تفسير سورة الممتحنة

التفسير الواضح

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب التفسير الواضح
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة الممتحنة
وهي مدنية في قول الجميع، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية.
وهذه السورة تحدد موقف المسلمين من المشركين تحديدا تامّا من ناحية الصلة والمودة، ومن ناحية القتال والمسالمة، ومن ناحية العلاقة الزوجية القائمة بين المسلم وغيره، وكيف بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء، وفي الختام- كما في البدء- النهى عن موالاة الكفار.
موالاة الكفار وعلاقتنا بهم [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
655
المفردات:
أَوْلِياءَ جمع ولى، والمراد به الصديق الذي توليه بالسر. بِالْمَوَدَّةِ المراد:
النصيحة. مَرْضاتِي: رضائى. يَثْقَفُوكُمْ: يظفروا بكم.
أَرْحامُكُمْ: قرابتكم. أُسْوَةٌ: قدوة حسنة. بُرَآؤُا: جمع برىء، أى: لا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَبَدا: ظهر. الْعَداوَةُ: ضد
656
الصداقة والمحبة، والبغضاء: وهي شدة البغض، ضد المحبة. فِتْنَةً أى: مفتونين للذين كفروا، أى: معذبين بسببهم أو بسبب غيرهم. مَوَدَّةً: صلة وقربى.
وَتُقْسِطُوا أى: تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ: العادلين.
وَظاهَرُوا أى: وعاونوا الغير وتعاونوا على إخراجكم.
روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن على- رضى الله عنه- قال: «بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- موضع بين مكة والمدينة- فإن بها ظعينة، أى: امرأة في هودج، معها كتاب فخذوه منها» قال علىّ: فانطلقنا مسرعين حتى أدركنا المرأة، وطلبنا منها الكتاب فأبت أول الأمر، فلما رأت منا الجد والإصرار والتهديد أخرجت الكتاب من عقاصها- شعرها- فأتينا به رسول الله، فإذا هو من حاطب بن أبى بلتعة إلى مشركي مكة يخبرهم ببعض أمر الرسول.
فقال رسول الله: يا حاطب ما هذا؟ قال: لا تعجل علىّ يا رسول الله، إنى كنت امرأ ملصقا في قريش فأحببت أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «صدق» وهم عمر يضربه بالسيف، فأجيب بأنه من أهل بدر، وأنزل الله- عز وجل- هذه الآية
، وفي معناه نزلت آيات عدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة ٥١] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران ٢٨]... إلخ.
المعنى:
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان: لا يليق بكم- لأجل هذا الوصف- أن تتخذوا عدو الله وعدوكم «١» أولياء وأصدقاء، ولو في الظاهر، فالله ينهانا عن موالاتهم والإسرار إليهم بأخبارنا، ولو كان هذا في الظاهر، لا عن عقيدة وإيمان: لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء حالة كونكم تلقون إليهم بالمودة، وتسرون إليهم بها كما فعل أخوكم حاطب بن أبى بلتعة عن حسن نية، لا تتخذوهم أولياء والحال أنهم كفروا بما جاءكم من الحق والقرآن، فأنتم مؤمنون به مصدقون له، وهم كافرون فبينكم عداوة شديدة في العقيدة فكيف تلتقون؟ هم كفروا بالله ورسوله، والحال أنهم يخرجون الرسول وإياكم من
(١) عدو على زنة فعول مصدر، لهذا صح أن يقع على الواحد والجمع.
657
دياركم وأموالكم وأوطانكم لا لشيء أبدا إلا لأنكم تؤمنون بالله ربكم، عجبا كيف تجعلونهم أولياء وتسرون إليهم بالمودة؟!! إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته فلا تتخذوهم أولياء، أى:
لا تتولوا أعدائى إن كنتم أوليائى.
كيف تلقون إليهم بالمودة؟ تسرون «١» إليهم بأخبار الرسول سرّا، وأنا أعلم السر وأخفى، نعم الله يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، وأخطأ طريق الهدى والحق.
كيف هذا مع أنهم إن يظفروا بكم ويدركوكم- على أى وضع- يكونوا لكم أعداء ويعاملوكم معاملة العدو اللدود، ويسطوا إليكم أيديهم بالضرب والسبي والقتل وألسنتهم بالشتم والسب والذم، ولا عجب فإنهم يودون من صميم قلوبهم لو تكفرون.
وما لكم توادون أعداء الله وأعداءكم من أجل قرابتكم وأولادكم؟ مع أنه لن تنفعكم أرحامكم ولا قراباتكم، ولن تنفعكم أولادكم وأموالكم في شيء، يوم القيامة يفصل بينكم ويقضى بحكمه فاعملوا لأجل هذا اليوم، وانظروا ماذا قدمتموه لهذا الغد، واعلموا أن الله بما تعملون بصير فسيجازيكم على كل عمل.
أسوة إبراهيم في هذا:
كيف تتخذون أعدائى وأعداءكم أولياء؟ ألا تقتدون بأبيكم إبراهيم؟ قد كانت لكم أسوة حسنة، وقدوة طيبة في أبيكم إبراهيم الخليل والذين معه من المؤمنين إذ قالوا «٢» لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون فنحن لا نعتد بكم، ولا نحفل بآلهتكم بل أنكرنا، وبدا بيننا وبينكم العداوة لا المحبة، والبغضاء لا الصداقة في كل وقت، كل هذا حتى تؤمنوا بالله وحده، وتكفروا بشرككم. اقتدوا بأقوال إبراهيم وأفعاله إلا قوله لأبيه: لأستغفرن لك.
واستثناء قول إبراهيم هذا من الأسوة- الحسنة، لأنها- واجب اتباعها وتقليد إبراهيم فيها حيث ذكر بعدها هذا الوعيد وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
(١) هذه الجملة بدل بعض من كل في قوله تلقون.
(٢) (إذ قالوا) بدل اشتمال من (إبراهيم).
658
واستغفار إبراهيم لأبيه حيث لم يعرف إصراره على الكفر وموته عليه بمعنى الدعاء له بالتوفيق جائز شرعا بدليل قوله: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، والحكم في الإسلام على هذا بالجواز حيث لم نعلم أن الكافر مصر على الكفر أو مات عليه، فالاستغفار بهذا المعنى جائز لا واجب، ولهذا استثنى من القدوة الواجب اتباعها، وبعضهم أجاب عن هذا بقوله: إبراهيم- عليه السلام- استغفر حيث لم يعلم إصرار أبيه، وقد كان وعده، أما أنتم فتعرفون إصرار هؤلاء وفظاعة عنادهم وشدة كراهيتهم لكم فلا ينبغي أبدا أن تجاملوهم وتدعوا لهم بالخير بعد أن وصف الله لكم نياتهم ورأيتم أفعالهم، وهذا تخريج حسن بلا شك.
لأستغفرن لك ربي والحال أنى لا أملك لك من الله شيئا فاعمل بما يرضيه فلن أغنى عنك من الله شيئا يا أبت! ربنا: عليك توكلنا، وإليك وحدك أنبنا وتبنا، وإليك وحدك المصير.
ربنا: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتعذبنا على أيديهم أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل فيفتنوا لذلك، وللأسف ما يحصل اليوم هو هذا. فيا رب لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا سيئاتنا، وقنا عذاب الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه أسوة حسنة لمن «١» كان يرجو الله واليوم الآخر، ومن يتول عن ذلك، ولا يقتدى بالصالحين فليعلم أن الله هو الغنى عنه وعن عمله، المحمود في السموات والأرض، وهذا تهديد لمن لا يقتدى بالقدوة الحسنة.
وأما أنتم- أيها المسلمون- فلا يشقن ذلك عليكم عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم في الدين من أقاربكم وأهليكم المشركين، عسى الله أن يجعل بينكم وبينهم مودة وصلة وأخوة في الإسلام، والله على كل شيء قدير، وهو الغفور لما فرط من الذنوب الرحيم بخلقه إذا تابوا وأنابوا.
(١) بدل من (لكم) بإعادة حرف الجر وهذا كثير لغة.
659
وفي هذه الآية حدد علاقتنا بالكفار: فقد نهانا عن مودتهم واصطفائهم بأخبار الحروب والأخبار التي تضر الأمة الإسلامية، ولكن هل نحن منهيون عن البر بهم ماديا والقسط إليهم والعدل معهم؟ ولقد أجاب الله عن ذلك جوابا شافيا فقال ما معناه: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في أمر الدين وشأنه، ولم يخرجوكم من دياركم، لا ينهاكم الله عن الذين لم يفعلوا هذا أن تبروهم بالخير، وتقسطوا إليهم بالعدل، وتعاملوهم بالحسنى ما داموا لم يسيئوا إليكم في الدنيا إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن موالاة ومحبة من قاتلوكم في الدين، وجاهدوكم عليه بكل نفس ونفيس كما فعلت قريش مثلا حيث قاتلوكم لأجل الدين، وأخرجوكم من دياركم وأموالكم وظاهروا الغير وتعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عن موالاتهم ومحبتهم ومن يتولهم ويتخذهم أنصارا وأحبابا فأولئك هم الظالمون.
المهاجرات من النساء ومبايعتهن [سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
660
المفردات:
أُجُورَهُنَّ: مهورهن. بِعِصَمِ: جمع عصمة، والمراد هنا عقد النكاح.
فَعاقَبْتُمْ: من العقبة، وهي النبوة، والمراد: أصبتموهم في القتال حتى غنمتم.
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ المراد بذلك: الوأد. بِبُهْتانٍ المراد بذلك الولد.
يَفْتَرِينَهُ: يختلقن نسبته إلى الزوج.
لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام خوفا من موالاة المشركين، وكان التناكح من أقوى أسباب الموالاة، فبين الله حكم المهاجرات بهذه الآية.
وكان من أسباب النزول ما روى عن ابن عباس أنه قال: جرى الصلح بين المسلمين ومشركي قريش عام الحديبية، وكان من شروطه: أنه من أتى من أهل مكة رد إليهم ومن أتى من المسلمين لم يرد إليهم، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من كتابة الصلح مباشرة إلى النبي، وأقبل زوجها المشرك يطلبها- صيفي بن الراهب- فقال: يا محمد. اردد على امرأتى فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
661
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك إلى دار الإسلام، فامتحنوهن بما يغلب على ظنكم أنهن صادقات في إيمانهن، ولم يأتين حبا في الانتقال من دار إلى دار أو بغضا في زوج، بل كان الدافع لهن هو حب الله ورسوله، واعلموا أن الله أعلم بإيمانهن حقيقة، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئن به قلوبكم، من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، ولكن هذا ما يمكن فعله فإن علمتم فيهن صدق الإيمان فلا ترجعوهن إلى الكفار- وهذا تقييد للشرط المطلق في عقد الصلح- بل أبقوهن معكم، وقد فرق الشارع الحكيم هنا بين الرجل والمرأة فإن الرجل قوى يمكنه أن يستقل ويترك دار الكفر والمرأة لا تقوى على الإغراء فيخشى معها الفتنة... لا هن «١» حل لهم حالا، ولا أزواجهم الكفار يحلون لهن في المستقبل بأى شكل ما داموا مشركين، وهن مؤمنات ويلزم على هذا أن تؤتوا الأزواج ما أنفقوا، محل ذلك في الأزواج الذين بيننا وبينهم عهد أما الحربيون فلا يلزمنا شيء لهم، على أن هذا الأمر للندب، وبشرط أن يطلبه الزوج وإلا فلا يجب شيء.
وهؤلاء المهاجرون لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن مهورهن، وما حكم المرأة التي يتركها زوجها في دار الشرك مشركة وهو مسلم؟ الحكم أنه إذا أسلم الزوج وكان إسلامه حقيقيّا فيجب فسخ عقد النكاح السابق بينه وبين المشركة الوثنية أما الكتابية فلا فسخ لأنه يجوز العقد عليها ابتداء، ومحل قطع العلاقة الزوجية بين المسلم والمشركة مشروط بألا يجمعهما الإسلام في العدة.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت إحدى الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفة وعدلا بين الناس، ثم نسخ هذا الحكم، وذلك حكم الله يحكم بينكم بالعدل، والله عليم حكيم.
(١) هذه الجملة بمنزل التعليل للجملة السابقة.
662
وإن فاتكم شيء من أزواجكم وذهبن إلى الكفار ثم لم يعطوكم شيئا من المهر فعاقبتم، وأتت العاقبة لكم فغنمتم شيئا منهم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم، ولم يأخذوا مهورهن مثل ما أنفقوا لفواته عليهم من جهة الكفار، واتقوا الله في كل شيء، اتقوا فأنتم به مؤمنون، ومن الواجب على المؤمنين تقوى الله في السر والعلانية وقد فعل المؤمنون ما أمروا به من الإيتاء للكفار والمؤمنين، وقد رفع هذا الحكم العام، وأصبح الحكم شخصيّا على الإمام والمسلمين عامة.
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على عدم الإشراك بالله شيئا وعدم السرقة، والزنا، وقتل الأولاد خوف الفقر أو العار كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات أحياء ويبايعنك على ألا يأتين بولد يختلقن نسبته للزوج مقدرا وجوده بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف عرف حسنه شرعا وعقلا من طاعة الله ورسوله والإحسان للناس وكل ما أمر به الشرع الشريف.
إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على هذا الأساس فبايعهن، واستغفر لهن الله عما فرط منهن، وقد كانت مبايعته الرجال على الإسلام والجهاد، ومبايعة النساء على ما ذكر في الآية، وقيل: هما سواء في كل ذلك، ولعل السر في مبايعة النساء بهذا أن النساء كثيرا ما يرتكبن مثل هذه الأعمال. والثابت أن هذه الآية نزلت في مبايعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في فتح مكة، وكانت فيهن هند بنت عتبة، ولها قصة مذكورة في كتب السيرة.
بدئت هذه السورة بالنهى عن موالاة الكفار وخاصة اليهود، وختمت بمثل ذلك تأكيدا لعدم موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عنها.
يا أيها الذين آمنوا: لا تتولوا قوما قد غضب الله عليهم، ولعنهم- وهم اليهود- قد يئسوا من الآخرة وثوابها مع أنهم يوقنون بها، وذلك لعنادهم مع النبي مع علمهم بصدقه، هؤلاء يئسوا كما يئس الكفار حالة كونهم من أصحاب القبور الذين ماتوا، يئسوا من الرجوع إليهم والالتقاء بهم في أى وقت.
663
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).