تفسير سورة الممتحنة

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الممتحنة
مدنية، وآياتها ثلاث عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ... (١) وكان رسول اللَّه - ﷺ - هادن قريشاً سنة الحديبية، ثم نقضوا العهد، فأراد أن يغزوهم، وكان وقت الفتح الموعود. فقال: اللَّهم أعم عن المشركين شأننا، فكتب حاطب بن أبى بلتعة - وهو رجل من المهاجرين ولم يكن من قريش، بل كان حليفاً لعثمان - رضي الله عنه - وكان قد تخلف عنه أهله وماله - كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بأمر رسول اللَّه - ﷺ - وقصدهم، وأعطاه لعجوز من عُجُز مزينة. وقيل: لسارة مولاة أبي المطلب. فلما توجهت أخبر جبرائيل رسول اللَّه - ﷺ - بشأنها، فأرسل
140
علياً - رضي الله عنه - والزبير وأبا مرثد والمقداد بن الأسود. وقال: إيتوا روضة خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب خذوه منها. قال علي - رضي الله عنه -: فذهبنا تعادى بنا خيلنا فأدركناها فقالت: ليس معي كتاب. فقلت: ما كذب رسول اللَّه لتخرجن الكتاب أو لأجرِّدَنَّك، فأخرجته من حجزتها وكانت محتجزة بكساء وفى رواية أخرجته من عِقَاصِها. فأتوا به رسول اللَّه - ﷺ - فطلب حاطباً وقال: ما هذا الكتاب؟ قال: يا رسول اللَّه لا تعجل، فواللَّه منذ أسلمت ما ازددت إلا إيماناً، ولكن كان من هاجر من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم، وكنت لصيقا فيهم، فأردت إذ فاتني ذلك أن أصطنع يداً عندهم يحمون بها أهليهم قرابتي. قال رسول اللَّه - ﷺ -: قد صدقكم فلا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر: يا رسول اللَّه، منافق دعني
141
أضرب عنقه، فقال: يا عمر وما يدريك أن اللَّه قد اطّلع على أهل بدر وقال: افعلوا ولا حرج قد غفرت لكم. ففاضت عينا عمر فنزلت. والعدو: فعول من عداه جاوزه، ولكونه على زنة المصدر كالقبول يطلق على الجمع. وفي تقديم (عدوي)، إشارة إلى أنه المهم، وإن فرض أن لم يكن عدواً لهم. (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) حال من فاعل (لا تَتَّخِذُوا)، أو صفة (أَوْلِيَاءَ). جرت على غير من هي له من دون الإبراز؛ لكونها فعلاً أو استئنافاً. والباء مزيدة للتوكيد، كما في (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ)، أو للسببية والمفعول محذوف أي: أخبار رسول اللَّه بسبب المودة. (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ). حال من فاعل (تُلْقُونَ) إن جُعِل مستأنفاً، وإلا جاز أن يكون منه أو من فاعل (لَا تَتَّخِذُوا). (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) استئناف جار مجرى التفسير كأنه قيل: كيف كفروا؟ فقيل: كفروا أسد الكَفر لإخراجهم الرسول والمؤمنين لإيمانهم باللَّه مولاهم خاصة لا لغرض آخر. وهذا أملأ فائدة من جعله حالاً من فاعل كفروا. (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) حذف جواب الشرط؛ لدلالة ما قبله عليه. (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ماذا فعلوا حتى عوتبوا بما عوتبوا؟. ولذلك أوثر إن على إذا. ويجوز إبداله من " تلقون ". و " الباء " فيه كما في تلقون. (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ) منكم وأطلع رسولي عليه. فأي فائدة في الإسرار بعد علمكم بهذا وإيمانكم به. (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) الطريق القويم.
(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً... (٢) إن يظفروا بكم يظهر لكم منهم نتيجة العداوة، من الإضرار بما يمكنهم. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) بالقتل والشتم.
جار مجرى تفسير العداوة. (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) يردونكم كفاراً. وإيثار الماضي هنا؛ -وإن كان الماضي والمضارع لا يتفاوتان بعد وقوعهما جزاء الشرط- للإشارة إلى أن ودادتهم لكفر المؤمنين أهم؛ لانحسام مادة العداوة وارتفاع المشاقة حينئذ. والمراد: ودادةً مقارنةً للقدرة على ردهم كفاراً. فلا يرد أن ودادتهم مستمرة، فلا يفيد التقييد بالشرط ليوثر العطف على الشرطية لا الجزاء كما في (ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) في سورة الحشر.
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ... (٣) قراباتكم، (وَلَا أَوْلَادُكُمْ) الذين توالون الكفار لأجلهم. خطّأهم أولاً في موالاتهم من هو خالص العداوة لهم، ثم في من يوالون لأجله، ثم بين وجه ذلك بقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) يفرق بينكم (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ). فأي فائدة في موالاة أعداء اللَّه لمن لا بقاء ولا نفع في وده. قرأ غير عاصم بضم الياء وكسر الصاد، ويشدده حمزة والكسائي وابن عامر، وهو أبلغ وأوفق بالمقام. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ومشاهد له.
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ... (٤) الأسوة: اسم لما يؤتسى به، كالقدوة لفظاً ومعنىً. كسر همزته غير عاصم. (إِذْ قَالُوا لقَوْمِهِمْ) ظرف لخبر كان وهو لكم. (إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ) جمع بريء، كظرفاء جمع ظريف. (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
(كَفَرْنَا بِكُمْ) أي: بكل شيء يلتبسون به مما يدان به. والكلام على المشاكلة والتهكمَ إذ الكفر إنما يكون بالحق وما أتى به الرسل. (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) فحينئذٍ تنقلب العداوة موالاة، والبغضاء حباً. (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) مستثنى من أسوة حسنة؛ لأنها عبارة عن قولهم: (إِنَّا بُرَآَءُ) إلى آخره.
(وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا وإن صح أن يكون من الأسوة لكونه كلاماً حقاً إلا أنه جعله تابعاً للاستغفار؛ مبالغة في تحقيق الوعد. كأنه قال: أبذل جهدي ولو ملكت غير الاستغفار لفعلته. (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) كلام مستأنف. التجاء إلى اللَّه بعد إظهار العداوة والتبرء عنهم في كفاية شرهم. أو تعليم من الله للصحابة بعد النهي عن موالاة الكفار، والأمر بالاقتداء إبراهيم عليه السلام؛ تتميماً للوصية. كقوله: (انْتَهُوا خَيْرًاْ لَكُمْ).
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا... (٥) محل فتنة بأن تسلطهم علينا فيفسدوا علينا ديننا. (وَاغْفِرْ لَنَا) ما فرط. (رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حقيق بإجابة الدعاء وتحقيق رجاء المتوكلين.
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... (٦) كرره؛ مبالغة في الحث على الايتساء؛ ولهذا أكده بما هو غاية في التوكيد وهو القسم. وأَبْدَلَ عن قوله (لكم) (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)؛ إشارةً إلى أن من توقف ليس بمؤمن بالآخرة، وعقبه بقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يضره توليه بل ضر نفسه.
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً... (٧) توكيد للأمر بالتصلّب، وتهوين عليهم بأن ذلك عن قريب سينقلب مودة وسبباً لسعادة أولئك بدخولهم في
الإيمان، عكس ما كانوا يودونه من كفر المؤمنين. ويظهر أن (حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). ولفظ عسى على دأب الملوك في المواعد التي لا يخلفون في إنجازها. (وَاللَّهُ قَدِيرٌ) على ذلك. (وَاللَّهُ غَفُورٌ) لما فرط من موالاتكم سابقاً. (رَحِيمٌ) يجمع بينكم في الإيمان عن قريب.
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ... (٨) كالنساء والضعفه (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل من (الَّذينَ) بتقدير مضاف أي: مبرة الذين، (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) تعاملوهم بالعدل فيما بينكم من الحقوق (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). روى البخاري ومسلم: " عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: يا رسول اللَّه أَمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟. قال: نعم صلي أمك. وأرسل رسول اللَّه - ﷺ - لعمر حلة من حرير، فكساها أخاً مشركاً له بمكة ".
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ... (٩) سعى بعضهم في الإخراج، وعاون عليه البعض. (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من (الَّذين). (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الكاملون في الظلم. إذ لا عذر له بعد هذا البيان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ... (١٠) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان الامتحان أن تقول: " لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه "، ثم تقول: باللَّه ما
145
خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة في أرض عن أرض، بل حباً للَّه ولرسوله، وكان الذي يتولى الامتحان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) منكم، وإنما أمركم بالامتحان؛ لإجراء الحكم وعدم اللبس. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) بالأمارات. أراد الظن، وإطلاق العلم عليه شائع، وفائدته الإمعان في الامتحان. (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) لأن رسول اللَّه - ﷺ - شرط في صلح الحديبية أن من جاء مسلماً يردّه إليهم، فجاءت نساء مؤمنات وهو بأسفل الحديبية على ما رواه الزهري فنزلت، فكانت ناسخة للسنة. وقيل: كان ذلك منه
146
اجتهاداً، واجتهاده الخطأ لا يقرر. وعن عروة والضَّحَّاك أن الشرط كان في الرجال خاصة، (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي: الحل مرتفع من الجانبين، لا كالكتابية
147
مع المسلم. (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) ما دفعوا إليهن من المهور. وكان هذا مخصوصاً بتلك الواقعة في المهاجرات، وبعد الفتح لا هجرة فانتهى الحكم بانتفاء سببه. (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) المهاجرات؛ لوقوع البينونة وعدم حلهن لأزواجهن. (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن؛ لأن المهر أجر البضع. وإنما تعرض له، لئلا يظن أن ما أعطى الأزواج بدل ما أنفقوا يغني عن المهر. وبه استدل أبو حنيفة رحمه اللَّه على أن من أسلمت من الحربيات، وتخلف زوجها في دار الحرب وقعت الفرقة ولا عدة. وأجاب الشافعي رحمه اللَّه بأن عدم التعرض للعدة ليس تعرضاً لعدمها، وعدم العدة يؤدى إلى اختلاط المائين. (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) اللاتي تخلفن في دار الكفر. جمع عصمة وهي النكاح. يقال: هي في عصمة الزوج، أي: في نكاحه. عن المسور بن مخرمة أن عمر طلق يومئذ قريبة بنت أبي أمية،
148
فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو فتزوجها أبو جهم. (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ) من مهور المشركات. (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) من مهور المهاجرات. أعاده؛ توكيداً لئلا يتهاون به من حيث إنهم مشركون؛ ولذلك أمرهم بالسؤال فإنه حق من حقوقهم.
(ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ) أي: ما ذكر (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) مستأنف أو حال (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بأحوال العباد (حَكِيمٌ) فيما شرع.
(وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ... (١١) راجعة عن الإسلام. كان في صلح الحديبية أن من في هب إليهم لا يردونه. قال رسول اللَّه - ﷺ -. " مَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا سُحْقًا لَهُ "، ولذلك نكر الشيء استهانة بالراجعة. وقيل: لزيادة العموم. (فَعَاقَبْتُمْ) جاءت عقبتكم أي: نوبتكم. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) عن الزهري أن المؤمنين لما
سألوا ما أنفقوا أبى المشركون، فكان الحكم أن ما كان يعطى زوج المهاجرة من المهر يعطى زوج المرتدة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " فَعَاقبتمْ " غنمتم. أمروا بأن يعطوا زوج الراجعة ما أنفق من الغنيمة. وهو الوجه. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإن الإيمان حامل على التقوى.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا (١٢) من الأشياء. (وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ) كما كانت الوالدات يفعلن ذلك.
(وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) كانت إحداهن تلتقط لقيطاً وتقول لزوجها ولدته منك. وما (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) البطن والفرج. (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) هذا القيد -مع أن أمْرُه لا يكون إلا بمعروف-؛ للدلالة على أن " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، ولو فرض أن يكون أنت. (فَبَايِعْهُنَّ) على هذه الشرائط. روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " خطب رسول اللَّه - ﷺ - يوم الفطر ثم شقّ الرجال وأتى النساء، فقرأ عليهن هذه الآية، ثم قال: أنتنّ على ذلك؟ فأجابته واحدة ثم قال: تصدقن. فشرعن يلقين بالخواتم والأقراط في ثوب بلال " وعن أم عطية لما قال: " (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) "
قالت امرأة: إن فلانة أسعدتني تريد النياحة وإنما أريد أن أحزنها. فذهبت ثم عادت فبايعت "، وعن عائشة رضي اللَّه عنها: " واللَّه ما مست يده يد امرأة قط، وإنما بايعهن بهذه الآية " (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) سالف ذنوبهن (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... (١٣) روي أن بعض فقراء المؤمنين كانوا يوالون اليهود لعلهم يصيبوا منهم بعض ثمار. (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لعنادهم نبوة محمد عليه السلام مع علمهم أنه الموعود في التوراة. (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) من بيان، أي: كما يئس من مات على الكفر من رحمة اللَّه، أو كما يئس الكفار من الموتى لعدم اعتقادهم الحشر.
* * *
تمت سورة الامتحان، وللَّه المنُّ والإحسان، والصلاة على المبعوث من عدنان، وعلى آله وصحبه إلى انصرام الزمان.
* * *
سورة الممتحنة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الممتحنة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (الأحزاب)، وقد جاءت بالنهيِ عن موالاة الكفار واتخاذِهم أولياءَ، وجعلت ذلك امتحانًا ودلالةً على صدقِ الإيمان واكتماله، وسُمِّيت بـ(الممتحنة) لأنَّ فيها ذِكْرَ امتحانِ النساء المهاجِرات المبايِعات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

ترتيبها المصحفي
60
نوعها
مدنية
ألفاظها
352
ترتيب نزولها
91
العد المدني الأول
13
العد المدني الأخير
13
العد البصري
13
العد الكوفي
13
العد الشامي
13

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اْلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاْللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَاْبْتِغَآءَ مَرْضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]:

عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، قال: «بعَثَني رسولُ اللهِ ﷺ أنا والزُّبَيرَ والمِقْدادَ، فقال: «انطلِقوا حتى تأتوا رَوْضةَ خاخٍ؛ فإنَّ بها ظعينةً معها كتابٌ، فَخُذوا منها»، قال: فانطلَقْنا تَعادَى بنا خَيْلُنا حتى أتَيْنا الرَّوْضةَ، فإذا نحنُ بالظَّعينةِ، قُلْنا لها: أخرِجي الكتابَ، قالت: ما معي كتابٌ، فقُلْنا: لَتُخرِجِنَّ الكتابَ، أو لَنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، قال: فأخرَجتْهُ مِن عِقاصِها، فأتَيْنا به رسولَ اللهِ ﷺ، فإذا فيه: مِن حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ، إلى ناسٍ بمكَّةَ مِن المشرِكين، يُخبِرُهم ببعضِ أمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا حاطبُ، ما هذا؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، لا تَعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرأً ملصَقًا في قُرَيشٍ، يقولُ: كنتُ حليفًا، ولم أكُنْ مِن أنفُسِها، وكان مَن معك مِن المهاجِرِينَ مَن لهم قراباتٌ يحمُونَ أهلِيهم وأموالَهم، فأحبَبْتُ إذ فاتَني ذلك مِن النَّسَبِ فيهم أن أتَّخِذَ عندهم يدًا يحمُونَ قرابتي، ولم أفعَلْهُ ارتدادًا عن دِيني، ولا رضًا بالكفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا إنَّه قد صدَقَكم»، فقال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافقِ، فقال: «إنَّه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدرِيك لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ على مَن شَهِدَ بَدْرًا، فقال: اعمَلوا ما شِئْتم فقد غفَرْتُ لكم! فأنزَلَ اللهُ السُّورةَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِاْلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ اْلْحَقِّ} [الممتحنة: 1] إلى قولِه: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ اْلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]». أخرجه البخاري (٤٢٧٤).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَٰتٖ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اْلْكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]:

عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، أنَّه سَمِعَ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بن مَخرَمةَ رضي الله عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «لمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو يومَئذٍ، كان فيما اشترَطَ سُهَيلُ بنُ عمرٍو على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه لا يأتيك منَّا أحدٌ - وإن كان على دِينِك - إلا ردَدتَّه إلينا، وخلَّيْتَ بَيْننا وبَيْنَه، فكَرِهَ المؤمنون ذلك، وامتعَضوا منه، وأبى سُهَيلٌ إلا ذلك، فكاتَبَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرَدَّ يومَئذٍ أبا جَنْدلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عمرٍو، ولم يأتِه أحدٌ مِن الرِّجالِ إلا رَدَّه في تلك المُدَّةِ، وإن كان مسلِمًا، وجاءت المؤمِناتُ مهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلْثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ ممَّن خرَجَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَئذٍ، وهي عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: {إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ اْللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى قولِه: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ} [الممتحنة: 10]».

قال عُرْوةُ: «فأخبَرتْني عائشةُ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يمتحِنُهنَّ بهذه الآيةِ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٞ} [الممتحنة: 12]».

قال عُرْوةُ: «قالت عائشةُ: فمَن أقَرَّ بهذا الشرطِ منهنَّ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قد بايَعْتُكِ»؛ كلامًا يُكلِّمُها به، واللهِ، ما مسَّتْ يدُه يدَ امرأةٍ قطُّ في المبايَعةِ، وما بايَعَهنَّ إلا بقولِه». أخرجه البخاري (٢٧١١).

* سورة (الممتحنة):

سُمِّيت سورة (الممتحنة) بهذا الاسم؛ لأنه جاءت فيها آيةُ امتحان إيمان النساء اللواتي يأتينَ مهاجِراتٍ من مكَّةَ إلى المدينة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ اْلْمُؤْمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَاْمْتَحِنُوهُنَّۖ} [الممتحنة: 10].

1. النهيُ عن موالاة الكفار (١-٦).

2. الموالاة المباحة، والموالاة المحرَّمة (٧-٩).

3. امتحان المهاجِرات (١٠-١١).

4. بَيْعة المؤمنات (١١-١٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /96).

مقصدُ سورة (الممتحنة) هو البراءةُ من الشرك والمشركين، وعدمُ اتخاذهم أولياءَ، وفي ذلك دلالةٌ على صدقِ التوحيد واكتماله.

يقول ابنُ عاشور رحمه الله: «اشتملت من الأغراض على تحذيرِ المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياءَ مع أنهم كفروا بالدِّين الحق، وأخرَجوهم من بلادهم.

وإعلامِهم بأن اتخاذَهم أولياءَ ضلالٌ، وأنهم لو تمكَّنوا من المؤمنين، لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصرِ القرابة لا يُعتد به تجاه العداوة في الدِّين، وضرَب لهم مثَلًا في ذلك قطيعةَ إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردَف ذلك باستئناس المؤمنين برجاءِ أن تحصُلَ مودةٌ بينهم وبين الذين أمرهم اللهُ بمعاداتهم؛ أي: هذه معاداةٌ غيرُ دائمة...». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /131).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /76).