تفسير سورة الممتحنة

أحكام القرآن للجصاص

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص.
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

الصِّفَةِ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فَكَانَ الْإِيثَارُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْإِمْسَاكِ وَالْإِمْسَاكُ مِمَّنْ لَا يَصْبِرُ وَيَتَعَرَّضُ لِلْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ الْإِيثَارِ وَقَدْ رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أُهْدِيَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُ شَاةٍ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إلَى هذا منابه فبعث إليه فلم يزل يبعث به واحدا إلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا تِسْعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ فَنَزَلَتْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الْآيَةَ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ جَاءَ رِجْلٌ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ أَنْ تُصِيبَنِي هَذِهِ الْآيَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فُو اللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا أُطِيقُ مَنْعَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا الْبُخْلُ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ وَلَكِنَّ الشُّحَّ أَنْ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرٍ حَقِّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قال إدخال الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ.
سُورَةُ الممتحنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة حين كتب إلى كفار قريش يتنصح لَهُمْ فِيهِ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنْتَ كَتَبْت هَذَا الْكِتَابَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَمَا وَاَللَّهِ مَا ارْتَبْت فِي اللَّهِ مُنْذُ أَسْلَمْت وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً غَرِيبًا فِي قُرَيْشٍ وَكَانَ لِي بمكة مال وبنون فأردت أن أدفع بِذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْلًا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَإِنِّي غَافِرٌ لَكُمْ
حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى مَا قَدَّمْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ مَا فَعَلَهُ حَاطِبٌ لَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ كَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِهِ عِنْدَ التَّقِيَّةِ وَيَسْتَبِيحُ إظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ إذَا صَدَرَ عَنْهُ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْإِكْفَارَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يوجب الإكفار لاستنابه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَتِبْهُ وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ عُلِمَ أَنَّهُ ما كان مرتد
وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَ عُمَرَ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا
وَقَالَ مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ
فَجَعَلَ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ قَتْلِهِ كَوْنَهُ مِنْ أهل بدر وقيل لَهُ لَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا مُسْتَحِقًّا لِلنَّارِ إذَا كَفَرَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ وَإِنْ أَذْنَبُوا لَا يَمُوتُونَ إلَّا عَلَى التَّوْبَةِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ وُجُودَ التَّوْبَةِ إذَا أَمْهَلَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ بِقَتْلِهِ أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقْتَطِعُهُ بِهِ عَنْ التَّوْبَةِ فيجوز أن يكون مراده أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ وَإِنْ أَذْنَبُوا فَإِنَّ مَصِيرَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِي إظْهَارِ الْكُفْرِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مَعَ خَوْفِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ لَتَكْفُرَنَّ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ إظْهَارُ الْكُفْرِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ فِيمَنْ لَهُ عَلَى رِجْلٍ مَالٌ فَقَالَ لَا أَقِرُّ لَك حَتَّى تَحُطَّ عَنِّي بَعْضَهُ فَحَطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَطُّ عَنْهُ وَجُعِلَ خَوْفُهُ عَلَى ذَهَابِ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحَطِّ وَهُوَ فِيمَا أَظُنُّ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْأَهْلِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْهِجْرَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ لِأَجْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِهِمْ فَقَالَ قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ الْآيَةَ وَقَالَ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها
وقَوْله تَعَالَى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الآية وقوله وَالَّذِينَ مَعَهُ قِيلَ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي إظْهَارِ مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ وَقَطْعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً فَهَذَا حُكْمٌ قَدْ تَعَبَّدَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَوْلُهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يَعْنِي فِي أَنْ لَا يَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الدُّعَاءِ لِلْأَبِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا فَعَلَ إبْرَاهِيمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ وَوَعَدَهُ إظْهَارَهُ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيم فِي كُلِّ أُمُورِهِ إلَّا في الاستغفار لِلْأَبِ الْكَافِرِ
وقَوْله تَعَالَى رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ على حق
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا تُسَلِّطُهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَنَا.
بَابُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْمُشْرِكِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الْآيَةَ
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ جَاءَتْنِي أَأَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِيهَا
قَالَ أَبُو بكر وقوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ قِتَالِنَا فيه النَّهْيُ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ لِقَوْلِهِ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ قَالَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وقَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الْآيَةَ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال كَانَ مِمَّا شَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلَّا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ عَلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَجَاءَ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهن إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
الْآيَةَ
قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ قَالَتْ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُك كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ وَاَللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمُبَايَعَةِ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَقَدْ صَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَعَلَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ يَرُدُّونَهُ
وَرَوَى الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ فِي الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَهُوَ رَدٌّ إلَيْهِمْ وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ فَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ نِسَائِهِمْ تُسْأَلُ مَا أَخْرَجَكِ فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ هَرَبًا مِنْ زَوْجِهَا وَرَغْبَةً عَنْهُ رُدَّتْ وَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ أُمْسِكَتْ وردت عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لا يخلو
327
الصُّلْحُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَانَ خَاصًّا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَيْهِمْ أَوْ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ بَدِيًّا عَامًّا ثُمَّ نُسِخَ عَنْ النِّسَاءِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِمْ لأن النسخ جائز بعد التمكن مِنْ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ وَقَوْلُهُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا هَاجَرْنَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى امْتِحَانَهُنَّ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ غَيْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَضْرَتِهِمْ وقَوْله تَعَالَى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ لَا حَقِيقَةُ الْيَقِينِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا يعنون يَعْنُونَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَرَقَ فِي الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وَإِنَّمَا حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ وَهُوَ مِثْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ الْعَدَالَةُ قَدْ تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِالْحُكْمِ بِهَا مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَحَمْلِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ وَكَذَلِكَ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ أَلْزَمَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبُولَ قَوْلِ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانُ وَالْحُكْمَ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَصْدِيقِ كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ حَالِهِ مِثْلُ الْمَرْأَةِ إذَا أَخْبَرَتْ عَنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا وَحَبَلِهَا وَمِثْلُ الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْتِ أَوْ قَالَ إذَا طَهُرْتِ فَيَكُونُ قَوْلُهَا مَقْبُولًا فِيهِ وَقَالَ عَطَاءُ ابن أَبِي رَبَاحٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ فقال عطاء ما علمنا إيمانهم إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِنَّ وَقَالَ قَتَادَةُ امْتِحَانُهُنَّ مَا خَرَجْنَ إلَّا لِلدِّينِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَحُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.
بَابُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ صَارَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَزَوْجُهَا بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارَانِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
328
وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَعَهُ حَيْثُ أَرَادَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وقوله وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِرَدِّ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً لَمَا اسْتَحَقَّ الزَّوْجُ رَدَّ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْبُضْعَ وَبَدَلَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا لَمَا جَازَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ فَنَهَانَا أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحَرْبِيَّةِ تَخْرُجُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ إنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا حُكْمَ لِلدَّارِ عِنْدَهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ إذَا أَسْلَمَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة قَبْلَ زوجها فهو أحق بها ماداموا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ
وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ السَّفَّاحِ بْن مَطَرٍ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ نَصْرَانِيٌّ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ نَصْرَانِيَّةٌ فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فِي النَّصْرَانِيِّ تُسْلِمُ امْرَأَتُهُ قَالُوا إنْ أَسْلَمَ مَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ إذَا أَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَإِنْ لَمْ يسلم فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إذَا أَسْلَمَتْ النَّصْرَانِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا فَهِيَ أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَصَلَ اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هو أحق بها ماداموا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ
وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَمَتَى اخْتَلَفَتْ بِهِمَا الدَّارُ فَصَارَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَانَتْ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبَى الزَّوْجُ الْإِسْلَامَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَام وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ هي امرأته مادامت فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِهَا وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ
329
مِنْهُ بِإِسْلَامِهَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إذَا أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ الزَّوْجُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَعْرِضَ الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَقَالُوا إنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَسْلَمَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَإِذَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ اعْتِبَارُ الْحَيْضِ إنَّمَا أَرَادُوا بِهِ الْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ وَخَرَجَ إلَيْنَا أَيُّهُمَا كَانَ وَبَقِيَ الْآخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوهَ دَلَائِلِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ نَزَلَتْ فِي سَبَايَا أو طاس كَانَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي الشِّرْكِ وأباحهن لَهُمْ بِالسَّبْيِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ كُلُّ ذَاتِ زَوْجٍ فَإِتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّبَايَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُسْبَ زَوْجُهَا مَعَهَا فَلَا يَخْلُو وُقُوعُ الْفُرْقَةِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهَا أَوْ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا أَوْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ إسْلَامَهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فِي الْحَالِ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ بِدَلَالَةِ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ إذَا بِيعَتْ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ لَمْ يَكُنْ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْوَارِثِ رَافِعًا لِلنِّكَاحِ فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إلَّا اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ فَإِنْ قِيلَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ امْرَأَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إلَى دار الإسلام لم تقع الفرقة فعلمنا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إمَّا بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِالذِّمَّةِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ حَرْبِيًّا كَافِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَهُمَا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ احْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا
رَوَى يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عباس
330
قَالَ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ
وَقَدْ كَانَتْ زَيْنَبُ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ زَوْجُهَا بِمَكَّةَ مُشْرِكًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ فِي إيقَاعِ الْفُرْقَةِ فَيُقَالُ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلْمُخَالِفِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ قَالَ رَدَّهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تحيض ثلاث فِي سِتِّ سِنِينَ فَسَقَطَ احْتِجَاجُ الْمُخَالِفِ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رَوَى خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ تُسْلِمُ قَبْلَ زَوْجِهَا أَنَّهَا أَمْلَكُ لِنَفْسِهَا فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ بِإِسْلَامِهَا وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ
أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم ردا بنته زينب على بن الْعَاصِ بِنِكَاحٍ ثَانٍ
فَهَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ إنْ صَحَّ فَإِنَّمَا هُوَ إخبار عن كونها زوجة له بعد ما أَسْلَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ حُدُوثَ عَقْدٍ ثَانٍ وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْإِخْبَارُ عَنْ حُدُوثِ عَقْدٍ ثَانٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ إخْبَارٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَالِ وَالثَّانِيَ إخْبَارٌ عَنْ مَعْنًى حَادِثٍ قَدْ عَلِمَهُ وَهَذَا مِثْلُ ما نقوله فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حلال فَقُلْنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الأمر الأول وحديث زَوْجِ بَرِيرَةَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِخْبَارِهِ عَنْ حَالٍ حَادِثَةٍ عَلِمَهَا وَأَخْبَرَ الْآخَرُ عَنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يعلم حدوث حال أخرى.
(فَصْلٌ) وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُهَاجِرَةِ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّوْجِ الْحَرْبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فَأَبَاحَ نِكَاحَهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِدَّةٍ وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَالْعِصْمَةُ الْمَنْعُ فَحَظَرَ الِامْتِنَاعَ مِنْ نِكَاحِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا الْحَرْبِيِّ وَالْكَوَافِرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرِّجَالَ وَظَاهِرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الرِّجَالُ لِأَنَّهُ فِي ذِكْرِ الْمُهَاجِرَاتِ وَأَيْضًا أَبَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وطء المسبية بعد الاستبراء لَيْسَ بِعِدَّةٍ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ
وَالْمَعْنَى فِيهَا وقوع الفرقة باختلاف الدارين وقوله تعالى وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ يَعْنِي رَدَّ الصَّدَاقِ واسئلوا أهل
331
الْحَرْبِ مَهْرَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا صَارَتْ إلَيْهِمْ وليسئلوهم أَيْضًا مَهْرَ مَنْ صَارَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً مِنْهُمْ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرُدُّوا الصَّدَاقَ إذَا ذَهَبَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَهَا زَوْجٌ مُسْلِمٌ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ صَدَاقَ امْرَأَتِهِ إنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِمَّا يَرُدُّونَ وَأَنْ يَرُدُّوا إلَى الْمُشْرِكِينَ وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تعالى وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهَا وَرَوَى زَكَرِيَّا ابن أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ كَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِمَّنْ ذَكَرَ الله في القرآن وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا خَرَجَتْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ قال ليس بينكم وبينهم عهد فَعاقَبْتُمْ وَأَصَبْتُمْ غَنِيمَةً فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا قالوا عَوِّضُوا زَوْجَهَا مِثْلَ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ وَزَادَ يُعْطَى مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ يَقْسِمُونَ غَنِيمَتَهُمْ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ إنْ فَاتَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ إلَى الْكُفَّارِ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ تَأْخُذُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ فَعَوِّضُوهُمْ مِنْ فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ غَيْرَ مُخَالِفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُمْ يُعَوَّضُونَ مِنْ صَدَاقٍ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهُ إلَى الْكُفَّارِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ إذَا كَانَ هُنَاكَ صَدَاقٌ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقٌ رُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي رَدِّ الْمَهْرِ وأخذه من الكفار تعويض الزَّوْجِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ قَدْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ ثَابِتِ الْحُكْمِ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ فَإِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ جَاءَتْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْلَمَتْ أَيُعَوَّضُ زَوْجُهَا مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُمْتَحَنَةِ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا قَالَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أهل عهد قُلْت فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ الْآنَ مِنْ أَهْلِ عَهْدٍ قَالَ نَعَمْ يُعَاضُ فَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ نَسْخُهَا قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ
وبقول
332
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).