تفسير سورة الممتحنة

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثلاث عشر.

بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء... ﴾ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا، وكان له في مكة قرابة قريبة، وليس له في قريش نسب ؛ إذ هو مولى. فأرسل كتابا إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عيه وسلم في شأن غزوهم ؛ ليتخذ عندهم يدا فيحموا بها أقاربهم – مع مولاة تسمى سارة. فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان منه ؛ فأرسل في أثرها عليا – كرم الله وجهه – ومعه آخرون فأحضروا الكتاب، واعتذر حاطب ؛ وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره. نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم، وفسرها بقوله تعالى : " تلقون إليهم بالمودة " أي ترسلون إليهم أخباره صلى الله عليه وسلم بسبب ما بينكم وبينهم من المودة، وبقوله : " تسرون إليهم بالمودة ". والحكم عام ولا عبرة بخصوص السبب. وقد ورد النهي عن موالاتهم، واتخاذهم بطانة ووليجة من دون المؤمنين في غير آية، وبينت حكمة النهي في هذه الآية وفي غيرها بما يشهد به الواقع. ﴿ أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ أي لأجل إيمانكم بربكم ؛ فهو العلة لإخراج الرسول والمؤمنين من مكة، وهو العلة دائما في كراهة الكفار للمسلمين. ﴿ ومن يفعله منكم... ﴾ أي ومن يتخذهم منكم أولياء فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
﴿ إن يثقفوكم ﴾ أي يظفروا بكم ويتمكنوا منكم [ آية ١٩١ البقرة ص ٦٣ ]. ﴿ يكونوا لكم أعداء ﴾ أي يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها، ﴿ ويبسطوا إليكم أيديهم... ﴾ بما يسوءكم من القتل والأسر والأذى، ﴿ وودوا لو تكفرون ﴾ أي ويظهروا ودادتهم أن تكونوا مثلهم كافرين، ويرتبوا على ذلك آثاره، وهو معطوف على ﴿ يكونوا لكم أعداء ﴾.
﴿ لن تنفعكم أرحامكم ﴾ قراباتكم، ﴿ ولا أولادكم ﴾ الذين توالون المشركين من أجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عنهم بشيء من النفع. ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه. ثم قال تعالى :﴿ يفصل بينكم ﴾ أي يفرق بينكم وبين أرحامكم وأولادكم بما يكون فيه من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر. ويجوز أن يتعلق ﴿ يوم القيامة ﴾ بالفعل بعده.
﴿ أسوة حسنة ﴾ خصلة حميدة، جديرة أن يقتدى بها﴿ في إبراهيم والذين معه... ﴾ إذا أعلنوا براءتهم من الكفار ومن آلهتهم التي يعبدونها، " برءاء " جمع برئ، يقال : برئ من الأمر يبرأ براء وبراءة وبروءا، أي تبرأ منه وتفصى لكراهته، ﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه... ﴾ أي اقتدوا به في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك ؛ فلا تتأسوا به فيه، وكان قد استغفر له لموعدة وعدها إياه ؛ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
﴿ لا تجعلنا فتنة.... ﴾ أي مفتونين معذبين لهم ؛ بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نحتمله ؛ من فتن الفضة : إذا أذابها ؛ فهي مصدر بمعنى المفتون، أي المعذب.
﴿ عسى الله أن يجعل... ﴾ وعد للمؤمنين الذين تشددوا في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقاربهم المشركين، وفي مقاطعتهم إياهم بالكلية – بأنه تعالى سيجعل من هؤلاء من يوافق المؤمنين في الدين ويؤمن بعد الكفر ؛ فيتصل حبل المودة بينهم بعد الإيمان.
﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم... ﴾ ترخيص للمؤمنين في البر والصلة – قولا وفعلا – للكفار الذين لم يقاتلوهم لأجل الدين، ولم يلحقوا بهم أذى ؛ فهو في المعنى تخصيص للآية أول السورة، روي أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وكانت لها أم في الجاهلية تدعى قتيلة بنت عبد العزى، فأتتها في عهد قريش بهدايا فقالت لها أسماء : لا أقبل لك هدية ! ولا تدخلي علي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فذكرت ذلك عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية. ﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ أي تفضوا إليهم بالعدل. ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ أي المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم العدل من أنفسهم ؛ فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم.
﴿ وظاهروا على إخراجكم ﴾ عاونوا عليه ؛ كمشركي مكة. ظهر عليه، غلبه، وتظاهروا : تعاونوا.
﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن... ﴾ لما وقع صلح الحديبية مع المشركين على أن من أتى النبي صلى الله عليه وسلم منهم يرده إليهم وإن كان مسلما – جاءت سبيعة بنت الحارث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية بعد الفراغ من الكتاب مظهرة الإسلام، فأقبل زوجها وكان مشركا وطلب ردها إليه. فنزلت الآية بيانا لخروج النساء المسلمات من العموم ؛ للفرق الظاهر بينهن وبين الرجال. فإن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وتخويفها وإكراهها على الردة ؛ فلم يردها النبي صلى الله عيه وسلم إليه واستحلفها. وعن ابن عباس في كيفية امتحانهن : كانت المرأة إذا جاءت النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس الدنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله. ﴿ الله أعلم بإيمانهن ﴾ أي هذا الامتحان لكم، أما سرائرهن فموكولة إلى علام الغيوب. ﴿ فإن علمتموهن ﴾ أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الامتحان. ﴿ مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ﴾ ثم علل ذلك بقوله :﴿ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ ثم أمر الله تعالى أن يعطى الأزواج المشركون الذين هاجرت نساؤهم مؤمنات إذا علم إيمانهن بالامتحان – ما دفعوا في نكاحهم من الصداق بقوله :﴿ وآتوهم ما أنفقوا ﴾ وذلك إذا كان الأزواج معاهدين، أما إذ كانوا حربيين فلا يعطون ما أنفقوا اتفاقا.
﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ جمع كافرة، والمراد : المشركان الباقيات بدار الحرب، أو اللاحقات بها مرتدات. والعصم : جمع عصمة، وهي ما يعتصم به من عقد وسبب. والمراد هنا : عقد النكاح، أي لا يكن بينكم وبين هؤلاء الزوجات المشركات علقة زوجية ؛ لانقطاع العصمة باختلاف الدارين.
﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم... ﴾ أي وإن انفلت أحد من أزواجكم إلى الكفار، ولم يؤدوا إليكم ما دفعتم لهن من المهور. ﴿ فعاقبتم ﴾ أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم منهم. ﴿ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ﴾ من الغنيمة، ﴿ مثل ما أنفقوا ﴾ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى الذي زوجته من الغنيمة قبل أن يخمّسها – المهر ولا ينقص من حقه شيئا، وروى عن مجاهد وقتادة وعطاء : أن هذا الحكم منسوخ، وقيل غير منسوخ.
﴿ يبايعنك ﴾ يعاهدنك. وأصل المبايعة : مقابلة شيء بشيء على جهة المعاوضة. وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها لها بها ؛ فإن الناس إذا التزموا قبول ما شرط عليهم من التكاليف الشرعية، طمعا في الثواب وخوفا من العقاب، وضمن لهم عليه الصلاة والسلام ذلك في مقابلة وفائهم بالعهد – صار كأن كل واحد منهم باع ما عنده بما عند الآخر. ﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾ المراد به وأد البنات. وكان ذلك في الجاهلية يقع تارة من الرجال، وأخرى من النساء ؛ فكانت المرأة إذا حانت ولادتها حفرت حفرة فتمخّضت على رأسها ؛ فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها، وإذا ولدت غلاما أبقته. ويستفاد من هذا النهي حكم إسقاط الحمل بعد نفخ الروح فيه.
﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه... ﴾ ولا يأتين بأولاد يلتقطنهم وينسبنهم كذبا إلى الأزواج ؛ وليس الراد به الزّنى لتقدم ذكره. ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ أي في أيّ أمر معروف، ومنه ألا ينحن ولا يشققن جيبا، ولا يخدشن وجها، ولا يدعن بويل عند موت أو مصيبة. ﴿ فبايعهن ﴾ ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء بغير مصافحة ؛ وكان عددهن أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة.
﴿ لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ﴾ لا تتخذوا أولياء وأنصار لكم. نزلت نهيا عن موالاة اليهود ؛ فقد كان أناس من فقراء المسلمين يواصلونهم بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم. والحكم عام فيهم وفي سائر الكفار الذين يقاتلون المسلمين لأجل الدّين، ويؤذونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام.
﴿ قد يئسوا من الآخرة ﴾ أي قد ترك هؤلاء العمل للآخرة، وآثروا عليها الحياة الفانية ؛ فكانوا بمنزلة اليائسين منها يأسا تاما، شبيها من موتاهم أن يعودوا إلى الدنيا أحياء. أو بيأس الكفار الذين ماتوا على الكفر وعاينوا العذاب في القبور من نعيم الآخرة. والله أعلم.
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).