تفسير سورة الحشر

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الحشر فيها إحدى عشرة آية.

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ من دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِن اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ من حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : سُورَةُ الْحَشْرِ ؟ قَالَ : قُلْ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَهُمْ رَهْطٌ من الْيَهُودِ من ذُرِّيَّةِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فِي فَنَنِ بَنِي إسْرَائِيلَ انْتِظَارًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ من أَمْرِهِمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : جَلَاءُ الْيَهُودِ.
الثَّانِي : إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا أَرْضُ الْمَحْشَرِ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ، وَالْحَسَنُ.
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : أَوَّلُ الْحَشْرِ نَارٌ تَسُوقُ النَّاسَ إلَى الْمَغَارِبِ، وَتَأْكُلُ مَنْ خُلِّفَ [ فِي الدُّنْيَا ].
وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قُلْت لِمَالِكٍ : هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ ؟ فَقَالَ لِي : الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ ؛ قَالَ : وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي وَقْتِهَا :
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ : كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ : كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ من اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ من حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ : وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ. وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ :
وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى
يَخْرُجْنَ من خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى، فَقَالَ :
وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ
وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ
وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ﴾ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ من الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ. وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ : فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. الثَّانِي : بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا ؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا من خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا. الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ.
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ من قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا ؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ :
وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَرْجُوهُمْ، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُمْ هَدَمُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِغَيْرِهِ اعْتَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمِنْ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ : السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.
الْآيَةُ الثالثة : قَوْله تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ.
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ، أَيْ جِهَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُخْرَى، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ، وَكَانَ نَقْضُهُمْ الْعَهْدَ لِخَبَرٍ ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ :«جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ رَحًى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ ؛ وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ بِخَيْبَرَ. قَالَ : فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَلَاهُمْ ] عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ من أَمْوَالِهِمْ، وَالصَّفْرَاءِ، وَالْبَيْضَاءِ، وَالْحَلْقَةِ، وَالدِّنَانِ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ ».
فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَالْحَلْقَةُ : السِّلَاحُ. وَالدِّنَانُ : الْفَخَّارُ. وَمِسْكُ الْجَمَلِ : جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ بِشَعْرِهَا.
«فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ : يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ، يَا إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : فَقَالُوا : مَهْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [ فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا ]، وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ، كَالنِّكَاحِ يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَبِالْفِعْلِ، وَهُوَ الرَّضَاعُ. وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا من بِلَادِي ؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ؟.
قُلْنَا : قَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ من قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾.
فَإِنَّ قِيلَ : هَذَا مَا خَانَهُ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ. قُلْنَا : الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ من كُلِّ عَاقِدٍ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى مَا كَتَبَ من الْجَلَاءِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَعَ ؛ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ »، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
لَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ مَا قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ. . . ﴾ الْآيَةَ.
المسألة الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي تَخْرِيبِ دَارِ الْعَدُوِّ وَحَرْقِهَا وَقَطْعِ ثِمَارِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
الثَّانِي : إنْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا، وَإِنْ يَيْأَسُوا فَعَلُوا ؛ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ، وَعَلَيْهِ تناظرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ وَحَرَقَ لِيَكُونَ ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ وَوَهْنًا فِيهِمْ، حَتَّى يَخْرُجُوا عَنْهَا، فَإِتْلَافُ بَعْضِ الْمَالِ لِصَلَاحِ بَاقِيهِ مَصْلَحَةٌ جَائِزَةٌ شَرْعًا مَقْصُودَةٌ عَقْلًا.
المسألة الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّوْعِ الَّذِي قُطِعَ، وَهُوَ اللِّينَةُ، عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ، َإِلَّا الْعَجْوَةَ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْخَلِيلُ.
الثَّانِي : أَنَّهُ النَّخْلُ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَرَائِمُ النَّخْلِ ؛ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ الْعَجْوَةُ خَاصَّةً ؛ قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
الْخَامِسُ أَنَّهَا النَّخْلُ الصِّغَارُ، وَهِيَ أَفْضَلُهَا.
السَّادِسُ أَنَّهَا الْأَشْجَارُ كُلُّهَا.
السَّابِعُ أَنَّهَا الدَّقَلُ ؛ قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ : وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ : لَا نُنَحِّي الْمَوَائِدَ حَتَّى نَجِدَ الْأَلْوَانَ يَعْنُونَ الدَّقَلَ.
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا أَعْرَفُ بِبَلَدِهِمَا وَثِمَارِهَا وَأَشْجَارِهَا.
الثَّانِي أَنَّ الِاشْتِقَاقَ يُعَضِّدُهُ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ يُصَحِّحُونَهُ، قَالُوا : اللِّينَةُ وَزْنُهَا لِوْنَةٌ، وَاعْتُلَّتْ عَلَى أَصْلِهِمْ. [ فَآلَتْ إلَى لَيْنَةٍ ]، فَهُوَ لَوْنٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ الْهَاءُ كُسِرَ أَوَّلُهَا ؛ كَبَرْكِ الصَّدْرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَبِرْكِهِ بِكَسْرِهَا لِأَجْلِ الْهَاءِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : مَتَى كَانَ الْقَطْعُ ؛ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ وَالْجَوَازَ فِي بَنِي النَّضِيرِ [ تَضَمَّنَ بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ ] قَبْلَ قُرَيْظَةَ بِمُدَّةٍ كَبِيرَةٍ.
المسألة الْخَامِسَةُ : تَأَسَّفَتْ الْيَهُودُ عَلَى النَّخْلِ الْمَقْطُوعَةِ، وَقَالُوا : يَنْهَى مُحَمَّدٌ عَنْ الْفَسَادِ وَيَفْعَلُهُ !
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقْطَعُ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَقْطَعُ، فَصَوَّبَ اللَّهُ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَلَّصَ الطَّائِفَتَيْنِ فَظَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يُخَرَّجُ من ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَعَهُمْ، وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ أَخْذًا بِعُمُومِ الْإِذَايَةِ لِلْكُفَّارِ، وَدُخُولًا فِي الْإِذْنِ لِلْكُلِّ بِمَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالِاجْتِيَاحِ وَالْبَوَارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ ﴾ : يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ من اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ من أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ : الْإِيجَافُ : ضَرْبٌ من السَّيْرِ، وَالرِّكَابُ : اسْمٌ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً عُرْفًا لُغَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَقًّا مِن الرُّكُوبِ، وَيَشْتَرِكُ غَيْرُهَا مَعَهَا فِيهَا، وَلَكِنْ لِلْعُرْفِ احْتِكَامٌ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمُشْرَكَاتِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾ :
الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ، دُونَ عَمَلٍ من النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا، وَلَا تَجَشَّمُوا رِحْلَةً، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ من النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِهَا.
رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ «أَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ لَمَّا طَلَبَا عُمَرَ بِمَا كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الْمَالِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، قَالَ لَهُمْ عُمَرُ : أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هَذَا الْفَيْءِ بِسَهْمٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، وَقَرَأَ :﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ اللَّهَ اخْتَارَهَا، وَاَللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ. . . . وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُثُّهَا، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ خَصَّهُ بِهَا ».
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَاهَا الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً، وَمِنْ الْأَنْصَارِ لِأَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ [ وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ ] لِحَاجَةٍ كَانَتْ بِهِمْ، وَفِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : تَمَامُ الْكَلَامِ : فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : لَا خِلَافَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهَا هَذِهِ الْقُرَى الَّتِي قُوتِلَتْ، فَأَفَاءَ اللَّهُ بِمَالِهَا ؛ فَهِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ. الثَّانِي هُوَ مَا غَنِمْتُمْ بِصُلْحٍ من غَيْرِ إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَيَكُونُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِيهِ، وَالْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصَّةً، إذَا أَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ كَانَ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّالِثُ : قَالَ مَعْمَرٌ : الْأُولَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالثَّانِيَةُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ، وَالثَّالِثَةُ الْغَنِيمَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِلْغَانِمِينَ.
الرَّابِعُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ هِيَ النَّضِيرُ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا خُمُسٌ، وَلَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَانَتْ صَافِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَثَلَاثَةٍ من الْأَنْصَارِ : أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ. وقَوْله تَعَالَى :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى ﴾ هِيَ قُرَيْظَةُ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ : هَذَا لُبَابُ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ ؛ وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النَّضِيرِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِيهَا آيَاتُ بَنِي النَّضِيرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِالْعُمُومِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ وَفَعَلَ فِعْلَهُمْ، وَفِيهَا آيَتَانِ :
الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾. وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى ﴾. وَفِي الْأَنْفَالِ آيَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ :﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ من شَيْءٍ. . . ﴾.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ هِيَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ أَوْ مَعْنَيَانِ ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ : أَمَّا :
الْآيَةُ الْأُولَى : فَهِيَ قَوْلُهُ :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ من دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾. ثُمَّ قَالَ :﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ﴾ يَعْنِي من أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ ﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ يُرِيدُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ : إنَّهَا كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، فَهَذِهِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَعْنًى مُتَّحِدٌ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾.
وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِمُسْتَحِقٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَسَمَّى الْآيَةَ الثَّالِثَةَ آيَةَ الْغَنِيمَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ بِاسْتِحْقَاقٍ ثَانٍ لِمُسْتَحِقٍّ آخَرَ، بَيْدَ أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ اشْتَرَكَتَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَضَمَّنَتْ شَيْئًا أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَاقْتَضَتْ الْآيَةُ الْأُولَى : أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَاقْتَضَتْ آيَةُ الْأَنْفَالِ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِقِتَالِ، وَعُرِّيَتْ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ قَوْلُهُ :﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أَهْلِ الْقُرَى ﴾ عَنْ ذِكْرِ حُصُولِهِ لِقِتَالٍ أَوْ لِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ فَنَشَأَ الْخِلَافُ من هَاهُنَا، فَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْأُولَى، وَهُوَ مَالُ الصُّلْحِ كُلُّهُ وَنَحْوُهُ. وَمِنْ طَائِفَةٍ قَالَتْ : هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالثَّانِيَةِ ؛ وَهِيَ آيَةُ الْأَنْفَالِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ اخْتَلَفُوا : هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ مُحْكَمَةٌ ؟ وَإِلْحَاقُهَا بِشَهَادَةِ اللَّهِ بِالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَجْدِيدَ فَائِدَةٍ وَمَعْنًى. وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَمْلَ الْحَرْبِ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ أَوْلَى من حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةٍ مُعَادَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُنَظِّمُ لَك شَتَاتَ الرَّأْيِ، وَيُحْكِمُ الْمَعْنَى من كُلِّ وَجْهٍ ؛ وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ فَيَقُولُ مَالِكٌ : إنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ وَيَلْحَقُهَا النَّسْخُ، وَهُوَ أَقْوَى من الْقَوْلِ بِالْإِحْكَامِ، وَنَحْنُ لَا نَخْتَارُ إلَّا مَا قَسَّمْنَا وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَهَا مَعْنًى مُجَدَّدٌ حَسْبَمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي الْمَعْنَى ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَعْنَاهَا مَا أَعْطَاكُمْ من الْفَيْءِ، وَمَا مَنَعَكُمْ مِنْهُ فَلَا تَطْلُبُوهُ.
الثَّانِي : مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ من مَالِ الْغَنِيمَةِ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ من الْغُلُولِ فَلَا تَأْتُوهُ. الثَّالِثُ : مَا أَمَرَكُمْ بِهِ من طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ من مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ من قَبْلُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا وَلِذَلِكَ قَالَ :«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ». وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ الَّذِي افْتَدَى من الْجَلْدِ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ :«أَمَّا غَنَمُك فَرَدٌّ عَلَيْك وَجَلْدُ ابْنِك مِائَةً وَتَغْرِيبُهُ عَامًا ».
وَتَرَدَّدَتْ هَاهُنَا مَسْأَلَةٌ عُظْمَى بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي عَقْدٍ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ ؛ فَقَالَ جَمَاعَةٌ من الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ، وَيُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ؛ أَمَّا فِي الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ إجْمَاعًا، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا فِي الْأَحْبَاسِ وَالْهِبَاتِ فَيَحْتَمِلُ كَثِيرًا من الْجَهَالَةِ وَالْأَخْطَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِيهَا، حَتَّى قَالَ أَصْبَغُ : إنَّ مَا لَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَ فِي الصُّلْحِ مَعَ مَا يَجُوزُ مَضَى الْكُلُّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : يَمْضِي إنْ طَالَ. وَقَالَ سَائِرُ عُلَمَائِنَا : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَالْبَيْعِ.
وَأَمَّا إنْ وَقَعَ النَّهْيُ فِي الْبَيْعِ فَقَالَ كَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ : يُفْسَخُ أَبَدًا. وَقَالَ مَالِكٌ : يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ، فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ تَأْصِيلًا، وَفِي فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَفْصِيلًا بَنَيْنَاهُ عَلَى تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَالْمَعْنَى وَالرَّدِّ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا فَسْخُ الْفَاسِدِ أَبَدًا حَيْثُمَا وَقَعَ، وَكَيْفَمَا وُجِدَ، فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ».
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ :﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً من بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ :[ إنَّهُ بَلَغَنِي ] أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ ؟ فَقَالَ : وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ : لَقَ
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ من قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَالَ الْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ : يُرِيدُ بِذَلِكَ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ طُرِدَ، وَنَصَرُوهُ حِينَ خُذِلَ، فَلَا مِثْلَ لَهُمْ وَلَا لِأَجْرِهِمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا وَهُوَ يَذْكُرُ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِهَا من الْآفَاقِ فَقَالَ : إنَّ الْمَدِينَةَ تُبُوِّئَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّ غَيْرَهَا من الْقُرَى اُفْتُتِحَتْ بِالسَّيْفِ ثُمَّ قَرَأَ الْآيَةَ :﴿ وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ من قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ. . . ﴾ الْآيَةَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى كُلِّ بُقْعَةٍ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ، وَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، بَيْدَ أَنَّ الْقَارِئَ رُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِنُكْتَةٍ كَافِيَةٍ فِي ذَلِكَ مُغْنِيَةٍ عَنْ التَّطْوِيلِ، فَيُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ فَاتْلُ مَنَاقِبَ مَكَّةَ إلَى آخِرِهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَيْتهَا قُلْ : إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الصَّحِيحِ :«اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَأَنَا أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ » ؛ فَقَدْ جَعَلَ حُرْمَةَ الْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ حُرْمَةِ مَكَّةَ.
وَقَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ : أُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْمُهَاجِرِينَ وَبِالْأَنْصَارِ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ. وَأُوصِي الْخَلِيفَةَ بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ من قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ [ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْبَلَ من مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ ].
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ﴾ يَعْنِي لَا يَحْسُدُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى مَا خُصُّوا بِهِ من مَالِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِ كَذَا قَالَ النَّاسُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ : وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا إذَا كَانَ قَلِيلًا ؛ بَلْ يَقْنَعُونَ بِهِ، وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ حِينَ حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ دُنْيَا، ثُمَّ كَانُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ وَقَدْ أَنْذَرَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ] وَقَالَ :«سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ».
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ :
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَجُلًا من الْأَنْصَارِ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا قُوتُهُ وَقُوت صِبْيَانِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : نَوِّمِي الصِّبْيَةَ، وَأَطْفِئِي السِّرَاجَ، وَقَرِّبِي لِلضَّيْفِ مَا عِنْدَك، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾. مُخْتَصَرٌ، وَتَمَامُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :«أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَصَابَنِي الْجَهْدُ ؛ فَأَرْسَلَ إلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَلَا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَقَامَ رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ لَا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا. فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدِي سِوَى قُوتِ الصِّبْيَةِ.
قَالَ : فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي [ بُطُونَنَا ] اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ.
ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ من فُلَانٍ وَفُلَانَةَ، وَأَنْزَلَ :﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّضِيرَ لَمَّا اُفْتُتِحَتْ أَرْسَلَ إلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَقَالَ : جِئْنِي بِقَوْمِك. قَالَ : الْخَزْرَجُ. قَالَ : الْأَنْصَارُ، فَدَعَاهُمْ.
[ وَقَدْ كَانُوا وَاسَوْا الْمُهَاجِرِينَ بِدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ]، فَقَالَ لَهُمْ : إنْ شِئْتُمْ أَشْرَكْتُكُمْ فِيهَا مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ خَصَصْتُهُمْ بِهَا، وَكَانَتْ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَدِيَارُكُمْ ؛ فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : بَلْ نَخُصُّهُمْ بِهَا وَيَبْقَوْنَ عَلَى مُوَاسَاتِنَا لَهُمْ ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ ». الْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ :«كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ ».
المسألة الْخَامِسَةُ : الْإِيثَارُ بِالنَّفْسِ فَوْقَ الْإِيثَارِ بِالْمَالِ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّفْسِ وَمِنْ الْأَمْثَالِ السَّائِرَةِ : وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ * وَمِنْ عِبَارَاتِ الصُّوفِيَّة فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ : إنَّهَا الْإِيثَارُ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا بِالتَّبْرِئَةِ، فَقَالَتْ :«أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ».
وَأَفْضَلُ الْجُودُ بِالنَّفْسِ الْجُودُ عَلَى حِمَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ تَرَّسَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَطَلَّعُ فَيَرَى الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ : لَا تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُونَك، نَحْرِي دُونَ نَحْرِك. وَوَقَى بِيَدِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُلَّتْ ».
المسألة السَّادِسَةُ : الْإِيثَارُ هُوَ تَقْدِيمُ الْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ فِي حُظُوظِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ رَغْبَةً فِي الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ قُوَّةِ النَّفْسِ، وَوَكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ ؛ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُؤْثَرِينَ ؛ كَمَا رُوِيَ فِي الْآثَارِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَ من أَبِي بَكْرٍ مَالَهُ وَمِنْ عُمَرَ نِصْفَ مَالِهِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبًا إلَى الثُّلُثِ، لِقُصُورِهِمَا عَنْ دَرَجَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؛ إذْ لَا خَيْرَ لَهُ فِي أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَنْدَمَ، فَيُحْبِطُ أَجْرَهُ نَدَمُهُ ».
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الشُّحِّ وَالْبُخْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَهُمَا مَعْنَيَانِ : فَالْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقُ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ من حَدِيدٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَيُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ ». وَالشُّحُّ : مَنْعُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ ؛ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ من ذَهَابِ الشُّحِّ ؛ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُفَسَّرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْ مَعْنًى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِحَرْفَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ يُوضَعُ مَوْضِعَ صَاحِبِهِ جَمْعًا أَوْ فَرْقًا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي تَعْيِينِ هَؤُلَاءِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ ذَيْنِ من سَائِرِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ وَمِنْ الصَّحَابَةِ.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ التَّابِعُونَ بَعْدَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَوَاهُ عَنْهُ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَشْهَبُ وَغَيْرُهُمَا ؛ قَالُوا : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾.
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ :
هَذِهِ نَازِلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا قَدِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا افْتَتَحَ الْفُتُوحَ عَلَى عُمَرَ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَاسْتَحَقَّ بِكِتَابِ اللَّهِ الْغَنِيمَةَ، فَسَأَلُوهُ الْقِسْمَةَ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْهَا، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ. فَمَا حَالَ الْحَوْلُ إلَّا وَقَدْ مَاتُوا.
وَقَالَ عُمَرُ : لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانَا مَا تَرَكْت قَرْيَةً اُفْتُتِحَتْ إلَّا قَسَمَتْهَا بَيْنَ أَهْلِهَا.
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ الْقِسْمَةَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، وَرَأَى مَالِكٌ أَقْوَالًا أَمْثَلُهَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فِيهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قِسْمَةُ الْمَنْقُولِ وَإِبْقَاءُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ سَهْلًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، إلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فَيُنْفِذَ أَمْرًا، فَيَمْضِي عَمَلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْفَيْءِ، وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ : الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ مَعْلُومُونَ، ﴿ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا من بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا.
وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا. فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك، فَقَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ ».
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ إخْوَانَهُمْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ من وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِهَا، فَقِيلَ : إنَّهُمْ الْيَهُودُ، وَقِيلَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآيَاتِ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِهِمْ قَالَ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْلِ الْكِتَابِ. . . ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ الظَّالِمِينَ ﴾.
وَعَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْيَهُودَ بِالنَّصْرِ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَنَّ بَقَاءَهُ بِبَقَائِهِمْ وَخُرُوجَهُ بِخُرُوجِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَا وَفَّى بِهِ، بَلْ أَسْلَمَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْك إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ فَغَرَّ أَوَّلًا، وَكَذَبَ آخِرًا.
الثَّانِي : أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةً عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا فِئَةٌ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ.
وَالشَّتَّى : هِيَ الْمُتَفَرِّقَةُ قَالَ الشَّاعِرُ :
إلَى اللَّهِ أَشْكُو نِيَّةً شَقَّتْ الْعَصَا هِيَ الْيَوْمُ شَتَّى وَهِيَ بِالْأَمْسِ جُمَّعُ
المسألة الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا من هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى صُورَةِ التَّكْبِيرِ وَالْأَفْعَالِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ [ ذَلِكَ ] فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَيَشْمَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَيَنَالُهُ هَذَا الظَّاهِرُ. وَهَذَا كَانَ يَكُونُ حَسَنًا، بَيْدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَالصُّورَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فِيهِمَا وَاحِدٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا كَانَ من اخْتِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِذَايَةِ لِلدِّينِ وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾.
تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الْقِصَاصِ لِأَجْلِ عُمُومِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، وَحَقَّقْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَلُّقِ بِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّعْمِيمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا عَقَبَ الْآيَةَ بِهِ من قَوْلِهِ :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾ يَعْنِي وَأَصْحَابُ النَّارِ هُمْ الْهَالِكُونَ ؛ فَفِي هَذَا الْقَدْرِ انْتَفَتْ التَّسْوِيَةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : خُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ من عُمُومِ أَوَّلِهَا، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ هُنَالِكَ.
سورة الحشر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الحشر) من السُّوَر المدنية، من (المسبِّحات)، وهي التي تبدأ بـ {سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (البيِّنة)، وقد نزلت في إجلاء يهودِ (بني النَّضير)، وأشارت إلى تاريخِ اليهود المليء بالخيانات، وعدم الالتزام بالمواثيق والعهود، وتعرَّضت لحُكْمِ (الفَيْء)، وقد افتُتحت بمقصدٍ عظيم؛ وهو تنزيهُ الله عزَّ وجلَّ عن كل نقص، وإثبات كلِّ كمال له سبحانه؛ فهو المستحِقُّ لصفات الألوهيَّة والربوبيَّة.

ترتيبها المصحفي
59
نوعها
مدنية
ألفاظها
447
ترتيب نزولها
101
العد المدني الأول
24
العد المدني الأخير
24
العد البصري
24
العد الكوفي
24
العد الشامي
24

* نزَلتْ سورة (الحشر) في يهودِ (بني النَّضير):

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوْبةِ؟ قال: التَّوْبةُ هي الفاضحةُ، ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أنَّها لن تُبقِيَ أحدًا منهم إلا ذُكِرَ فيها، قال: قلتُ: سورةُ الأنفالِ؟ قال: نزَلتْ في بَدْرٍ، قال: قلتُ: سورةُ الحَشْرِ؟ قال: نزَلتْ في بني النَّضِيرِ». أخرجه البخاري (٤٨٨٢).

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ هُوَ اْلَّذِيٓ أَخْرَجَ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اْللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ اْللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اْلرُّعْبَۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي اْلْمُؤْمِنِينَ فَاْعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي اْلْأَبْصَٰرِ} [الحشر: 1-2]:

عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كانت غَزْوةُ بني النَّضِيرِ - وهم طائفةٌ مِن اليهودِ - على رأسِ ستَّةِ أشهُرٍ مِن وَقْعةِ بَدْرٍ، وكان مَنزِلُهم ونَخْلُهم بناحيةِ المدينةِ، فحاصَرَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى نزَلوا على الجَلاءِ، وعلى أنَّ لهم ما أقَلَّتِ الإبلُ مِن الأمتعةِ والأموالِ، إلا الحَلَقةَ؛ يَعني: السِّلاحَ؛ فأنزَلَ اللهُ فيهم: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ} [الحشر: 1] إلى قولِه: {لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْۖ} [الحشر: 2]، فقاتَلَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى صالَحَهم على الجَلاءِ، فأَجْلاهم إلى الشَّامِ، وكانوا مِن سِبْطٍ لم يُصِبْهم جَلاءٌ فيما خلا، وكان اللهُ قد كتَبَ عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذَّبَهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبْيِ، وأمَّا قولُه: {لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ} [الحشر: 2]، فكان جَلاؤُهم ذلك أوَّلَ حَشْرٍ في الدُّنيا إلى الشَّامِ». أخرجه الحاكم (3850).

* قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اْللَّهِ وَلِيُخْزِيَ اْلْفَٰسِقِينَ} [الحشر: 5]:

عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «حرَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بني النَّضِيرِ وقطَعَ، وهي البُوَيرةُ؛ فنزَلتْ: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اْللَّهِ} [الحشر: 5]». أخرجه البخاري (٤٠٣١).

* قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبعَثَ إلى نسائِه، فقُلْنَ: ما معنا إلا الماءُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن يضُمُّ أو يُضِيفُ هذا؟»، فقال رجُلٌ مِن الأنصارِ: أنا، فانطلَقَ به إلى امرأتِه، فقال: أكرِمي ضيفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قُوتُ صِبْياني، فقال: هَيِّئي طعامَكِ، وأصبِحي سِراجَكِ، ونَوِّمي صِبْيانَكِ إذا أرادوا عَشاءً، فهيَّأتْ طعامَها، وأصبَحتْ سِراجَها، ونوَّمتْ صِبْيانَها، ثم قامت كأنَّها تُصلِحُ سِراجَها فأطفأته، فجعَلَا يُرِيانِه أنَّهما يأكُلانِ، فبَاتَا طاوِيَينِ، فلمَّا أصبَحَ غَدَا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضَحِكَ اللهُ اللَّيلةَ - أو عَجِبَ - مِن فَعالِكما»؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اْلْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]». أخرجه البخاري (٣٧٩٨).

* سورةُ (الحَشْر):

سُمِّيت سورةُ (الحَشْر) بذلك؛ لوقوع لفظِ (الحشر) فيها؛ قال تعالى: {هُوَ اْلَّذِيٓ أَخْرَجَ اْلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ اْلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ اْلْحَشْرِۚ} [الحشر: 2].

والمراد بـ(الحَشْر) هنا: إخراجُ (بني النَّضِير)، لا يومُ القيامة.

* سورة (بني النَّضِير):

وسُمِّيت بذلك؛ لاشتمالها على قِصَّة إجلاء يهودِ (بني النَّضير).

1. إجلاء بني النَّضير (١-٥).

2. حُكْمُ الفَيء (٦-١٧).

3. التقوى، قوة القرآن، أسماء الله الحسنى (١٨-٢٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /60).

مقصودُ سورة (الحشر) تنزيهُ الله عز وجل عن كلِّ النقائص، وإثباتُ الكمال المطلق له؛ فهو الإله المستحِقُّ للعبادة؛ لكمال اتصافه بالقدرة الشاملة والحِكْمة البالغة، وهذه دعوةٌ لتوحيد الرُّبوبية والألوهية له سبحانه.

ويذكُرُ ابنُ عاشور أنَّ السورة جاءت لبيان: «حُكْم أموال بني النَّضير بعد الانتصار عليهم»، ثم يقول في بيان مقاصدها: «وقد اشتملت على أن ما في السموات وما في الأرض دالٌّ على تنزيه الله، وكونِ ما في السموات والأرض مِلْكَه، وأنه الغالب المدبِّر.

وعلى ذِكْرِ نعمة الله على ما يسَّر من إجلاء بني النَّضير مع ما كانوا عليه من المَنَعةِ والحصون والعُدَّة؛ وتلك آيةٌ من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغَلَبَتِه على أعدائه.

وذِكْرِ ما أجراه المسلمون من إتلافِ أموال بني النَّضير، وأحكام ذلك في أموالهم، وتعيين مستحِقِّيه من المسلمين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (28 /63).

وينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /72).