تفسير سورة الحاقة

تفسير مقاتل بن سليمان

تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الحاقة
مكية عددها اثنتان وخمسون آية كوفي

قوله تعالى: ﴿ ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَآقَّةُ ﴾ [آية: ٢] ثم بين ما الحاقة يعني الساعة التي فيها حقائق الأعمال، يقول يحق للمؤمنين عملهم، ويحق للكافرين عملهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ ﴾ [آية: ٣] تعظيماً لها لشدتها، ثم قال: هي القارعة، والساعة التي ﴿ كَذَّبَتْ ﴾ بها ﴿ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ ﴾ [آية: ٤] نظيرها في سورة القارعة، وإنما سميت القارعة لأن الله عز وجل يقرع أعداءه بالعذاب.
ثم أخبر الله تعالى عن عاد وثمود، فقال: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ ﴾ [آية: ٥] يقول: عذبوا بطغيانهم، والطغيان حملهم على تكذيب صالح النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ ﴾ يعني عذبوا ﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ﴾ يعني باردة ﴿ عَاتِيَةٍ ﴾ [آية: ٦] شديدة عتت على خزائنها بغير رأفة ولا رحمة ﴿ سَخَّرَهَا ﴾ يعني سلطها ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ الرب تبارك وتعالى ﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ﴾ فهى كاملة دائمة لا تفتر عنهم فيهن، يعذبهم بالريح كل يوم حتى أفنت أرواحهم يوم الثامن ﴿ فَتَرَى ﴾ يا محمد ﴿ ٱلْقَوْمَ فِيهَا ﴾ يعني في تلك الأيام ﴿ صَرْعَىٰ ﴾ يعني موتى، يعني أمواتاً، وكان طول كل رجل منهم اثني عشر ذراعاً. ثم شبههم بالنخل، فقال: ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ ﴾ فذكر النخل لطولهم ﴿ خَاوِيَةٍ ﴾ [آية: ٧] يعني أصول نخل بالية التي ليست لها رءوس، وبقيت أصولها وذهبت أعناقها ﴿ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [آية: ٨] يقول: لم تبق منهم أحداً ﴿ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ﴾ يعني ومن معه ﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ ﴾ يعني والمكذبات ﴿ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ [آية: ٩] يعني قريات لوط الأربعة، واسمها سدوم وعامورا وصابورا ودامورا.
﴿ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ ﴾ يعني لوطاً ﴿ فَأَخَذَهُمْ ﴾ الله ﴿ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴾ [آية: ١٠] يعني شديدة ربت عليهم في الشدة أشد من معاصيهم التي عملوها ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ ﴾ وارتفع فوق كل شىء أربعين ذارعاً ﴿ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ ﴾ [آية: ١١] يعني السفينة يقول: حملنا الآباء وأنتم في أصلابهم في السفينة ﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ ﴾ يعني لكي نجعلها لكم، يعني في هلاك قوم نوح لكم يا معشر الأبناء ﴿ تَذْكِرَةً ﴾ يعني عظة وتذكرة، يعني وعبرة لكم ولمن بعدكم من الناس ﴿ وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [آية: ١٢] يعني حافظة لما سعمت فانتفعت بما سمعت من الموعظة.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [آية: ١٣] لا تثنى يعني نفخة الآخرة. ﴿ وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ ﴾ يقول: حمل ما على الأرض من ماء، أو شجر أو شىء ﴿ وَ ﴾ حملت ﴿ وَٱلْجِبَالُ ﴾ من أماكنها فضربت على الأرض ﴿ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [آية: ١٤] يعني فكسرتا كسرة واحدة، فاستوت بما عليها مثل الأديم الممدود ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ ﴾ [آية: ١٥] وقعت الصيحة الآخرة، يعني النفخة الآخرة ﴿ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [آية: ١٦].
﴿ وَٱلْمَلَكُ ﴾ يقول: انفجرت السماء لنزول الرب تبارك وتعالى وما فيها من الملائكة ﴿ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ ﴾ يعني نواحيها وأطرافها وهى السماء الدنيا ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ ﴾ على رؤسهم ﴿ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ [آية: ١٧] أجزاء من الكروبين لايعلم كثرتهم أحد إلا الله عز وجل ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ﴾ على الله فيحاسبكم بأعمال ﴿ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [آية: ١٨] يقول: لا يخفى الصالح منكم، ولا الطالح إذا عرضتم.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ يقول: يعطيه ملكه الذى كان يكتب عمله في صحيفة بيضاء منشورة، نزلت هذه الآية في أبي سلمة بن الأسود المخزومي، وكان اسم أم أبي سلمة برة بنت عبدالمطلب ﴿ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ﴾ يعني هاكم ﴿ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ﴾ [آية: ١٩].
﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [آية: ٢٠] ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [آية: ٢١] يقول: في عيش يرضاه في الجنة فهو ﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ [آية: ٢٢] يعني رفيعة في الغرف ﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [آية: ٢٣] يعني ثمرتها قريبة بضعها من بعض يأخذ منها إن شاء جالساً، وإن شاء متكئاً ﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ ﴾ بما عملتم ﴿ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ ﴾ [آية: ٢٤] في الدينا.
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾ يقول: يعطيه ملكه الذي كان يكتب عمله في الدنيا نزلت هذه الآية في الاسود المخزومي قتله حمزة بن عبدالمطلب على الحوض ببدر ﴿ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي ﴾ فيتمنى في الآخرة ﴿ لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴾ [آية: ٢٥] ﴿ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ [آية: ٢٦] ﴿ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ ﴾ [آية: ٢٧] فيتمنى الموت ﴿ مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ﴾ [آية: ٢٨] من النار ﴿ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [آية: ٢٩] يقول: ضلت عني يومئد حجتي شهدت عليه الجوارح بالشرك، يقول الله لخزنة جهنم ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾ [آية: ٣٠] يعني غلوا يديه إلى عنقه ﴿ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ [آية: ٣١] يعني الباب السادس من جهنم فصلوه ﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ﴾ بالذراع الأول ﴿ فَاسْلُكُوهُ ﴾ [آية: ٣٢] فأدخلوه فيه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" كل ذراع منها بذراع الرجل الطويل من الخلق الأول، ولو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص فكيف بابن آدم وهي عليك وحدك "قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ يعني لا يصدق الله ﴿ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ٣٣] بأنه واحد لا شريك له ﴿ وَلاَ يَحُضُّ ﴾ نفسه ﴿ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ ﴾ [آية: ٣٤] يقول: كان لا يطعم المسكين في الدنيا، وفى قوله: في قولة: ابن مسعود ﴿ فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ ﴾ في الآخرة ﴿ هَا هُنَا حَمِيمٌ ﴾ [آية: ٣٥] يعني قريب يشفع له ﴿ وَلاَ ﴾ وليس له ﴿ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ [آية: ٣٦] يعني الذي يسيل من القيح والدم من أهل النار، يعني فليس له شراب إلا من حميم من عين من أصل الجحيم ﴿ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ ﴾ [آية: ٣٧] يعني المجرمين.
﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ﴾ [آية: ٣٨] من الخلق ﴿ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [آية: ٣٩] من الخلق، وذلك أن الوليد بن المغيرة، قال: إن محمداً ساحر، فقال أبو جهل بن هشام: بل هو مجنون، فقال عقبة بن أبي معيط، بل هو شاعر، وقال النضر: كاهن، وقال أبى: كذب، فبرأه الله من قولهم فأقسم الله تعالى بالخلق ﴿ إِنَّهُ ﴾ إنه هذا القرآن ﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [آية: ٤٠] على الله يعني جبريل، عليه السلام، عن قول الله تعالى ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ﴾ لقول عتبة، وقول أبي جهل ﴿ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٤١] يعني قليلا ما تصدقون بالقرآن، يعني بالقليل أنهم لا يؤمنون. ثم قال: ﴿ وَلاَ ﴾ هو يعني القرآن ﴿ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٤٢] فتعتبرون.
فأكذبهم الله فقال: بل القرآن ﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٤٣] ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا ﴾ محمد شيئاً منه ﴿ بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ ﴾ [آية: ٤٤] يعني من تلقاء نفسه ما لم نقل ﴿ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ ﴾ [آية: ٤٥] يقول: لانتقمنا منه بالحق كقوله:﴿ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ ﴾[الصافات: ٢٨] يعني من قبل الحق بأنكم على الحق ﴿ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ ﴾ [آية: ٤٦] يعني عرق يكون في القلب وهو نياط القلب، وإذا انقطع مات صاحبه ﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [آية: ٤٧] ليس أحد منكم يحجز الرب عز و جل عن ذلك ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ وإن هذا القرآن ﴿ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٤٨] ﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ ﴾ يا أهل مكة ﴿ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ ﴾ [آية: ٤٩] ﴿ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٥٠] يوم القيامة ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ وإن هذا القرآن ﴿ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ ﴾ [آية: ٥١] أنه من الله تعالى ﴿ فَسَبِّحْ ﴾ يا محمد، يعني التوحيد ﴿ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾ [آية: ٥٢] يقول: اذكر اسم ربك، يعني التوحيد، ثم قال: ﴿ ٱلْعَظِيمِ ﴾ يعني الرب العظيم فلا أكبر منه.
سورة الحاقة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الحاقَّة) من السُّوَر المكية، وقد أثبتت هولَ يومِ القيامة، وتحقُّقَ وقوعه؛ ليرجعَ الكفار عن كفرهم وعنادهم، وليخافوا من هذا اليوم، لا سيما بعد أن ذكَّرهم اللهُ بما أوقَعَ من العذاب على الأُمم السابقة التي خالفت أمره فدمَّرهم تدميرًا، وأهلكهم في الدنيا قبل الآخرة، وفي ذلك تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتٌ له، وتأييدٌ من الله وحفظ له وللمؤمنين.

ترتيبها المصحفي
69
نوعها
مكية
ألفاظها
261
ترتيب نزولها
87
العد المدني الأول
52
العد المدني الأخير
52
العد البصري
51
العد الكوفي
52
العد الشامي
51

* سورة (الحاقَّة):

سُمِّيت سورة (الحاقة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا اللفظ، و(الحاقَّة): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

1. تعظيم يوم القيامة، وإهلاك المكذِّبين به (١-١٢).

2. أهوال يوم القيامة (١٣-١٨).

3. جزاء الأبرار وتكريمهم (١٩-٢٤).

4. حال الأشقياء يوم القيامة (٢٥-٣٧).

5. تعظيم القرآن، وتأكيد نزوله من عند الله (٣٨-٥٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /320).

مقصدها تهويلُ يوم القيامة، وتهديد الكفار به؛ ليَرجعوا إلى الحقِّ، وتذكيرُهم بما حلَّ بالأمم السابقة التي عاندت وخالفت أمرَ الله من قبلِهم، وأُدمِجَ في ذلك أن اللهَ نجَّى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكيرٌ بنعمة الله على البشر؛ إذ أبقى نوعَهم بالإنجاء من الطُّوفان.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /111).