ﰡ
﴿الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ - ﴿الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ والعِوَجُ: فَقْدُ الاستقامَةِ، وهو بكسرِ العينِ في المعاني، وبفتحِها في الأشخاصِ؛ كالعصَا والحائطِ ونحوِهما.
...
﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢)﴾.
[٢] ﴿قَيِّمًا﴾ مستقيمًا نصبٌ على الحال، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: أنزلَ على عبدِهِ الكتابَ قِيمًا، ولم يجعلْ له عِوَجًا، قالَ ابنُ عطية: ويصحُّ أن يكونَ معنى (قيمًا): قيامَهُ بأمرِ الله تعالى على العالَمِ (٢).
وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عنى العالم، وكان حفص عن عاصم يسكت يسيرًا على (عِوَجًا)؛ تنبيهًا على تمام الوقف
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ٤٩٥).
﴿شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ من عنده. روى أبو بكر عن عاصم: (لَدْنِهِ) بسكون الدال وإشمامها الضم من غير صوت يسمع؛ دلالة على أن أصلها الضم، وبكسر النون والهاء وصلتها بياء في اللفظ، فكسرُ النون لسكونها وسكون الدال قبلها، وكسر الهاء إتباع، وقرأ الباقون: بضم الهاء والدال، وإسكان النون، وابن كثير على أصله في الصلة بواو (٢).
﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ هو نعيم الجنة وما يتقدمه من خير الدنيا.
...
﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)﴾.
[٣] ﴿مَاكِثِينَ﴾ مقيمين.
﴿فِيهِ أَبَدًا﴾ ظرف دال على زمن غير متناه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ (وَيَبْشُر) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمها؛ من البشر، وهو البشرى والبشارة. وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين مكسورة من بَشَّر المضعف على التكثير (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٧ - ٣٤٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٨).
[٤] ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ وهم ثلاث طوائف: اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة.
...
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)﴾.
[٥] ﴿مَا لَهُمْ بِهِ﴾ باتخاذ الولد لله تعالى ﴿مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ﴾ من قبلهم؛ لأن ذلك مستحيل في حقه تعالى ﴿كَبُرَتْ﴾ عظمت ﴿كَلِمَةً﴾ نصب على التمييز ﴿تَخْرُجُ﴾ أي: تظهر ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا (١) ﴿إِنْ﴾ أي: ما ﴿يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ فهي (ما) النافية.
...
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
[٦] ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ هذه تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: لا تكن كذلك.
وقوله: ﴿بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أي: قاتلها ﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ من بعد ذهابهم عنك.
﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ أي: القرآن ﴿أَسَفًا﴾ حزنًا على فوات إيمانهم.
[٧] ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ والمراد بما على الأرض: كل ما يزينها من علماء وصلحاء ونبات وزخارف ونحوه، ولم يدخل في هذا الجبال الصم، وكل ما لا زينة فيه؛ كالحيات والعقارب ونحوها ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ لنختبر الناظرين إليها.
﴿أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ أزهد في الدنيا.
...
﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)﴾.
[٨] ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا﴾ أي: الأرض.
﴿صَعِيدًا﴾ أملس مستويًا.
﴿جُرُزًا﴾ غليظًا يابسًا لا ينبت.
...
﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩)﴾.
[٩] ثم جاء بما هو أعجب من ذلك فقال:
﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ أي: بل ظننت.
﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾ الغار في الجبل.
﴿وَالرَّقِيمِ﴾ لوح رُقم فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم، ثم وضعوه
﴿كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ أي: كانوا آية يعجب بها من علمها، وفيه معنى الإنكار على السائلين عن أصحاب الكهف؛ كأنه قال: لا تعجبوا من أمرهم، ففيما خلقناه من صنوف الخلق ما هو أعجب منه.
...
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾ جمع فتى، وهو الشاب الكامل.
﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾ أي: رجعوا وهربوا إليه، وأما خبر مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق: مرح أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح يعبدون الله تعالى، وكان ملك منهم يقال له: دقيانوس قد عبد الأصنام، وقتل من خالفه، وكان ينزل قرى الروم، فلا يترك في قرية نزلها أحدًا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، أو يقتله، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وسيأتي ذكرها، فهرب أهل الإيمان منه، وكان حين قدمها أَمَرَ أن يجمع له أهل الإيمان، فمن وقع به خيره بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله، فيقتل.
أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثةً خرجوا | " وتتمة الكلام مقدار عشرة أسطر، إلا أنها مطموسة. |