال عليه السلام :" صدق حاطب، لا تقولوا له إلا خيرا " ﴿ تلقون إليهم ﴾ أخبار المؤمنين ﴿ بالمودة ﴾ بسببها أو تفضون إليهم بالمودة، فيكون من باب التضمين، لا أن الباء زائدة والجملة حال أو صفة لأولياء ﴿ وقد كفروا بما جاءهم من الحق ﴾ حال من الفاعل ﴿ يخرجون الرسول وإياكم ﴾ أي : من مكة استئناف أو حال من كفروا ﴿ أن تؤمنوا ﴾ أي : بأن تؤمنوا ﴿ بالله ربكم إن كنتم خرجتم ﴾ من الأوطان ﴿ جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ﴾ جواب الشرط ما يدل عليه لا تتخذوا ﴿ تسرون إليهم بالمودة ﴾ مثل تلقون إليهم بالمودة، والجملة استئناف، كأنه قيل : لم لا نتخذ ؟ فقيل تسرون إلى آخره، يعني توادونهم سرا، وأنا مطلع على سركم ومطلع عليه رسولي، فلا طائل ﴿ وأنا أعلم ﴾ منكم ﴿ بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله ﴾ أي : الاتخاذ ﴿ منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ طريق الصواب.
١ كما في البخاري/١٢..
﴿ إن يثقفوكم ﴾ يظفروا بكم ويغلبوكم، ﴿ يكونوا لكم أعداء ﴾ ولا ينفعكم إلقاء المودة، ﴿ ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ﴾ كالقتل والضرب والشتم، ﴿ وودوا لو تكفرون١ تمنا ارتدادكم ولو للتمني، يعني لا توادوهم فإنهم معكم في نهاية العداوة.
١ يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدين والدنيا جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا ومضار الدين الذي هو ردكم كفارا أسبق المضار منهم لعلمهم أن الدين أعز، ولأجل هذا ودوا بصيغة الماضي بعد ذكر المضارع في الشرط والجزاء/١٢ منه.
.

﴿ لن تنفعكم أرحامكم ﴾ قراباتكم، ﴿ ولا أولادكم ﴾ الكفار، ﴿ يوم القيامة يفصل بينكم ﴾ فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار، أو لا ينفعكم إلا طاعة الله لا الأقارب والأولاد، فإنه يوم يفرق بينكم ؛ بأن يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴿ والله بما تعملون بصير١.
١ ولما نهى الله عن موالاة الكافرين ذكر قصة إبراهيم فإنه متبع لا في الأمور في نوع موالاته لأبيه فقال:﴿قد كانت لكم﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ قد كانت لكم أسوة١ حسنة في إبراهيم والذين معه ﴾ أي فيهم خصلة من حقها أن يؤتسى بها، ويتبع ﴿ إذ قالوا ﴾ ظرف لخبر كان، ﴿ لقومهم ﴾ الكفار ﴿ إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ﴾ بدينكم ومعبودكم ﴿ وبدا بينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ﴾ فإنه حينئذ ينقلب العداوة والبغضاء موالاة ومحبة، ﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾ أي لكم فيه خصلة من حقها الإتباع إلا هذا قال تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾، إلى قوله ﴿ إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ ( التوبة : ١١٣-١١٤ )، ﴿ وما أملك لك من الله من شيء ﴾ من تمام قوله لأبيه ﴿ ربنا عليك توكلنا ﴾ من تمام الأسوة الحسنة ﴿ وإليك أنبنا وإليك المصير ﴾.
١ كرر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريرا وتأكيدا عليهم، وقيل: ذكر في الآية شيئين أحدهما:﴿إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم﴾ الآية. والثاني ما دعوا الله به ﴿ربنا عليك توكلنا﴾ الآية فقال الله تعالى:﴿لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة﴾ فيما قالوا لقومهم: إنا برءاء منكم. ولكم فيهم أسوة حسنة فيما دعو الله به حين قصد الكفار جفاهم يعني اقتدوا بهم في كلتيهما وقيل روا بووكه أين دوامر بدووفت آنده باشد ١٢ (زاهدى)..
﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ﴾ لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب آخر فيقولوا لو كانوا على الحق ما أصابهم ذلك فيفتنوا أو لا تسلطهم علينا فيفتنونا، ﴿ واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ﴾.
﴿ لقد كان فيهم أسوة حسنة ﴾ كرر لمزيد الحث والتأكيد ولهذا صدره بالقسم وجعل قوله :﴿ لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ﴾ بدل بعض من لكم وعقبه بقوله :﴿ ومن يتول ﴾ عن الإقتداء ويتوال الكفار، ﴿ فإن الله هو الغني الحميد ﴾ فلا يضر الله بل لا يضر إلا نفسه.
﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم ﴾ أي مشركي مكة، ﴿ مودة ﴾ بأن يهديهم فألف بين قلوبكم، ﴿ والله قدير والله غفور رحيم١ لما فرط منكم من الموالاة ومنهم حين الكفر.
١ ثم إنه تعالى بعد ما ذكر من ترك انقطاع المؤمنين بالكلية عن الكفار رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال:﴿لا ينهاكم الله﴾ الآية..
﴿ لا ينهاكم الله عن الذين ﴾ أي عن الإحسان إلى الكفرة الذين، ﴿ لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ﴾ بدل اشتمال من الذين، ﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ تفضوا إليهم بالعدل، ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ نزلت حين جاءت أم أسماء بنت أبي بكر بهدايا فأبت أسماء أن تقبل وأن تدخل بيتها ؛ لأن أمها مشركة.
﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا ﴾ اتفقوا وأعانوا ﴿ على إخراجكم أن تولوهم ﴾ بدل من الذين، ﴿ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون١.
١ والحاصل أن من يضركم في كفره فلا توالوهم، ولما كان إرجاع أحد عند قومه من الموالاة بين أمره فقال:﴿يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا١ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ﴾ كان النبي عليه السلام يحلفهن أنهن ما خرجن إلا لحب الإسلام لا لفرار من أزواجهن ولا لعشق أحد، ﴿ الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات ﴾ بظهور الأمارات٢ وسماه علما ليعلم أن الظن الغالب في مثل هذا المقام كالعلم، ﴿ فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ لأن المسلمة لا تحل للكافر وفي العبارة تأكيد ومبالغة لا يخفى ومنه علم أنه حصلت الفرقة ولا يجوز استئناف النكاح ﴿ وآتوهم ﴾ أي : أزواجهن الكفار ﴿ ما أنفقوا ﴾ عليهن من المهر، ﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ﴾ فإن الإسلام أبطل الزوجية٣
﴿ إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ مهرهن هذا القيد ليعلم أن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام مهرهن بل لا بد من إصداق، وقد تقدم أن صلح الحديبية على أن من جاءنا منكم رددناه إليكم فهذه الآية مخصصة لعهدهم٤ نقض الله العهد بينهم في النساء خاصة، وقد كان في ابتداء الإسلام جائز أن يتزوج المشرك مؤمنة، وهذه الآية ناسخة، والأكثرون على أنها متى انقضت٥ العدة ولم يسلم الزوج انفسخ نكاحها منه، ويحكم بالانفساخ من حين إسلامها، ﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ جمع عصمة أي : ما اعتصم به من عقد ونسب، والكوافر جمع كافرة، هذا التحريم من الله على المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن أيضا ولذلك لما نزل طلق عمر٦ رضي الله عنه امرأتين مشركتين له بمكة ﴿ واسألوا ﴾ أيها المؤمنون من الكفار ﴿ ما أنفقتم ﴾ من صداق نسائكم اللاحقات بالكفار ﴿ وليسألوا ﴾ أي : المشركون ﴿ ما أنفقوا ﴾ من صداق المهاجرات، أمر المؤمنين بأن يكون العهد بينكم كذا فتطالبوهم بصداق المرتدات ويطالبوكم بصداق المهاجرات المؤمنات، ﴿ ذلكم حكم الله ﴾ إشارة إلى جميع ما ذكر في الآية ﴿ يحكم بينكم ﴾ استئناف ﴿ والله عليم حكيم ﴾ والأمر برد الصداق إلى الكفار لأجل العهد وإلا لم يجب.
١ في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول وهو أن المعاند لا يخلوا من أحد أحوال ثلاثة إما أن يستمر عناده أو يرجى منه أن يترك العناد أو يترك العناد ويستسلم، وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال، أما قوله تعالى:﴿قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا إنا برءاء منكم﴾ فهو إشارة إلى الحالة الأولى ثم قوله:﴿عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة﴾ إشارة إلى الحالة الثانية ثم قوله:﴿يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات﴾ إشارة إلى الحالة الثالثة ثم فيه لطيفة وتلبية وحث على مكارم الأخلاق، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن وبالكلام إلا بالذي هو أليق/١٢ كبير..
٢ والظن الغالب في أعمال الشرع في حكم العلم/١٢ وجيز..
٣ أي: بين المسلم والكافرة، أو بين المسلمة والكافر وهو ما أراده هنا..
٤ والحكم برد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد وأما من لا عهد فلا رد/١٢ منه..
٥ وعلم من قولنا: متى انقضت العدة أن هذا الحكم في المدخولة فإن غير المدخولة حكمها الفسخ حين إسلامها فليس عليها العدة/١٢ منه..
٦ كما في البخاري/١٢ وجيز..
﴿ وإن فاتكم ﴾ انفلت منكم ﴿ شيء من أزواجكم ﴾ أحد منها أي : من كانت، ﴿ إلى الكفار فعاقبتم ﴾ جاءت نوبتكم من العقبة وهي النوبة أو أصبتم من الكفار العقبى أي : الغنيمة وعليه كلام الأكثرين والحديث يؤيده ﴿ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ﴾ إلى الكفار، ﴿ مثل ما أنفقوا ﴾ مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو من مال الغنيمة١ نزلت حين نزلت الآية المتقدمة وأبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر، وحاصله : إن لم يؤدوا مهر المرتدة المنفلتة منكم فلا تؤدوا أنتم أيضا إلى الكفار مهر المهاجرة المنفلتة منهم، حين جاءت نوبتكم، بل أعطوا زوج المرتدة منكم مثل مهرها، مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو أعطوا زوجها مثل مهرها من مال الغنيمة، ﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون٢.
١ قالوا: هذا حكم الله في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة: قال القشيري: قال قوم: هذا الحكم ثابت إلى الآن نزلت حين نزلت الآية المتقدمة وأبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر/١٢ وجيز..
٢ فإن الإيمان بالله يقتضي الاجتناب عن معاصيه/١٢..
﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ﴾ عن بعض السلف أنها نزلت في يوم الفتح، وكلام الأكثرين على أنها قبل الفتح ﴿ ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن١ أولادهن ﴾ بأن وأد البنات من شكيمتهن، ﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ﴾ بأن تلتقط مولودا وتقول لزوجها : هذا منك، فإن الولد إذا وضعت سقط بين يديها ورجليها٢ ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ وهو لا يأمر إلا بالمعروف، لكن قيد به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق، ولو فرض أنه رسول- الله صلى الله عليه وسلم- في معصية الخالق ﴿ فبايعهن ﴾ هو العامل في إذا جاءك ﴿ واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾.
١ وفي المسوى شرح الموطأ باب البيعة على أركان الإسلام وترك الكبائر وغير ذلك من أحكام الشرع قال الله تعالى:﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا﴾ الآية، ثم ذكر الأحاديث وقال: فيه دليل على أن البيعة غير مقصورة على قبول الخلافة والذي يتعاهده مشايخ الصوفية له وجه في الشرع. انتهى ١٢..
٢ هكذا فسره ابن عباس مقاتل ويؤيده الأحاديث/١٢ منه..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ﴾ نهى عن موالاة الكافرين مطلقا أو اليهود منهم في آخر السورة، كما نهى في أولها ﴿ قد يئسوا من الآخرة ﴾ لإنكارهم الحشر ولعلمهم بأنهم على الضلال فإن اليهود من المعاندين ﴿ كما يئس الكفار ﴾ الأحياء ﴿ من أصحاب القبور ﴾ أي : من الاجتماع مع الأموات فإنهم منكروا الحشر، أو كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من كل خير ؛ لأنهم علموا شقاوتهم.
اللهم لا تجعلنا في زمرتهم.
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).