تفسير سورة الكافرون

التحرير والتنوير

تفسير سورة سورة الكافرون من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير ﴿ سورة الكافرون ﴾ بإضافة ﴿ سورة ﴾ إلى ﴿ الكافرون ﴾ وثبوت واو الرفع في ﴿ الكافرون ﴾ على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.
ووقع في الكشاف وتفسير ابن عطية وحرز الأماني ﴿ سورة الكافرون ﴾ بياء الخفض في لفظ ﴿ الكافرين ﴾ بإضافة ﴿ سورة ﴾ إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾.
قال في الكشاف والإتقان : وتسمى هي وسورة قل هو الله أحد بالمقشقشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال : قشقش، إذ أزال المرض.
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن جمال القراء أنها تسمى سورة العبادة وفي بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي تسمى ﴿ سورة الدين ﴾.
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست.
أغراضها
وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منا وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره، فأنزل الله فيهم ﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾ السورة كلها فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم.
وعن ابن عباس : فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه.
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك.

وَقَدْ عُدَّتِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ فِي عداد الثَّامِنَة عشرَة فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَاعُونِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفِيلِ.
وَعَدَدُ آياتها سِتّ.
أغراضها
وَسَبَبُ نُزُولِهَا فِيمَا
حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يطوف بِالْكَعْبَةِ فَاعْتَرَضَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ. وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ سَنَةً وَتَعَبُدْ مَا نَعْبُدُ سَنَةً فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قد أَخذنَا بحظنا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ السُّورَةَ كُلَّهَا، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِيهِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَيَئِسُوا مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ
(وَإِنَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا حِرْصَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا فطمعوا أَن يستنزلوه إِلَى الِاعْتِرَافِ بِإِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَيَئِسُوا مِنْهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا أَصْحَابَهُ.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ الَّذِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ تَأْيِيسُهُمْ مِنْ أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِالْقَوْلِ الْفَصْلِ الْمُؤَكَّدِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِطُ شَيْئًا مِنْ دين الشّرك.
[١- ٣]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣)
افْتِتَاحُهَا بِ قُلْ لِلِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ يُرَادُ إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ مَنْصُوصٍ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَأْمُورٌ بِإِبْلَاغِهِ، وَلِهَذِهِ الْآيَةِ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي غَيْرِ جَوَابٍ عَنْ
580
سُؤَالٍ مِنْهَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ [٦] وَالسُّوَرُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ خَمْسُ سُوَرٍ: قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: ١]، وَسُورَةُ الْكَافِرُونَ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ، فَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ لِقَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، وَالْمُعَوِّذَتَانِ لِقَوْلٍ يَقُولُهُ لِتَعْوِيذِ نَفْسِهِ.
والنداء موجه إِلَى الْأَرْبَعَة الَّذِينَ قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، كَمَا فِي خَبَرِ سَبَبِ النُّزُولِ وَذَلِكَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَابْتُدِئَ خِطَابُهُمْ بِالنِّدَاءِ لِإِبْلَاغِهِمْ، لِأَنَّ النِّدَاءَ يَسْتَدْعِي إِقْبَالَ أَذْهَانِهِمْ عَلَى مَا سَيُلْقَى
عَلَيْهِمْ.
وَنُودُوا بِوَصْفِ الْكَافِرِينَ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَأْيِيدًا لِوَجْهِ التَّبَرُّؤِ مِنْهُمْ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُ لَا يَخْشَاهُمْ إِذَا نَادَاهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِمَّا يُثِيرُ غَضَبَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إِيَّاهُمْ وَعَصَمَهُ مِنْ أَذَاهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْمَعْنَى: قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَنْ يَعْتَمِدَهُمْ فِي نَادِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَهُمْ يَغْضَبُونَ مِنْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى الْكُفْرِ.
فَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ إِخْبَارٌ عَنْ نَفسه بِمَا يحصل مِنْهَا.
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْصُلُ مِنِّي عِبَادَتِي مَا تَعْبُدُونَ فِي أَزْمِنَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (لَا) النَّافِيَةُ أَفَادَتِ انْتِفَاءَهُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ حَرْفُ (لَنْ) مُفِيدًا تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ زِيَادَة على مُطلق النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُ (لَنْ) : لَا أَنْ، فَلَمَّا أَفَادَتْ (لَا) وَحْدَهَا نَفْيَ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ تَقْدِيرُ (أَنْ) بَعْدَ (لَا) مُفِيدًا تَأْكِيدَ ذَلِكَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا إِنَّ (لَنْ) تُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَلِمْنَا أَنْ (لَا) كَانَتْ مُفِيدَةً نَفْيَ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَخَالَفَهُمُ ابْنُ مَالِكٍ كَمَا فِي «مُغَنِّي اللَّبِيبِ»، وَأَبُو حَيَّانَ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَالسُّهَيْلَيُّ عِنْدَ كَلَامِهِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ».
581
وَنَفْيُ عِبَادَتِهِ آلِهَتَهَمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يُفِيدُ نَفْيَ أَنْ يَعْبُدَهَا فِي الْحَالِ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا عَرَضُوا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ بَعْدَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ.
وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ بِنَفْيِ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ، أَيْ مَا أَنْتُمْ بِمُغَيِّرِينَ إِشْرَاكَكُمُ الْآنَ لِأَنَّهُمْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئُوا هُمْ فَيَعْبُدُوا الرَّبَّ الَّذِي يَعْبُدُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً. وَبِهَذَا تَعْلَمُ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ نَظْمِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي أُسْلُوبِ الِاسْتِعْمَالِ الْبَلِيغِ.
وَهَذَا إِخْبَارُهُ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ فَاعِلِينَ ذَلِكَ مِنَ الْآنِ بِإِنْبَاءِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوءَتِهِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤] فَإِنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَمَاتُوا عَلَى شركهم.
وَمَا صدق مَا أَعْبُدُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَبَّرَ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَارِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ (مَنْ) بِالْعَاقِلِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ إِطْلَاقِ (مَا) عَلَى الْعَاقِلِ إِذَا
كَانَ اللَّبْسُ مَأْمُونًا. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» : أَنَّ (مَا) الْمَوْصُولَةَ يُؤْتَى بِهَا لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ لِتُفِيدَ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّفْخِيمِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة الشَّمْس [٥].
[٤]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٤]
وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (٤)
عُطِفَ عَلَى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الْكَافِرُونَ: ٣] عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ لمناسبة نفي أَو يَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْدَفَ بِنَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ هُوَ آلِهَتَهُمْ، وَعَطْفُهُ بِالْوَاوِ صَارِفٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَأْكِيدَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فَجَاءَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. لِلدَّلَالَةِ على الثَّبَات، وبكون الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ دَالًّا عَلَى زَمَانِ الْحَالِ، فَلَمَّا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْبُدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يَعْبُدُونَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، صَرَّحَ هُنَا بِمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ الْفَحْوَى عَلَى نَفْيِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ فِي الْحَالِ، بِمَا هُوَ صَرِيحُ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَزِيدَ الْبَيَانِ، فَاقْتَضَى الِاعْتِمَادَ عَلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِطْنَابًا فِي الْكَلَامِ، لِتَأْيِيسِهِمْ مِمَّا رَاوَدُوهُ عَلَيْهِ وَلِمُقَابَلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَرْدُودِ بِمِثْلِهِ فِي إِفَادَةِ الثَّبَاتِ. وَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُ
الْمَعْنَى السَّابِقِ وَتَأْكِيدُهُ، تَبَعًا لِمَدْلُولِ الْجُمْلَةِ لَا لِمَوْقِعِهَا، لِأَنَّ مَوْقِعَهَا أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَيْسَت تَوْكِيدًا لِجُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ بِمُرَادِفِهَا لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلَّفْظِ بِالْمُرَادِفِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا فِي الْمُفْرَدَاتِ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ يُعَيِّنُ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي جُمْلَةِ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَاوٌ حَتَّى يَكُونَ الْوَاوُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدًا لَهَا.
وَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَالْأَجْوَدُ الْفَصْلُ بِ (ثُمَّ) كَمَا فِي «التَّسْهِيلِ» مُقْتَصِرًا عَلَى (ثُمَّ). وَزَادَ الرَّضِيُّ الْفَاءَ وَلَمْ يَأْتِ لَهُ بِشَاهِدٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ: «وَقَدْ تَكُونُ (ثُمَّ) وَالْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّدَرُّجِ فِي الِارْتِقَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْطُوفُ مُتَرَتِّبًا فِي الذَّكَرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ إِذَا تَكَرَّرَ الْأَوَّلُ بِلَفْظِهِ نَحْوَ: بِاللَّهِ، فَاللَّهِ، وَنَحْوَ وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ».
وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَا عَبَدْتُّمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى رُسُوخِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ أَزْمَانٍ مَضَتْ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى تَنَزُّهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ سَالِفِ الزَّمَانِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا كُنَّا نعْبد.
[٥]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٥]
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ [الْكَافِرُونَ: ٤] لِبَيَانِ تَمَامِ الِاخْتِلَافِ بَين حَاله وحالهم وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ إِخْبَارًا ثَانِيًا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَتَقْوِيَةً لِدَلَالَةِ هذَيْن الْإِخْبَار على نُبُوءَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَمَاتَ أُولَئِكَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوءَةِ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمِثْلِ نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ تَوْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ تَوْكِيدًا لِلْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ مِنْهَا، وَلَيْسَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ التَّوْكِيدِ لِوُجُودِ وَاوِ الْعَطْفِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَلِذَلِكَ فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ لِأَجْلِ مَا اقْتَضَتْهُ جملَة: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِنَظِيرَتِهَا
السَّابِقَةِ بِتَمَامِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ وَاوِ الْعَطْفِ فِي نَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقُ تَكْذِيبِهِمْ فِي عَرْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ رب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٦]
[سُورَة الْكَافِرُونَ (١٠٩) : آيَة ٦]
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)
تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ، وَقَدْ أُرْسِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِرْسَالَ الْمَثَلِ وَهُوَ أَجْمَعُ وَأَوْجَزُ مِنْ قَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» هُنَا: «جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يَتَمَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِيُتَمَثَّلَ بِهِ بَلْ لِيُتَدَبَّرَ فِيهِ ثُمَّ يُعْمَلُ بِمُوجَبِهِ» اهـ.
وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ لِأَنَّ التَّمَثُّلَ بِهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ وَمَا التَّمَثُّلُ بِهِ إِلَّا مِنْ تَمَامِ بَلَاغَتِهِ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْعَمَلِ بِهِ. وَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَرَكَهُ الْفَخْرُ فِي الْمُسَوَّدَةِ.
وَقُدِّمَ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ الْمُسْنَدُ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَيْ دِينُكُمْ مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَكُمْ لَا يَتَجَاوَزُكُمْ إِلَى الْكَوْنِ لِي، وَدِينِي مَقْصُورٌ عَلَى الْكَوْنِ بِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُنِي إِلَى كَوْنِهِ لَكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُمْ مُحَقَّقٌ عَدَمُ إِسْلَامِهِمْ. فَالْقَصْرُ قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَاللَّامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاخْتِصَاصُ أَوِ الِاسْتِحْقَاقُ.
وَالدِّينُ: الْعَقِيدَةُ وَالْمِلَّةُ، وَهُوَ مَعْلُومَاتٌ وَعَقَائِدُ يَعْتَقِدُهَا الْمَرْءُ فَتَجْرِي أَعْمَالُهُ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ دِينًا لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى الدِّينِ الْمُعَامَلَةُ وَالْجَزَاءُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ دِينِ بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى أَنَّ يَاءَ الْمُتَكَلِّمِ مَحْذُوفَةٌ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ بَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى النُّونِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَدْ كُتِبَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ اعْتِمَادًا عَلَى حِفْظِ الْحُفَّاظِ لِأَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ الْيَاءَ مِثْلَ يَعْقُوبَ يُشْبِعُ الْكَسْرَةَ إِذْ لَيْسَتِ الْيَاءُ إِلَّا مَدَّةً لِلْكَسْرَةِ فَعَدَمُ رَسْمِهَا فِي الْخَطِّ لَا يَقْتَضِي إِسْقَاطَهَا فِي اللَّفْظِ.
584
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَهِشَام عَن ابْن عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْح الْيَاء من قَوْلِهِ: وَلِيَ وَقَرَأَهُ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الْيَاءِ.
585

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١١٠- سُورَةُ النَّصْرِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ «سُورَةَ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ رَوَى الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْحَدِيثَ.
وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ النَّصْرِ»
لِذِكْرِ نَصْرِ اللَّهِ فِيهَا، فَسُمِّيَتْ بِالنَّصْرِ الْمَعْهُودِ عَهْدًا ذِكْرِيًّا.
وَهِيَ مُعَنْوَنَةٌ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ الْفَتْحِ» لِوُقُوعِ هَذَا اللَّفْظِ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا الِاسْمُ مُشْتَرَكًا بَينهَا وَبَين سُورَة: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ التَّوْدِيعِ» فِي «الْإِتْقَانِ» لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَدَاعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهـ. يَعْنِي مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى اقْتِرَابِ لِحَاقِهِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى كَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَائِشَةَ.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا فَقِيلَ: نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ (أَيْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ)، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَتْ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَجَاءَ نَصْرُ أَهْلِ الْيَمَنِ» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ»
اهـ، وَمَجِيءُ أَهْلِ الْيَمَنِ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُوَ مَجِيء وَقد الْأَشْعَرِيِّينَ عَامَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ فَالْفَتْحُ
587
مُسْتَقْبَلُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا مُسْتَقْبَلٌ أَيْضًا وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِاسْتِعْمَالِ (إِذَا) وَيُحْمَلُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»
عَلَى أَنَّهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاضِي فِي مَعْنَى الْمُضَارِعِ
لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ أَوْ لِأَنَّ النَّصْرَ فِي خَيْبَرَ كَانَ بَادِرَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: نَزَلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
«نَزَلَتْ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ»، فَيَكُونُ الْفَتْحُ قَدْ مَضَى وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا مُسْتَقْبَلًا، وَهُوَ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً فِي مُجَرَّدِ التَّوْقِيتِ دُونَ تعْيين.
وروى الْبَزَّار وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عمر أَنَّهَا نزلت أَوَاسِطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (أَيْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ). وَضَعَّفَهُ ابْنُ رَجَبٍ بِأَنَّ فِيهِ مُوسَى بْنَ عُبَيْدَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ وَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ كَانَ الْفَتْحُ وَدُخُولُ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا قَدْ مَضَيَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشَ بعد نُزُولهَا نَحوا من ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَعَلَيْهِ تَكُونُ (إِذَا) مُسْتَعْمَلَةً لِلزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْفَتْحَ وَدُخُولَ النَّاسِ فِي الدِّينِ قَدْ وَقَعَا.
وَقَدْ تَظَافَرَتِ الْأَخْبَارُ رِوَايَةً وَتَأْوِيلًا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى إِيمَاءٍ إِلَى اقْتِرَابِ أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذَا الْإِيمَاءَ يُشِيرُ إِلَى تَوْقِيت بمجيء النَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أَفْوَاجًا فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَانَ الْأَجَلُ الشَّرِيفُ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: ١] وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ٣].
وَفِي هَذَا مَا يُؤَوِّلُ مَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مِنْ إِشَارَةٍ إِلَى اقْتِرَابِ ذَلِك الْأَجَل مثل مَا
فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ: لَمَّا نَزَلَتْ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي فَبَكَتْ»
إِلَخْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «لَمَّا نَزَلَتْ» مُدْرَجٌ مِنَ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ
588
إِعْلَامٌ لَهَا فِي مَرَضِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْوَفَاةِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا يَلُوحُ مِنْهُ تَعَارُضٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَعَدَّهَا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ السُّورَةَ الْمِائَةَ وَالثَّلَاثَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَقَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَشْرِ وَقَبْلَ سُورَةِ النُّورِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا آخَرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فَتَكُونُ عَلَى قَوْلِهِ السُّورَةَ الْمِائَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ بَرَاءَةَ وَلَمْ تُنَزَّلْ بَعْدَهَا سُورَةٌ أُخْرَى.
وَعَدَدُ آيَاتِهَا ثَلَاثٌ وَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لِسُورَةِ الْكَوْثَرِ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ إِلَّا أَنَّهَا أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْكَوْثَرِ عِدَّةَ كَلِمَاتٍ، وَأَقْصَرُ مِنْ سُورَةِ الْعَصْرِ. وَهَاتِهِ الثَّلَاثُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبْعِيِّ فِي حَدِيثِ: «طَعْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فصلى عبد الرحمان بْنُ عَوْفٍ صَلَاةً خَفِيفَةً بِأَقْصَرِ سُورَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الْكَوْثَرَ: ١] وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْر: ١].
أغراضها
وَالْغَرَضُ مِنْهَا الْوَعْدُ بِنَصْرٍ كَامِلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَالْبِشَارَةُ بِدُخُولِ خَلَائِقَ كَثِيرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِفَتْحٍ وَبِدُونِهِ إِنْ كَانَ نُزُولُهَا عِنْدَ مُنْصَرَفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَالْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّهُ حِينَ يَقَعُ ذَلِكَ فَقَدِ اقْتَرَبَ انْتِقَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْآخِرَةِ.
وَوَعْدُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَغْفِرَةً تَامَّةً لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ يَقْتَضِيهِ تَحْدِيدُ الْقُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْحَدَّ الَّذِي لَا يَفِي بِمَا تَطْلُبُهُ هِمَّتُهُ الْمَلَكِيَّةُ بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ سَاوَى الْحَدَّ الْمَلَكِيَّ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء
589
سورة الكافرون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الكافرون) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الماعون)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن، وقد نزلت في إعلانِ البراءة من الشرك وأهله، وفي تأييسِ الكفار من أن يعبُدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم آلهتَهم، بأسلوبٍ بلاغي، وتوكيد بديع، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في مواضعَ كثيرة؛ منها: سُنَّة الفجر، وسُنَّة المغرب، وركعتا الوتر، وقبل النوم.

ترتيبها المصحفي
109
نوعها
مكية
ألفاظها
27
ترتيب نزولها
18
العد المدني الأول
6
العد المدني الأخير
6
العد البصري
6
العد الكوفي
6
العد الشامي
6

* سورة (الكافرون):

سُمِّيت سورة (الكافرون) بهذا الاسم؛ لمجيءِ لفظ {اْلْكَٰفِرُونَ} في فاتحتِها.

* سورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}:

سُمِّيت بسورة {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ لافتتاحها بهذه الجملة، وقد وردت هذه التسميةُ في عدد من الأحاديث؛ منها:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).
وغيره من الأحاديث.

* سورة (الكافرون) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورةَ (الكافرون) في غيرِ موضع:

* في سُنَّة الفجر:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي ركعتَينِ قبل الفجرِ، وكان يقولُ: «نِعْمَ السُّورتانِ يُقرَأُ بهما في ركعتَيِ الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}»». أخرجه ابن ماجه (١١٥٠).

وجاء عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ النبيَّ ﷺ شهرًا، فكان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه الترمذي (٤١٧).

* في الرَّكعتَينِ بعد الوتر:

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (2635).

* في صلاة الوتر:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في الوترِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ} في ركعةٍ ركعةٍ». أخرجه الترمذي (٤٦٢).

* في سُنَّة صلاة المغرب:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رمَقْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِشْرينَ مرَّةً، يَقرأُ في الرَّكعتَينِ بعد المغربِ وفي الرَّكعتَينِ قبل الفجرِ: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (992).

* قبل النوم:

عن نَوْفلِ بن فَرْوةَ الأشجَعيِّ: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ: اقرَأْ عند منامِك: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ مِن الشِّرْكِ». أخرجه أبو داود (٥٠٥٥).

* في ركعتَيِ الطَّوافِ خلف مقام إبراهيمَ:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الرَّكعتَينِ - أي: ركعتَيِ الطَّوافِ -: {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}، و{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}». صحيح مسلم (١٢١٨).

البراءة من الشرك (١-٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /407).

تأييسُ الكفَّار من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وإعلانُ البراءة من الشرك وأهله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /580).