تفسير سورة الزلزلة

تفسير الرازي

تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي.
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة الزلزلة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزلزلة
وهي ثمان آيات مكية
[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١)
هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَآخِرِ السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الْبَيِّنَةِ: ٨] فَكَأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَالَ: وَمَتَى يَكُونُ ذَلِكَ يَا رَبِّ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها فَالْعَالَمُونَ كُلُّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْخَوْفِ، وَأَنْتَ في ذلك الوقت تنال جزاؤك وَتَكُونُ آمِنًا فِيهِ، كَمَا قَالَ: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النَّمْلِ: ٨٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعِيدَ الْكَافِرِ وَوَعْدَ الْمُؤْمِنِ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِ، فَقَالَ: أُجَازِيهِ حِينَ يَقُولُ الْكَافِرُ السَّابِقُ ذكره: ما للأرض تزلزل، نظيره قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] ثُمَّ ذَكَرَ الطَّائِفَتَيْنِ فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: ١٠٧] ثم جمع بينهما فِي آخِرِ السُّورَةِ فَذَكَرَ الذَّرَّةَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِذا بَحْثَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذا لِلْوَقْتِ فَكَيْفَ وَجْهُ الْبِدَايَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ؟ وَجَوَابُهُ: مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَانُوا يَسْأَلُونَهُ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ بِحَسَبِ وَقْتِهِ وَلَكِنِّي أُعَيِّنُهُ بِحَسَبِ عَلَامَاتِهِ، الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُكَلَّفَ أَنَّ الْأَرْضَ تُحَدِّثُ وَتَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ جَمَادٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالُوا كلمة: (إن) في المجوز، وإذا فِي الْمَقْطُوعِ بِهِ، تَقُولُ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الدُّخُولَ يَجُوزُ، أَمَّا إِذَا أَرَدْتَ التَّعْلِيقَ بِمَا يُوجَدُ قَطْعًا لَا تَقُولُ: إِنْ بَلْ تَقُولُ: إِذَا [نَحْوَ إِذَا] جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّهُ يُوجَدُ لَا مَحَالَةَ هذا هو الأصل، فإن استعمل عَلَى خِلَافِهِ فَمَجَازٌ، فَلَمَّا كَانَ الزِّلْزَالُ مَقْطُوعًا بِهِ قَالَ:
إِذا زُلْزِلَتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الزِّلْزَالُ بِالْكَسْرِ الْمَصْدَرُ وَالزَّلْزَالِ بِالْفَتْحِ الِاسْمُ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ هُوَ الِاسْمُ أَيِ اسْمُ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُ إِلَيْكَ، وَالْوِسْوَاسُ بِالْكَسْرِ/ الْمَصْدَرُ، وَالْمَعْنَى:
حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً، كَمَا قَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الْوَاقِعَةِ: ٤] وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ زُلْزِلَتْ حُرِّكَتْ، بَلِ الْمُرَادُ: تَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْهَا فِي جَمِيعِ السُّورَةِ كَمَا يُخْبِرُ عَنِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ، وَلِأَنَّ هَذَا أَدْخَلُ فِي التَّهْوِيلِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الْجَمَادَ لَيَضْطَرِبُ لِأَوَائِلِ الْقِيَامَةِ، أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَضْطَرِبَ وَتَتَيَقَّظَ مِنْ غَفْلَتِكَ وَيَقْرُبُ مِنْهُ: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْرِ: ٢١] وَاعْلَمْ أَنْ زَلَّ لِلْحَرَكَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَزَلْزَلَ لِلْحَرَكَةِ الشَّدِيدَةِ الْعَظِيمَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْرِيرِ، وَهُوَ كَالصَّرْصَرِ فِي الرِّيحِ، وَلِأَجْلِ شِدَّةِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِظَمِ فَقَالَ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: ١].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَادُ مِنَ الزَّلْزَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ النَّفْخَةُ الْأُولَى كَقَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النَّازِعَاتِ: ٦] أَيْ تُزَلْزَلُ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ تُزَلْزَلُ ثَانِيًا فَتُخْرِجُ مَوْتَاهَا وَهِيَ الْأَثْقَالُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ هِيَ الثَّانِيَةُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ لَوَازِمِهَا أَنَّهَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّلْزَلَةِ الثَّانِيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي قَوْلِهِ: زِلْزالَها بِالْإِضَافَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: الْقَدْرُ اللَّائِقُ بِهَا فِي الْحِكْمَةِ، كَقَوْلِكَ:
أَكْرِمِ التَّقِيَّ إِكْرَامَهُ وَأَهِنِ الْفَاسِقَ إِهَانَتَهُ، تُرِيدُ مَا يَسْتَوْجِبَانِهِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى زِلْزَالَهَا كُلَّهُ وَجَمِيعَ مَا هُوَ مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ وُجِدَ مِنَ الزَّلْزَلَةِ كُلُّ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَحَلُّ وَالثَّالِثُ: زِلْزَالَهَا الْمَوْعُودَ أَوِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهَا إِذَا قُدِّرَتْ تَقْدِيرَ الْحَيِّ، تَقْرِيرُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهَا تُزَلْزِلُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِ إِسْرَافِيلَ لما أنها قدرت تقدير الحي. أما قوله:
[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ٢]
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢)
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْأَثْقَالِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ ثَقَلٍ وَهُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْلِ: ٧] جَعَلَ مَا فِي جَوْفِهَا مِنَ الدَّفَائِنِ أَثْقَالًا لَهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَهُوَ ثِقْلٌ لَهَا، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهَا فَهُوَ ثِقْلٌ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: سُمِّيَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ بِالثَّقَلَيْنِ لِأَنَّ الْأَرْضَ تَثْقُلُ بِهِمْ إِذَا كَانُوا فِي بَطْنِهَا وَيَثْقُلُونَ عَلَيْهَا إِذَا كَانُوا فَوْقَهَا، ثُمَّ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الزَّلْزَلَةُ الْأُولَى يَقُولُ:
أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، يَعْنِي الْكُنُوزَ فَيَمْتَلِئُ ظَهْرُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، كَأَنَّ الذَّهَبَ يَصِيحُ وَيَقُولُ: أَمَا كُنْتَ تُخَرِّبُ دِينَكَ وَدُنْيَاكَ لِأَجْلِي! أَوْ تَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي إِخْرَاجِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [التَّوْبَةِ: ٣٥] وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ قَالَ: تُخْرِجُ الْأَثْقَالَ يَعْنِي الْمَوْتَى أَحْيَاءً كَالْأُمِّ تَلِدُهُ حَيًّا، وَقِيلَ: تَلْفِظُهُ الْأَرْضُ مَيِّتًا، كَمَا دُفِنَ ثُمَّ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَثْقَالَهَا: أَسْرَارَهَا فَيَوْمَئِذَ تُكْشَفُ الْأَسْرَارُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فَتَشْهَدُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ الْأَرْضِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [الْمُرْسَلَاتِ: ٢٥] ثُمَّ صَارَتْ بِحَالٍ تَرْمِيكَ وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
[الحج: ٢] وقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ [عبس: ٣٤] أما قوله تعالى:

[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ٣]

وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣)
ففيه مسائل:
المسألة الأولى: مالها تُزَلْزَلُ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ الشَّدِيدَةَ وَلَفَظَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَذَلِكَ إِمَّا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى حِينَ تَلْفِظُ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالدَّفَائِنِ، أَوْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ حِينَ تَلْفِظُ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: هَذَا قَوْلُ الْكَافِرِ وَهُوَ كَمَا يَقُولُونَ: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢] فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: ٥٢] وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ أَيِ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ كَنُودٌ جَزُوعٌ ظَلُومٌ الَّذِي من شأنه الغفلة والجهالة يقول: مالها وَهُوَ لَيْسَ بِسُؤَالٍ بَلْ هُوَ لِلتَّعَجُّبِ لِمَا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ بِهَا الْآذَانُ وَلَا تَطَلَّقَ بِهَا لِسَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ مَعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا قَالَ: مَا لَها عَلَى غَيْرِ الْمُوَاجَهَةِ لِأَنَّهُ يُعَاتِبُ بِهَذَا الْكَلَامِ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا نَفْسُ مَا لِلْأَرْضِ تَفْعَلُ ذَلِكَ يَعْنِي يَا نَفْسُ أَنْتِ السَّبَبُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَعَاصِيكِ لَمَا صَارَتِ الْأَرْضُ كَذَلِكَ فَالْكُفَّارُ يَقُولُونَ:
هذا الكلام والمؤمنون يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فَاطِرٍ: ٣٤] أما قوله تعالى:
[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ٤]
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤)
فَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ: تُنْبِئُ أَخْبَارَهَا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تُنَبِّئُ «١» ثُمَّ فِيهِ سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَيْنَ مَفْعُولَا تُحَدِّثُ؟ الْجَوَابُ: قَدْ حُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَالثَّانِي أَخْبَارَهَا وَأَصْلُهُ تُحَدِّثُ الْخَلْقَ أَخْبَارَهَا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ تَحْدِيثِهَا الْأَخْبَارَ لَا ذِكْرُ الْخَلْقِ تَعْظِيمًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى تَحْدِيثِ الْأَرْضِ؟ قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ يَوْمَئِذٍ يَتَبَيَّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ جَزَاءُ عَمَلِهِ فَكَأَنَّهَا حَدَّثَتْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِكَ الدَّارُ تُحَدِّثُنَا بِأَنَّهَا كَانَتْ مَسْكُونَةً فَكَذَا انْتِقَاضُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ الزَّلْزَلَةِ تُحَدِّثُ أَنَّ الدُّنْيَا قَدِ انْقَضَتْ وَأَنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطفا وَيُعَرِّفُهَا جَمِيعَ مَا عَمِلَ أَهْلُهَا فَحِينَئِذٍ تَشْهَدُ لِمَنْ أَطَاعَ وَعَلَى مَنْ عَصَى،
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْأَرْضَ لَتُخْبِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ عَلَيْهَا» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِنَا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِقَبُولِ الْحَيَاةِ، فَالْأَرْضُ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى شَكْلِهَا وَيُبْسِهَا وَقَشَفِهَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ، وَالْمَقْصُودُ كَأَنَّ الْأَرْضَ تَشْكُو من العصاة/ وتشكر من أطاع الله، فنقول: إِنَّ فُلَانًا صَلَّى وَزَكَّى وَصَامَ وَحَجَّ فِيَّ، وَإِنَّ فُلَانًا كَفَرَ وَزَنَى وَسَرَقَ وَجَارَ، حَتَّى يَوَدَّ الْكَافِرُ أَنْ يُسَاقَ إِلَى النَّارِ،
وَكَانَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا فَرَغَ بَيْتُ الْمَالِ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ: لَتَشْهَدَنَّ أَنِّي مَلَأْتُكَ بِحَقٍّ وَفَرَّغْتُكَ بِحَقٍّ
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ:
أَنَّ الْكَلَامَ يَجُوزُ خَلْقُهُ فِي الْجَمَادِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ حَالَ كَوْنِهَا جَمَادًا أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً مَخْصُوصَةً فَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: (إِذَا) وَ (يَوْمَئِذٍ) مَا نَاصِبُهُمَا؟ الْجَوَابُ: (يَوْمَئِذٍ) بَدَلٌ مِنْ إِذَا وناصبهما تُحَدِّثُ.
(١) رسمت في الموضعين تنبئ، وهي قراءة بالمعنى ويظهر أن الخلاف بين القراءتين ليس في الرسم وإنما في القراءة فإحدى القراءتين بكسر الباء مخففة والثانية بتشديدها.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: لَفْظُ التَّحْدِيثِ يُفِيدُ الِاسْتِئْنَاسَ وَهُنَاكَ لَا اسْتِئْنَاسَ فَمَا وَجْهُ هَذَا اللَّفْظِ الْجَوَابُ: أَنَّ الْأَرْضَ كَأَنَّهَا تَبُثُّ شَكْوَاهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ الله وملائكته. أما قوله تعالى:
[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ٥]
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)
فَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَاءُ في قوله: بِأَنَّ رَبَّكَ؟ الجواب: بتحدث، وَمَعْنَاهُ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِسَبَبِ إِيحَاءِ رَبِّكَ لَهَا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ أَوْحَى إِلَيْهَا؟ الْجَوَابُ: فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْحى لَها أَيْ أَوْحَى إِلَيْهَا وَأَنْشَدَ الْعَجَّاجُ:
«أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ» الثَّانِي: لَعَلَّهُ إِنَّمَا قَالَ لَهَا: أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِهَا حَتَّى تَتَوَسَّلَ الْأَرْضُ بِذَلِكَ إِلَى التَّشَفِّي مِنَ الْعُصَاةِ.
[سورة الزلزلة (٩٩) : آية ٦]
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦)
الصُّدُورُ ضد الورد فَالْوَارِدُ الْجَائِي وَالصَّادِرُ الْمُنْصَرِفُ وَأَشْتَاتًا مُتَفَرِّقِينَ، فَيُحْتَمَلُ أن يردوا الأرض، ثم يصدرون عنها الْأَرْضِ إِلَى عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرِدُوا عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ لِلْمُحَاسَبَةِ ثُمَّ يَصْدُرُونَ عَنْهَا إِلَى مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَشْتاتاً أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَلَفْظَةُ الصَّدْرِ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَقَوْلُهُ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ أَعْمَالِهِمْ مَكْتُوبَةً فِي الصَّحَائِفِ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ رُؤْيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ صَحَّ أَيْضًا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى رُؤْيَةِ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَقَوْلُهُ: أَشْتاتاً فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى الْمَوْقِفِ رَاكِبًا مَعَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَبَيَاضِ الْوَجْهِ وَالْمُنَادِي يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هَذَا وَلِيُّ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُذْهَبُ بِهِمْ سُودَ الْوُجُوهِ حُفَاةً عُرَاةً مَعَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالْمُنَادِي يُنَادِي بَيْنَ يَدَيْهِ هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ وَثَانِيهَا: أَشْتاتاً أَيْ كُلُّ فَرِيقٍ مَعَ شَكْلِهِ، الْيَهُودِيُّ مَعَ الْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيُّ مَعَ النَّصْرَانِيِّ وَثَالِثُهَا: أَشْتَاتًا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْمَقْصُودَ وَقَالَ: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لِيُرَوْا صَحَائِفَ أَعْمَالِهِمْ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ يُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: هَذَا طَلَاقُكَ وَبَيْعُكَ هَلْ تَرَاهُ وَالْمَرْئِيُّ وَهُوَ الْكِتَابُ وَقَالَ آخَرُونَ: لِيَرَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ اسْمَ الْعَمَلِ عَلَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ الْجَزَاءُ وِفَاقٌ، فَكَأَنَّهُ/ نَفْسُ الْعَمَلِ بَلِ الْمَجَازُ فِي ذَلِكَ أَدْخَلُ مِنَ الْحَقِيقَةِ،
وَفِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيُرَوْا بالفتح.
ثم قال تعالى:
[سورة الزلزلة (٩٩) : الآيات ٧ الى ٨]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ أَيْ زِنَةَ ذَرَّةٍ قَالَ الْكَلْبِيُّ: الذَّرَّةُ أَصْغَرُ النَّمْلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا وَضَعْتَ رَاحَتَكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعْتَهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا لَزِقَ بِهِ مِنَ التُّرَابِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ عَمِلَ خيرا أو شرا،
256
قليلا كان أَوْ كَثِيرًا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَاصِمٍ: يُرَهُ بِرَفْعِ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: يَرَهُ بِفَتْحِهَا وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ:
يَرَهْ بِالْجَزْمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ مُحْبَطَةٌ بِكُفْرِهِ وَسَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ مَغْفُورَةٌ، إِمَّا ابْتِدَاءً وَإِمَّا بِسَبَبِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَمَا مَعْنَى الْجَزَاءِ بِمَثَاقِيلِ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ؟.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجَابُوا عنه من وجوه: أحدها: قال أحمد بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَهُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَرَى ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَلْقَى الْآخِرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ الْخَيْرِ حَتَّى تُوَفَّاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ عَمِلَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَغْفِرُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُثِيبُهُ بِحَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتُرَدُّ حَسَنَاتُهُ وَيُعَذَّبُ بِسَيِّئَاتِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَتْ مُحْبَطَةً بِكُفْرِهِ وَلَكِنَّ الْمُوَازَنَةَ مُعْتَبَرَةٌ فَتُقَدَّرُ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ انْحَبَطَتْ مِنْ عِقَابِ كُفْرِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَرَابِعُهَا:
أَنْ تخصص عُمُومَ قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَنَقُولَ: الْمُرَادُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ السُّعَدَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَأَيْنَ الْكَرَمُ؟ وَالْجَوَابُ: هَذَا هُوَ الْكَرَمُ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَإِنْ قَلَّتْ فَفِيهَا اسْتِخْفَافٌ، وَالْكَرِيمُ لَا يَحْتَمِلُهُ وَفِي الطَّاعَةِ تَعْظِيمٌ، وَإِنْ قَلَّ فَالْكَرِيمُ لَا يُضَيِّعُهُ، وَكَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ لَا تَحْسَبْ مِثْقَالَ الذَّرَّةِ مِنَ الْخَيْرِ صَغِيرًا، فَإِنَّكَ مَعَ لُؤْمِكَ وَضَعْفِكَ لَمْ تُضَيِّعْ مِنِّي الذَّرَّةَ، بَلِ اعْتَبَرْتَهَا وَنَظَرْتَ فِيهَا، وَاسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى ذَاتِي وَصِفَاتِي وَاتَّخَذْتَهَا مَرْكَبًا بِهِ وَصَلْتَ إِلَيَّ، فَإِذَا لَمْ تُضَيِّعْ ذَرَّتِي أَفَأُضَيِّعُ ذَرَّتَكَ! ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ قَلِيلًا لَكِنَّ النِّيَّةَ خَالِصَةٌ فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ كَثِيرًا وَالنِّيَّةَ دَائِرَةٌ فَالْمَقْصُودُ فَائِتٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا
رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ: لَا تُحَقِّرُوا شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْجَنَّةَ بِإِعَارَةِ إِبْرَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّ امْرَأَةً أَعَانَتْ بِحَبَّةٍ فِي بِنَاءِ بَيْتِ/ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَتِ الْجَنَّةَ.
وعن عائشة: «كان بَيْنَ يَدَيْهَا عِنَبٌ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى نِسْوَةٍ بِحَضْرَتِهَا، فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَمَرَتْ لَهُ بِحَبَّةٍ مِنْ ذَلِكَ الْعِنَبِ فَضَحِكَ بَعْضُ مَنْ كَانَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّ فِيمَا تَرَوْنَ مَثَاقِيلَ الذَّرَّةِ وَتَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ» وَلَعَلَّهَا كَانَ غَرَضُهَا التَّعْلِيمَ، وَإِلَّا فَهِيَ كَانَتْ فِي غَايَةِ السَّخَاوَةِ. رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي غِرَارَتَيْنِ، فَدَعَتْ بِطَبَقٍ وَجَعَلَتْ تَقْسِمُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَمَّا أَمْسَتْ قَالَتْ: يَا جَارِيَةُ فُطُورِي هَلُمِّي فَجَاءَتْ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَقِيلَ لَهَا: أَمَا أَمْسَكْتِ لَنَا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَوْ ذَكَّرْتِينِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ» وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِيهِ السَّائِلُ فَيَسْتَقِلُّ أَنْ يُعْطِيَهُ التَّمْرَةَ وَالْكِسْرَةَ وَالْجَوْزَةَ وَيَقُولَ مَا هَذَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُؤْجَرُ عَلَى مَا نُعْطِي! وَكَانَ الْآخَرُ يَتَهَاوَنُ بِالذَّنْبِ الْيَسِيرِ وَيَقُولُ: لَا شَيْءَ عَلَيَّ مِنْ هَذَا إِنَّمَا الْوَعِيدُ بِالنَّارِ عَلَى الْكَبَائِرِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَرْغِيبًا فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَتَحْذِيرًا مِنَ الْيَسِيرِ مِنَ الذَّنْبِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْبُرَ، وَلِهَذَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم.
257
سورة الزلزلة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الزَّلْزلة) من السُّوَر المدنية، نزلت بعد سورة (النساء)، ولها فضلٌ عظيم؛ فهي تَعدِل رُبُعَ القرآن؛ كما صح في الحديث، وقد تحدثت عن أهوالِ يوم القيامة، وحالِ الناس يوم البعث، وما يعتريهم من الفزعِ والخوف، وأُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لها في صلاة الفجر.

ترتيبها المصحفي
99
نوعها
مدنية
ألفاظها
35
ترتيب نزولها
93
العد المدني الأول
8
العد المدني الأخير
9
العد البصري
9
العد الكوفي
8
العد الشامي
9

* سورة (الزَّلْزلة):

سُمِّيت سورة (الزَّلْزلة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].

* سورة (الزَّلْزلة) تَعدِل رُبُعَ القرآن:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال لرجُلٍ مِن أصحابِه: «هل تزوَّجْتَ يا فلانُ؟»، قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، ولا عندي ما أتزوَّجُ به، قال: «أليس معك {قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}؟»، قال: بلى، قال: «ثُلُثُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اْللَّهِ وَاْلْفَتْحُ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: «أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟»، قال: بلى، قال: «رُبُعُ القرآنِ»، قال: تزوَّجْ، تزوَّجْ»». أخرجه الترمذي (٢٨٩٥).

* أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجُلًا بقراءة سورة (الزَّلْزلة):

عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «أتى رجُلٌ رسولَ اللهِ ﷺ، فقال: أقرِئْني يا رسولَ اللهِ، فقال: «اقرَأْ ثلاثًا مِن ذواتِ {الٓر}»، فقال: كَبِرتْ سِنِّي، واشتَدَّ قلبي، وغلُظَ لساني، قال: «فاقرَأْ ثلاثًا مِن ذواتِ {حمٓ}»، فقال مِثْلَ مقالتِه، فقال: اقرَأْ ثلاثًا مِن (المُسبِّحاتِ)»، فقال مِثْلَ مقالتِه، فقال الرجُلُ: يا رسولَ اللهِ، أقرِئْني سورةً جامعةً، فأقرَأَه النبيُّ ﷺ: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ} حتى فرَغَ منها، فقال الرجُلُ: والذي بعَثَك بالحقِّ، لا أَزيدُ عليها أبدًا، ثم أدبَرَ الرجُلُ، فقال النبيُّ ﷺ: «أفلَحَ الرُّوَيجِلُ» مرَّتَينِ». أخرجه أبو داود (١٣٩٩).

* ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الزَّلْزلة) في صلاة الفجر:

عن مُعاذِ بن عبدِ اللهِ الجُهَنيِّ: «أنَّ رجُلًا مِن جُهَينةَ أخبَرَه أنَّه سَمِعَ النبيَّ ﷺ يَقرأُ في الصُّبْحِ: {إِذَا زُلْزِلَتِ اْلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الرَّكعتَينِ كلتَيْهما، فلا أدري أنَسِيَ رسولُ اللهِ ﷺ أم قرَأَ ذلك عمدًا؟». أخرجه أبو داود (٨١٦).

* كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتَينِ بعد الوترِ يقرأ فيهما (الزلزلة) و(الكافرون):

عن سعدِ بن هشامٍ: «أنَّه سأَلَ عائشةَ عن صلاةِ النبيِّ ﷺ باللَّيلِ، فقالت: كان رسولُ اللهِ ﷺ إذا صلَّى العِشاءَ تجوَّزَ بركعتَينِ، ثم ينامُ وعند رأسِه طَهُورُه وسِواكُه، فيقُومُ فيَتسوَّكُ ويَتوضَّأُ ويُصلِّي، ويَتجوَّزُ بركعتَينِ، ثم يقُومُ فيُصلِّي ثمانَ ركَعاتٍ يُسوِّي بَيْنهنَّ في القراءةِ، ثم يُوتِرُ بالتاسعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، فلمَّا أسَنَّ رسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ اللَّحْمَ، جعَلَ الثَّمانَ سِتًّا، ويُوتِرُ بالسابعةِ، ويُصلِّي ركعتَينِ وهو جالسٌ، يَقرأُ فيهما: {قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، و{إِذَا زُلْزِلَتِ}». أخرجه ابن حبان (٢٦٣٥).

1. أهوال القيامة وشدائدها (١-٥).

2. مآل الخلائقِ يوم الحساب (٦-٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /287).

إثباتُ البعثِ ووقوعِ القيامةِ وما يعتري الناسَ من الأهوال؛ وبذلك تنكشفُ الأمور، وينقسمُ الناس إلى أشقياءَ وسعداءَ.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /231).