تفسير سورة الكهف

تفسير ابن أبي زمنين

تفسير سورة سورة الكهف من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين.
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة الكهف، وهي مكية كلها.

قَوْله: ﴿الْحَمد لله﴾ حَمِدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ الْحَمِيدُ ﴿الَّذِي أنزل على عَبده﴾ مُحَمَّد ﴿الْكتاب﴾ الْقُرْآنَ ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ يَقُولُ: لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف
﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ أَيْ: بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مِنْ لَدُنْهُ؛ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أجرا حسنا﴾ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ ﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾.
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا ﴿وَلا لآبَائِهِمْ﴾ الَّذِينَ كَانُوا فِي الشِّرْكِ ﴿كَبُرَتْ كلمة تخرج من أَفْوَاههم﴾ (كلمة) بِالنَّصْبِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا (كَلِمَةٌ) بِالرَّفْعِ؛ وَتَفْسِيرُهَا: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً أَنْ قَالُوا أَنَّ لِلَّهِ ولدا.
47
قَالَ مُحَمَّد: وَمن قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ، فَهُوَ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ بِمَعْنَى: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولدا كلمة.
48
﴿فلعلك باخع نَفسك﴾ أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ ﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِهِمْ ﴿إِنْ لَمْ يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿أسفا﴾ أَيْ: حُزْنًا عَلَيْهِمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (أسفا) مَنْصُوبٌ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
﴿لنبلونهم﴾ لنختبرهم ﴿أَيهمْ أحسن عملا﴾ أَي: أطوع لله.
﴿وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا﴾ مَا عَلَى الْأَرْضِ ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: الْجُرُزُ: الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: أَرض جرز، وأراضون أَجْرَازٌ، وَالصَّعِيدُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْمُسْتَوِي.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٩ آيَة ١٦).
﴿أم حسبت﴾ أَيْ: أَفَحَسِبْتَ ﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُ: قَدْ كَانَ فِي آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْكَهْفُ: كَهْفُ الْجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ: الْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة﴾ أَيْ: رِزْقًا. ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أمرنَا رشدا﴾
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَرْشِدْنَا إِلَى مَا يُقَرِّبُ مِنْكَ.
قَالَ يَحْيَى: كَانُوا قَوْمًا قَدْ آمَنُوا، وَفَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ قَوْمُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَخَشُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْقَتْل.
قَالَ: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْف سِنِين عددا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: و (عددا) مَنْصُوب (ل ١٩٢) عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ: تُعَدُّ عَدًا.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أحصى لما لَبِثُوا أمدا﴾ قَالَ مُحَمَّد: (أمدا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ الْمَعْنَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ فِي الأمد، وَقَوله: ﴿ثمَّ بعثناهم﴾ يَعْنِي: مِنْ نَوْمِهِمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَاكِنٌ حَرَّكْتَهُ لِلتَّصَرُّفِ
49
فقد بعثته.
50
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ أَي: خبرهم. ﴿وزدناهم هدى﴾ يَعْنِي: إِيمَانًا.
﴿وربطنا على قُلُوبهم﴾ بِالْإِيمَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَلْهَمْنَاهُمُ الصَّبْرَ، وَثَبَّتْنَا قُلُوبَهُمْ. ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذا شططا﴾ قَالَ قَتَادَة: يعنون: جورا.
﴿لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ؛ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على الله كذبا﴾ أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ.
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا الله﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَهَذَا تَفْسِيرُهَا ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْف﴾ أَيْ: فَانْتَهُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أَي: يبسط لكم من رزقه؛ فِي تفسر السّديّ.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ١٧ آيَة ٢٠).
﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ﴾ أَيْ: تَمِيلُ ﴿عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمين وَإِذا غربت تقرضهم﴾ أَي: تتركهم ﴿ذَات الشمَال﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَا تَدْخُلُ الشَّمْسُ كَهْفَهُمْ ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ أَيْ: فِي فَضَاءٍ مِنَ الْكَهْفِ.
قَالَ مُحَمَّد: (تزاور) الْأَصْلُ فِيهِ: (تَتَزَاوَرُ) فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّاي، و (تفرضهم) أَصْلُ الْقَرْضِ: الْقَطْعُ وَالتَّفْرِقَةُ، وَالْقِرَاءَةُ (تقرضهم) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى (تَقْرُضُهُمْ) بِالضَّمِّ. ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشدا﴾ أَيْ: صَاحِبًا يُرْشِدُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (المهتد) وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَوَقَعَتْ فِي الْأَعْرَافِ بِالْيَاءِ، وَحَذْفُ الْيَاءِ جَائِزٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَلَا
51
يجوز فِي الْأَفْعَال.
52
﴿وتحسبهم أيقاظا﴾ أَيْ: مُفَتَّحَةٌ أَعْيُنُهُمْ ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَيْقَاظُ: الْمُنْتَبِهُونَ، وَالرُّقُودُ: النِّيَامُ. ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشمَال﴾ قَالَ قَتَادَةُ: فِي رَقْدَتِهِمُ الْأُوْلَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا.
قَالَ أَبُو عِيَاضٍ: لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَانِ ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ أَيْ: بِفِنَاءِ الْكَهْفِ ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُم رعْبًا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: (فِرَارًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى وليت: فَرَرْت، و (رعْبًا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.
﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وَكَانُوا دَخَلُوا الْكَهْفَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ: فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةٌ، فَقَالُوا: ﴿أَو بعض يَوْم﴾، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا؛ فَرَدُّوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فَقَالُوا: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِه﴾ أَي: بدراهمكم ﴿إِلَى الْمَدِينَة﴾ وَكَانَتْ مَعَهُمْ دَرَاهِمَ ﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَاما﴾ تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَيُّهَا أَحَلُّ.
قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ كَانَ مِنْ طَعَامِ قَوْمِهِمْ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَهُ.
52
﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يشعرن﴾ يعلمن ﴿بكم أحدا﴾
53
﴿إِنَّهُم إِن يظهروا عَلَيْكُم﴾ أَي: يطلعوا عَلَيْكُم ﴿يرجموكم﴾ يَقْتُلُوكُمْ بِالْحِجَارَةِ ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي ملتهم﴾ الْكُفْرِ ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ إِن فَعلْتُمْ.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٢١ آيَة ٢٢).
﴿وَكَذَلِكَ أعثرنا عَلَيْهِم﴾ أَيْ: أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ ﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ لَا شَكَّ فِيهَا ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَينهم أَمرهم﴾ يَعْنِي: قَوْمَهُمْ؛ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنْهُمْ قَدْ بَادَتْ، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ أُمَّةٌ أُخْرَى، وَكَانُوا على الْإِسْلَام، ثمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْبَعْثِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُبْعَثُ النَّاسُ فِي أَجْسَادِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ كَانَ الْمُلْكُ مِنْهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ بِغَيْرِ أَجْسَادٍ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ (ل ١٩٣) يَرَوْنَ أَنَّهَا تِلْكَ الْأُمَّةُ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْهُمْ. [وَدَخَلَ] الْمَدِينَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالرُّومِ يُقَالُ لَهَا: قَبْسُوسُ، وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ؛ لِيَشْتَرِيَ بِهَا الطَّعَامَ، فَاسْتُنْكِرَتِ الدَّرَاهِمُ، وَأُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِذَا الدَّرَاهِمُ
53
دَرَاهِمُ الْمَلِكُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ؛ فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ وَجَدَ كَنْزًا، فَلَمَّا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَذَّبَ أَطْلَعَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَعْلَمَكُمْ أَنَّ النَّاسَ ليُبْعَثُونَ فِي أَجْسَامِهِمْ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ وَالنَّاسُ مَعَهُ؛ حَتَّى أَتَوْا إِلَى الْكَهْفِ وَتَقَدَّمَهُمُ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَرَأَهُمْ وَرَأَوْهُ مَاتُوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَتْ أَتَتْ عَلَيْهِمْ آجَالُهُمْ، فَقَالَ الْقَوْمُ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ؟! ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بنيانا﴾. ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾.
54
قَالَ الله: ﴿سيقولون﴾ سَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: ﴿ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رجما بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ: السُّدِّيُّ: يَعْنِي: رَمْيًا بِقَوْلِ الظَّنِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى يَقُولُونَ ذَلِكَ ظَنًّا بِغَيْرِ يَقِينٍ. قَالَ زُهَيْرٌ:
(وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ)
قَوْلُهُ: ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ؛ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
قَالَ: ﴿فَلا تمار فيهم﴾ يَقُولُ اللَّهُ للنَّبِيِّ: فَلَا تُمَارِ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ ﴿إِلَّا مراء ظَاهرا﴾ أَيْ: إِلَّا بِمَا أَخْبَرْتُكَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَفْتِ فِي قِصَّتِهِمْ بِالظَّاهِرِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. ﴿وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ﴾ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ ﴿مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ من الْيَهُود.
54
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٢٣ آيَة ٢٦).
55
﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله﴾ يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تَسْتَثْنِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ؛ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاذْكُرْ رَبك إِذا نسيت﴾.
قَالَ يَحْيَى: " بَلَغَنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله عَلَيْهِ السَّلَام: أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا غَدًا. وَلَمْ يَسْتَثْنِ؛ فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة ".
قَالَ الْحَسَنُ: أُمِرَ أَلا يَقُولَ لِشَيْءٍ فِي الْغَيْبِ: إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، دَوْنَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِذَا ذَكَرَ؛ فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَلَا ثُنْيَا لَهُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ نَاسٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَلَهُ ثُنْيَاهُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.
55
﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَب من هَذَا رشدا﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: عَسَى رَبِّي أَنْ يُعْطِيَنِي مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ أَقْرَبُ فِي الرُّشْدِ، وَأَدَلُّ مِنْ قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف.
56
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ يقول : إلا أن تستثني. قال محمد : المعنى : إلا أن تقول : إن شاء الله، فأضمر القول، ذكره أبو عبيد.
وقوله :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ قال يحيى : باغنا أن اليهود لما سألت رسول الله عن أصحاب الكهف قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبركم عنها غدا. ولم يستثن، فأنزل الله هذه الآية١.
قال الحسن : أمر ألا يقول لشيء في الغيب : إني فاعل ذلك غدا، دون أن يستثني : إلا أن يشاء الله، وأمر أن يستثني إذا ذكر، فكان الحسن يقول : إذا حلف الرجل على شيء وهو ذاكر للاستثناء، ولم يستثن فلا ثنيا له، وإن حلف على شيء وهو ناس للاستثناء فله ثنياه ما دام في مجلسه ذلك تكلم أو لم يتكلم٢.
﴿ وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ﴾ قال محمد : قيل : المعنى : عسى ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف.
١ رواه البيهقي في الدلائل (٢/٢٦٩، ٢٧١) عن ابن إسحاق عن رجل من أهل مكة، عن ابن جبير، عن ابن عباس مرفوعا..
٢ انظر: تفسير الطبري (١/٢٠٨)، (٢٢٩٩٢) بنحوه..
﴿وَلَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاثمِائَة﴾ ثمَّ أخبر مَا تِلْكَ الثلاثمائة، فَقَالَ: ﴿سِنِين﴾.
قَالَ مُحَمَّد: (سِنِين) عطف على ثَلَاثمِائَة؛ وَهَذَا الْعَطْفُ يُسَمِّيهِ النَّحَوِيُّونَ: عَطْفُ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدُ.
قَوْلُهُ: ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ أَيْ: تِسْعَ سِنِينَ. تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَهْلُ الْكِتَابِ، رَجْعٌ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم﴾ وَيَقُولُونَ: ﴿لَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاثمِائَة سِنِين، وازدادوا تسعا﴾.
قَالَ قَتَادَةُ: فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: يعلم غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴿أَبْصِرْ بِهِ وأسمع﴾ يَقُولُ: مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ!
قَوْلِهِ: ﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ من ولي﴾ يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ﴿وَلا يُشْرك فِي حكمه أحدا﴾ أَيْ: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ فِي حكمه أحدا.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٢٧ آيَة ٣١).
﴿لَا مبدل لكلماته﴾ لَا يُغَيِّرُ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الدُّنْيَا ﴿وَلَنْ تَجِد من دونه ملتحدا﴾ (ل ١٩٤) قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي [مَوْئِلًا] قَالَ: مُلْتَحَدًا؛ أَيْ: نَصِيرًا؛ يُقَالُ: لَحَدْتُ وألحدت بِمَعْنى: عدلت.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا الصَّلَاتَانِ: صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَبَعْدَهُمْا فُرِضَتِ الصَّلَوَات قبل خُرُوج النَّبِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ ﴿وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم﴾ مَحَقَرَةٌ لَهُمْ ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى (لَا تعد): لَا تصرف بَصرك عَنْهُم إِلَّا غَيْرِهِمْ.
قَالَ يَحْيَى: نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ؛ قَالَ الْمُشْركُونَ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُجَالِسَكَ فَاطْرُدْ عَنَّا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ.
57
يَحْيَى: عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ (عَمْرِو) بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَذِكْرُ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنْ إِعْطَاءِ الْمَالِ سَحًّا ".
يَحْيَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَأَنْ أُجَالِسَ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ مَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَلَأَنْ أُجَالِسَ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ صَلَاةٍ الْعَصْرِ؛ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ أحب إِلَيّ من أُعْتِقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ".
58
قَوْلِهِ: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ يَعْنِي: شَهْوَتَهُ ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ يَعْنِي: تضييعا
59
﴿وَقل الْحق من ربكُم﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَقُلِ الَّذِي آتَيْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ هَذَا وَعِيدٌ؛ أَيْ: مَنْ آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ.
قَوْلُهُ: ﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ يَعْنِي: سُورُهَا ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمهْلِ﴾ تَفْسِيرِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَعَكَرِ الزَّيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أُذِيبَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مُهْلٌ. ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ أَيْ: يَحْرِقُهَا إِذَا أَهْوَى لِيَشْرَبَهُ ﴿بئس الشَّرَاب وَسَاءَتْ مرتفقا﴾ أَيْ: مَنْزِلًا وَمَأْوًى؛ وَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ.
59
قَالَ مُحَمَّد: (مرتفقا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.
60
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أساور من ذهب﴾.
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَوْ بَدَا إِسْوَارُهُ لَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَحَدٌ إِلَّا وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ: إِسْوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَإِسْوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِسْوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ.
60
﴿وَيلبسُونَ ثيابًا من سندس وإستبرق﴾ وَهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَرِيرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّ السُّنْدُسَ رَقِيقُ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقَ ثَخِينُهُ. ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك﴾ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَرَائِكَ: السُّرُرَ عَلَيْهَا الحجال.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٣٢ ٤٠).
61
﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ﴾ يحيى : عن ابن لهيعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الرجل من أهل الجنة لو بدا إسواره لغلب على ضوء الشمس " ١.
وقال سعيد بن المسيب : ليس من أهل الجنة أحد إلا وفي يده ثلاثة أسورة : إسوار من ذهب، وإسوار من فضة، وإسوار من لؤلؤ.
﴿ ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ﴾ وهما نوعان من الحرير. قال محمد : قيل : إن السندس رقيق الديباج، والإستبرق ثخينه.
﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ تفسير ابن عباس : الأرائك : السرر عليها الحجال.
١ رواه الترمذي (٢٥٣٨) وأحمد في "الزهد" (١/١٦٩، ١٧٠) والدورقي في "مسند سعد" (٢٦) وأبو نعيم في حلية الأولياء (٢٦٦، ٢١٠) والبزار في مسنده (١١٠٩).
قال أبو عيسى: هذا غريب لا نعرف بهذا الإسناد إلا من حديث ابن لهيعة، وقد روى يحيى بن أيوب هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب وقال: عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن النبي مرفوعا..

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْل﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ: جَعَلْنَا النَّخْلَ مُطْبِقًا بِهِمَا. وَقَوْلُهُ: ﴿مَثَلا رَجُلَيْنِ﴾ نَصَبَهُمَا عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ؛ أَيْ: اضْرِب لَهُم رجلَيْنِ مثلا.
﴿كلتا الجنتين آتت أكلهَا﴾ أَطْعَمَتْ ثَمَرَتْهَا ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا﴾ أَيْ: تَنْقُصْ.
61
قَالَ مُحَمَّد: قَالَ: (آتت) وَلَمْ يَقُلْ: (أَتَتَا)؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى كل وَاحِد مِنْهُمَا أَتَتْ أُكُلَهَا. ﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهرا﴾ أَي: بَينهمَا
62
﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَر﴾ أَيْ: أَصْلٌ ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يحاوره﴾ أَيْ: يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْك مَالا وأعز نَفرا﴾ يَعْنِي: رِجَالًا وَنَاصِرًا.
قَالَ يَحْيَى: كَانَا أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرِثَا عَنْ أَبِيهِمَا مَالًا؛ فَاقْتَسَمَاهُ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ مُؤْمِنًا فَأَنْفَقَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَقَدَّمَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ كَافِرًا اتَّخَذَ الْأَرَضِينَ وَالضِّيَاعَ وَالدُّورَ وَالرَّقِيقَ فَاحْتَاجَ الْمُؤْمِنُ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَجَاءَ إِلَى أَخِيهِ يَزُورُهُ، وَيَتَعَرَّضْ لِمَعْرُوفِهِ، فَقَالَ أَخُوهُ: وَأَيْنَ مَا وَرِثْتَ؟ قَالَ: أَقْرَضته (ل ١٩٥) رَبِّي وَقَدَّمْتُهُ لِنَفْسِي؛ فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: لَكِنِّي اتَّخَذْتُ بِهِ لِنَفْسِي ولولدي؛ مَا قد رَأَيْت.
قَالَ اللَّهُ: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِم لنَفسِهِ﴾ يَعْنِي: بِشِرْكِهِ ﴿قَالَ مَا أَظُنُّ﴾ أَيْ: مَا أُوْقِنُ ﴿أَنْ تَبِيدَ هَذِه أبدا﴾ أَيْ: تَفْنَى، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَيْسَ يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَفْنَى فَتَذْهَبْ، وَلَكِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّهُ يَعِيشُ فِيهَا حَتَّى يأكلها حَيَاته
﴿وَمَا أَظن﴾ أَيْ: وَمَا أُوقِنُ أَنَّ ﴿السَّاعَةَ قَائِمَة﴾ يَجْحَدُ بِالْبَعْثِ ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجدن خيرا مِنْهَا﴾ أَي: من جنتي ﴿منقلبا﴾ فِي الْآخِرَةِ إِنَّ كَانَتْ آخِرَةٌ. قَالَ: ﴿وَدخل جنته﴾ وَقَالَ: ﴿جعلنَا لأَحَدهمَا جنتين﴾ كَانَتْ جَنَّةً فِيهَا نَهْرٌ، فَهِي جنَّة وَهِي جنتان
﴿قَالَ لَهُ صَاحبه﴾ الْمُؤْمِنِ ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ إِلَى قَوْلُهُ:
62
﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أشرك بربي أحدا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: (لَكنا) كُتِبَتْ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدِ بِالْأَلِفِ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي يُقَالُ: هُوَ مُصْحَفُ عُثْمَانَ. قَالَ: وَقَرَأَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مُشَدَّدَةً عَلَى حَذْفِ الْألف إِذا وصلوا، وأضلها فِيمَا أَرَى (لَاكِنْ أَنَا) فَالْتَقَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتَا؛ فَإِذَا وُصِلَتِ الْقِرَاءَةُ حُذِفَتِ الْأَلِفُ، وَثَبَتَتْ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا كَقَوْلِكَ: أَنَ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَالْأَلِفُ مَحْذُوفَةٌ، فَإِذَا سَكَتَّ عَلَيْهَا قُلْتَ: أَنَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ كَمَا يُثْبِتُهْا فِي الْوَقْفِ فَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَنَا فَعَلْتُ، قَالَ: وَإِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ شَاذٌّ.
63
﴿ قال له صاحبه ﴾ المؤمن ﴿ وهو يحاوره. . . ﴾ إلى قوله ﴿ لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ﴾.
قال محمد :( لكنا ) كتبت- فيما ذكر أبو عبيد- باللأف في المصحف الذي يقال : هو مصحف عثمان١ قال : وقرأها غير واحد مشددة على حذف الألف إذا وصلوا، وأصلها فيما أرى ( لاكن أنا ) فالتقت النونان فأدغمتا، فإذا وصلت القراءة حذفت الألف، وثبتت في الوقف، وهذا كقولك : أن٢ فعلت ذلك، فالألف محذوفة، فإذا سكت عليها قلت : أنا بإثبات الألف.
قال محمد : وذكر الزجاج أن من أثبت اللأف في الوصل كما يثبتها في الوقف -فهو على لغة من قال : أنا فعلت، قال : وإثباتها في الوصل شاذ.
١ قال الأزهري: فالأجود في القراءة إثبات الألف، لأن الهمزة قد حذفت من (أنا) فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة، وكل ما قرئ به فهو جائز (معاني القراءات ٢٦٧).
وقال ابن الجزري: ولا خلاف في إثباتها في الوقف اتباعا للرسم (النشر ٢/٣١١) والطبري (١٥/١٦٢) وزاد المسير (٥/١٤٣) والبحر المحيط (٦/١٨٢) والتبيان (٢/١٠٣)..

٢ صحفت في الأصل إلى (أنا) والصواب ما أثبت..
﴿وَلَوْلَا إِذْ دخلت جنتك﴾ أَيْ: فَهَلَّا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴿قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه﴾ ثمَّ قَالَ: ﴿إِن ترني أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا﴾
﴿فَعَسَى رَبِّي أَن يؤتين﴾ فِي الْآخِرَةِ ﴿خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: نَارًا مِنَ السَّمَاءِ
63
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: ﴿حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاء﴾ أَيْ: مَرَامِي، وَاحِدَتُهَا: حُسْبَانَةٌ. وَمَنْ قَرَأَ: (أَقَلَّ) بِالنَّصْبِ فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ (تَرَى)، وَدَخَلْتَ (أَنَا) لِلْتَوْكِيدِ.
قَالَ: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: تُرَابًا لَا نَبَاتَ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (الصَّعِيدُ): الْمُسْتَوِي، وَيُسَمَّى وَجْهُ الْأَرْضِ: صَعِيدًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلتُّرَابِ: صَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ وَجه الأَرْض، و (الزلق): الَّذِي تزل عَلَيْهِ الْأَقْدَام.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٤١ آيَة ٤٦).
64
﴿أَو يصبح﴾ يَعْنِي: أَوْ يَصِيرَ ﴿مَاؤُهَا غَوْرًا﴾ أَيْ: ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ ﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾.
64
قَالَ مُحَمَّد: (غورا) مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، يُقَالُ: مَاء غور، ومياه غور.
65
﴿وأحيط بثمره﴾ مِنَ اللَّيْلِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (أحيط): أهلك. ﴿فَأصْبح﴾ من الْغَد ﴿يقلب كفيه﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: يَضْرِبُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى نَدَامَةً ﴿عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عروشها﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (خَاوِيَةٌ عَلَى عروشها) أَيْ: خَرَابٌ عَلَى سَقْفِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَسْقُطَ السَّقْفُ ثُمَّ تَسْقُطُ الْحِيطَانُ عَلَيْهَا. ﴿وَيَقُولُ﴾ فِي الْآخِرَةِ ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أشرك بربي﴾ فِي الدُّنْيَا ﴿أَحَدًا﴾.
﴿وَلم تكن لَهُ فِئَة﴾ أَيْ: عَشِيرَةٌ ﴿يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: ﴿فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: تَنْصُرُهُ؛ الْمَعْنَى: وَلَمْ يكن لَهُ أَقوام ينصرونه.
﴿هُنَالك الْولَايَة لله الْحق﴾ تقْرَأ بِرَفْع (الْحق) وَبِجَرِّهِ، فَمَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ فَيَقُولُ: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ، وَمِنْ قَرَأَهَا بِالْجَرِّ يَقُولُ: لِلَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ؛ الْمَعْنَى: هُنَالِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ كُلَّ عَبْدٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا تَوَلَّى اللَّهُ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
65
قَالَ يَحْيَى: قَالَ السُّدِّيُّ: الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخير عقبا﴾ أَيْ عَاقِبَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (ثَوَابًا وعقبا) منصوبان على التَّمْيِيز.
66
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَات الأَرْض﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: انْدَفَعَ فِي النَّبَاتِ، فَأَخَذَ النَّبَاتُ زُخْرُفَهُ. ﴿فَأَصْبَحَ هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّ الدُّنْيَا ذَاهِبَةٌ زَائِلَةٌ؛ كَمَا ذَهَبَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بَعْدَ بهجته وزينته.
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا والباقيات الصَّالِحَات﴾ هِيَ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: [الْفَرَائِضُ] ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أملا﴾ يَقُولُ: هِيَ جَزَاءُ مَا قَدَّمُوهُ فِي الدُّنْيَا (ل ١٩٦) أَي يثابوه فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٤٧ آيَة ٥٠).
﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بارزة﴾ أَيْ: مُسْتَوِيَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا عَمَدٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْلُهُ: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ) عَلَى مَعْنَى: وَاذْكُرْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ. ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحدا﴾ يُقَالُ: احْضُرُوا؛ فَلَمْ يَغِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: غَادَرْتُ كَذَا وغدرته؛ أَي: خلفته.
﴿وعرضوا على رَبك صفا﴾ (أَيْ: صُفُوفًا) ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة﴾ أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، يَعْنِي: غُلْفًا غَيْرَ مُخْتَتَنِينَ.
يَحْيَى: عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا سَوْءَتَاهُ لَكَ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: النَّاسُ يَوْمَئِذٍ أَشْغَلُ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ "
67
مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ. ﴿بل زعمتم﴾ يَقُول للْمُشْرِكين ﴿أَن لن نجْعَل لكم موعدا﴾ يَعْنِي: أَن لن تبعثوا.
68
﴿وَوضع الْكتاب﴾ يَعْنِي: مَا كَانَتْ تَكْتِبُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الدُّنْيَا ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُشْركين ﴿مشفقين﴾ أَيْ: خَائِفِينَ ﴿مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضرا﴾ فِي كُتُبِهِمْ ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ أَوَّلُ الْجِنِّ؛ كَمَا أَنَّ آدَمَ مِنَ الْإِنْسِ؛ وَهُوَ أَوَّلُ الْإِنْسِ، وَتَفْسِيرُ قَتَادَةَ: كَانَ من الْجِنّ قبيل من الْمَلائِكَةِ؛ يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ، وَكَانَ عَلَى خَزَانَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ﴿فَفَسَقَ عَن أَمر ربه﴾ أَيْ: عَصَى أَمْرَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْفُسُوقُ أَصْلُهُ: الْخُرُوجُ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ؛ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قشرها. ﴿أفتتخذونه وَذريته﴾ يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشّرك ﴿أَوْلِيَاء من دوني﴾. ﴿بئس للظالمين بَدَلا﴾ أَيْ: بِئْسَ مَا اسْتَبْدَلُوا بِعِبَادَةِ رَبهم طَاعَة إِبْلِيس
68
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٥١ آيَة ٥٦).
69
﴿مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ؛ أَيْ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ﴿وَمَا كنت متخذ المضلين عضدا﴾ أَي: أعوانا
﴿وَجَعَلنَا بَينهم﴾ يَعْنِي: وَصْلَهُمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ﴿موبقا﴾ أَيْ: مَهْلَكًا؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: وَبِقَ الرَّجُلُ يَوْبَقُ وَبَقًا، وَأَوْبَقَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: أهلكه.
﴿وَرَأى المجرمون﴾ الْمُشْركُونَ ﴿النَّار فظنوا﴾ أَيْ: عَلِمُوا ﴿أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجدوا عَنْهَا مصرفا﴾ أَي: معدلا إِلَى غَيرهَا.
﴿وَلَقَد صرفنَا﴾ أَيْ: ضَرَبْنَا ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ للنَّاس من كل مثل﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثْلٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. ﴿وَكَانَ الْإِنْسَان﴾ يَعْنِي: الْكَافِرَ ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا﴾.
69
قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾.
70
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ مِنْ شِرْكِهِمْ ﴿إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سنة الْأَوَّلين﴾ يَعْنِي: مَا عذب الله بِهِ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلا﴾ عيَانًا.
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ﴾ بِالْجنَّةِ ﴿ومنذرين﴾ مِنَ النَّارِ ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق﴾ أَيْ: لِيُذْهِبُوهُ فِيمَا يَظُنُّونَ وَلَا يقدرُونَ على ذَلِك.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٥٧ آيَة ٦٠).
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ ربه فَأَعْرض عَنْهَا﴾ أَيْ: لَمْ يَؤْمِنْ بِهَا؛ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ. ﴿إِنَّا جعلنَا على قُلُوبهم أكنة﴾ أغطية ﴿أَن يفقهوه﴾ لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ وَهُوَ الصَّمَمُ عَنِ الْهُدَى ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذا أبدا﴾ يَعْنِي: الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شِرْكِهِمْ.
﴿وَرَبك الغفور ذُو الرَّحْمَة﴾ يَعْنِي: لِمَنْ آمَنَ.
70
﴿بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا من دونه موئلا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مَلْجَأٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: وَأَلَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا؛ إِذَا لَجَأَ، وَيُقَالُ: لَا وَأَلَتْ نَفْسُكَ؛ أَيْ: لَا نَجَتْ، وَفُلَانٌ مُوَائِلٌ؛ أَيْ: (مُبَادِرٌ) لِيَنْجُوَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
([لَا وَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَهَا لِلْعَامِرِيِّينَ وَلَمْ تُكْلَمِ])
(ل ١٩٧)
71
قَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظلمُوا﴾ أَيْ: أَشْرَكُوا وَجَحَدُوا رُسُلَهُمْ ﴿وَجَعَلْنَا لمهلكهم﴾ أَي: لعذابهم ﴿موعدا﴾ أَجَلًا وَوَقْتًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: (لِمُهْلَكِهِمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ فَهُوَ مَصْدَرُ أَهْلَكَهُ إِهْلاكًا وَمَهْلِكًا. وَمِنْ قَرَأَ: (لِمَهْلَكِهِمْ) بِنَصْبِ الْمِيمِ وَاللَّامِ؛ أَرَادَ هَلَكُوا مَهْلِكًا.
﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لفتاه﴾ وَهُوَ يُوْشَعُ بْنُ نُونٍ ﴿لَا أَبْرَح﴾ أَيْ: لَا أَزُولُ ﴿حَتَّى أَبْلُغَ مجمع الْبَحْرين﴾ يَعْنِي: حَيْثُ الْتَقَيَا. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بَحْرَ فَارِسَ وَالرُّومِ ﴿أَوْ أمضي حقبا﴾ الْحِقْبُ: سَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ.
71
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٦١ آيَة ٧٤).
72
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حوتهما فَاتخذ سَبيله﴾ يَعْنِي: الْحُوتَ ﴿فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: سَرَبًا يَعْنِي: مَذْهَبًا وَمَسْلَكًا؛ وَهُوَ مَصْدَرٌ؛ الْمَعْنَى: نَسِيَا حُوْتَهُمَا؛ فَجَعَلَ الْحُوتُ طَرِيقَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ بَيْنَ كَيْفَ ذَلِكَ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَرَبَ يَسْرُبُ سَرَبًا.
72
قَالَ يَحْيَى: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ وَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَونَ جَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَعْلَمُهُمْ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُّوَكُمْ، وَأَقْطَعَكُمُ الْبَحْرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوْشَعُ يَطْلُبَانِهِ وَتَزَوَّدَا سَمَكَةً مَمْلُوحَةً فِي مَكْتَلٍ لَهُمَا، وَقِيلَ لَهُمَا: إِذَا نَسِيتُمَا بَعْضَ مَا مَعَكُمَا لَقِيتُمَا رَجُلًا عَالِمًا يُقَالُ لَهُ: خَضِرٌ.
قَالَ يَحْيَى: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ لَمَّا أَوَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، بَاتَا فِيهَا، وَكَانَ عِنْدَهَا عَيْنُ مَاءٍ، فَأَكَلَا نِصْفَ الْحُوتِ وَبَقِيَ نِصْفُهُ فَأَدْنَى فَتَاهُ الْمَكْتَلَ مِنَ الْعَيْنِ، فَأَصَابَ الْمَاءُ الْحُوتَ، فَعَادَ فَانْسَرَبَ، وَدَخَلَ فِي الْبَحْر، وَمضى مُوسَى وفتاه
73
﴿فَلَمَّا جاوزوا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ أَي: شدَّة
﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة فَإِنِّي نسيت الْحُوت﴾ ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ مُوسَى تَعَجَّبَ مِنْ أَثَرِ الْحُوتِ فِي الْبَحْر
﴿قَالَ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي﴾ أَيْ: ذَلِكَ حَيْثُ أُمِرْتُ أَنْ أَجِدَ خَضِرًا.
﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قصصا﴾ أَيْ: رَجَعَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: رَجَعَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَاهُ، يَقُصَّانِ الْأَثَرَ قَصَصًا.
قَالَ: فَأَتَّبَعَا الْأَثَرَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ الْحُوتُ حَيْثُ مَرَّ جَعَلَ يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الْبَحْرِ، فَجَعَلَ كُلُّ شَيْءٍ يَضْرِبْهُ الْحُوتُ بِذَنَبِهِ يَيْبَسُ، فَصَارَ كَهَيْئَةِ طَرِيقٍ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّبَعَا أَثَرَهُ، حَتَّى إِذَا خَرَجَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَإِذَا هُمَا بِالْخَضِرِ فِي
73
رَوْضَةٍ يُصَلِّي، فَأَتَيَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَأَنْكَرَ الْخَضِرُ التَّسْلِيمَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَرَفَعَ رَأَسَهُ فَإِذَا هُوَ بِمُوسَى فَعَرَفَهُ. فَقَالَ: وَعَلْيَكَ السَّلَامُ يَا نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ مُوسَى: وَمَا يُدْرِيكَ أَنِّي نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: أَدْرَانِي بِذَلِكَ الَّذِي أَدْرَاكَ بِي ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾.
74
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٤:﴿ قال ذلك ما كنا نبغ ﴾ أي : ذلك حيث أمرت أن أجد خضرا ﴿ فارتدا على آثارهما قصصا ﴾ أي : رجعا حتى أتيا الصخرة.
قال محمد : المعنى : رجعا في الطريق الذي سلكاه، يقصان الأثر قصصا. قال : فاتبعا الأثر في البحر، وكان الحوت حيث مر جعل يضرب بذنبه يمينا وشمالا في البحر، فجعل كل شيء يضربه الحوت بذنبه ييبس، فصار كهيئة طريق في البحر، فاتبعا أثره، حتى إذا خرجا إلى جزيرة فإذا هما بالخضر في روضة يصلي، فأتياه من خلفه، فسلم عليه موسى، فأنكر الخضر التسليم في ذلك الموضع، فرفع رأسه فإذا هو بموسى فعرفه. فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى : وما يدريك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : أدراني بذلك الذي أدراك بي.

﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة خرقها قَالَ﴾ مُوسَى: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْت شَيْئا إمرا﴾ أَي: عَظِيما من الْمُنكر
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيع معي صبرا﴾ وَكَانَ مُوسَى يُنكر الظُّلم،
قَالَ لَهُ مُوسَى: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نسيت﴾ يَعْنِي: ذَهَبَ مِنِّي ذِكْرُهُ ﴿وَلا ترهقني من أَمْرِي عسرا﴾.
قَالَ مُحَمَّد: (ترهقني) مَعْنَاهُ: تُعَنِّتْنِي؛ أَيْ: عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ لَا بالعسر.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقتله قَالَ أقتلت نفسا (زاكية﴾} أَيْ: لَمْ تُذْنِبْ ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ لقد جِئْت شَيْئا نكرا﴾.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٧٥ آيَة ٨٢).
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لدني عذرا﴾ أَيْ: قَدْ أُعْذِرْتَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنك
﴿ قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ﴾ أي : قد أعذرت فيما بيني وبينك.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن ينْقض﴾ أَيْ: يَسْقُطَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِدَارُ (ل ١٩٨) يَكُونُ هَذَا عَلَى التَّشْبِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا؛ قَالَ الرَّاعِي:
(فِي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَاتُهَا قَلَقَ الْفُئُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُولًا)
قَوْلُهُ: ﴿قَالَ لَو شِئْت﴾ مُوسَى قَالَهُ ﴿لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أَي: مَا يكفينا الْيَوْم
﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: هَذَا فِرَاقُ اتصالنا.
﴿أما السفنية فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ﴾ أَيْ: أَمَامَهُمْ ﴿مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سفينة غصبا﴾ وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ
75
(كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ). قَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى: بَعْدَ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
(حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ)
أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ مَذَاهِبَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ.
وَتَكُونُ بِمَعْنَى: أَمَامَ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ:
(أَتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِيَاحٍ كَذَبْتَ لَتَقْصِرَنَّ يَدَاكَ عَنِّي)
يُرِيد أَمَام بني ريَاح.
76
قَوْلُهُ: ﴿وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين﴾ قَالَ قَتَادَةُ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: (فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ). ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾.
76
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى يُرْهِقَهُمْا: أَيْ: يَحْمِلُهُمَا عَلَى الرَّهَقِ وَهُوَ الْجَهْلُ.
77
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاة﴾ فِي التَّقْوَى ﴿وَأقرب رحما﴾ أَيْ: بِرًّا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرُّحْمُ فِي اللُّغَةِ: الْعَطف وَالرَّحْمَة.
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهما﴾ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيْ: مَالٌ ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ أَيْ: إِنَّمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ الله ﴿ذَلِك تَأْوِيل﴾ تَفْسِيرُ ﴿مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صبرا﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَشُدُّ يَخْتَلِفُ؛ فَأَشُدُّ الْغُلَامِ أَنْ يَشْتَدَّ خَلْقُهُ وَيَتَنَاهَى فِي النَّبَاتِ؛ يُقَالُ: ذَلِكَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشُدُّ الرَّجُلِ: الِاكْتِهَالُ، وَأَنْ يَشْتَدَّ رَأْيُهُ وَعَقْلُهُ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَيُقَالُ: ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَنُصِبَتْ (رَحْمَةً) أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ رَحْمَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى رَحِمَهُمَا بِذَلِكَ رَحْمَةً.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُمَا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ طَائِرًا؛ فَطَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ
77
ثُمَّ طَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ طَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الْبَحْرِ، فَتَنَاوَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ بِمِنْقَارِهِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ: فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: أَتَعْلَمُ مَا يَقُولُ هَذَا الطَّائِرُ؟ يَقُولُ: وَرَبِّ الْمَشْرِقِ وَرَبِّ الْمَغْرِبِ، وَرَبِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَرَبِّ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، مَا عِلْمُكَ يَا خَضِرُ وَعِلْمُ مُوسَى فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا قَدْرَ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي تَنَاوَلْتُهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ.
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ عَلَى قَرْدَدٍ بَيْضَاء فاهتزت بِهِ خضراء.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٨٣ آيَة ٩٣).
78
قَالَ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ يَعْنِي: خَبرا
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عَلَّمَهُ
78
الَّذِي أَعْطَى؛ بَلَغَنَا أَنَّهُ مَلَكَ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا
79
﴿فأتبع سَببا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَنَازِلَ الْأَرْضِ ومعالمها
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ وَهِيَ تُقْرَأُ: (حَامِيَةٍ) قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (حَمِئَةٍ) وَقَالَ عُمْرُو بْنُ الْعَاصِ: (حَامِيَةٍ)، فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا كَعْبًا الحبر؛ فَقَالَ كَعْب: نَجِدُهَا فِي التَّوْرَاةِ: تَغْرُبُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
يَحْيَى: وَمِنْ قَرَأَ: (حَامِيَةٍ) بِالْمَعْنَى: أَيْ: ذَاتِ حَمْأَةٍ؛ تَقُولُ: حَمِئَتِ الْبِئْرُ فَهِيَ حَمِئَةٌ إِذَا صَارَتْ [فِيهَا الْحَمْأَةُ فَتَكَدَّرَتْ وَتَغَيَّرَ رَائِحَتُهَا]
(ل ١٩٩) ﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ يَعْنِي: الْقَتْلَ ﴿وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهم حسنا﴾ يَعْنِي: الْعَفْوَ: فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ، قَالَ: فحكموه فَحكم بَينهم
﴿قَالَ أما من ظلم﴾ يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ يَعْنِي: الْقَتْلَ ﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى ربه فيعذبه عذَابا نكرا﴾ عَظِيما فِي الْآخِرَة
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلهُ جَزَاء الْحسنى﴾ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: الْحُسْنَى هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْجَزَاءُ: الْجَنَّةُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى؛ يَعْنِي: الْعَفْوَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ السُّدِّيُّ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ
79
أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: (فَلَهُ جَزَاءً) بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، الْمَعْنَى: فَلَهُ الْحُسْنَى جَزَاءً عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَ (جَزَاءً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ فَلَهُ الْحُسْنَى مَجْزِيًّا بِهَا جَزَاءً. ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ من أمرنَا يسرا﴾ أَي: مَعْرُوفا.
80
﴿ثمَّ أتبع سَببا﴾ يَعْنِي: طرق الأَرْض ومعالمها
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ قَالَ قَتَادَة: ذكر لَنَا أَنهم كَانُوا فِي مَكَانٍ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمُ الْبِنَاءُ، وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْهُمْ خَرَجُوا فِي مَعَايِشِهِمْ وحروثهم
﴿قَالَ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خَبرا﴾ أَيْ: هَكَذَا كَانَ مَا قَصَّ من أَمر ذِي القرنين
﴿ثمَّ أتبع سَببا﴾ طرق الأَرْض ومعالمها
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا جَبَلَانِ ﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يفقهُونَ قولا﴾ يَعْنِي: كَلَامَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ: ﴿لَا يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلًا﴾ أَيْ: لَا يَفْقَهُ أحد كَلَامهم.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٩٤ آيَة ٩٨).
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ أَيْ: قَاتِلُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ؛ يَعْنِي: أَرْضَ الْإِسْلَامِ ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خرجا﴾ أَيْ: جُعْلًا. ﴿عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْننَا وَبينهمْ سدا﴾
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خير﴾ مِنْ جُعْلِكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (مكني) فَالْمَعْنَى: مَكَّنَنِي، إِلَّا أَنَّهُ أَدْغَمَ النُّونَ فِي النُّونِ؛ لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ (مَكَّنَنِي) بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ: الْأُولَى مِنَ الْفِعْلِ، وَالثَّانِيَةُ تَدْخُلُ مَعَ الِاسْمِ الْمُضْمَرِ. ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ يَعْنِي: عَدَدًا مِنَ الرِّجَالِ ﴿أَجْعَلْ بَيْنكُم وَبينهمْ ردما﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرَّدْمُ فِي اللُّغَةِ: أَكْثَرُ مِنَ السَّدِّ؛ لِأَنَّ الرَّدْمَ مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ؛ يُقَالُ: ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ؛ إِذَا كَانَ قَدْ رُقِعَ رُقْعَةً فَوْقَ رُقْعَةٍ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا كَانَ مَسْدُودًا خِلْقَهً: سُدٌّ، وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ فَهُوَ سَدٌ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: سَدٌّ، وَسُدٌّ؛ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ.
﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَين الصدفين﴾ يَعْنِي: رَأْسَ الْجَبَلَيْنِ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدِ؛ أَيْ: سَدَّ مَا بَيْنَهُمَا ﴿قَالَ انفخوا﴾ أَيْ: عَلَى الْحَدِيدِ ﴿حَتَّى إِذَا جعله نَارا﴾ يَعْنِي: أَحْمَاهُ بِالنَّارِ ﴿قَالَ آتُونِي﴾ أعطوني ﴿أفرغ عَلَيْهِ قطرا﴾ فِيهَا تَقْدِيمٌ: أَعْطُونِي قِطْرًا أُفْرِغُ عَلَيْهِ، وَالْقِطْرُ: النُّحَاسُ؛ فَجَعَلَ أَسَاسَهُ الْحَدِيدَ، وَجَعَلَ مِلَاطَهُ النُّحَاسَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمِلَاطُ: هُوَ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْبِنَاءِ مَا بَيْنَ كل صفّين.
﴿فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه﴾ أَيْ: يَظْهَرُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا﴾ من أَسْفَله
﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جَاءَ وعد رَبِّي﴾ يَعْنِي: خُرُوجهمْ ﴿جعله﴾ يَعْنِي: السد ﴿دكا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: يَتَعَفَّرَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتُقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ: " دَكَّاءَ " مَمْدُودَةٌ؛ أَيْ: جَعَلَهُ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إِن يَأْجُوج ومأجوح يَخْرِقُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يرَوْنَ شُعَاع الشَّمْس (ل ٢٠٠) قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجَعُوا فَسَتَحْفُرُونَهُ غَدا؛ يُعِيدهُ اللَّهُ كَأَشَدَّ مَا كَانَ حَتَّى إِذا بلغت مدتهم وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجَعُوا فَسَتَحْفُرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ،
82
فَيَخْرِقُونَهُ، فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ وَفِيهَا كَهَيْئَةِ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ! فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا ".
83
قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ؛ فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًاَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلُوهُ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ أَيْضًا، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلُوهُ فَأَحْيَاهُ الله، فَسُمي: ذَا القرنين.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ٩٩ آيَة ١٠٦).
84
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بعض﴾ يَعْنِي: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ السَّدِّ ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ وَالصُّورِ: قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ صَاحِبُ الصُّور.
﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذكري﴾ كَانَتْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ غِشَاوَةُ الْكُفْرِ ﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا﴾ أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى بِقُلُوبِهِمْ.
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عبَادي من دوني أَوْلِيَاء﴾ يَعْنِي: مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: أَفَحَسِبُوا أَنْ تَتَوَلَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى ذَلِكَ؟ أَيْ: لَا يَتَوَلَّوْنَهُمْ؛ وَلَيْسَ بَهَذَا أَمَرْتُهُمْ، إِنَّمَا أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا ﴿جَهَنَّم للْكَافِرِينَ نزلا﴾ أَيْ: مَنْزِلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَعْتَدْتُ لِفُلَانٍ كَذَا؛ أَيْ: اتَّخَذْتُهُ عَتَادًا لَهُ، وَالْعَتَادُ أَصْلُهُ: مَا اتخذ ليمكث فِيهِ.
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا﴾ هم أهل الْكتاب.
﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزنا﴾ هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة ١٠٧ آيَة ١١٠).
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " الْفِرْدَوْسُ جَبَلٌ فِي الْجَنَّةِ تَنَفَجَّرُ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجنَّة ".
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حولا﴾ أَيْ: تَحَوُّلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: قَدْ حَالَ مِنْ مَكَانِهِ حَوْلًا.
﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا﴾ الْقَلَمُ يُسْتَمَدُّ مِنْهُ لِلْكِتَابِ ﴿لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ أَيْ: لِعِلْمِ رَبِّي ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا﴾
85
أَي: آخر مثله من بَاب المدد.
قَالَ مُحَمَّد: (مدَدا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.
86
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشْرٌ مِثْلُنَا. فَقَالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه﴾ أَيْ: يَخَافُ الْبَعْثَ ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا﴾ أَيْ: يُخْلِصُ لَهُ الْعَمَلَ.
يَحْيَى: عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ طَاوُسٍ، أَن رجلا قَالَ: " يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانِي! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه﴾ إِلَى آخِرِهَا ".
86
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ مَرْيَمَ وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَة مَرْيَم من (آيَة ١ آيَة ١١).
87
سورة الكهف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الكهف) من السُّوَر المكية العظيمة التي اهتمت بالعقيدةِ، والاعتصامِ بحبل الله المتين، وأنْ لا ملجأَ من اللهِ إلا إليه، وقد أصَّلتِ السورةُ لفكرة التمسك بالعقيدة والتوحيد من خلالِ ضربِ الأمثلة، وقَصِّ القَصص، واشتملت السورةُ على أربعِ قِصَصٍ: قصةِ (فِتْيةِ الكهف)، وقصةِ (صاحب الجنَّتَينِ)، وقصةِ (موسى والخَضِرِ عليهما السلام)، وقصةِ (ذي القَرْنَينِ)، وتدعو كلُّ هذه القِصص إلى الاعتصام بالكتاب والسُّنة وأمرِ الله عز وجل، وقد احتوت السورةُ على الكثير من العِبَر والعظات، وحاجةُ المسلم إليها في زمن الفِتَن كبيرة؛ لتُثبِّتَه على هذا الدِّين وتُصبِّرَه، وقد ثبَت فضلُها وفضل قراءتها في كلِّ جمعة، وكذا فإن مَن حَفِظ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ منها عُصِم من فتنة الدَّجَّال؛ كما صح في الخبر.

ترتيبها المصحفي
18
نوعها
مكية
ألفاظها
1584
ترتيب نزولها
69
العد المدني الأول
105
العد المدني الأخير
105
العد البصري
111
العد الكوفي
110
العد الشامي
106

* سورةُ (الكهف):

سُمِّيتْ سورةُ (الكهف) بذلك؛ لاحتوائها على قصَّةِ (أصحاب الكهف)، وهي أبرَزُ ما ورَد في هذه السورة.

مما جاء في فضلِ سورة (الكهف):

* نزولُ الملائكةِ مستمِعةً لها:

عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «قرَأَ رجُلٌ الكهفَ وفي الدَّارِ الدَّابَّةُ، فجعَلتْ تَنفِرُ، فسلَّمَ، فإذا ضَبابةٌ أو سحابةٌ غَشِيَتْهُ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «اقرَأْ فلانُ؛ فإنَّها السَّكينةُ نزَلتْ للقرآنِ، أو تنزَّلتْ للقرآنِ»». أخرجه البخاري (3614)، ومسلم (795).

* مَن حَفِظ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ منها عُصِم من فتنة الدَّجَّال:

عن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: «ذكَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذاتَ غَداةٍ، فخفَّضَ فيه ورفَّعَ، حتى ظنَنَّاه في طائفةِ النَّخلِ، فلمَّا رُحْنا إليه عرَفَ ذلك فينا، فقال: ما شأنُكم؟ قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، ذكَرْتَ الدَّجَّالَ غَداةً، فخفَّضْتَ فيه ورفَّعْتَ، حتى ظنَنَّاه في طائفةِ النَّخلِ، فقال: غيرُ الدَّجَّالِ أخوَفُني عليكم، إن يخرُجْ وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دُونَكم، وإن يخرُجْ ولستُ فيكم فامرؤٌ حَجِيجُ نفسِه، واللهُ خليفتي على كلِّ مسلِمٍ، إنَّه شابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُه طافئةٌ، كأنِّي أُشبِّهُه بعبدِ العُزَّى بنِ قَطَنٍ، فمَن أدرَكَه منكم فَلْيَقرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ ...». أخرجه مسلم (٢٩٣٧).

وقريبٌ منه ما صحَّ عن أبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سورةِ الكهفِ، عُصِمَ مِن الدَّجَّالِ». أخرجه مسلم (٨٠٩).

* مَن قرَأها يوم الجمعة أضاءت له ما بين الجمعتَينِ:

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَن قرَأَ سورةَ الكهفِ يومَ الجُمُعةِ، أضاءَ له مِن النُّورِ ما بين الجُمُعتَينِ». أخرجه البيهقي (6209).

جاءت موضوعاتُ سورة (الكهف) على الترتيب الآتي:

1. الحمد الله /التبشير والإنذار (١-٨).

2. قصة أصحاب الكهف (٩-٣١).

3. قصة صاحب الجنَّتَينِ (٣٢-٤٤).

4. تعقيب على صاحب القصة (٣٢-٤٤).

5. من مشاهد يوم القيامة (٤٥-٤٩).

6. فتنة إبليس (٥٠-٥٣).

7. الاعتصام بالكتاب والسُّنة (٥٤-٥٩).

8. رحلة موسى والخَضِر (٦٠-٨٢).

9. قصة ذي القَرْنَينِ (٨٣-٩٨).

10. جزاءُ مَن غَرِق في الفِتَن ومَن نجا منها (٩٩-١١٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /289).

افتُتِحت السورة بمقصدٍ عظيم؛ وهو وصفُ الكتاب بأنه قيِّمٌ؛ لكونه زاجرًا عن الشريك الذي هو خلافُ ما قام عليه الدليلُ في سورةِ (سُبْحانَ).

ومِن المقاصد العظيمة لهذه السورةِ: الاعتصامُ بحبلِ الله المتين، وبالاعتقادِ الصحيح في زمنِ الفتن؛ وقد وصَّلتِ السورةُ هذا المقصدَ عن طريقِ قَصِّ مجموعةٍ من القِصَص، على رأسها قصةُ (فتية الكهف).

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /243).