تفسير سورة الكافرون

الطبري

تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب جامع البيان في تأويل آي القرآن المعروف بـالطبري.
لمؤلفه الطبري . المتوفي سنة 310 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦) ﴾.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون من قومه فيما ذكر عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة، على أن يعبد نبيّ الله ﷺ آلهتهم سنة، فأنزل الله معرفه جوابهم في ذلك: (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة، على أن يعبدوا إلهك سنة (يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) بالله (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) من الآلهة والأوثان الآن (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) الآن
(وَلا أَنَا عَابِدٌ) فيما أستقبل
(مَا عَبَدْتُمْ) فيما مضى (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ) فيما تستقبلون أبدا (مَا أَعْبُدُ) أنا الآن، وفيما أستقبل. وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله ﷺ في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه ﷺ أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدّثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم، في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله ﷺ من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.
661
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن موسى الحَرشي، قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس: أن قريشا وعدوا رسول الله ﷺ أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزّوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: "ما هي؟ " قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزي، ونعبد إلهك سنة، قال: "حتى أنْظُرَ ما يأْتي مِنْ عِنْدِ رَبّي"، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)... إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن مينا مولى البَختري (١) قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسول الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه; وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك، كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) حتى انقضت السورة.
وقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)
يقول تعالى ذكره: لكم دينكم فلا تتركونه أبدا، لأنه قد ختم عليكم، وقضي أن لا تنفكوا عنه، وأنكم تموتون عليه، ولي دين الذي أنا عليه، لا أتركه أبدا، لأنه قد مضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) قال: للمشركين; قال: واليهود لا يعبدون إلا الله ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء، وبما جاءوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله، وبما جاء به من عند الله، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلما وعدوانا، قال:
(١) ديوانه: ٥٨، سيبويه ١: ٣٧٥، مجاز القرآن: ١٠١ الخزانة ٢: ٣١٤، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري. بنو أقيش: هم بنو أقيش بن عبيد. وقيل: فخذ من أشجع. وقيل: حي من اليمن في إبلهم نفار شديد. وقيل: هم حي من الجن يزعمون. وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت. والشن: القربة البالية. يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع، كأنه جمل شديد النفار، إذا سمع صوت شن يقعقع به
662
إلا العصابة التي بقوا، حتى خرج بختنصر، فقالوا: عُزَير ابن الله، دعا الله ولم يعبدوه ولم يفعلوا كما فعلت النصارى، قالوا: المسيح ابن الله وعبدوه.
وكان بعض أهل العربية يقول: كرّر قوله: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) وما بعده على وجه التوكيد، كما قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، وكقوله: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ).
آخر تفسير سورة الكافرون
663
تفسير سورة النصر
665
سورة الكافرون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الكافرون) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الماعون)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن، وقد نزلت في إعلانِ البراءة من الشرك وأهله، وفي تأييسِ الكفار من أن يعبُدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلهتَهم، بأسلوبٍ بلاغي، وتوكيد بديع، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في مواضعَ كثيرة؛ منها: سُنَّة الفجر، وسُنَّة المغرب، وركعتا الوتر، وقبل النوم.

ترتيبها المصحفي
109
نوعها
مكية
ألفاظها
27
ترتيب نزولها
18
العد المدني الأول
6
العد المدني الأخير
6
العد البصري
6
العد الكوفي
6
العد الشامي
6

* سورة (الكافرون):

سُمِّيت سورة (الكافرون) بهذا الاسم؛ لمجيءِ لفظ {اْلْكَٰفِرُونَ} في فاتحتِها.

* سورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}:

سُمِّيت بسورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ لافتتاحها بهذه الجملة، وقد وردت هذه التسميةُ في عدد من الأحاديث؛ منها:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).
وغيره من الأحاديث.

* سورة (الكافرون) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورةَ (الكافرون) في غيرِ موضع:

* في سُنَّة الفجر:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي ركعتَينِ قبل الفجرِ، وكان يقولُ: «نِعْمَ السُّورتانِ يُقرَأُ بهما في ركعتَيِ الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}»». أخرجه ابن ماجه (١١٥٠).

وجاء عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ النبيَّ ﷺ شهرًا، فكان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه الترمذي (٤١٧).

* في الرَّكعتَينِ بعد الوتر:

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (2635).

* في صلاة الوتر:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في الوترِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ} في ركعةٍ ركعةٍ». أخرجه الترمذي (٤٦٢).

* في سُنَّة صلاة المغرب:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرينَ مرَّةً، يَقرأُ في الرَّكعتَينِ بعد المغربِ وفي الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (992).

* قبل النوم:

عن نَوْفلِ بن فَرْوةَ الأشجَعيِّ: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ: اقرَأْ عند منامِك: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ مِن الشِّرْكِ». أخرجه أبو داود (٥٠٥٥).

* في ركعتَيِ الطَّوافِ خلف مقام إبراهيمَ:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).

البراءة من الشرك (١-٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /407).

تأييسُ الكفَّار من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وإعلانُ البراءة من الشرك وأهله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /580).