تفسير سورة الكافرون

التفسير الوسيط للزحيلي

تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي.
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة «الكافرون» أو المقشقشة «١»
البراءة من الشرك
حسم الإسلام بآيات القرآن العظيم قضية الإيمان والشرك، بعد أن أوضح الله تعالى الأدلة الدالة على صحة الاعتقاد، من توحيد الله تعالى، والتصديق بأنبيائه ورسله، وبكتبه وملائكته واليوم الآخر، فلم يبق بعدئذ مجال للوثنية أو الشرك، وجاءت سورة «الكافرون» المكية بالإجماع مبرئة من الشرك والنفاق، ومن عمل المشركين، وآمرة بإخلاص العبادة لله تعالى، فقال الله سبحانه:
[سورة الكافرون (١٠٩) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
[الكافرون: ١٠٩/ ١- ٦].
سبب نزولها: ما
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن قريشا دعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) إلى آخر السورة، وأنزل: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) [الزمر: ٣٩/ ٦٤].
(١) هو من قشقش المريض: إذا صح وبرأ، أي المبرئة من الشرك والنفاق.
2946
والجماعة الذين دعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا، من تمويله وتزويجه من شاء من كرائم نساء قريش: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية ابن خلف، وأبّي بن خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد. فنزلت هذه السورة للرد عليهم، ومضمونه:
قل أيها الرسول لقومك القرشيين: يا أيها الكافرون، لا أعبد على الإطلاق ما تعبدون من الأصنام والأوثان، فلست أعبد آلهتكم بأية حال. والآية تشمل كل كافر على وجه الأرض، والبدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبي، وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، لا من عند نفسه.
لن أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
لا أعبد أنا عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأنتم لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم، لأن عبادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين برسالته خالصة لله لا شرك فيها ولا غفلة عن الله الإله المعبود بحق. وهم يعبدون الله بما شرعه.
والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها، فكلها شرك وإشراك، ووسائلها من صنع الهوى والشيطان.
قيل: في الآيات تكرار، والغرض التأكيد، لقطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم.
والقرار الفصل والقول الحسم الذي يجعل الاستقلال لكل فئة أو جماعة بدينها:
هو أن لكم إشراككم أو كفركم، ولي ديني ومذهبي وهو التوحيد والإخلاص لله أو
2947
الإسلام، فدينكم الذي هو الإشراك، لكم لا يتجاوزكم إلي، وديني الذي هو التوحيد مقصور علي لا يتجاوزني، فيحصل لكم.
وليست هذه السورة على التحقيق منسوخة بآية القتال: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: ٩/ ٣٦] فإن المحققين من العلماء قالوا: لا نسخ لهذه السورة، بل المراد التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤١/ ٤٠].
ونظير هذه الآية كثير في القرآن، منها قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: ١٠/ ١٤].
وهذا الفصل بين أتباع الأديان يريح كل فريق، ويجعل كل إنسان مسئولا عما يحب ويختار، ويعتقد ويعمل، إذ لا إكراه في الدين، والدين يقوم على أساس القناعة والحرية والاختيار، وهذا أساس توجيه المسؤولية لكل إنسان عما عمل، وسيرى كل واحد عاقبة فعله واعتقاده وقوله. وإذا لم يجد الإقناع وإعمال العقل الحر الطليق من غير تعصب ولا أحقاد ولا موروثات، فإن كل إنسان مطالب بترك غيره فيما اختاره أو اعتقده.
2948
تفسير سورة النصر
التسبيح والتحميد والاستغفار عند الفتوحات
يتميز الإسلام الحنيف، بالربط بين الدنيا والآخرة، وبين الله وعبده، وبين النصر والعزة والفتوح، واللجوء إلى الله فبل وعقب ذلك، حتى لا يترك الإنسان وأهواءه وشهواته، ويظل معتدل المزاج لا يبطر ولا يغتر ولا يفجر، وهذا ما نجده واضحا من توجيه الله تعالى نبيه وأمره له بعد الفتوح التي فتحت عليه، مكة وغيرها، بأن يسبّح ربه ويحمده ويستغفره، في سورة النصر المدنية إجماعا، حيث سئل ابن عباس عن مدلولها، فقال: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعلمه الله تعالى بقربه إذا رأى هذه الأشياء، فقال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما ذكرت «١». وهذا الاتجاه الذي ذكر ابن عباس في تفسير هذه السورة هو ما ذكره ابن مسعود وأصحابه، وقتادة، والضحاك.
وروت معناه عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لما فتحت مكة، وأسلم العرب، جعل يكثر أن يقول: «سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك» يتأول القرآن في هذه السورة «٢». وقال لها مرة: «ما أراه إلا حضور أجلي».
هذه السورة هي سورة النصر:
(١) أخرجه سعيد بن منصور، وابن سعد، والبخاري، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها.
2949
سورة الكافرون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الكافرون) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الماعون)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن، وقد نزلت في إعلانِ البراءة من الشرك وأهله، وفي تأييسِ الكفار من أن يعبُدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلهتَهم، بأسلوبٍ بلاغي، وتوكيد بديع، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في مواضعَ كثيرة؛ منها: سُنَّة الفجر، وسُنَّة المغرب، وركعتا الوتر، وقبل النوم.

ترتيبها المصحفي
109
نوعها
مكية
ألفاظها
27
ترتيب نزولها
18
العد المدني الأول
6
العد المدني الأخير
6
العد البصري
6
العد الكوفي
6
العد الشامي
6

* سورة (الكافرون):

سُمِّيت سورة (الكافرون) بهذا الاسم؛ لمجيءِ لفظ {اْلْكَٰفِرُونَ} في فاتحتِها.

* سورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}:

سُمِّيت بسورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ لافتتاحها بهذه الجملة، وقد وردت هذه التسميةُ في عدد من الأحاديث؛ منها:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).
وغيره من الأحاديث.

* سورة (الكافرون) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورةَ (الكافرون) في غيرِ موضع:

* في سُنَّة الفجر:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي ركعتَينِ قبل الفجرِ، وكان يقولُ: «نِعْمَ السُّورتانِ يُقرَأُ بهما في ركعتَيِ الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}»». أخرجه ابن ماجه (١١٥٠).

وجاء عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ النبيَّ ﷺ شهرًا، فكان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه الترمذي (٤١٧).

* في الرَّكعتَينِ بعد الوتر:

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (2635).

* في صلاة الوتر:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في الوترِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ} في ركعةٍ ركعةٍ». أخرجه الترمذي (٤٦٢).

* في سُنَّة صلاة المغرب:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرينَ مرَّةً، يَقرأُ في الرَّكعتَينِ بعد المغربِ وفي الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (992).

* قبل النوم:

عن نَوْفلِ بن فَرْوةَ الأشجَعيِّ: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ: اقرَأْ عند منامِك: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ مِن الشِّرْكِ». أخرجه أبو داود (٥٠٥٥).

* في ركعتَيِ الطَّوافِ خلف مقام إبراهيمَ:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).

البراءة من الشرك (١-٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /407).

تأييسُ الكفَّار من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وإعلانُ البراءة من الشرك وأهله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /580).