تفسير سورة الحاقة

تفسير الرازي

تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي.
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الحاقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحاقة
خمسون وآيتان مكية
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَاقَّةَ هِيَ الْقِيَامَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَاقَّةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الثَّابِتُ الْكَائِنُ، فَالْحَاقَّةُ السَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ الْوُقُوعِ الثَّابِتَةُ الْمَجِيءِ الَّتِي هِيَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَثَانِيهَا: أَنَّهَا الَّتِي تَحُقُّ فِيهَا الْأُمُورُ أَيْ تُعْرَفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِكَ لَا أَحُقُّ هَذَا أَيْ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ جُعِلَ الْفِعْلُ لَهَا وَهُوَ لِأَهْلِهَا وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا ذَوَاتُ الْحَوَاقِّ مِنَ الْأُمُورِ وَهِيَ الصَّادِقَةُ الْوَاجِبَةُ الصِّدْقِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ أُمُورٌ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ وَالْوُجُودِ فَهِيَ كُلُّهَا حَوَاقُّ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْحَاقَّةُ بِمَعْنَى الْحَقَّةِ وَالْحَقَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْحَقِّ وَأَوْجَبُ تَقُولُ: هَذِهِ حَقَّتِي أَيْ حَقِّي، وَعَلَى هَذَا الْحَاقَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِّ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَرِيبٌ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَخَامِسُهَا: قَالَ اللَّيْثُ: الْحَاقَّةُ النَّازِلَةُ الَّتِي حَقَّتْ بِالْجَارِيَةِ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، [الْوَاقِعَةِ: ٢٠] وَسَادِسُهَا: الْحَاقَّةُ السَّاعَةُ الَّتِي يَحِقُّ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى كُلِّ ضَلَالٍ وَهُدًى وَهِيَ الْقِيَامَةُ وَسَابِعُهَا: الْحَاقَّةُ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ وَثَامِنُهَا: أَنَّهَا الْحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ فِيهَا جَمِيعُ آثَارِ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَحْصُلُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَيَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الِانْتِظَارِ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَتَاسِعُهَا: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي الْحَاقَّةُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحُقُّ كُلَّ مُحَاقٍّ فِي دِينِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ أَيْ تُخَاصِمُ كُلَّ مُخَاصِمٍ وَتَغْلِبُهُ مِنْ قَوْلِكَ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَيْ غَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ وَفَلَجْتُ عَلَيْهِ وَعَاشِرُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْحَاقَّةُ الْفَاعِلَةُ مِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَاقَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهَا مَا الْحَاقَّةُ وَالْأَصْلُ الْحَاقَّةُ مَا هِيَ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ هِيَ؟ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا، وَتَعْظِيمًا لِهَوْلِهَا فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِأَنَّهُ أَهْوَلُ لَهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: ١، ٢] وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ أُعَلِّمُكَ مَا الْحَاقَّةُ يَعْنِي إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِكُنْهِهَا وَمَدَى عِظَمِهَا، يَعْنِي أَنَّهُ فِي الْعِظَمِ وَالشِّدَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ دِرَايَةُ أَحَدٍ وَلَا وَهْمُهُ وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ حَالَهَا فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَما فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ على الابتداء وأَدْراكَ معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
الْقَارِعَةُ هِيَ الَّتِي تَقْرَعُ النَّاسَ بِالْأَفْزَاعِ وَالْأَهْوَالِ، وَالسَّمَاءَ بِالِانْشِقَاقِ وَالِانْفِطَارِ، وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ بِالدَّكِّ وَالنَّسْفِ، وَالنُّجُومَ بِالطَّمْسِ وَالِانْكِدَارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ وَلَمْ يَقُلْ: بِهَا، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْقَرْعِ حَاصِلٌ فِي الْحَاقَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى وَصْفِ شِدَّتِهَا. وَلَمَّا ذَكَرَهَا وَفَخَّمَهَا أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ كَذَّبَ بِهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ تَذْكِيرًا لِأَهْلِ مكة، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٥]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الطَّاغِيَةِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ الْمُجَاوِزَةُ لِلْحَدِّ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، قَالَ تَعَالَى:
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: ١] أَيْ جَاوَزَ الْحَدَّ، وَقَالَ: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْمِ: ١٧] فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الطَّاغِيَةُ نَعْتٌ مَحْذُوفٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الصَّيْحَةُ الْمُجَاوِزَةُ فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لِلصَّيْحَاتِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [الْقَمَرِ: ٣١] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الرَّجْفَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهَا الصَّاعِقَةُ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الطاغية هاهنا الطُّغْيَانُ، فَهِيَ مَصْدَرٌ كَالْكَاذِبَةِ وَالْبَاقِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، أَيْ أُهْلِكُوا بِطُغْيَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ إِذْ كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَكَفَرُوا بِهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ طَعَنُوا فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الزَّجَّاجُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ نَوْعَ الشَّيْءِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْعَذَابُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة: ٦] وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ الْمُنَاسِبَةُ حَاصِلَةً وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوهُ، لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: أُهْلِكُوا لَهَا وَلِأَجْلِهَا وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: بِالطَّاغِيَةِ أَيْ بِالْفِرْقَةِ الَّتِي طَغَتْ مِنْ جُمْلَةِ ثَمُودَ، فَتَآمَرُوا بِعَقْرِ النَّاقَةِ فَعَقَرُوهَا، أَيْ أُهْلِكُوا بِشُؤْمِ فِرْقَتِهِمُ الطَّاغِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالطَّاغِيَةِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِفِعْلِهِ وَقِيلَ لَهُ طَاغِيَةٌ، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ رَاوِيَةُ الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٦]
وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦)
الصَّرْصَرُ الشَّدِيدَةُ الصَّوْتِ لَهَا صَرْصَرَةٌ وَقِيلَ: الْبَارِدَةُ مِنَ الصِّرِّ كَأَنَّهَا الَّتِي كُرِّرَ فِيهَا الْبَرْدُ وَكَثُرَ فَهِيَ تَحْرِقُ بِشِدَّةِ بَرْدِهَا، وَأَمَّا الْعَاتِيَةُ فَفِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَتَتْ عَلَى خَزَنَتِهَا يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَحْفَظُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا بَعْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ،
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: طَغَى الْمَاءُ عَلَى خُزَّانِهِ يَوْمَ/ نُوحٍ، وَعَتَتِ الرِّيحُ عَلَى خُزَّانِهَا يَوْمَ عَادٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهَا سَبِيلٌ،
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: هِيَ عَاتِيَةٌ عَلَى الْخُزَّانِ الثَّانِي: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرِّيحَ عَتَتْ عَلَى عَادٍ فَمَا قَدَرُوا عَلَى رَدِّهَا بِحِيلَةٍ مِنَ اسْتِتَارٍ بِبِنَاءٍ أَوِ (اسْتِنَادٍ إِلَى جَبَلٍ) «١»، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِعُهُمْ مِنْ مَكَامِنِهِمْ وَتُهْلِكُهُمْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعُتُوِّ الَّذِي هُوَ عِصْيَانٌ، إِنَّمَا هُوَ بُلُوغُ الشَّيْءِ وَانْتِهَاؤُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَتَا النَّبْتُ، أَيْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ وَجَفَّ، قَالَ تَعَالَى:
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مَرْيَمَ: ٨] فَعَاتِيَةٌ أَيْ بَالِغَةٌ مُنْتَهَاهَا فِي الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ.
(١) في الكشاف للزمخشري (لياذ بجبل) ٤/ ١٥٠ ط. دار الفكر.

[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٧]

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً قَالَ مُقَاتِلٌ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
أَقْلَعَهَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ، هَذِهِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعِنْدِي أَنَّ فِيهِ لَطِيفَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الرِّيَاحَ إِنَّمَا اشْتَدَّتْ، لِأَنَّ اتِّصَالًا فَلَكِيًّا نُجُومِيًّا اقْتَضَى ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ:
سَخَّرَها فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَبَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ الدَّقِيقَةُ لَمَا حَصَلَ مِنْهُ التَّخْوِيفُ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً الْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ مِقْدَارُ زَمَانِ هَذَا الْعَذَابِ مَعْلُومًا، فَلَمَّا قَالَ: سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ صَارَ مِقْدَارُ هَذَا الزَّمَانِ مَعْلُومًا، ثُمَّ لَمَّا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَزَالَ هَذَا الظَّنَّ، بِقَوْلِهِ:
حُسُوماً أَيْ مُتَتَابِعَةً مُتَوَالِيَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُسُومِ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ (حُسُومًا)، أَيْ مُتَتَابِعَةً، أَيْ هَذِهِ الْأَيَّامُ تَتَابَعَتْ عَلَيْهِمْ بِالرِّيحِ الْمُهْلِكَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا فُتُورٌ وَلَا انْقِطَاعٌ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: حُسُومٌ جَمْعُ حَاسِمٍ. كَشُهُودٍ وَقُعُودٍ، وَمَعْنَى هَذَا الْحَسْمِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَسُمِّيَ السَّيْفُ حُسَامًا، لِأَنَّهُ يَحْسِمُ الْعَدُوُّ عَمَّا يُرِيدُ، مِنْ بُلُوغِ عَدَاوَتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الرِّيَاحُ مُتَتَابِعَةً مَا سَكَنَتْ سَاعَةً حَتَّى أَتَتْ عَلَيْهِمْ أَشْبَهَ تَتَابُعُهَا عَلَيْهِمْ تَتَابُعَ فِعْلِ الْحَاسِمِ فِي إِعَادَةِ الْكَيِّ، عَلَى الدَّاءِ كَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى يَنْحَسِمَ وَثَانِيهَا: أَنَّ الرِّيَاحَ حَسَمَتْ كُلَّ خَيْرٍ، وَاسْتَأْصَلَتْ كُلَّ بَرَكَةٍ، فَكَانَتْ حُسُومًا أَوْ حَسَمَتْهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَالْحُسُومُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ جَمْعُ حَاسِمٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُسُومُ مَصْدَرًا كَالشُّكُورِ وَالْكُفُورِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلِهِ مُضْمَرًا، وَالتَّقْدِيرُ: يَحْسِمُ حُسُومًا، يَعْنِي اسْتَأْصَلَ اسْتِئْصَالًا، أَوْ يَكُونُ صِفَةً، كَقَوْلِكَ: ذَاتَ حُسُومٍ، أَوْ يَكُونُ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِئْصَالِ، وَقَرَأَ السُّدِّيُّ: حُسُوماً بِالْفَتْحِ حَالًا مِنَ الرِّيحِ، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ مُسْتَأْصِلَةً، وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجُوزِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِأَيَّامِ الْعَجُوزِ، لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ عَادٍ تَوَارَتْ فِي سِرْبٍ، فَانْتَزَعَتْهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَأَهْلَكَتْهَا، وَقِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْعَجُزِ وَهِيَ آخِرُ الشِّتَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى أَيْ فِي مَهَابِّهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي/ وَالْأَيَّامِ صَرْعى جَمْعُ صَرِيعٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَوْتَى يُرِيدُ أَنَّهُمْ صُرِعُوا بِمَوْتِهِمْ، فَهُمْ مُصْرَعُونَ صَرْعَ الْمَوْتِ.
ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أَيْ كَأَنَّهُمْ أُصُولُ نَخْلٍ خَالِيَةِ الْأَجْوَافِ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَالنَّخْلُ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: ٢٠] وَقُرِئَ: (أَعْجَازُ نَخِيلٍ)، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شُبِّهُوا بِالنَّخِيلِ الَّتِي قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عَظِيمِ خَلْقِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأُصُولَ دُونَ الْجُذُوعِ، أَيْ أَنَّ الرِّيحَ قَدْ قَطَّعَتْهُمْ حَتَّى صَارُوا قِطَعًا ضِخَامًا كَأُصُولِ النَّخْلِ. وَأَمَّا وَصْفُ النَّخْلِ بِالْخَوَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلْقَوْمِ، فَإِنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ فَتَصْرَعُهُمْ كَالنَّخْلِ الْخَاوِيَةِ الْجَوْفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْخَالِيَةُ بِمَعْنَى الْبَالِيَةِ لِأَنَّهَا إِذَا بَلِيَتْ خَلَتْ أَجْوَافُهَا، فَشُبِّهُوا بَعْدَ أَنْ أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٨]
فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْبَاقِيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْبَقِيَّةُ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ بِالْبَاقِيَةِ الْبَقَاءَ، كَالطَّاغِيَةِ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ نَسْلِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ أَحَدٌ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانُوا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ أَحْيَاءً فِي عِقَابِ اللَّهِ مِنَ الرِّيحِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مَاتُوا، فَاحْتَمَلَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الْأَحْقَافِ: ٢٥].
الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ قِصَّةُ فرعون
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٩]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
أَيْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَفَرَتْ كَمَا كَفَرَ هُوَ، وَ (مَنْ) لَفْظٌ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ فِي الْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ، وَمَنْ قِبَلِهِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: قِبَلُ لِمَا وَلِيَ الشَّيْءَ تَقُولُ: ذَهَبَ قِبَلَ السُّوقِ، وَلِي قِبَلَكَ حَقٌّ، أَيْ فِيمَا يَلِيكَ، وَاتَّسَعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ لِي عَلَيْكَ، فَمَعْنَى مَنْ قَبْلَهُ أَيْ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَجُنُودِهِ وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُبَيًّا وَأَبَا مُوسَى قَرَءُوا: وَمَنْ تِلْقَاءَهُ رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ وَحْدَهُ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمَنْ مَعَهُ أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكاتُ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَهُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ، عَلَى مَعْنَى وَالْجَمَاعَاتُ الْمُؤْتَفِكَاتُ، وَقَوْلُهُ: بِالْخاطِئَةِ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ:
أَنَّ الْخَاطِئَةَ مَصْدَرٌ كَالْخَطَأِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِعْلَةِ/ أَوِ الْأَفْعَالِ ذَاتِ الخطأ العظيم.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٠]
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠)
الضَّمِيرُ إِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ [الحاقة: ٩]، فَرَسُولُ رَبِّهِمْ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى أَهْلِ الْمُؤْتَفِكَاتِ فَرَسُولُ رَبِّهِمْ هُوَ لُوطٌ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ كِلَاهُمَا لِلْخَبَرِ عَنِ الْأُمَّتَيْنِ بَعْدَ ذكرهما بقوله، فَعَصَوْا فيكون كقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشعراء: ١٦] وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي الشِّدَّةِ عَلَى عُقُوبَاتِ سَائِرِ الْكُفَّارِ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُمْ كَانَتْ زَائِدَةً فِي الْقُبْحِ عَلَى أَفْعَالِ سَائِرِ الْكُفَّارِ الثَّانِي: أَنَّ عُقُوبَةَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: ٢٥] وَعُقُوبَةُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا، فَتِلْكَ الْعُقُوبَةُ كَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْمُو وَتَرْبُو.
الْقِصَّةُ الثَّالِثَةُ قصة نوح عليه السلام
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١١]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)
طَغَى الْمَاءُ عَلَى خُزَّانِهِ فَلَمْ يَدْرُوا كَمْ خَرَجَ وَلَيْسَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةٌ قَبْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَلَا بَعْدَهَا إِلَّا بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَسَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: طَغَى الْماءُ أَيْ تَجَاوَزَ حَدَّهُ حَتَّى عَلَا كُلَّ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ فَوْقَهُ، وحَمَلْناكُمْ أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا هُمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ كَانُوا فِي
السَّفِينَةِ، وَقَوْلُهُ: فِي الْجارِيَةِ يَعْنِي فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْمَاءِ، وَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْجَارِيَةُ مِنْ أَسْمَاءِ السَّفِينَةِ، وَمِنْهُ قوله: وَلَهُ الْجَوارِ [الرحمن: ٢٤].
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٢]
لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لِنَجْعَلَها
إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْوَاقِعَةِ الَّتِي هي معلومة، وإن كانت هاهنا غَيْرَ مَذْكُورَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ لِنَجْعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِغْرَاقَ الْكَفَرَةِ عِظَةً وَعِبْرَةً الثَّانِي: قَالَ الْفَرَّاءُ: لِنَجْعَلَ السَّفِينَةَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتَعِيَها
عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَتَعِيَها
لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ إِلَى السَّفِينَةِ فَكَذَا الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُقَالُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتَهُ فِي نَفْسِكَ وَعَيْتُهُ وَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَوَعَيْتُ مَا قُلْتَ وَيُقَالُ: لِكُلِّ مَا حَفِظْتَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِكَ: أَوْعَيْتُهُ يُقَالُ: أَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ فِي الْوِعَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتَ مِنْ زَادِ وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ التَّذْكِيرِ فِي هَذَا أَنَّ نَجَاةَ قَوْمٍ مِنَ الْغَرَقِ بِالسَّفِينَةِ وَتَغْرِيقَ مَنْ سِوَاهُمْ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ مُدَبِّرِ الْعَالَمِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ، وَنِهَايَةِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَشِدَّةِ قَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: «سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لِي أَنْ أَنْسَى»
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ أُذُنٌ واعِيَةٌ
عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّنْكِيرِ؟ قُلْنَا: لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ الْوُعَاةَ فِيهِمْ قِلَّةٌ، وَلِتَوْبِيخِ النَّاسِ بِقِلَّةِ مَنْ يَعِي مِنْهُمْ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا وَعَتْ وَعَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ فَهِيَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا سواه لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، وَإِنِ امْتَلَأَ الْعَالَمُ مِنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: وَتَعِيَها
بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَتَعِيَها
سَاكِنَةَ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ جَعَلَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ مَعَ مَا بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ فَخْذٍ، فَأُسْكِنَ كَمَا أُسْكِنَ الْحَرْفُ الْمُتَوَسِّطُ مِنْ فَخْذٍ وَكَبْدٍ وَكَتْفٍ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ لَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْفِعْلِ، فَأَشْبَهَ مَا هُوَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَصَارَ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: وَهْوَ وَهْيَ وَمِثْلُ ذَلِكَ قوله: وَيَتَّقْهِ [النور: ٥٢] فِي قِرَاءَةِ مَنْ سَكَّنَ الْقَافَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَذِهِ الْقِصَصَ الثَّلَاثَ وَنَبَّهَ بِهَا عَنْ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ لِلصَّانِعِ فَحِينَئِذٍ ثَبَتَ بِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ إِمْكَانُ الْقِيَامَةِ، وَثَبَتَ بِثُبُوتِ الْحِكْمَةِ إِمْكَانُ وُقُوعِ الْقِيَامَةِ.
وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ شَرَعَ سُبْحَانَهُ فِي تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَذَكَرَ أولا مقدماتها. فقال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٣]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ نَفْخَةٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَجْهُ الرَّفْعِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا حَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ لِلْفَصْلِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ ثُمَّ نُصِبَ نَفْخَةٌ على المصدر.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ النَّفْخَةِ الْوَاحِدَةِ هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى لِأَنَّ عِنْدَهَا يَحْصُلُ خَرَابُ الْعَالَمِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: ١٨] وَالْعَرْضُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ؟ قُلْنَا: جَعَلَ الْيَوْمَ اسْمًا لِلْحِينِ الْوَاسِعِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَالصَّعْقَةُ وَالنُّشُورُ، وَالْوُقُوفُ وَالْحِسَابُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُهُ عَامَ كَذَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَجِيئُكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ من أوقاته.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٤]
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُفِعَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، إِمَّا بِالزَّلْزَلَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا بِرِيحٍ بَلَغَتْ مِنْ قُوَّةِ عَصْفِهَا أَنَّهَا تَحْمِلُ الْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، أَوْ بِمَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ/ سَبَبٍ فَدُكَّتَا، أَيْ فَدُكَّتِ الْجُمْلَتَانِ جُمْلَةُ الْأَرْضِ وَجُمْلَةُ الْجِبَالِ، فَضُرِبَ بَعْضُهَا ببعض، حتى تندق وتصير كثيبا مهيلا وهباء منبثا وَالدَّكُّ أَبْلَغُ مِنَ الدَّقِّ، وَقِيلَ: فَبُسِطَتَا بَسْطَةً وَاحِدَةً فَصَارَتَا أَرْضًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولا أمتا مِنْ قَوْلِكَ: انْدَكَّ السَّنَامُ إِذَا انْفَرَشَ، وَبَعِيرٌ أَدَكُّ وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ وَمِنْهُ الدُّكَّانُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قال الفراء: لا يجوز في دكة هاهنا إِلَّا النَّصْبُ لِارْتِفَاعِ الضَّمِيرِ فِي دُكَّتَا، وَلَمْ يَقُلْ: فَدُكِكْنَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجِبَالَ كَالْوَاحِدَةِ وَالْأَرْضَ كَالْوَاحِدَةِ، كَمَا قَالَ: أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: ٣٠] ولم يقل: كن ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٥ الى ١٦]
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦)
أَيْ فَيَوْمَئِذٍ قَامَتِ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ. فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ أَيْ مسترخية ساقطة القوة كالعهن المنفوش بعد ما كانت محكمة شديدة.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٧]
وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَالْمَلَكُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَلَكًا وَاحِدًا، بَلْ أَرَادَ الْجِنْسَ وَالْجَمْعَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَرْجَاءُ فِي اللُّغَةِ النَّوَاحِي يُقَالُ: رَجًا وَرَجَوَانِ وَالْجَمْعُ الْأَرْجَاءُ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِحَرْفِ الْبِئْرِ وَحَرْفِ الْقَبْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ إِذَا انْشَقَّتْ عَدَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَنْ مَوَاضِعِ الشَّقِّ إِلَى جَوَانِبِ السَّمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمَلَائِكَةُ يَمُوتُونَ فِي الصَّعْقَةِ الْأُولَى، لِقَوْلِهِ: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُمْ يَقِفُونَ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ يَقِفُونَ لَحْظَةً عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ ثُمَّ يَمُوتُونَ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزُّمَرِ: ٦٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الْعَرْشُ هُوَ الَّذِي أراده الله بقوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر: ٧] وقوله:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزُّمَرِ: ٧٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَهُمْ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ فَوْقَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْأَرْجَاءِ وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ الثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم. وَ [مَجِيءُ] الضَّمِيرِ قَبْلَ الذِّكْرِ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي ثَمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ صُفُوفٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلَافِ صَفٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْخَاصٍ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ فَيَكُونُونَ ثَمَانِيَةً»
وَيُرْوَى: «ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ أَرْجُلُهُمْ فِي تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وَهُمْ مُطْرِقُونَ مُسَبِّحُونَ»
[وَقِيلَ: بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الإنسان] «١» وَقِيلَ: بَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْأَسَدِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ،
وَرُوِيَ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ فِي صُورَةِ الْأَوْعَالِ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهَا إِلَى رُكَبِهَا مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا،
وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَشْخَاصٍ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ لَا بُدَّ مِنْهُمْ فِي صِدْقِ اللَّفْظِ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِدْقِ اللَّفْظِ إِلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا على ثمانية أشخاص، ولا دلالة فيه عَلَى ثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ التَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، أَوْ ثَمَانِيَةَ صُفُوفٍ لَوَجَبَ ذِكْرُهُ لِيَزْدَادَ التَّعْظِيمُ وَالتَّهْوِيلُ، فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْخَاصٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ فِي الْعَرْشِ لَكَانَ حَمْلُ الْعَرْشِ عَبَثًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: ١٨] وَالْعَرْضُ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْإِلَهُ حَاصِلًا فِي الْعَرْشِ، أَجَابَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ فِي الْعَرْشِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ حَامِلًا لِلْعَرْشِ كَانَ حَامِلًا لِكُلِّ مَا كَانَ فِي الْعَرْشِ، فَلَوْ كَانَ الْإِلَهُ فِي الْعَرْشِ لَلَزِمَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ يَكُونُوا حَامِلِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي احْتِيَاجَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا أَعْظَمَ قُدْرَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَهُمْ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ، فَخَلَقَ لِنَفْسِهِ بَيْتًا يَزُورُونَهُ، وَلَيْسَ أَنَّهُ يَسْكُنُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ وَجَعَلَ فِي رُكْنِ الْبَيْتِ حَجَرًا هُوَ يَمِينُهُ فِي الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُعَظِّمُوا رُؤَسَاءَهُمْ بِتَقْبِيلِ أَيْمَانِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً لَيْسَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَكِنْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمَلِكِ إِذَا أَرَادَ مُحَاسَبَةَ عُمَّالِهِ جَلَسَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَرِيرٍ وَوَقَفَ الْأَعْوَانُ حَوْلَهُ أَحْضَرَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَرْشًا وَحَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ وَحَفَّتْ بِهِ، لَا لِأَنَّهُ يَقْعُدُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بَلْ لِمِثْلِ مَا قُلْنَاهُ فِي الْبَيْتِ والطواف.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٨]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨)
(١) زيادة من الكشاف ٤/ ١٥٢ ط. دار الفكر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ الْعَرْضُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُسَاءَلَةِ، شَبَّهَ ذَلِكَ بِعَرْضِ السُّلْطَانِ الْعَسْكَرَ لتعرف أحواله، ونظيره قوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
[الْكَهْفِ: ٤٨]
وَرُوِيَ: «أَنَّ فِي الْقِيَامَةِ/ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَاعْتِذَارٌ وَاحْتِجَاجٌ وَتَوْبِيخٌ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَفِيهَا تُنْثَرُ الْكُتُبُ فَيَأْخُذُ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله».
ثُمَّ قَالَ: لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: تَقْرِيرُ الْآيَةِ: تُعْرَضُونَ لَا يَخْفَى أَمْرُكُمْ فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غَافِرٍ: ١٦] فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّهْدِيدِ، يَعْنِي تُعْرَضُونَ عَلَى مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمُرَادُ لَا يَخْفَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانَ مَخْفِيًّا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَظْهَرُ أَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَكَامَلُ بِذَلِكَ سُرُورُهُمْ، وَتَظْهَرُ أَحْوَالُ أَهْلِ الْعَذَابِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ حُزْنُهُمْ وَفَضِيحَتُهُمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ [الطَّارِقِ: ٩، ١٠] وَفِي هَذَا أَعْظَمُ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ لَا تَخْفى بِالتَّاءِ الْمُنَقَّطَةِ مِنْ فَوْقِهَا، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْيَاءَ وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ قَالَ: لِأَنَّ الْيَاءَ تَجُوزُ لِلذَّكَرِ والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى، وهاهنا يَجُوزُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَافِيَةِ شَيْءٌ ذُو خَفَاءٍ. وَأَيْضًا فقد وقع الفصل هاهنا بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ بِقَوْلِهِ:
مِنْكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا يَنْتَهِي هَذَا الْعَرْضُ إليه قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ١٩]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَاءَ صَوْتٌ يُصَوَّتُ بِهِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى خُذْ كَأُفٍّ وَحَسِّ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ وَفِيهِ لُغَاتٌ وَأَجْوَدُهَا مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ: ومما يؤمر به من المبنيات قَوْلُهُمْ: هَاءَ يَا فَتَى، وَمَعْنَاهُ تَنَاوَلْ وَيَفْتَحُونَ الهمزة ويجعلون فتحها على الْمُذَكَّرِ كَمَا قَالُوا: هَاكَ يَا فَتَى، فَتُجْعَلُ فَتْحَةُ الْكَافِ عَلَامَةَ الْمُذَكَّرِ وَيُقَالُ لِلِاثْنَيْنِ: هَاؤُمَا، وللجمع هاؤموا وَهَاؤُمُ وَالْمِيمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَالْمِيمِ فِي أَنْتُمَا وَأَنْتُمْ وَهَذِهِ الضَّمَّةُ الَّتِي تَوَلَّدَتْ فِي هَمْزَةِ هَاؤُمُ إِنَّمَا هِيَ ضَمَّةُ مِيمِ الْجَمْعِ لأن الأصل فيه هاؤمو وأنتمو فَأَشْبَعُوا الضَّمَّةَ وَحَكَمُوا لِلِاثْنَيْنِ بِحُكْمِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ عَامِلَانِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، فَإِعْمَالُ الْأَقْرَبِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِعْمَالُ الْأَبْعَدِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى جَوَازِهِ وَالْبَصْرِيُّونَ مَنَعُوهُ، وَاحْتَجَّ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هاؤُمُ ناصب، وقوله: اقْرَؤُا نَاصِبٌ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَ/ النَّاصِبُ هُوَ الْأَبْعَدُ، لَكَانَ التَّقْدِيرُ: هَاؤُمُ كِتَابِيَهْ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: اقْرَءُوهُ، وَنَظِيرُهُ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً [الْكَهْفِ: ٩٦] وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ هذه الآية دلت على أن الواقع هاهنا إِعْمَالُ الْأَقْرَبِ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ إِعْمَالُ الْأَبْعَدِ أَمْ لَا؟
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا قَدْ يُحْذَفُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ [الْأَحْزَابِ: ٣٥] فَلِمَ لَا يجوز أن يكون هاهنا كَذَلِكَ، ثُمَّ احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ حِينَ وُجِدَ اقْتَضَى مَعْمُولًا لِامْتِنَاعِ حُصُولِ الْعِلَّةِ دُونَ الْمَعْمُولِ، فَصَيْرُورَةُ الْمَعْمُولِ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِ الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الثَّانِي إِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ أَيْضًا مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الثَّانِي، لِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَلِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ مَا وُجِدَ قَبْلُ بِمَا يُوجَدُ بَعْدُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ لَطَائِفِ النَّحْوِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَاءُ لِلسَّكْتِ فِي كِتابِيَهْ وَكَذَا فِي حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠] ومالِيَهْ [الحاقة: ٢٨] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: ٢٩] وَحَقُّ هَذِهِ الْهَاءَاتِ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطَ فِي الْوَصْلِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْهَاءَاتُ مُثْبَتَةً فِي الْمُصْحَفِ وَالْمُثْبَتَةُ فِي الْمُصْحَفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُثْبَتَةً فِي اللَّفْظِ، وَلَمْ يَحْسُنْ إِثْبَاتُهَا فِي اللَّفْظِ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْفِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَتَجَاسَرَ بَعْضُهُمْ فَأَسْقَطَ هَذِهِ الْهَاءَاتِ عِنْدَ الْوَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ بِغَيْرِهَا. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ جَمِيعًا لِاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أُوتِيَ كتابيه بيمينه، ثم إنه يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي السُّرُورِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنَ النَّاجِينَ وَمِنَ الْفَائِزِينَ بِالنَّعِيمِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَفْرَحُوا بِمَا نَالَهُ. وَقِيلَ: يَقُولُ ذَلِكَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وقرابته.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٠]
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠)
وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ الِاسْتِدْلَالِيُّ وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالظَّنِّ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: إِنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أُلَاقِي حِسَابِي فَيُؤَاخِذُنِي اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي، فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كِتَابِيَهْ وَثَالِثُهَا:
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُؤْتَى كِتَابَهُ فَتَظْهَرُ حَسَنَاتُهُ فِي ظَهْرِ كَفِّهِ وَتُكْتَبُ سَيِّئَاتُهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ فَيَنْظُرُ إِلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَحْزَنُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْلِبْ كَفَّكَ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ فَيَفْرَحُ،
ثُمَّ يَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ- عِنْدَ النَّظْرَةِ الْأُولَى- أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عَلَى سَبِيلِ الشِّدَّةِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي ذَلِكَ الْغَمَّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَشْقِيَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْنَا وَرَابِعُهَا: ظَنَنْتُ: أَيْ عَلِمْتُ، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ. لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي/ الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ إِنِّي ظَنَنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كُنْتُ أَعْمَلُهَا فِي الدُّنْيَا سَأَصِلُ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَقَدْ حَصَلَتِ الْآنَ عَلَى الْيَقِينِ فَيَكُونُ الظَّنُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك.
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢١]
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَصْفُ الْعِيشَةِ بِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرِّضَا كَالدَّارِعِ
وَالنَّابِلِ، وَالنِّسْبَةُ نِسْبَتَانِ نِسْبَةٌ بِالْحُرُوفِ وَنِسْبَةٌ بِالصِّيغَةِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الرِّضَا لِلْعِيشَةِ مَجَازًا مَعَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْعِيشَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي حَدِّ الثَّوَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً، وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً عَنِ الشَّوَائِبِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ دَائِمَةً وَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى إِنَّمَا يَكُونُ مَرْضِيًّا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ لَوْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَوْلُهُ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ كَلِمَةٌ حَاوِيَةٌ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذكرناها.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٢]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
ثُمَّ قَالَ: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَارَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ يَعِيشُ عَيْشًا مَرْضِيًّا فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، وَالْعُلُوُّ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ حَاصِلٌ، لأن الجنة فوق السموات، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ مَنَازِلَ الْبَعْضِ فَوْقَ مَنَازِلِ الْآخَرِينَ، فَهَؤُلَاءِ السَّافِلُونَ لَا يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ، قُلْنَا: إِنَّ كَوْنَ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عَالِيَةً وَفَوْقَ السموات، وَإِنْ أُرِيدَ الْعُلُوُّ فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ عَالِيَةً مُشْرِفَةً فَالْأَمْرُ أَيْضًا كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٣]
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣)
أَيْ ثِمَارُهَا قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ يَأْخُذُهَا الرَّجُلُ كَمَا يُرِيدُ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَهَا بِيَدِهِ انْقَادَتْ لَهُ، قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ تَدْنُوَ إِلَى فِيهِ دَنَتْ، وَالْقُطُوفُ جَمْعُ قِطْفٍ وَهُوَ الْمَقْطُوفُ.
ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٤]
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
وَالْمَعْنَى يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: كُلُوا لَيْسَ بِأَمْرِ إِيجَابٍ وَلَا نَدْبٍ، لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا جَمَعَ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا بَعْدَ قَوْلِهِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ [الحاقة: ٢١] لقوله:
فَأَمَّا مَنْ/ أُوتِيَ [الحاقة: ١٩] وَمَنْ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِما أَسْلَفْتُمْ أَيْ قَدَّمْتُمْ مِنَ أَعْمَالِكُمُ الصَّالِحَةِ، وَمَعْنَى الْإِسْلَافِ فِي اللُّغَةِ تَقْدِيمُ مَا تَرْجُو أَنْ يَعُودَ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ كَالْإِقْرَاضِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: أَسْلَفَ فِي كَذَا إِذَا قَدَّمَ فِيهِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى بِمَا عَمِلْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ والأيام الْخَالِيَةِ، الْمُرَادُ مِنْهَا أَيَّامُ الدُّنْيَا وَالْخَالِيَةُ الْمَاضِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي [الأحقاف: ١٧] وتِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ [الْبَقَرَةِ: ١٣٤] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِما أَسْلَفْتُمْ يَعْنِي الصَّوْمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لِمَنِ امْتَنَعَ فِي الدُّنْيَا عَنْهُ بِالصَّوْمِ، طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِما أَسْلَفْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الثَّوَابَ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، وَأَيْضًا لَوْ كانت الطاعات فعلا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَ قَدْ أَعْطَى الْإِنْسَانَ ثَوَابًا لَا عَلَى فِعْلٍ فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ وجوابه معلوم.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (٢٦)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَتَذَكَّرَ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِ خَجَلَ مِنْهَا وَصَارَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ مِنْ تِلْكَ الْخَجَالَةِ أَزْيَدَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: لَيْتَهُمْ عَذَّبُونِي بِالنَّارِ، وَمَا عَرَضُوا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي ذَكَّرَنِي قَبَائِحَ أَفْعَالِي حَتَّى لَا أَقَعَ فِي هَذِهِ الْخَجَالَةِ، وَهَذَا يُنَبِّهُكَ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الرُّوحَانِيَّ أَشَدُّ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ أَيْ وَلَمْ أَدْرِ أَيَّ شَيْءٍ حِسَابِيَهْ، لِأَنَّهُ حَاصِلٌ وَلَا طَائِلَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْحِسَابِ، وَإِنَّمَا كُلُّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٧]
يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)
الضَّمِيرُ فِي يَا لَيْتَها إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: إِلَى الْمَوْتَةِ الْأُولَى، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة والقاضية الْقَاطِعَةُ عَنِ الْحَيَاةِ. وَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى الِانْتِهَاءِ وَالْفَرَاغِ، قَالَ تَعَالَى:
فَإِذا قُضِيَتِ [الْجُمُعَةِ: ١٠] وَيُقَالُ: قُضِيَ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ مَاتَ فَالْمَعْنَى يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مِتُّهَا كَانَتِ الْقَاطِعَةَ لِأَمْرِي، فَلَمْ أُبْعَثْ بَعْدَهَا، وَلَمْ أَلْقَ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَهُ شَيْءٌ أَكْرَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يُطْلَبُ لَهُ الْمَوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَشَرٌّ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي إِنْ لَقِيتَهُ تَمَنَّيْتَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي شَاهَدَهَا عِنْدَ مُطَالَعَةِ الْكِتَابِ، وَالْمَعْنَى: يَا لَيْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ كانت الموتة التي قضيت عَلَيَّ لِأَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الْحَالَةَ أَبْشَعَ وَأَمَرَّ مِمَّا ذَاقَهُ مِنْ مَرَارَةِ الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ فَتَمَنَّاهُ عندها. / ثم قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢)
مَا أَغْنى نفي أو استفهام عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنِّي مَا كَانَ لِي مِنَ الْيَسَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:
وَيَأْتِينا فَرْداً [مَرْيَمَ: ٨٠] وَقَوْلُهُ: هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ في المراد بسلطانية وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي الَّتِي كُنْتُ أَحْتَجُّ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالثَّانِي: ذَهَبَ مُلْكِي وَتَسَلُّطِي عَلَى النَّاسِ وَبَقِيتُ فَقِيرًا ذَلِيلًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّنِي إِنَّمَا كُنْتُ أُنَازِعُ الْمُحِقِّينَ بِسَبَبِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، فَالْآنَ ذَهَبَ ذَلِكَ الْمُلْكُ وَبَقِيَ الْوَبَالُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ سُرُورَ السُّعَدَاءِ أَوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي العيش الطيب وفي الأكل والشرب، كذا
هاهنا ذَكَرَ غَمَّ الْأَشْقِيَاءِ وَحُزْنَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَهُمْ فِي الْغُلِّ وَالْقَيْدِ وَطَعَامِ الْغِسْلِينِ، فَأَوَّلُهَا أَنْ تَقُولَ: خَزَنَةُ جَهَنَّمَ خُذُوهُ فَيَبْتَدِرُ إِلَيْهِ مِائَةُ أَلْفِ مَلَكٍ، وَتُجْمَعُ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: فَغُلُّوهُ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلَيْتُهُ النَّارَ إِذَا أَوْرَدْتُهُ إِيَّاهَا وَصَلَّيْتُهُ أَيْضًا كَمَا يُقَالُ: أَكْرَمْتُهُ وَكَرَّمْتُهُ، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ معناه لا تصلوه إلى الْجَحِيمَ، وَهِيَ النَّارُ الْعُظْمَى لِأَنَّهُ كَانَ سُلْطَانًا يَتَعَظَّمُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ وَهِيَ حِلَقٌ مُنْتَظِمَةٌ كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا فِي حَلْقَةٍ وَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنِّظَامِ فَهُوَ مُسَلْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: ذَرْعُها مَعْنَى الذَّرْعِ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ بِالذِّرَاعِ مِنَ الْيَدِ، يُقَالُ: ذَرَعَ الثَّوْبَ يَذْرَعُهُ ذَرْعًا إِذَا قَدَّرَهُ بِذِرَاعِهِ، وَقَوْلُهُ: سَبْعُونَ ذِراعاً فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ التَّقْدِيرَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ بَلِ الْوَصْفُ بِالطُّولِ، كَمَا قَالَ: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: ٨٠] يُرِيدُ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ثُمَّ قَالُوا: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا وَكُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ هُوَ، وَقَوْلُهُ: فَاسْلُكُوهُ قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ سَلَكَهُ فِي الطَّرِيقِ، وَفِي الْقَيْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأَسْلَكْتُهُ مَعْنَاهُ أَدْخَلْتُهُ وَلُغَةُ الْقُرْآنِ سَلَكْتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [الْمُدَّثِّرِ: ٤٢] وَقَالَ:
سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠٠] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْخُلُ السِّلْسِلَةُ مِنْ دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ حَلْقِهِ، ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَ نَاصِيَتِهِ وَقَدَمَيْهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَمَا يُسْلَكُ الْخَيْطُ فِي اللُّؤْلُؤِ ثُمَّ يُجْعَلُ في عنقه سائرها، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي تَطْوِيلِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ؟ الْجَوَابُ: قَالَ سُوَيْدُ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ، وَإِذَا كَانَ الْجَمْعُ مِنَ النَّاسِ مقيدين بالسلسلة الْوَاحِدَةِ كَانَ الْعَذَابُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَشَدَّ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: سَلْكُ السِّلْسِلَةِ فِيهِمْ مَعْقُولٌ، أَمَّا سَلْكُهُمْ فِي السِّلْسِلَةِ فَمَا مَعْنَاهُ؟ الْجَوَابُ: سَلْكُهُ فِي السِّلْسِلَةِ أَنْ تُلْوَى عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى تَلْتَفَّ عَلَيْهِ أَجْزَاؤُهَا وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهَا مُزْهَقٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَرَكَةٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى ثُمَّ اسْلُكُوا فِيهِ السِّلْسِلَةَ كَمَا يُقَالُ: أَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ وَأَدْخَلْتُهَا فِي رَأْسِي، وَيُقَالُ:
الْخَاتَمُ لَا يَدْخُلُ فِي إِصْبَعِي، وَالْإِصْبَعُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْخَاتَمِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ فِي سِلْسِلَةٍ... فَاسْلُكُوهُ وَلَمْ يَقُلْ: فَاسْلُكُوهُ فِي سِلْسِلَةٍ؟ الْجَوَابُ: الْمَعْنَى فِي تَقْدِيمِ السِّلْسِلَةِ عَلَى السَّلْكِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَقْدِيمِ الْجَحِيمِ عَلَى التَّصْلِيَةِ، أَيْ لَا تَسْلُكُوهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ لِأَنَّهَا أَفْظَعُ مِنْ سَائِرِ السَّلَاسِلِ السُّؤَالُ الرَّابِعُ: ذَكَرَ الْأَغْلَالَ وَالتَّصْلِيَةَ بِالْفَاءِ وَذَكَرَ السَّلْكَ فِي هَذِهِ السَّلِسَةِ بِلَفْظِ ثُمَّ، فَمَا الْفَرْقُ؟ الْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ ثُمَّ تَرَاخِيَ المدة بل التفاوت في مراتب العذاب.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ هَذَا الْعَذَابَ الشديد ذكر سببه فقال:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّهُ كانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَالْأَوَّلُ إِشَارَةٌ إِلَى فَسَادِ حَالِ الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ. وَالثَّانِي إِشَارَةٌ إِلَى فساد حال القوة العملية، وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَلَا يَحُضُّ عَلَى بَذْلِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ هاهنا اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِطْعَامِ كَمَا وُضِعَ الْعَطَاءُ مَقَامَ الْإِعْطَاءِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرتاعا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ قَوْلُهُ: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فِيهِ دَلِيلَانِ قَوِيَّانِ عَلَى عِظَمِ الْجُرْمِ فِي حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ أَحَدُهُمَا: عَطَفَهُ عَلَى الْكُفْرِ وَجَعَلَهُ قَرِينَةً لَهُ وَالثَّانِي: ذَكَرَ الْحَضَّ دُونَ الْفِعْلِ لِيُعْلَمَ أَنَّ تَارِكَ الْحَضِّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ الْفِعْلَ!.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: إِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَحُضُّ امْرَأَتَهُ عَلَى تَكْثِيرِ الْمَرَقِ لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ، وَيَقُولُ:
خَلَعْنَا نِصْفَ السِّلْسِلَةِ بِالْإِيمَانِ أَفَلَا نَخْلَعُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ! وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَنْعُ الْكُفَّارِ وَقَوْلُهُمْ: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس: ٤٧]. ثُمَّ قَالَ:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٣٥]
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥)
أَيْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ حَمِيمٌ أَيْ قَرِيبٌ يَدْفَعُ عَنْهُ وَيَحْزَنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَتَحَامَوْنَ وَيَفِرُّونَ مِنْهُ كقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: ١٠] وَكَقَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر: ١٨]. / قوله تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٣٦]
وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُرْوَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْغِسْلِينِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ. وقال الكلبي: وهو مَاءٌ يَسِيلُ مِنَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالدَّمِ إِذَا عُذِّبُوا فَهُوَ غِسْلِينٍ فِعْلِينٌ مِنَ الْغَسْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ مَا هُيِّءَ لِلْأَكْلِ، فَلَمَّا هُيِّءَ الصَّدِيدُ لِيَأْكُلَهُ أَهْلُ النَّارِ كَانَ طَعَامًا لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ أُقِيمَ لَهُمْ مَقَامَ الطَّعَامِ فَسُمِّيَ طَعَامًا، كَمَا قَالَ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وَالتَّحِيَّةُ لَا تَكُونُ ضَرْبًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَهُ جَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْغِسْلِينَ أَكْلُ مَنْ هو؟
فقال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٣٧]
لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
الآثمون أصحاب الخطايا وخطىء الرَّجُلُ إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَقُرِئَ الْخَاطِيُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْخَاطُونَ بِطَرْحِهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ مَا الْخَاطِيُونَ كُلُّنَا نَخْطُو إِنَّمَا هُوَ الْخَاطِئُونَ، مَا الصَّابُونَ، إِنَّمَا هُوَ الصَّابِئُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الَّذِينَ يَتَخَطَّوْنَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى إِمْكَانِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ عَلَى وُقُوعِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَحْوَالَ السُّعَدَاءِ وَأَحْوَالَ الْأَشْقِيَاءِ، خَتَمَ الْكَلَامَ بِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ فقال.

[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]

فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَقْسِمُ وَ (لَا) صِلَةٌ، أَوْ يَكُونُ رَدُّ الْكَلَامِ سَبَقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا هاهنا نَافِيَةٌ لِلْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أُقْسِمُ، عَلَى أن هذا القرآن قول رَسُولٍ كَرِيمٍ يَعْنِي أَنَّهُ لِوُضُوحِهِ يَسْتَغْنِي عَنِ الْقَسَمِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَنَذْكُرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ يوم جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الشُّمُولِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ قِسْمَيْنِ: مُبْصِرٍ وَغَيْرِ مُبْصِرٍ، فَشَمَلَ الْخَالِقَ وَالْخَلْقَ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالْأَجْسَامَ وَالْأَرْوَاحَ، وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ، والنعم الظاهرة والباطنة. ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٠]
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التَّكْوِيرِ: ١] مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَالْأَكْثَرُونَ هُنَاكَ عَلَى أَنَّ المراد منه جبريل عليه السلام، والأكثرون هاهنا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، واحتجوا/ على الفرق بأن هاهنا لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَلَا كَاهِنٍ، وَالْقَوْمُ مَا كَانُوا يَصِفُونَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَةِ، بَلْ كَانُوا يَصِفُونَ مُحَمَّدًا بِهَذَيْنَ الْوَصْفَيْنِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لَمَّا قَالَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ [التَّكْوِيرِ: ٢٥] كَانَ الْمَعْنَى: إِنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ كَرِيمٍ، لَا قَوْلُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ من الرسول الكريم هاهنا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي تِلْكَ السُّورَةِ هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ كَلَامًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِجِبْرِيلَ وَلِمُحَمَّدٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْجَوَابُ:
أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِدْقِ الْإِضَافَةِ أَدْنَى سَبَبٍ، فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ وَنَظَّمَهُ، وَهُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بمعنى أنه هو الذي أنزله من السموات إِلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ كَلَامُ مُحَمَّدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ لِلْخَلْقِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.
ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢)
وهاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُؤْمِنُونَ وَتَذَكَّرُونَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ عَلَى الْخِطَابِ إِلَّا ابْنَ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ
قَرَأَهُمَا بِالْيَاءِ عَلَى الْمُغَايَبَةِ، فَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْخِطَابِ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة: ٣٨، ٣٩] وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْمُغَايَبَةِ سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الِالْتِفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: لَفْظَةُ مَا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ... قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ لَغْوٌ وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْقَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ أَصْلًا، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: قَلَّمَا يَأْتِينَا يُرِيدُونَ لَا يَأْتِينَا الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ يُؤْمِنُونَ فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْهُ سَرِيعًا وَلَا يُتِمُّونَ الِاسْتِدْلَالَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ إِلَّا أَنَّهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [الْمُدَّثِّرِ: ٢٤].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ فِي نَفْيِ الشَّاعِرِيَّةِ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَفِي نَفْيِ الْكَاهِنِيَّةِ مَا تَذَكَّرُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ قَوْلًا مِنْ رَجُلٍ شَاعِرٍ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُبَايِنٌ لِصُنُوفِ الشِّعْرِ كُلِّهَا إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ، أَيْ لَا تَقْصِدُونَ الْإِيمَانَ، فَلِذَلِكَ تُعْرِضُونَ عَنِ التَّدَبُّرِ، وَلَوْ قَصَدْتُمُ الْإِيمَانَ لَعَلِمْتُمْ كَذِبَ قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ شَاعِرٌ، لِمُفَارَقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ ضُرُوبَ الشِّعْرِ، ولا/ أيضا بقول كاهن، لأنه وارد بسبب الشَّيَاطِينِ وَشَتْمِهِمْ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِلْهَامِ الشَّيَاطِينِ، إِلَّا أَنَّكُمْ لَا تَتَذَكَّرُونَ كَيْفِيَّةَ نَظْمِ الْقُرْآنِ، وَاشْتِمَالَهُ عَلَى شَتْمِ الشَّيَاطِينِ، فَلِهَذَا السبب تقولون: إنه من باب الكهانة.
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٣]
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)
اعْلَمْ أَنَّ نَظِيرَ هذه الآية قوله في الشعراء: إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٢- ١٩٤] فَهُوَ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَنْذَرَ الْخَلْقَ بِهِ، فَهَهُنَا أَيْضًا لَمَّا قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: ٤٠] أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَتَّى يَزُولَ الْإِشْكَالُ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: تَنْزِيلًا، أَيْ نزل تنزيلا. ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٤]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤)
قُرِئَ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، التَّقَوُّلُ افْتِعَالُ الْقَوْلِ، لِأَنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا مِنَ الْمُفْتَعِلِ، وَسَمَّى الْأَقْوَالَ الْمَنْقُولَةَ أَقَاوِيلَ تَحْقِيرًا لَهَا، كَقَوْلِكَ الْأَعَاجِيبُ وَالْأَضَاحِيكُ، كَأَنَّهَا جَمْعُ أُفْعُولَةٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى وَلَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ، ثُمَّ لَضَرَبْنَا رَقَبَتَهُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْمُلُوكُ بِمَنْ يَتَكَذَّبُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُمْهِلُونَهُ، بَلْ يَضْرِبُونَ رَقَبَتَهُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْيَمِينَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْقَتَّالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَ الضَّرْبَ فِي قَفَاهُ أَخَذَ بِيَسَارِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوقِعَهُ فِي جِيدِهِ وَأَنْ يُلْحِقَهُ
بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمَعْمُولِ بِهِ ذَلِكَ الْعَمَلُ لِنَظَرِهِ إِلَى السَّيْفِ أَخَذَ بِيَمِينِهِ، وَمَعْنَاهُ: لَأَخَذْنَا بِيَمِينِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ لَقَطَعْنَا وَتِينَهُ وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، وَأَنْشَدُوا قَوْلَ الشَّمَّاخِ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَالْمَعْنَى لَأَخَذَ مِنْهُ الْيَمِينَ، أَيْ سَلَبْنَا عَنْهُ الْقُوَّةَ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ صِلَةٌ زَائِدَةٌ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَإِنَّمَا قَامَ الْيَمِينُ مَقَامَ الْقُوَّةِ، لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَيَامِنِهِ وَالْقَوْلُ الثالث: قال مقاتل: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ يَعْنِي انْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَالْيَمِينُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصَّافَّاتِ: ٢٨] أَيْ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ.
اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَوْ نَسَبَ إِلَيْنَا قَوْلًا لَمْ نَقُلْهُ لَمَنَعْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ إِمَّا بِوَاسِطَةِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّا كُنَّا نُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يُعَارِضُهُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِدَعْوَاهُ وَهَدْمًا لِكَلَامِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ نَسْلُبَ عِنْدَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الصَّادِقُ بِالْكَاذِبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَتِينُ هُوَ الْعِرْقُ الْمُتَّصِلُ مِنَ الْقَلْبِ بِالرَّأْسِ الَّذِي إِذَا قُطِعَ مَاتَ الْحَيَوَانُ قَالَ أَبُو زَيْدٍ:
وَجَمْعُهُ الْوُتْنُ وَ [يُقَالُ] ثَلَاثَةُ أَوْتِنَةٌ وَالْمَوْتُونُ الَّذِي قُطِعَ وَتِينُهُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ يُرِدْ أَنَّا نَقْطَعُهُ بِعَيْنِهِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ كَذَبَ لَأَمْتَنَاهُ، فَكَانَ كَمَنْ قُطِعَ وَتِينُهُ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فهذا أو ان انْقِطَاعِ أَبْهَرِي»
وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ يَتَّصِلُ بِالْقَلْبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا أَوْ أَنْ يَقْتُلَنِي السُّمُّ وَحِينَئِذٍ صِرْتُ كَمَنِ انْقَطَعَ أبهره. ثم قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٧]
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)
قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَحْجُزُنَا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قَالَ حَاجِزِينَ فِي صِفَةِ أَحَدٍ لِأَنَّ أَحَدًا هُنَا فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ اسْمٌ يَقَعُ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ مُسْتَوِيًا فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] وَقَوْلُهُ: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الْأَحْزَابِ: ٣٢] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَما مِنْكُمْ لِلنَّاسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ تَنْزِيلٌ مِنَ اللَّهِ الْحَقِّ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَلَا كَاهِنٍ، بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَا هُوَ؟ فقال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٨]
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ سورة البقرة [٢] في قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ما فيه من البحث. ثم قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٤٩]
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)
لَهُ بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا مَنِ اتَّقَى حُبَّ الدُّنْيَا فَهُوَ يَتَذَكَّرُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَيَنْتَفِعُ. وَأَمَّا مَنْ مَالَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا يَقْرَبُهُ.
وَأَقُولُ: لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: بِأَنَّهُ إِضْلَالٌ لِلْمُكَذِّبِينَ، بَلْ ذَلِكَ الضَّلَالُ نَسَبَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ [النَّحْلِ: ٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ. ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٥٠]
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ. إِمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَوْا ثَوَابَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ، أَوْ فِي دَارِ الدُّنْيَا إِذَا رَأَوْا دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَالثَّانِي: قَالَ مُقَاتِلٌ: وَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَحَسْرَةٌ عَلَيْهِمْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ [الحاقة: ٤٩]. ثم قال تعالى:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٥١]
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)
مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَقٌّ يَقِينٌ، أَيْ حَقٌّ لَا بُطْلَانَ فِيهِ، وَيَقِينٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ أُضِيفَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ إِلَى الآخر للتأكيد. ثم قال:
[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٥٢]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
إِمَّا شُكْرًا عَلَى مَا جَعَلَكَ أَهْلًا لِإِيحَائِهِ إِلَيْكَ، وَإِمَّا تَنْزِيهًا لَهُ عَنِ الرِّضَا بِأَنْ يَنْسِبَ إِلَيْهِ الْكَاذِبُ مِنَ الْوَحْيِ مَا هُوَ بَرِيءٌ عَنْهُ. وَأَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ فَمَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الْأَعْلَى: ١] وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين.
سورة الحاقة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الحاقَّة) من السُّوَر المكية، وقد أثبتت هولَ يومِ القيامة، وتحقُّقَ وقوعه؛ ليرجعَ الكفار عن كفرهم وعنادهم، وليخافوا من هذا اليوم، لا سيما بعد أن ذكَّرهم اللهُ بما أوقَعَ من العذاب على الأُمم السابقة التي خالفت أمره فدمَّرهم تدميرًا، وأهلكهم في الدنيا قبل الآخرة، وفي ذلك تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتٌ له، وتأييدٌ من الله وحفظ له وللمؤمنين.

ترتيبها المصحفي
69
نوعها
مكية
ألفاظها
261
ترتيب نزولها
87
العد المدني الأول
52
العد المدني الأخير
52
العد البصري
51
العد الكوفي
52
العد الشامي
51

* سورة (الحاقَّة):

سُمِّيت سورة (الحاقة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا اللفظ، و(الحاقَّة): اسمٌ من أسماء يوم القيامة.

1. تعظيم يوم القيامة، وإهلاك المكذِّبين به (١-١٢).

2. أهوال يوم القيامة (١٣-١٨).

3. جزاء الأبرار وتكريمهم (١٩-٢٤).

4. حال الأشقياء يوم القيامة (٢٥-٣٧).

5. تعظيم القرآن، وتأكيد نزوله من عند الله (٣٨-٥٢).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /320).

مقصدها تهويلُ يوم القيامة، وتهديد الكفار به؛ ليَرجعوا إلى الحقِّ، وتذكيرُهم بما حلَّ بالأمم السابقة التي عاندت وخالفت أمرَ الله من قبلِهم، وأُدمِجَ في ذلك أن اللهَ نجَّى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكيرٌ بنعمة الله على البشر؛ إذ أبقى نوعَهم بالإنجاء من الطُّوفان.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /111).