تفسير سورة الحشر

حومد

تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿السماوات﴾
(١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ تُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَتُمَجِّدُهُ، وَتُنَزِّهُهُ عَنِ العَجْزِ وَالنَّقْصِ. وَيَكُونُ تَسْبِيحُ المَخْلُوقَاتِ لِرَبِّهَا إِمَّا بِاللِّسَانِ أَوْ بِالقَلْبِ أَوْبِدَلاَلَةِ الحَالِ. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُقْهَرُ، الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَضَائِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
﴿الكتاب﴾ ﴿دِيَارِهِمْ﴾ ﴿فَأَتَاهُمُ﴾ ﴿ياأولي﴾ ﴿الأبصار﴾
(٢) - كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ صَالَحَ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ فِي المَدْينَةِ عَلَى أَنْ لاَ يَكُونُوا عَلَيهِ وَلاَ لَهُ. فَلَمَّا أُصِيبَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَخَذَ اليَهُودُ فِي الدَّسِّ وَالوَقِيعَةِ، وَالتَّأَلِيب عَلَى المُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ زَعِيمُهُمْ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَ قُرَيْشاً واسْتَحَثّهَا عَلَى حَرْبِ الرَّسولِ ﷺ والمُسْلِمِينَ، واسْتِئْصَالِ شَأفَتِهِم، وَحَاوَلَ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ قَتْلَ الرَّسُولِ بِطَرْحِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحِ أَحَدِ المَنَازِلِ، بَيْنَمَا كَانَ الرَّسُولُ يَجْلِسُ فِي ظِلّهِ. فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنْ كَيْدِهِمْ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ بِقَتْلِ كَعْبِ بْن الأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ - هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ - عِيْلَةً. وَتَأَهَّبَ المُسْلِمُونَ وَسَارُوا لِقِتَالِ بَنِي النَّضِير. فَتَحَصَّنَ بَنُو النَّضيرِ فِي مَوَاقِعِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ. وَدَسَّ المُنَافِقُونَ - وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُّولٍ - إِلَى بَنِي النَّضِيرِ - وَكَانَ حَلِيفاً لَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ - أَنْ لاَ يَخْرَجُوا مِنْ حُصُونِهِمْ، فَإِنْ قَاتَلَهُم المُسْلِمُونَ فَإِنَّ المُنَافِقِينَ سَيَنْضَمُّونَ إِلَيهِمْ فِي قِتالِ المُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُم المُسْلِمُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ. وَجَاءَ المُسْلِمُونَ فَحَاصَرُوا بَنِي النَّضِيرِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَقَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَئِسُوا مِنْ نَصْرِ المُنَافِقِينَ، فَطَلُبُوا الصُّلْحَ، فَأَبَى الرَّسُولُ إِلاَّ جَلاَءَهُمْ عَنِ المَدِينَةِ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلاَثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَا شَاؤُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ فَجَلا أَكْثَرُهُمْ إِلَى الشَّامِ وَالحِيرَةِ. وَعَمَدَ اليَهُودُ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَخَرَّبُوهَا لِكَيْلا يَنْتَفِعَ المُسْلِمُونَ بِهَا، وَعَمَدُوا إِلَى مَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَقْلَهُ مِنْ أَثَاثِهِمْ فَدَمَّرُوهُ. وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ خَاصَّةً أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ وَخَصَّهُ بِهِ.
وَيَقُصُّ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ، فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ هُوَ الذِي أَجْلَي بَنِي النَّضِيرِ عَنْ دِيَارِهِمْ، بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حُشِرُوا فِيهَا وَأُخْرِجُوا مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، لَمْ يُصبْهُمُ الذُّلُّ قَبْلَهَا، وَكَانَ آخِرُ حَشْرٍ لَهُمْ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ حِينَ أَجْلاَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ المُسْلِمُونَ لاَ يَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ اليَهُودَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْلَوا عَنِ المَدِينَةِ لِقُوَّتِهِمْ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَمَنَعَةِ حُصُونِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَكَانُوا هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ حُصُونَهُمْ سَتَمْنَعُهُمْ وَسَتَحْمِيهِمْ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ سُوءٌ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، فاطْمَأَنُّوا إِلَى تِلْكَ القُوَّةِ، وَشَرَعُوا فِي الدَّسِّ وَالكَيْدِ لِلرَّسُولِ ﷺ وَلِلمُسْلِمِينَ، فَجَاءَهُمْ بَأْسُ اللهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَوَقَّعُوا، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ. وَبَأسُ اللهِ لاَ يُدْفَعُ وَلاَ يُردُّ إِذَا جَاءَ. وَقَدْ قَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قَلُوبِهِمْ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الخَوْفُ وَالهَلَعُ حِينَ جَاءَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا المُقَاوَمَةَ بَعْدَ قَتْلِ رَئيسِهِمْ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، وَبَعْدَ أَنْ نَكَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ المُنَافِقينَ عَنْ إِنْجَادِهِمْ، وَمَدِّ يَدِ العَوْنِ إِلَيْهِمْ، كَمَا وَعَدَهُمْ، وَأَخَذُوا، مِنْ شِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ هَلَعٍ وَرُعْبٍ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيُدَمِّرُونَ أَثَاثَهُمْ، لِكَيْلاَ يَنْتَفِعَ بِهِ المُسْلِمُونَ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُدَمِّرُونَ بُيُوتَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنْ خَارِجِهَا لِيَدْخُلُوهَا عَلَيْهِمْ، فَيَصِلُوا إِلَيهِمْ، وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ قِتَالِهِمْ، فَاتَّعِظُوا يَا أَوْلِي الأَلْبَابِ وَالبَصَائِرِ بِمَا جَرَى عَلَى هَؤُلاَءِِ، وَالعَاقِلُ مَنِ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ.
الحَشْرُ - إِخْرَاجُ جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ.
قَذَفَ - أَلْقَى وَأَنْزَلَ إِنْزَالاً شَدِيداً.
الذِينَ كَفَرُوا - هُمْ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِِ.
لأَوَّلِ الحَشْرِ - فِي أَوَّلِ إِخْرَاجٍ مِنَ الأَرْضِ.
(٣) - وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ جَلاَءَهُمْ مِنَ المَدِينَةِ، وَخُرُوجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ عَلَى هَذَا الوَجْهِ المُهِينِ، لَعَذَّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا هُوَ أَفْظَعُ مِنْهُ كَالقَتْلِ وَالأَسْرِ وَالسَّبْيِ، لأَنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
الجَلاَءُ - الخُرُوجُ مِنَ الدَِّيَارِ بِالأَهْلِ وَالوَلَدِ.
(٤) - وَقَدْ كَتَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم الجَلاَءِ فِي الدُّنْيَا، وَالعَذَابَ فِي الآخِرَةِ، لأَنَّهُمْ عَادَوا رَسُولَ اللهِ، وَكَادُوا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّبُوا عَلَيْهِم المُشْرِكِينَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ حَقٌ. وَمَنْ يُعَادِ اللهَ وَيُحَارِبْهُ فَإِنَّ اللهَ يُعَاقِبُهُ أَشَدَّ العِقَابِ، وَيُنْزِلُ بِهِ الخِزْيَ وَالذِّلَّةَ وَالهَوَانَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْزِلُ بِهِ العَذَابَ الأَلِيمَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ.
شَاقُّوا - عَادَوا وَعَصَوا وَخَالَفُوا.
﴿قَآئِمَةً﴾ ﴿الفاسقين﴾
(٥) - لَمَّا حَاصَرَ الرَّسُولُ ﷺ بَنِي النَّضِيرِ فِي حُصُونِهِمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِهِمْ إِرْعَاباً لَهُمْ، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَقُولُونَ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الأَشْجَارِ؟ فَأْنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَفِيهَا يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ: إِنَّ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ أَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَمَا تَرَكْتُمُوهُ دُونَ قَطْعٍ فَالجَمِيعُ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ، وَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلاَ حَرَجَ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ وَخِزْيٌ وَنكَالٌ لِلفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ.
لِينَةٍ - نَخْلَةٍ.
عَلَى أُصُولِهَا - عَلَى سُوقِهَا بِدُونِ قَطْعٍ.
(٦) - نَزَلَ يَهُودُ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ فَفَرَضَ عَلَيْهِم الجَلاَءَ، وَتَرْكَ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ مَا اسْتَطَاعُوا حَمْلَهُ، فَجَعَلَ اللهُ أَمْوَالَهُمْ فَيئاً لِرَسُولِ اللهِ، وَمَغْنَماً خَالِصاً لَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، ثُمَّ يُنْفِقُ البَاقِي فِي الوُجُوهِ المُقَرَّرَةِ فِي الآيَةِ التَّالِيَةِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِلمَالِ الذِي يَغْنَمُهُ المُسْلِمُونَ مِنْ غَيرِ قِتَالٍ، وَلاَ مُصَاوَلَةٍ، وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، نِظَاماً خَاصَّاً، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَمَا تُقْسَمُ الغَنَائِمُ، وَفْقاً لِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ.
وَمَعْنَى الآيَةِ: إِنَّ اللهَ أَفَاءَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى رَسُولِهِ دُونَ قِتَالٍ إِذْ قَذَفَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ فَقَضَى بِجَلاَئِهِم عَنْ أَرْضِهِمْ.
وَاللهُ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَيَقْذِفُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهُمْ بِدُونِ قِتَالٍ، وَاللهُ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ.
الفَيءُ - مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ.
أَوْجَفَ - حَمَلَ الفَارِسُ أَوْ رَاكِبُ البَعِيرِ رَاحِلَتَهُ عَلَى الإِسْرَاعِ.
الرِّكَابُ - مَا يُرْكَبُ مِنَ الإِبلِ - رَاحِلَةٌ.
﴿اليتامى﴾ ﴿المساكين﴾ ﴿آتَاكُمُ﴾ ﴿نَهَاكُمْ﴾
(٧) - مَا جَعَلَهُ اللهُ فَيئاً لِرَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ الكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ القُرَى - كَبَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَوَقُرَيْظَةَ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ البِرِّ، وَلاَ يُقْسَمُ فِي الجَيْشِ كَالمَغْنَمِ، فَيُعْطَى لِلرَّسُولِ لِيُعْطَيِ مِنْهُ ذَوِي قُرْبَاهُ (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُعْطِي مِنْهُ بَنِي المُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمِ). وَلِلْيَتَامَى وَالفُقَرَاءِ وَلِلْمَسَاكِينِ مِنْ ذَوِي الحَاجَاتِ، وَلابْنِ السَّبِيلِ (وَهُوَ المُسَافِرُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ)، وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ لِكَيْلاَ يَأْخُذَهُ الأُغْنِيَاءُ، وَيَتَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَكَاثَرُوا بِهِ، فَلاَ يَصْلُ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى الفُقَرَاءِ.
وَمَا جَاءَكُم بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أَحْكَامٍ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَمَا أَعْطَاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الفَيءِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ حَلاَلٌ لَكُمْ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَلاَ تَقْرَبُوهُ، واتَّقُوا اللهَ فامْتَثِلُوا لأَمْرِهِ، وَاتْرُكُوا مَا نَهَاكُمْ عِنْهُ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى شَدِيدُ العِقَابِ لِمَنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " لا أَلْفَينَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَا أَمْرَتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتبَعْنَاهُ ").
دُوْلَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ - مُلْكاً مُتَدَاوَلاً بَيْنَهُمْ خَاصَّةً.
﴿الْمُهَاجِرِينَ﴾ ﴿دِيَارِهِمْ﴾ ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ ﴿رِضْوَاناً﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿الصادقون﴾
(٨) - يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى، وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ، وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ، الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ.
﴿تَبَوَّءُوا﴾ ﴿الإيمان﴾ ﴿فأولئك﴾
(٩) - ثُمَّ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ. وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ. وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ.
(رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. قَالَ: لاَ. مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ).
وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ "). (البُخَارِيُّ).
وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ").
التَّبَوُّؤُ - النُّزُولُ فِي المَكَانِ - أَيْ الذِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ.
يُؤَثِرُونَ - يُقَدِّمُونَ وَيُفَضِّلُونَ.
حَاجَةً - حَسَداً أَوْ شُعُوراً بِالضِّيقِ.
خَصَاصَةٌ - فَقْرٌ أَوْ حَاجَةٌ.
الشُّحُّ - حِرْصُ النَّفْس عَلَى المَنْعِ.
أُوتُوا - أَيْ مَا أُعْطِيَ المُهَاجِرُونَ مِنْ دُونِهِمْ.
﴿جَآءُوا﴾ ﴿لإِخْوَانِنَا﴾ ﴿بالإيمان﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿رَءُوفٌ﴾
(١٠) - وَهَؤُلاَءِ القِسْمُ الثَّالِثُ الذِينَ يَسْتَحِقُّ فُقَرَاءُهُمْ مِنْ مَالِ الفَيءِ، بَعْدَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، وُهُمُ المُتَّبِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَاغْفِرْ لإِخْوَانِنَا فِي الدِّينِ الذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا حَسَداً لِلمُؤْمِنينَ جَمِيعاً، وَلاَ حِقْداً عَلَيْهِمْ، وَأًَنْتَ يَا رَبِّ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الغِلُّ - الحِقْدُ والحَسَدُ.
﴿لإِخْوَانِهِمُ﴾ ﴿الكتاب﴾ ﴿لَئِنْ﴾ ﴿لَكَاذِبُونَ﴾
(١١) - أَرْسَلَ رَئِيسُ المُنَافِقِينَ عَبدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَعَدَدٌ مِنَ المُنَافِقِينَ مَعَهُ إِلَى يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ يَعِدُونَهُمُ النُّصْرَةَ إِنْ قَاتَلهُم المُسْلِمُونَ، والخُرُوجَ مَعَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ إِنْ أُخْرِجُوا، وَعَدَّ اللهُ المُنَافِقِينَ كَفَرَةً، وَإِخْوَاناً لِلكَافِرِينَ مِنَ اليَهُودِ.. ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ.
المُنَافِقُ - هُوَ الذِي يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُبْطِنُ، وَالذِي يُبَالِغُ فِي إِخْفَاءِ مُعْتَقَدِةِ.
﴿لَئِنْ﴾ ﴿الأدبار﴾
(١٢) - وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَفِيمَا يَعِدُونَ بِهِ اليَهُودَ مِنَ النُّصْرَةِ، وَالخُرُوجِ مَعَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَ اليَهُودِ إِذَا أَرَادَ المُسْلِمُونَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَلاَ يَقَاتِلُونَ مَعَهُمْ، إِنْ قَاتَلَهُمُ المُسْلِمُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ إِذَا قَاتَلُوا مَعَ اليَهُودِ سَيَنْهَزِمُونَ مُتَخَلِّينَ عَنْ بَنِي النَّضيرِ، ثُمَّ لاَ يَنْصُرُ اللهُ بَنِي النَّضِيرِ.
(١٣) - وَيُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى السَّبَبَ فِي عَدَمِ جُرْأَةِ المُنَافِقِينَ عَلَى الانْضِمَامِ إِلَى اليَهُودِ، فِي قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَيُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّ المُسْلِمِينَ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ مِنَ اللهِ، فَهُمْ يَخَافُونَ بَأْسَ المُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُونَ اللهَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ مِقْدَارَ عَظَمَةِ اللهِ، فَهُمْ لِذَلِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِمَعَاصِيهِ، وَلاَ يَرْهَبُونَ عِقَابَهُ، قَدْرَ رَهْبَتِهِم المُسْلِمِينَ وَسَطْوَتِهِمْ.
﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾
(١٤) - وَيُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى جُبْنَ اليَهُودِ وَالمُنَافِقِينَ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَلاَ يُوَاجِهُونَ المُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ مُجْتَمِعِينَ، بَلْ يُقَاتِلونَهُمْ فِي قُرًى حَصِينةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدْرَانٍ وَهُمْ مُحَاصَرُونَ، وَعَدَاوَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ شَدِيدَةٌ. وَإِذَا رَآهُمُ الرَّائِي حَسِبَهُمْ مُتَّفِقِينَ، وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْتَلِفُونَ إِلَى أَبْعَدِ حُدُودِ الاخْتِلاَفِ لِمَا بَيْنَهُم مِنْ أَحْقَادٍ وَعَدَاوَاتٍ، فَهُمْ لاَ يَتَعَاضَدُونَ، وَلاَ يَتَسَانَدُونَ، وَلاَ يُخْلِصُونَ فِي القِتَالِ، وَقَدْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الوَحْدَةَ وَالتَّسَانُدَ المُخْلِصَ هُمَا سِرُّ النَّصْرِ وَالنَّجَاحِ.
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ - قِتَالُهُمْ بَيْنَهُمْ.
قُلُوبَهُمْ شَتَّى - مُتَفَرِّقَةٌ لِتَعَادِيهِمْ.
(١٥) - وَمَثَلُ بَنِي النَّضِيرِ، مَثَلُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، الذِينَ كَانُوا حَوْلَ المَدِينَةِ، فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللهِ، وَأَجْلاَهُمْ إِلَى أَذْرِعَاتِ الشَّامِ، فَذَاقُوا سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ وَطُغَيَانِهِمْ.
(وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ التِي كَانَتْ فِي العَامِ الرَّابعِ لِلْهِجْرَةِ، بَيْنَمَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ فِي الشَّهْرِ العِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ).
وَبَالَ أَمْرِهِمْ - سُوءَ عَاقِبَةِ كُفْرِهِمْ.
﴿الشيطان﴾ ﴿لِلإِنسَانِ﴾ ﴿العالمين﴾
(١٦) - وَمَثَلُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ وَعَدُوا اليَهُودَ بِالنُّصْرَةِ إِنْ قُوتِلُوا وَبِالخُرُوجِ مَعَهُمْ إِنْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ الذِي غَرَّ الإِنْسَانَ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيهِ، إِذَا أَطَاعَهُ وَكَفَرَ بِاللهِ، فَلَمَّا احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِليهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ النُّصْرَةَ، تَبَرَّأَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، وَخَذَلَهُ وَتَرَكَهُ لِمَصْيرِهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ إِنْ نَصْرْتُكَ أَنْ يُشْرِكَنِي رَبُّ العَالَمِينَ مَعَكَ فِي العَذَابِ.
﴿عَاقِبَتَهُمَآ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿جَزَآءُ﴾ ﴿الظالمين﴾
(١٧) - فَكَانَ عَاقِبَةَ الأَمْرِ بِالكُفْرِ أَنْ صَارَ الشَّيْطَانُ وَمَنْ أَغْرَاهُ بِالكُفْرِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءُ كُلِّ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيَانِ.
﴿ياأيها﴾ ﴿آمَنُواْ﴾
(١٨) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ، وَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَل صَالِحٍ يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ يَوْمَ الحِسَابِ، ثُمَّ يُؤْكِّدُ تَعَالى الأَمْرَ بِتَقْوَاهُ، مُبَيِّناً أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأْحْوالِ العِبَادِ، جَمِيعِهَا، وَسَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهَا.
﴿فَأَنسَاهُمْ﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿الفاسقون﴾
(١٩) - وَلاَ يَكُنْ حَالُكُمْ كَحَالِ قَوْمٍ نَسُوا ذِكْرَ اللهِ فَأَنْسَاهُمُ اللهُ العَمَلَ الصَّالِحَ الذِي يَنْفَعُهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَيُنْقِذُ أَنْفُسَهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ مِنَ العَذَابِ. وَهَؤُلاَءِ الذِينَ نَسُوا اللهَ ذَكْرَهُ، وَفِعْلَ الخَيْرِ، هُمُ الفَاسِقُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
نَسُوا اللهَ - لَمْ يُرَاعُوا أَوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيَه.
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ - فَلَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا مَا يَنْفَعُهَا.
﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿الفآئزون﴾
(٢٠) - وَلاَ يَسْتوِي فِي حُكْمِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَهْلُ النَّارِ وَأَهْلُ الجَنَّةِ، وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ.
﴿القرآن﴾ ﴿خَاشِعاً﴾ ﴿الأمثال﴾
(٢١) - إِنَّ الجَبَلَ لَوْ فَهِمَ هَذَا القُرْآنَ، وَتَدَبَّرَهُ، لَخَشَعَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَوْفِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالبَشَرِ أَنْ لاَ تَلِينَ قُلُوبُهُمْ، وَلاَ تَخْشَعَ وَتَتَصَدَّعَ مِنْ خَشيَةِ اللهِ وَقَدْ فَهِمُوا مَعَانِيَهُ وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ؟
وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لِيُقَرِّبَ مَعَانِيَ القُرْآنِ إِلَى أَفْهَامِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَيَعْتَبِرُونَ.
خَاشِعاً - ذَلِيلاً مُسْتَكِيناً خَاضِعاً.
مُتَصِّدعاً - مُتَشَقِّقاً.
﴿عَالِمُ﴾ ﴿الشهادة﴾
(٢٢) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ اللهُ الذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، فَلاَ رَبَّ غيرُهُ في الوُجُودِ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الكَائِنَاتِ المُشَاهِدَاتِ لَنَا، وَالغَائِبَاتِ عَنَّا، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ الوَاسِعَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ فَهُوَ رَحْمنُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا.
الغَيْبُ - مَا غَابَ عَنِ الحِسِّ.
الشَّهَادَة - مَا حَضَرَ مِنَ الأَشْيَاءِ المُشَاهَدَةِ.
﴿السلام﴾ ﴿سُبْحَانَ﴾
(٢٣) - هُوَ اللهُ المَالِكُ لِجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، المُتَصَرِّفُ فِيهِ تَصَرُّفاً مُطْلَقاً، وَالمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، الذِي أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ، وَهُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِم الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ، وَغََلَبَهُ لِعَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ، فَلاَ تَلِيقُ الكِبْرِيَاءُ إِلاَّ لَهُ، تَنَزَّهَ اسْمُهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ.
المَلِكُ - المَالِكُ لِكُلِّ شَيءٍ.
القُدُّوسُ - المُنَزَّهُ عَنٍ النُّقْصَانِ.
المُؤْمِنُ - الوَاهِبُ الأَمْنَ - أَوِ المُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِالمُعْجِزَاتِ.
المُتَكَبِّرُ - البَلِيغُ الكِبْرَيَاءِ وَالعَظَمَةِ.
المُهَيْمِنُ - الرَّقِيبُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
العَزٍيزُ - القَوِيُّ الغَالِبُ.
الجَبَّارُ - القَهَّارُ أَوِ العَظِيمُ.
﴿الخالق﴾ ﴿السماوات﴾
(٢٤) - وَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ جَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، وَمُصَوِّرُهَا، وَمُبرْزُهَا فِي الصُّورَةِ التِي هِيَ عَلَيْهَا، وَيُنَزِّهُ اسْمَ اللهِ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَهُوَ العَزِيزُ الذِي لاَ يُقْهَرُ وَقَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ وَغَلَبَهُ، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَضَائِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
الأَسْمَاءُ الحُسْنَى - الدَّالَّةُ عَلَى مَحَاسِنِ المَعَانِي.
المُصَوّْرُ - خَالِقُ الصُّوَرِ.
سورة الحشر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الحشر) من السُّوَر المدنية، من (المسبِّحات)، وهي التي تبدأ بـ {سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (البيِّنة)، وقد نزلت في إجلاء يهودِ (بني النَّضير)، وأشارت إلى تاريخِ اليهود المليء بالخيانات، وعدم الالتزام بالمواثيق والعهود، وتعرَّضت لحُكْمِ (الفَيْء)، وقد افتُتحت بمقصدٍ عظيم؛ وهو تنزيهُ الله عزَّ وجلَّ عن كل نقص، وإثبات كلِّ كمال له سبحانه؛ فهو المستحِقُّ لصفات الألوهيَّة والربوبيَّة.

ترتيبها المصحفي
59
نوعها
مدنية
ألفاظها
447
ترتيب نزولها
101
العد المدني الأول
24
العد المدني الأخير
24
العد البصري
24
العد الكوفي
24
العد الشامي
24

* نزَلتْ سورة (الحشر) في يهودِ (بني النَّضير):

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوْبةِ؟ قال: التَّوْبةُ هي الفاضحةُ، ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أنَّها لن تُبقِيَ أحدًا منهم إلا ذُكِرَ فيها، قال: قلتُ: سورةُ الأنفالِ؟ قال: نزَلتْ في بَدْرٍ، قال: قلتُ: سورةُ الحَشْرِ؟ قال: نزَلتْ في بني النَّضِيرِ». أخرجه البخاري (٤٨٨٢).

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ هُوَ اْلَّذِيٓ أَخْرَجَ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اْللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ اْللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اْلرُّعْبَۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي اْلْمُؤْمِنِينَ فَاْعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي اْلْأَبْصَٰرِ} [الحشر: 1-2]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كانت غَزْوةُ بني النَّضِيرِ - وهم طائفةٌ مِن اليهودِ - على رأسِ ستَّةِ أشهُرٍ مِن وَقْعةِ بَدْرٍ، وكان مَنزِلُهم ونَخْلُهم بناحيةِ المدينةِ، فحاصَرَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى نزَلوا على الجَلاءِ، وعلى أنَّ لهم ما أقَلَّتِ الإبلُ مِن الأمتعةِ والأموالِ، إلا الحَلَقةَ؛ يَعني: السِّلاحَ؛ فأنزَلَ اللهُ فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ} [الحشر: 1] إلى قولِه: {لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْۖ} [الحشر: 2]، فقاتَلَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى صالَحَهم على الجَلاءِ، فأَجْلاهم إلى الشَّامِ، وكانوا مِن سِبْطٍ لم يُصِبْهم جَلاءٌ فيما خلا، وكان اللهُ قد كتَبَ عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذَّبَهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبْيِ، وأمَّا قولُه: {لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ} [الحشر: 2]، فكان جَلاؤُهم ذلك أوَّلَ حَشْرٍ في الدُّنيا إلى الشَّامِ». أخرجه الحاكم (3850).

* قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اْللَّهِ وَلِيُخْزِيَ اْلْفَٰسِقِينَ} [الحشر: 5]:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «حرَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بني النَّضِيرِ وقطَعَ، وهي البُوَيرةُ؛ فنزَلتْ: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اْللَّهِ} [الحشر: 5]». أخرجه البخاري (٤٠٣١).

* قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعَثَ إلى نسائِه، فقُلْنَ: ما معنا إلا الماءُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن يضُمُّ أو يُضِيفُ هذا؟»، فقال رجُلٌ مِن الأنصارِ: أنا، فانطلَقَ به إلى امرأتِه، فقال: أكرِمي ضيفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قُوتُ صِبْياني، فقال: هَيِّئي طعامَكِ، وأصبِحي سِراجَكِ، ونَوِّمي صِبْيانَكِ إذا أرادوا عَشاءً، فهيَّأتْ طعامَها، وأصبَحتْ سِراجَها، ونوَّمتْ صِبْيانَها، ثم قامت كأنَّها تُصلِحُ سِراجَها فأطفأته، فجعَلَا يُرِيانِه أنَّهما يأكُلانِ، فبَاتَا طاوِيَينِ، فلمَّا أصبَحَ غَدَا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضَحِكَ اللهُ اللَّيلةَ - أو عَجِبَ - مِن فَعالِكما»؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]». أخرجه البخاري (٣٧٩٨).

* سورةُ (الحَشْر):

سُمِّيت سورةُ (الحَشْر) بذلك؛ لوقوع لفظِ (الحشر) فيها؛ قال تعالى: {هُوَ اْلَّذِيٓ أَخْرَجَ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ} [الحشر: 2].

والمراد بـ(الحَشْر) هنا: إخراجُ (بني النَّضِير)، لا يومُ القيامة.

* سورة (بني النَّضِير):

وسُمِّيت بذلك؛ لاشتمالها على قِصَّة إجلاء يهودِ (بني النَّضير).

1. إجلاء بني النَّضير (١-٥).

2. حُكْمُ الفَيء (٦-١٧).

3. التقوى، قوة القرآن، أسماء الله الحسنى (١٨-٢٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /60).

مقصودُ سورة (الحشر) تنزيهُ الله عز وجل عن كلِّ النقائص، وإثباتُ الكمال المطلق له؛ فهو الإله المستحِقُّ للعبادة؛ لكمال اتصافه بالقدرة الشاملة والحِكْمة البالغة، وهذه دعوةٌ لتوحيد الرُّبوبية والألوهية له سبحانه.

ويذكُرُ ابنُ عاشور أنَّ السورة جاءت لبيان: «حُكْم أموال بني النَّضير بعد الانتصار عليهم»، ثم يقول في بيان مقاصدها: «وقد اشتملت على أن ما في السموات وما في الأرض دالٌّ على تنزيه الله، وكونِ ما في السموات والأرض مِلْكَه، وأنه الغالب المدبِّر.

وعلى ذِكْرِ نعمة الله على ما يسَّر من إجلاء بني النَّضير مع ما كانوا عليه من المَنَعةِ والحصون والعُدَّة؛ وتلك آيةٌ من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغَلَبَتِه على أعدائه.

وذِكْرِ ما أجراه المسلمون من إتلافِ أموال بني النَّضير، وأحكام ذلك في أموالهم، وتعيين مستحِقِّيه من المسلمين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /63).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /72).