تفسير سورة الحاقة

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا قال: إنه عظة للعالمين ذكَّرُهم بما في القايمة من الأهوال، وبما حل على الكفرة من الوبال فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ ﴾ القيامة ﴿ ٱلْحَاقَّةُ ﴾ الثابت وقوعها، ووقوع ما فيها من البعث وغيره ﴿ مَا ٱلْحَآقَّةُ ﴾: استفهام تعظيم ﴿ وَمَآ ﴾: أيُّ شيءٍ ﴿ أَدْرَاكَ ﴾: أعلمك ﴿ مَا ٱلْحَاقَّةُ ﴾: أي: لا تعلمها لعظمتها وآثرها على الضمير لأنه أهون، وكذا في قوله: ما القارعة ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ ﴾: القيامة القارعة للقلوب تهويلا ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ ﴾: بطغيانهم أو بالصيحة المتجاوزة عن الحد شدةً ﴿ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ ﴾: شديد البرد أو الصوت ﴿ عَاتِيَةٍ ﴾: شديدة ﴿ سَخَّرَهَا ﴾: سلطها الله عز وجل ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني: لا لنظر النجوم كما زعمه المنجمون ﴿ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ﴾: من آخر شوال من صبح الأربعاء إلى غروب أربعاء في أيام العجوز في شهر " آذار " ﴿ حُسُوماً ﴾: متتابعة [بَعْدَ] هبوب أو قاطعات أو نحسبات ﴿ فَتَرَى ﴾: لو كنت حاضرا ﴿ ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ ﴾: موتى، جمع صريع ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ ﴾: أصول ﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾: ساقطة ﴿ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن ﴾: نفس ﴿ بَاقِيَةٍ ﴾: أو بقاء ﴿ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ ﴾: من الكفار ﴿ وَ ﴾ أهل القرى ﴿ ٱلْمُؤْتَفِكَاتُ ﴾: المتقلبات بأهلها: أي: قوم لوط ﴿ بِالْخَاطِئَةِ ﴾: أي: الخطيئة ﴿ فَعَصَوْاْ ﴾: كل منهم ﴿ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ﴾: زائدة في الشدة ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا ﴾: تجاوز ﴿ ٱلْمَآءُ ﴾: بحيث علا على أعلى الجبال خمسة عشر ذراعا ﴿ حَمَلْنَاكُمْ ﴾: يحمل آبائكم ﴿ فِي ٱلْجَارِيَةِ ﴾: السفيينة لنوح ﴿ لِنَجْعَلَهَا ﴾: أي: تلك الفعلة ﴿ لَكُمْ تَذْكِرَةً ﴾: عظة ﴿ وَتَعِيَهَآ ﴾: تحفظها ﴿ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾: حافظة لما تسمع ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾: الأولى، وقيل: الثانية، ومعنى واحدة، أي: لا تثنى ﴿ وَحُمِلَتِ ﴾: رفعت ﴿ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ ﴾: عن أماكنها بالريح أو الملائكة أو محض القدرة ﴿ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾: فيصِير الكُلّ هباء منبسطا بلا عوج لا أمت ﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ﴾: قامت ﴿ ٱلْوَاقِعَةُ ﴾: القيامة ﴿ وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ ﴾: لنزول الملائكة ﴿ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾: كصوف لا يستمسك ﴿ وَٱلْمَلَكُ ﴾: جنهسم ﴿ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ ﴾: جوانبها لخراب مكانهم، ولعل هلاكهم بأثر ذلك، أوهم داخلون في الاستثناء ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ ﴾: فوق الملائكة ﴿ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾: من الملائكة " بين شحمة أذنهم إلى عاتقهم يخفق الطير سبعمائة عام "، والآن يحمله أربعة أو ثمانية أصناف لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ﴾: للحساب ﴿ لاَ تَخْفَىٰ ﴾: على الله ﴿ مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾: فالعرض للعدل وإفشاء الحال، وهذا يعد النفخة الثانية، ولا تساع معنى اليوم للنفختين وغيرهما، جعله ظرفا للكل ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ ﴾: قال ابن عباس: أولهم عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، وحينئذ أبو بكر في الجنة، وقد زفته الملائكة إليها ﴿ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ﴾: أي: خذوا كتابي ﴿ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ ﴾: الهاء للسكت ﴿ إِنِّي ظَنَنتُ ﴾ تيقنت ﴿ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾: ذات رضا ﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا ﴾: ثمارها ﴿ دَانِيَةٌ ﴾: قريبة يجتنبها المضطجع، يقال لهم: ﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾: أكلا وشربا ﴿ هَنِيئَاً ﴾ كما مر ﴿ بِمَآ أَسْلَفْتُمْ ﴾ قدمتم ﴿ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ ﴾: الماضية ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يٰلَيْتَهَا ﴾: أي: موتة الدنيا ﴿ كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ ﴾: القاطعة لحياتي، فلا أبعث بعدها ﴿ مَآ أَغْنَىٰ ﴾: دفع ﴿ عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ ﴾: ضل ﴿ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾: قوتي أو حجتي، فيقول الله تعالى: ﴿ خُذُوهُ ﴾: فيبتدروه سبعون ألف ملك ﴿ فَغُلُّوهُ ﴾: أجمعوا يديه إلى عنقه بالغل ﴿ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾: أدخلوه ﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ﴾: الله تعالى أعلم بذراعه، فإنها أطول مما بين السماء والأرض ﴿ فَاسْلُكُوهُ ﴾: أدخلوه، فيدخل في ستة ويخرج من فيه ﴿ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ ﴾: يحث ﴿ عَلَىٰ ﴾ بذلك ﴿ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ ﴾: فيكف بتاركه، خَصَّ أقبح الخصائل وأشنع الرذائل بالذكر ﴿ فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ ﴾: صديق يحميه ﴿ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾: قيح يسيل من جروحهم، ولأهل النار دركات منهم من يُطْعم ضريعا، ومنهم من يطعمُ زقوما ﴿ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ ﴾: بالشرك ﴿ فَلاَ ﴾: صلة ﴿ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ﴾: شمل الخلائق وجميع المخلوق ﴿ إِنَّهُ ﴾: القرآن ﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾: يبلغه من الله محمد أو جبريل ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا ﴾: صلة ﴿ تُؤْمِنُونَ ﴾: تصدقون لعنادكم ﴿ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾: ولذا التبس عليكم، خصه بالذكر لأن منافاته لطريقفة الكهنة تحتاج إلى تذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعاند القرآن، وأما منافاته لللشعر فظاهر منكره معاند، هو ﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ ﴾: افترى النبي ﴿ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ ﴾: لأخذناه بالقوة أو بيمنيه ﴿ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ ﴾: أي: مناط قلبه بضرب عنقه، صور إهلاكه بأفطع القتل، إذ القاتل بيمين يضرب عنقه من قدامه، وبيساره من يضرب من قفاه، ولأول أشد ﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ ﴾: عن قتله، أو المقتول ﴿ حَاجِزِينَ ﴾: دافعين، جمعه لعموم موصوفه ﴿ وَإِنَّهُ ﴾: القرآن ﴿ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾: لأنهم المنتفعون به ﴿ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ ﴾: له فيجازيهم ﴿ وَإِنَّهُ ﴾: القُرآنُ ﴿ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾: إذا رأوا ثواب مصدقية ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ ﴾: أي: للمتقين، حق ﴿ ٱلْيَقِينِ ﴾: عينه ومحضه ﴿ فَسَبِّحْ ﴾: نزه مستعيناً ﴿ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ ﴾: شكرا لهذه النعماء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمأب.
سورة الحاقة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الحاقَّة) من السُّوَر المكية، وقد أثبتت هولَ يومِ القيامة، وتحقُّقَ وقوعه؛ ليرجعَ الكفار عن كفرهم وعنادهم، وليخافوا من هذا اليوم، لا سيما بعد أن ذكَّرهم اللهُ بما أوقَعَ من العذاب على الأُمم السابقة التي خالفت أمره فدمَّرهم تدميرًا، وأهلكهم في الدنيا قبل الآخرة، وفي ذلك تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتٌ له، وتأييدٌ من الله وحفظ له وللمؤمنين.

ترتيبها المصحفي
69
نوعها
مكية
ألفاظها
261
ترتيب نزولها
87
العد المدني الأول
52
العد المدني الأخير
52
العد البصري
51
العد الكوفي
52
العد الشامي
51

* سورة (الحاقَّة):

سُمِّيت سورة (الحاقة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا اللفظ، و(الحاقَّة): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

1. تعظيم يوم القيامة، وإهلاك المكذِّبين به (١-١٢).

2. أهوال يوم القيامة (١٣-١٨).

3. جزاء الأبرار وتكريمهم (١٩-٢٤).

4. حال الأشقياء يوم القيامة (٢٥-٣٧).

5. تعظيم القرآن، وتأكيد نزوله من عند الله (٣٨-٥٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /320).

مقصدها تهويلُ يوم القيامة، وتهديد الكفار به؛ ليَرجعوا إلى الحقِّ، وتذكيرُهم بما حلَّ بالأمم السابقة التي عاندت وخالفت أمرَ الله من قبلِهم، وأُدمِجَ في ذلك أن اللهَ نجَّى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكيرٌ بنعمة الله على البشر؛ إذ أبقى نوعَهم بالإنجاء من الطُّوفان.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /111).