بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة حم عسقوهي مكية
( قال مقاتل )١ : إلا قوله تعالى :( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا )٢ الآية، وكذلك قوله تعالى :( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )٣.
٢ - الشورى : ٢٩.
٣ - الشورى : ٢٣.
ﰡ
وَقَوله: {وَإِلَى الَّذين من قبلك الله الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ يَعْنِي: أَن الله تَعَالَى يوحي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم أَي: من صفته الْعِزَّة وَالْحكمَة، وَمَعْنَاهُ: عَزِيز فِي نصرته، حَكِيم فِي فعله، وَقُرِئَ: " كَذَلِك نوحي إِلَيْك " بالنُّون، وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿من فوقهن﴾ أَي: من فَوق الْأَرْضين، وانفطارها لعَظيم مَا جَاءَ بِهِ الْكفَّار. وَقيل: خوفًا من الله تَعَالَى. وَيُقَال: هَيْبَة وإجلالا. وَقيل: لِعَظَمَة الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم﴾ أَي: يصلونَ بِحَمْد رَبهم، وَيُقَال: ينزهون رَبهم.
وَقَوله: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: للْمُؤْمِنين الَّذين فِي الأَرْض، وَهَذَا محكى عَن ابْن عَبَّاس، وَاللَّفْظ عَام أُرِيد بِهِ الْخَاص، وَقيل: إِن الَّذين يَسْتَغْفِرُونَ للْمُؤْمِنين حَملَة الْعَرْش خَاصَّة على مَا ذكر تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمن. وَقيل: هم جَمِيع الْمَلَائِكَة. وَفِي التَّفْسِير: أَن استغفارهم لمن فِي الأَرْض من الْوَقْت الَّذِي افْتتن هاروت وماروت بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تسمى زهرَة، وفعلا مَا فعلا، واختارا عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَت الْمَلَائِكَة من قبل يدعونَ على العصاة، فَمن ذَلِك الْوَقْت كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ للعصاة من الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿أَلا إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم﴾ أَي: الستور لذنوب عباده.
وَقَوله: ﴿الرَّحِيم﴾ أَي: الرَّحِيم بهم.
وَقَوله: ﴿الله حفيظ عَلَيْهِم﴾ أَي: شَاهد لأعمالهم، حَافظ لَهَا؛ ليجازيهم بهَا.
وَقَوله: ﴿وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل﴾ أَي: بمسلط، وَهَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف.
وَقَوله: ﴿لتنذر أم الْقرى: أى أهل أم الْقرى. وهى مَكَّة، وَسميت أم الْقرى، لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا.
وَقَوله: {وَمن حولهَا﴾ أَي: وتنذر أهل من حولهَا.
وَقَوله: ﴿وتنذر يَوْم الْجمع﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي يجْتَمع فِيهِ أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض، وَقيل: يجْتَمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَمَعْنَاهُ: لتنذر بِيَوْم الْجمع.
وَقَوله: ﴿لَا ريب فِيهِ﴾ أَي: لَا شكّ فِي مَجِيئه.
وَقَوله: ﴿فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير﴾ روى عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن النَّبِي خرج يَوْمًا وَفِي يَده كِتَابَانِ، ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: " هَل تَدْرُونَ مَا فيهمَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ للْكتاب الَّذِي فِي يَمِينه: هَذَا كتاب فِيهِ أَسمَاء أهل الْجنَّة وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على آخِرهم لَا يزْدَاد فيهم وَلَا ينقص، وَقَالَ للْكتاب الَّذِي فِي شِمَاله: هَذَا كتاب فِيهِ أَسمَاء أهل النَّار وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على آخِرهم، لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص، قَالُوا: فَفِيمَ نعمل إِذا؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَمن كَانَ من أهل الْجنَّة يخْتم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَمن كَانَ من أهل النَّار يخْتم لَهُ بِعَمَل أهل النَّار، وَإِن عمل
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم يتفرقون فِي الْجنَّة والسعير فَلَا يَجْتَمعُونَ أبدا.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته﴾ أَي: يدْخل من يَشَاء فِي الْإِسْلَام.
وَقَوله: ﴿والظالمون مَا لَهُم من ولي وَلَا نصير﴾ أَي: ولي يشفع لَهُم، وَولي ينصرهم من الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿فَالله هُوَ الْمولى﴾ أَي: هُوَ الْمُتَوَلِي للأشياء.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ يحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم الله رَبِّي عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب﴾ أَي: بِهِ وثقت، وَإِلَيْهِ أرجع فِي أموري.
قَوْله: ﴿جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا﴾ أَي: النِّسَاء، وَقيل: " من أَنفسكُم أَزْوَاجًا " أَي: أصنافا، ذُكُورا، وإناثا.
وَقَوله: ﴿وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا﴾ أى: أصنافاً ذُكُورا وإناثاً.
وَقَوله: ﴿يذرؤكم فِيهِ﴾ قَالَ الْفراء: أَي: يكثركم بِهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: نَسْلًا من بعد نسل من النَّاس والبهائم إِلَى قيام السَّاعَة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿يذرؤكم فِيهِ﴾ أَي: يخلقكم فِي هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره.
وَقَوله: ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء، وَزعم كثير من النَّحْوِيين أَن الْكَاف هَاهُنَا زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مثله شَيْء، وَزعم بَعضهم: أَن لُغَة تهَامَة أَنهم يَقُولُونَ: أَنا كمثلك أَو أَنْت كمثلي أَي: أَنْت مثلي وَأَنا مثلك. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: وَلَا يَسْتَقِيم قَول من يَقُول: لَيْسَ كمثله شَيْء أى: لَيْسَ كمثله مثل؛ لِأَن فِي هَذَا (إِثْبَات) الْمثل، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بِالْمثلِ، جلّ وَتَعَالَى عَن ذَلِك.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وأنشدوا على القَوْل الأول:
(سعد بن زيد إِذا أَبْصرت فَضلهمْ | مَا إِن كمثلهم فِي النَّاس من أحد) |
(فَتى لَو تنادى الشَّمْس أَلْقَت قناعها | أَو الْقَمَر الساري لألقي المقالد) |
وَقَوله: ﴿يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر﴾ أَي: يُوسع الرزق على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء.
وَقَوله: ﴿إِنَّه بِكُل شَيْء عليم﴾ أَي: عَالم.
وَقَوله: ﴿مَا وصّى بِهِ نوحًا﴾ أَي: أَمر بِهِ نوحًا، وَيُقَال: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أول من جَاءَ بِتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات.
وَقَوله: ﴿وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك﴾ أَي: وَشرع الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك.
وَقَوله: ﴿وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى﴾ أَي: وَمَا أمرنَا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى.
وَقَوله: ﴿أَن أقِيمُوا الدّين﴾ أَي: اثبتوا على التَّوْحِيد، وَقيل: أقِيمُوا الدّين أَي: اسْتَقِيمُوا على الدّين. وَيُقَال: أقِيمُوا الدّين هُوَ فعل الطَّاعَات وامتثال الْأَوَامِر.
وَقَوله: ﴿وَلَا تتفرقوا فِيهِ﴾ أَي: كَمَا تَفَرَّقت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَي: آمنُوا بِالْبَعْضِ وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ.
وَقَوله: ﴿كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ﴾ أَي: عظم عِنْد الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ من التَّوْحِيد، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب﴾.
وَقَوله: ﴿الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء﴾ أَي: يستخلص لدينِهِ من يَشَاء.
وَقَوله: ﴿وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب﴾ أَي: يرشد إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِ من اخْتَار الرشد والإنابة.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله قَوْله تَعَالَى: ﴿بل السَّاعَة موعدهم﴾.
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم﴾ أَي: لفصل بَينهم الْأَمر فِي الْحَال ﴿وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ﴾ أَي: من الَّذين تقدمُوا، وَقَوله: ﴿أورثوا﴾ أَي: أعْطوا.
وَقَوله: ﴿لفي شكّ مِنْهُ مريب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت
أَي أوحى إِلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿واستقم كَمَا أمرت﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَلَا تتبع أهواءهم﴾ أَي: أهواء الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب﴾ أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر الْكتب.
وَقَوله: ﴿وَأمرت لأعدل بَيْنكُم﴾ أَي: لأقضي بَيْنكُم بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: ﴿الله رَبنَا وربكم﴾ أَي: خالقنا وخالقكم.
وَقَوله: ﴿لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم﴾ أَي: لنا جَزَاء أَعمالنَا، وَلكم جَزَاء أَعمالكُم.
وَقَوله: ﴿لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾ أَي: لَا مُحَاجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم، وَقد كَانَ من حجتهم أَنهم قَالُوا: نَبينَا قبل نَبِيكُم، وَكِتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَمعنى قَوْله: ﴿لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾ أَي: لَا (حجَّة) لكم؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أدحض حجتكم، وَإِذا أدحض حجتهم لَا تبقى بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ مُحَاجَّة.
وَقَوله: ﴿الله يجمع بَيْننَا﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ الْمصير﴾ أَي: وَإِلَيْهِ الْمرجع.
وَقَوله: {من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ للرسول.
وَقَوله: ﴿حجتهم داحضة﴾ أَي: بَاطِلَة.
وَقَوله: ﴿عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد﴾ قد بَينا من قبل. فَإِن قيل: قد قَالَ: من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَأَي معنى لاستجابة النَّاس لَهُ فِي هَذَا الْمحل، وحجتهم داحضة سَوَاء اسْتَجَابَ لَهُ النَّاس أَو لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ؟ وَالْجَوَاب: أَن الْكفَّار ظنُّوا أَن أَمر مُحَمَّد سيزول عَن قريب، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا هم عَلَيْهِ، وَأَن النَّاس لَا يستجيبون لَهُ وَلَا يدْخلُونَ فِي دينه، فَذكر من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَي: قد استجابه النَّاس، وَبَطل ظنكم أَن أمره يَزُول عَن قريب، وَهَذَا أحسن فَائِدَة. وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: ﴿من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾ أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الله بِمَا طلب من إِظْهَار المعجزات علبه. وَعَن بَعضهم: أَن المحاجة بِالْبَاطِلِ هِيَ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد، ثمَّ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد تكون على وَجْهَيْن: بإيراد شُبْهَة، وبمدافعة حجَّة من غير حجَّة.
وَقَوله: ﴿وَالْمِيزَان﴾ أَي: الْعدْل، وَسمي الْعدْل ميزانا؛ لِأَن الْمِيزَان يكون (مناصف) النَّاس فِيمَا بَينهم، وَقيل: هُوَ الْمِيزَان نَفسه، وَمعنى الْإِنْزَال: أَن الله تَعَالَى أنزل الْحَدِيد من السَّمَاء، وَمن الْحَدِيد لِسَان الْمِيزَان وصنجاته.
وَقَوله: ﴿وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب﴾ فَإِن قيل: يتم لم يقل قريبَة، والساعة مُؤَنّثَة؟ وَالْجَوَاب: أَن تَأْنِيث السَّاعَة لَيْسَ بحقيقي؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنى الزَّمَان وَالْوَقْت، وَيجوز أَن تكون السَّاعَة بِمَعْنى الْبَعْث والنشور، فَتكون الْكِتَابَة رَاجِعَة إِلَى الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا﴾ وَكَانَ استعجالهم بهَا على طَرِيق الاستبعاد لقيامها تَكْذِيبًا بهَا.
قَوْله: ﴿وَالَّذين آمنُوا مشفقون مِنْهَا﴾ أَي: خائفون وجلون مِنْهَا، وخوفهم من المحاسبة الموعودة وَالْجَزَاء الْوَاقِع على الْأَعْمَال.
وَقَوله: ﴿ويعلمون أَنَّهَا الْحق﴾ أَي: أَنَّهَا قَائِمَة لَا محَالة.
وَقَوله: ﴿أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة﴾ أَي: يَشكونَ فِيهَا، وَقيل: يَخْتَلِفُونَ فِيهَا اخْتِلَاف الشاكين.
وَقَوله: ﴿لفي ضلال بعيد﴾ أَي: فِي خطأ طَوِيل.
وَقَوله: ﴿ويرزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز﴾ أَي: الْقوي فِي نصْرَة الْمُؤمنِينَ، وَقيل: فِي الْقُدْرَة على إِيصَال الرزق إِلَيْهِم، وَقَوله: ﴿الْعَزِيز﴾ أَي: الْغَالِب الَّذِي لَا يغالب.
وَقَوله: ﴿نزد لَهُ فِي حرثه﴾ أَي: نضاعف لَهُ فِي الْحَسَنَات، وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى يُعْطي الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة، وَلَا يُعْطي الْآخِرَة بِعَمَل الدُّنْيَا. فَهَذَا قَول ثَان فِي معنى الْآيَة، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة: ﴿نزد لَهُ فِي حرثه﴾ أَي: نعنه [ونوفقه] على زِيَادَة الطَّاعَات والاستكثار مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا﴾ أَي: عمل الدُّنْيَا ﴿نؤته مِنْهَا﴾ أَي: على مَا نشَاء ونريد، على مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد﴾ وَقيل: نؤته مِنْهَا بِقدر مَا قسم لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب﴾ هَذَا فِيمَن لم يعْمل إِلَّا للدنيا، فَأَما من عمل للدنيا وَالْآخِرَة فَيجوز أَن يؤتيه الله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿شرعوا لَهُم من الدّين﴾ أَي: وضعُوا.
وَقَوله: ﴿مَا لم يَأْذَن بِهِ الله﴾ أَي: لم يَأْمر بِهِ الله.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل﴾ أَي: مَا أخر لَهُم من الْعَذَاب (لقضي بَينهم) أَي: لفصل الْأَمر بَينهم فِي الْحَال.
وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: شَدِيد.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ وَاقع بهم﴾ وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الَّذِي يخافونه نَازل بهم، وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات الجنات﴾ أَي: الْبَسَاتِين.
وَقَوله: ﴿لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير﴾ أَي: الْعَظِيم.
وَقَوله: ﴿قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ فِيهِ أَرْبَعَة أقاويل: أظهرها وأشهرها أَن مَعْنَاهُ: لَا أَسأَلكُم إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم. وَقيل: تصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم بالاستجابة لي إِلَى مَا أَدْعُو إِلَيْهِ، وتكفوا عني أذاكم، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس أوردهُ البُخَارِيّ عَنهُ فِي الصَّحِيح على لفظ مَعْلُوم مَقْبُول، وَهُوَ قَول طَاوس وَمُجاهد وَقَتَادَة، وَعَامة الْمُفَسّرين. قَالَ قَتَادَة: كَانَت قُرَيْش تصل الْأَرْحَام، فَطلب مِنْهُم النَّبِي أَن يصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بَينه وَبينهمْ، وَألا يقطعوها.
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من بطن من بطُون قُرَيْش إِلَّا ولرسول الله فيهم قرَابَة، فَسَأَلَهُمْ أَن يصلوها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: ﴿قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ مَعْنَاهُ: أَن يتوددوا إِلَى الله بِمَا يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل الصَّالح.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن الضَّحَّاك أَن الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله: ﴿قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله﴾ وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عِنْد أهل
وَفِي بعض التفاسير: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة لما علمُوا جد النَّبِي ظنُّوا انه يطْلب مَالا، فَجمعُوا لَهُ شَيْئا حسنا من أَمْوَالهم، وَقَالُوا: نعطيك هَذَا المَال، وكف عَمَّا أَنْت عَلَيْهِ، فَأنْزل الله الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي قدمنَا.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا روى فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى﴾ أَن تودوا أقربائي وتحبوهم.
وَحكى بَعضهم: أَن النَّبِي سُئِلَ عَن هَذِه، وَعَن معنى الْقُرْبَى فَقَالَ: " عَليّ وَفَاطِمَة وولدهما "، وَهَذَا أغرب الْأَقَاوِيل وأضعفها.
وَقَوله: ﴿وَمن يقترف حَسَنَة﴾ أَي: يكْتَسب حَسَنَة أَي: طَاعَة ﴿نزد لَهُ فِيهَا حسنا﴾ أَي: نضاعف لَهُ الْحَسَنَة.
وَقَوله: ﴿إِن الله غَفُور شكور﴾ أَي: غَفُور للكثير من الذُّنُوب، شكور لليسير فِي الطَّاعَات.
وَقَوله: ﴿فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك﴾ أَي: ينْسك الْقُرْآن حَتَّى لَا تذكر مِنْهُ حرفا، قَالَه قَتَادَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: يخْتم على قَلْبك أَي: يرْبط بِالصبرِ على أذاهم، وَهَذَا قَول مَعْرُوف أوردهُ الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.
وَقَول: ﴿ويمح الله الْبَاطِل﴾ قيل: هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ: ويمحو الله الْكفْر ويزيله.
وَقَوله: ﴿ويحق الْحق بكلماته﴾ أَي: ينصر دينه بالمعجزات الَّتِي يظهرها، وَقيل: بتحقيق وعده، وَقيل: بنصرة رَسُوله بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله.
وَقَوله: ﴿إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن رجل زنى بِامْرَأَة ثمَّ تزَوجهَا، هَل يجوز؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده﴾ إِلَى آخر الْآيَة.
وَقَوله: ﴿ويزيدهم من فَضله﴾ أَي: الثَّنَاء الْحسن فِي الدُّنْيَا، وَقيل: الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة، وَالْمَعْرُوف مضاعفة الْحَسَنَات.
وَقَوله: ﴿والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿لبغوا فِي الأَرْض﴾ أَي: عصوا وطغوا فِي الأَرْض، وَالْبَغي فِي الأَرْض هُوَ الْعَمَل فِيهَا بِغَيْر حق (وَقيل: هُوَ) البطر والأشر.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء أى بِقدر كَمَا تشَاء.
وَقَوله: {إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير﴾ أَي: خَبِير بِمَا يصلحهم، بَصِير بِمَا يَفْعَلُونَهُ ويطلبونه.
﴿وينشر رَحمته﴾ أَي: بإنزال الْغَيْث.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد﴾ أَي: الْمَالِك لما يَفْعَله، الْمُسْتَحق للحمد فِيمَا ينزله من الْغَيْث.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة﴾ وَهُوَ على حَقِيقَته، وَالدَّابَّة كل مَا يدب، وَالْمَلَائِكَة مِمَّا يدب، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره.
﴿وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير﴾ أَي: قَادر.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة﴾ يُرَاد بهَا المعاقبة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم، فعلى هَذَا يجوز أَن يُصِيب الْإِنْسَان مُصِيبَة من غير ذَنْب وَلَا كسب إِذا لم يرد بهَا المعاقبة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة على الْعُمُوم، وَلَا يُصِيب أحدا بلَاء وَشدَّة إِلَّا بذنب سبق مِنْهُ، أَو تَنْبِيه لِئَلَّا يعْمل ذَنبا، أَو ليعتبر بِهِ ذُو ذَنْب.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي [أَنه] أَنه قَالَ: " مَا من خدش أَو عَثْرَة قدم أَو اخْتِلَاج عرق إِلَّا بذنب، وَمَا يغْفر الله أَكثر ". وَعَن الْعَلَاء بن بدر: مَا يُصِيب أحدا مُصِيبَة إِلَّا بذنب مِنْهُ، فَقيل لَهُ: كَيفَ هَذَا، وَقد عميت صَغِيرا، وَمَا كنت أعمى؟ فَقَالَ: بذنب وَالِدي.
تعلق بِهَذِهِ الْآيَة بعض من يَقُول بالتناسخ، وَقَالَ: إِنَّا نرى الْبلَاء يُصِيب الْأَطْفَال وَلم يكن مِنْهُم ذَنْب، فَدلَّ انه سبق مِنْهُم ذنُوب من قبل وعوقبوا بهَا.
وَتعلق بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا من يَقُول إِن الْأَطْفَال لَا يألمون أصلا فَكَذَلِك الْبَهَائِم، وَإِنَّمَا صِيَاحهمْ لأَذى قُلُوب الْوَالِدين.
وكلا الْقَوْلَيْنِ بَاطِل، وَيجوز عِنْد أهل السّنة أَن يُوجد الله الْأَلَم إِلَى مَا يَشَاء من عباده بِغَيْر ذَنْب سبق مِنْهُ، وَكَذَلِكَ على جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَأما وَجه الْآيَة قد بَينا، وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول: إِن الْأَطْفَال لَا يألمون بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دفع الْحس والعيان.
وَقَوله: ﴿وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
(وَإِن صخرا لتأتم الهداة | بِهِ كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار) |
وَقَوله: ﴿فيظللن رواكد على ظَهره﴾ أَي: ثوابت على ظهر الْبَحْر، وَمَعْنَاهُ: الرّيح إِذا سكنت بقيت السفن ثوابت على ظهر الْبَحْر، لَا تجرى.
قَوْله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ أَي: صبار على البلايا، شكور للنعم، وَعَن بَعضهم: إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور أَي: الْمُؤمن؛ لِأَن الْمُؤمن هُوَ الصبار الشكُور، قَالَ مطرف: نعم العَبْد الْمُؤمن إِذا ابْتُلِيَ صَبر، وَإِذا أعطي شكر. وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: رب منعم عَلَيْهِ غير شكور، ومبتلى غير صبور.
وَقَوله: ﴿ويعف عَن كثير﴾ أَي: يتَجَاوَز عَن كثير من الذُّنُوب، وَحكى أَن شريحا رُؤِيَ وَفِي يَده (قرحَة) فَقيل لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا أُميَّة؟ فَقَالَ: وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير.
﴿مَا لَهُم من محيص﴾ أَي: ملْجأ ومهرب، قَالَه السدى وَغَيره.
وَقَوله: ﴿وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى﴾ أَي: الْجنَّة خير وأدوم.
وَقَوله: ﴿للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي التَّفْسِير: أَن قتل النَّفس، وَقذف الْمُحْصنَات، والإشراك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين والفرار من الزَّحْف، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتأفيف، وَالسحر، وَشرب الْخمر؛ من الْكَبَائِر، وَيُقَال: كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ فِي النَّار فَهُوَ من الْكَبَائِر. وَأما إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم فَيُقَال: إِنَّمَا أضافها إِلَيْهِ؛ لِأَن فِي الْإِثْم كَبِيرا وصغيرا. وَيُقَال: إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم كإضافة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف.
وَقَوله: ﴿وَالْفَوَاحِش﴾ الْفَوَاحِش: هِيَ القبائح من الزِّنَا وَغَيره.
وَقَوله: ﴿وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون﴾ أَي: يتجاوزون، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا أنبئكم بالشديد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: من ملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ".
وَقَوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاة﴾ إِقَامَة الصَّلَاة إتيانها بشرائطها وحفظها بحدودها.
وَقَوله: ﴿وَأمرهمْ شُورَى بَينهم﴾ ذكر النقاش: أَن هَذَا فِي الْأَنْصَار وَكَانُوا يتشاورون فِي الْأَمر بَينهم؛ فمدحهم الله على ذَلِك، وَذَلِكَ دَلِيل على اتِّفَاق الْكَلِمَة، وَترك الاستبداد بِالرَّأْيِ، وَالرُّجُوع إِلَى الرَّأْي عِنْد نزُول الْحَادِثَة. وَقيل: إِن الْأَنْصَار تشاوروا فِيمَا بَينهم حِين دعاهم النَّبِي إِلَى الْإِيمَان، ثمَّ أجابوا إِلَى الْإِيمَان.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: مَا تشَاور قوم إِلَّا هُدُوا إِلَى ارشد أُمُورهم. والشورى مَأْخُوذَة من قَوْلهم: شرت الدَّابَّة أشورها إِذا سيرتها مقبلة، ومدبرة لاستخراج السّير مِنْهَا. وَيُقَال: لذَلِك الْموضع المشوار. وَالْعرب تَقول: إياك والخطب فَإِنَّهَا مشوار كثير العناد. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة [أبي] عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياؤكم وأمركم شُورَى بَيْنكُم، فَظهر الأَرْض خير لكم، من بَطنهَا، وَإِذا كَانَت أمراؤكم شِرَاركُمْ، وأغنياؤكم (بخلاؤكم)، وأمركم إِلَى نِسَائِكُم؛ فبطن الأَرْض خير لكم من ظهرهَا ".
وَاعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة الشورى.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ أَي: يتصدقون.
وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن ابي بكر الصّديق، فروى أَن رجلا من الْأَنْصَار سبّ أَبَا بكر عِنْد النَّبِي، فَسكت أَبُو بكر وَسكت التبي، ثمَّ إِن أَبَا بكر أَجَابَهُ، فَقَامَ النَّبِي مغضبا، وَذهب فَتَبِعَهُ أَبُو بكر، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الَّذِي فعلت بِي أَشد مِمَّا فعله الْأنْصَارِيّ، سبني فَسكت، وَلم تنكر عَلَيْهِ، ثمَّ لما أجبْت قُمْت مغضبا، فَقَالَ: كَانَ الْملك يرد عَلَيْهِ حِين سكت؛ فَلَمَّا أجبْت ذهب الْملك؛ فَذَهَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون﴾ فَيجوز للمظلوم الِانْتِصَار من ظالمه.
قَوْله: ﴿فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله﴾ يَعْنِي: عَفا عَن الظَّالِم وَأصْلح الْأَمر بَينه وَبَينه ﴿فَأَجره على الله﴾ أَي: ثَوَابه على الله، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة:: أَلا ليقمْ من أجره على الله فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا ".
وَقَوله: ﴿إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين﴾ أَي: من يتَجَاوَز عَن الْحق إِلَى غير الْحق.
وَقَوله: ﴿أولائك لَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم موجع.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾ أَي: من حق (الْأُمُور)، وَقيل: من عزائم الله الَّتِي ندب إِلَيْهَا عباده. وَيُقَال: من ثَابت الْأُمُور الَّتِي لَا تنسخ. قَالَ الزّجاج: ندب الله تَعَالَى الْمَظْلُوم أَن (يعْفُو) عَن الظَّالِم، ويصبر عَن الظُّلم؛ لينال الثَّوَاب فِي
وَقَوله: ﴿فَمَا لَهُ من ولي من بعده﴾ أَي: لَا يجد من بعد الله من يهديه.
وَقَوله: ﴿وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل﴾ أَي: من رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا ليتوب.
وَقَوله: ﴿خاشعين من الذل﴾ أَي: خاضعين من الذل، وَمَعْنَاهُ: [الانكسار] وذلة النَّفس حِين يرَوْنَ الْعَذَاب وتنزل بهم الندامة.
قَوْله: ﴿ينظرُونَ من طرف خَفِي﴾ أَي: يسارقون النّظر إِلَى النَّار، وَيُقَال: ينظرُونَ بأنصاف عيونهم، وَلَا يفتحون أَعينهم عَلَيْهَا خوفًا مِنْهَا. وَعَن بَعضهم قَالَ: ينظرُونَ بقلوبهم؛ لأَنهم يحشرون عميا، فالطرف الْخَفي هُوَ رُؤْيَة الْقلب.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ أما خسرانهم أنفسهم فبدخولهم النَّار، وَأما خسرانهم أَهْليهمْ فلأنهم لَو آمنُوا أَصَابُوا أَهلا فِي الْجنَّة، فَلَمَّا كفرُوا ودخلوا النَّار فاتهم أهلوهم فِي الْجنَّة، فَهُوَ خسران الْأَهْل. وَيُقَال: لكل وَاحِد من الْكفَّار أهل مُسَمّى فِي الْجنَّة لَو آمن.
وَقَوله: ﴿أَلا إِن الظَّالِمين فِي عَذَاب مُقيم﴾ أَي: دَائِم.
وَقَوله: ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل﴾ أَي: من طَرِيق إِلَى الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿من قبل أَن ياتي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله﴾ أَي: لَا رد لَهُ.
وَقَوله: ﴿مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ﴾ أَي: مهرب وملاذ.
وَقَوله: ﴿وَمَا لكم من نَكِير﴾ أَي: إِنْكَار، وَيُقَال: لَيْسَ لكم من أَن تنكروا الْعقُوبَة الَّتِي تنالكم. وَقيل: مَا لكم من نَكِير أَي: تَغْيِير.
وَقَوله: ﴿إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ﴾ أَي: التَّبْلِيغ.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة﴾ أَي: النِّعْمَة والعافية.
وَقَوله: ﴿فَرح بهَا﴾ أَي: سر بهَا.
وَقَوله: ﴿وَإِن تصبهم سَيِّئَة﴾ أَي: شدَّة وبلاء، وَقيل: الجدب الَّذِي هُوَ ضد الخصب.
وَقَوله: ﴿بِمَا قدمت أَيْديهم﴾ أَي: من الذُّنُوب.
وَقَوله: ﴿فَإِن الْإِنْسَان كفور﴾ مَعْنَاهُ: كَافِر لنعم الله لَا يشكرها.
وَقَوله: ﴿وَيجْعَل من يَشَاء عقيما﴾ أَي: لَا يُولد لَهُ أصلا، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة فِي الْأَنْبِيَاء، فَقَوله: ﴿يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا﴾ هُوَ لوط النَّبِي كَانَ لَهُ بَنَات، وَلم يكن لَهُ ولد ذكر، وَقَوله: ﴿ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور﴾ هُوَ إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بنُون، وَلم تكن لَهُ أُنْثَى، وَقَوله: ﴿أَو نزوجهم ذكرانا وإناثا﴾ هُوَ الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ ولد لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ، وَأَرْبع بَنَات، فالبنون: الْقَاسِم وَبِه كني رَسُول الله، وَعبد الله، والطاهر، وَكَانَ يُسمى الطّيب أَيْضا وَإِبْرَاهِيم، فالثلاثة الْأَولونَ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِبْرَاهِيم بن مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَأما الْبَنَات: فزينب، ورقية، وَأم كُلْثُوم، وَفَاطِمَة، كُلهنَّ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وعنهن، وَقَوله: ﴿وَيجْعَل من يَشَاء عقيما﴾ وَهُوَ يحيى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يكن لَهما ولد وَلَا زَوْجَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّه عليم قدير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِلَّا وَحيا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه الإلهام من الله تَعَالَى بالنفث فِي
وَقَوله: ﴿أَو من وَرَاء حجاب﴾ أَي: كَمَا كلم مُوسَى من وَرَاء حجاب، وَقيل: بالحجاب على مَوضِع الْكَلَام لَا على الله. [وَقيل] : إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام الله وَلم يره كَانَ بِمَنْزِلَة من يسمع من وَرَاء الْحجاب.
وَقَوله: ﴿أَو يُرْسل رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾ يَعْنِي: يُرْسل جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى من يَشَاء من الْأَنْبِيَاء، [وَجُمْلَة] الَّذِي وصل إِلَى الْأَنْبِيَاء من الْوَحْي على ثَلَاثَة وُجُوه: وَحي إلهام، ورؤيا فِي الْمَنَام، ووحي بِتَكْلِيم الله تَعَالَى، ووحي بِلِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ لسلام. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: أوحى الله تَعَالَى الزبُور إِلَى دَاوُد فقرأه من قلبه، وَلم يكن على لِسَان جِبْرِيل. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى وكل بِحِفْظ الْوَحْي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَذَلِكَ بإيصاله إِلَى الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ وَكله بنصرة الْأَنْبِيَاء وَعَذَاب الْكفَّار، ووكل مِيكَائِيل بالقطر والنبات، ووكل إسْرَافيل بالصور، وَهُوَ أَيْضا من حَملَة الْعَرْش، ووكل ملك الْمَوْت بِقَبض الْأَرْوَاح؛ فهم موكلون على هَذِه الْأَشْيَاء بِإِذن الله تَعَالَى.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يلقى النَّبِي فِي ثِيَاب بَيَاض ملفوفة بالدر والياقوت وَرجلَاهُ مغموستان فِي خضرَة. وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة عَن النَّبِي " أَن الْمُرْسلين من الْأَنْبِيَاء مائَة [وَخَمْسَة] عشر [جما غفيرا] أَوَّلهمْ آدم
وَقَوله: ﴿إِنَّه عَليّ حَكِيم﴾ أَي: متعال مِمَّا يصفونه (الْمُشْركُونَ)، حَكِيم فِي جَمِيع مَا يَفْعَله.
وَقَوله: ﴿من أمرنَا﴾ أَي: بأمرنا.
وَقَوله: ﴿وَمَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان﴾ الْكتاب هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب لَوْلَا أنزلنَا إِيَّاه عَلَيْك. وَقَوله: ﴿وَلَا الْإِيمَان﴾ الْمَعْرُوف أَن المُرَاد بِهِ شرائع الْإِيمَان، وَهَذَا قد حكى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وَغَيره من أَئِمَّة السّنة.
وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: قبل الْبلُوغ. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: أهل الْإِيمَان، وَهَذَا حكى عَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قيل لرَسُول الله: هَل عبدت وثنا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَقيل لَهُ: هَل شربت خمرًا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَمَا زلت أعرف أَن مَا هم عَلَيْهِ بَاطِل، وَلم يُوح إِلَى كتاب وَلَا إِيمَان " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: تَدْعُو، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإنَّك لتدعو إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم "
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿حم (١) وَالْكتاب الْمُبين (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون (٣) وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم (٤) أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين (٥) ﴾تَفْسِير سُورَة الزخرف
وَهِي مَكِّيَّة