وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلا قوله تعالى فاصبر لحكم ربك إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح.
ﰡ
وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: ٢٤] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الجمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد إن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهَلْ بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هَلْ مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل:
سائل فوارس يربوع بشدتنا | أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم |
ولا للملبهم أبدا دواء بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظا على أن السيرافي قال: الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغني الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب، ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة: مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغني ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدَّهْرِ الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال: والله لا أكلمه دهرا والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلا كل بدليل.
وقوله صلّى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
إلّا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هَلْ أَتى عَلَى جنس الْإِنْسانِ قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بلى كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لَمْ يَكُنْ إلخ حال من الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: ١٢٣] وإطلاق الْإِنْسانِ على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا ولا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص. نعم دل قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة
«كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني»
فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلّا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلّا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده، ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنّا نقول كون هَلْ هنا للإنكار منكر وأن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابي. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ «هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» فقال ليتها تمت. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أَمْشاجٍ جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف، أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج، يقال: مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين. واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل: اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرّا كما يخضر الماء بالمكث، وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: الأمشاج العروق التي في النطفة، وروي
يكون بعد التكليف والابتلاء إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (١) أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا:
تلقحها إما شمال عرية | وإما صبا جنح العشي هبوب |
والصرف في الجمع أتى كثيرا | حتى ادعى قوم به التخييرا |
يجرح في عراقيبها نصلي لإفادة المبالغة. وقيل: الباء للتعدية وضمن يَشْرَبُ معنى يروى فعدي بها وقيل هي بمعنى من، وقيل: هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت | متى لحج خضر لهن نئيج |
فعن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه
وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
قتلناهم في الله وفي رسوله صلّى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة؟ فأنزل الله تعالى فيهم تسعة عشرة آية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ- إلى قوله تعالى- عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
[الإنسان: ٥- ١٨] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه، والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث.
وقال ابن العراقي: لم أقف عليه، والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم. وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء. وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا: هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل المحبوس المسلمين حسن، وقد يقال: لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية. وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج، وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرا
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك»
وهو على التشبيه البليغ إلّا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة وضعّفه هاهنا ظاهر إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يُطْعِمُونَ أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد إما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز وجل. وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً بالأفعال وَلا شُكُوراً ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عَبُوساً تعبس فيه الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل إنه من التشبيه البليغ قَمْطَرِيراً شديد العبوس ويقال شديدا صعبا كأنه التف شره ببعضه وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة:
واصطليت الحروب في كل يوم | باسل الشر فمطرير الصباح |
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا | عليكم إذا ما كان يوم قماطر |
وليلة ظلامها قد اعتكر | قطعتها والزمهرير ما زهر |
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ
[الرحمن: ٤٦] وقرأ أبو حيوة «دانية» بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للإلصاق على ما يراه الزمخشري. وقال الأخفش «ظلالها» مرفوع بدانية على الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها. وقرأ أبيّ «ودان» كقاض ولا يتم الاستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما. وقرأ الأعمش «ودانيا عليهم» نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، والجملة حال من ضمير دانِيَةً أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة «دانية» بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ جمع إناء ككساء وأكسية، وهو ما يوضع فيه الشيء والأواني جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس: كوز لا عروة له أو لا خرطوم له، وقيل: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة كانَتْ أي تلك الأكواب قَوارِيرَا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول خلقت قوارير وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس في الجنة شيء إلّا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلّا قوارير من فضة. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين «قوارير» في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية، وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الإطلاق كما في قوله:
يا صاح ما هاج العيون الذرفن وفي الثاني للاتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش الثاني «قوارير» بالرفع أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه، وفي معناه قول الطائي:
ولو صورت نفسك لم تزدها | على ما فيك من كرم الطباع |
ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كون ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه. وقوله تعالى وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى:
كأن القرنفل والزنجبيل | باتا بفيها وأريا مسورا |
وكان طعم الزنجبيل به | إذ ذقته وسلافة الخمر |
سلسبيلا فيها إلى راحة النفس... براح كأنها سلسبيل
وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا: «إنهم ألف خادم»
وفي بعض الآثار أضعاف ذلك:
والجود أعظم والمواهب أوسع ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في رَأَيْتَهُمْ للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف، ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول. وقال عبد الله بن عمرو الكلبي: عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطي من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة.
وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلّا بإذن. وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان، وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له. وزعم الفراء أن المعنى وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ إلخ وخرج على أنه أراد أن ثَمَّ ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رَأَيْتَ والتقدير وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً إلخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله:
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا. وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت الحسبان ورفع خُضْرٌ على أنه صفة ثِيابُ وإِسْتَبْرَقٌ على أنه عطف على ثِيابُ والمراد وثياب إستبرق. والسندس قال ثعلب: ما رق من الديباج، وقيل: ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا. وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره. وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادي سادس وهو كما ترى. والإستبرق قيل: ما غلظ من ثياب الحرير، وقال أبو إسحاق: الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وقال ابن دريد: ثياب حرير نحو الديباج. وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية استبره، وفي القاموس معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء، وقيل: عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل، والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة، وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي المسألة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الإستبرق. وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة ف خُضْرٌ وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير مُتَّكِئِينَ أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس إلخ. وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والإستبرق. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على
٦٧] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش. وقيل: هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي «عاليتهم» بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجهما كتخريج «عاليهم» بالسكون والنصب. وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا «عليهم» جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر. وقرأت عائشة «علتهم» بتاء التأنيث فعلا ماضيا «فثياب» فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة «ثياب سندس» بتنوين «ثياب» ورفع «سندس» على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذا الجنس. وقرأ العربيان ونافع في رواية «وإستبرق» بالجر عطفا على «سندس». وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر «خضر» صفة ل «سندس» وهو في معنى الجمع. وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد: ١٢] والنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: ١٠] وقد جاء «سندسة» في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق القراءتين معنى إلّا أنه قليل. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي «خضر وإستبرق» بجرهما وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراءات ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف، وخرج الفتح على المنع من الصرف للعلمية والعجمة وغلظ بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال: الإستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق وإستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر.
وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى. واختار أبو حيان أن «إستبرق» على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر الدال عليه خُضْرٌ كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشه فقيل وَإِسْتَبْرَقٌ أي برق ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولي من تلحين قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر العلماء انتهى. وقيل: الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وَحُلُّوا أَساوِرَ جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره مِنْ فِضَّةٍ هي فضة لائقة بتلك الدار، والظاهر أن هذا عطف على يَطُوفُ عَلَيْهِمْ واختلافهما بالمضي والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ٢١ [الكهف:
٣١، الحج: ٢٣، فاطر: ٣٣] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تارة الفضة أخرى، والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهبا وبعض فضة لاختلاف الأعمال. وقيل: هو حال من ضمير عالِيَهُمْ بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عالِيَهُمْ حالا من ضمير حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين. وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم، ولا يخفى أن
وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة. ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك، وقيل: أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكرهم عما سواه:
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا | ونور ولا نار وروح ولا جسم |
سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا | جبال حنين ما سقوني لغنت |
إذا كنت عني يا منى القلب راضيا | أرى كل من في الكون لي يتبسم |
ولما ذكر سبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعة الرحمة ذكر ما شرف به نبيه صلّى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع أن سواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدأ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة وَلا تُطِعْ قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر نصرك مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل إن أَوْ لأحد الشيئين في جميع مواقعها، ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا، ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالانتهاء عن واحد دون الآخر، فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد من إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما، ومن هنا قيل إن أَوْ في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعا، ولعل ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال: إن وضع أَوْ لإثبات الحكم لأحد الأمرين إلّا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجر فهو لأحد الأمرين. واستشكل بعضهم وقوعها في النهي ك لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً إذا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل. ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأول أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى. وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي
نرضيك بالمال والتزويج فنزلت.
وقيل الكفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدم. وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وداوم على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما وَمِنَ اللَّيْلِ أي بعضه فَاسْجُدْ فصلّ لَهُ عز وجل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في صلاة الليل. من مزيد كلفة وخلوص وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختار له بعضهم. وتنوين لَيْلًا للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية. وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلّا الخمس وقال قوم: هو محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي: الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلّى الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: ٩٧، ٩٨] انتهى. وهو حسن إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبئون به فالظرف قيل على الأول حال من يَوْماً وعلى هذا ظرف يَذَرُونَ ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة، والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى
ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: ٣٨] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في
وإلّا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فإما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسّر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق. وقرأ العربيان وابن كثير «وما يشاؤون» بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود «إلّا ما يشاء الله» وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبة أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أَنْ يَشاءَ بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعلم الأسباب أي وَما تَشاؤُنَ بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حَكِيماً مبالغا في الحكمة فيفيض على كما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلّا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عَلِيماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حَكِيماً لا يشاء إلّا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إلخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة وَالظَّالِمِينَ أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً متناهيا في الإيلام ونصب الظَّالِمِينَ بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظالمون» على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن. وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية. ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنّا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب. وقرأ عبد الله «وللظالمين» بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد. وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أَعَدَّ لَهُمْ والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وإن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلّا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت
وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا.
سورة الإنسان
سورة (الإنسان) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الرحمن)، وقد ذكَّرتِ الإنسانَ بأصل خِلْقته، وقدرة الله عليه؛ ليتواضعَ لأمر الله ويستجيب له؛ فاللهُ هو الذي جعل هذا الإنسانَ سميعًا بصيرًا؛ فالواجب المتحتم عليه أن تُجعَلَ هذه الجوارحُ كما أراد لها خالقها وبارئها؛ ليكونَ بذلك حسَنَ الجزاء يوم القيامة، ومَن كفر فمشيئة الله نافذةٌ في عذابه إياه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤها في فجرِ الجمعة.
ترتيبها المصحفي
76نوعها
مكيةألفاظها
243ترتيب نزولها
98العد المدني الأول
31العد المدني الأخير
31العد البصري
31العد الكوفي
31العد الشامي
31* سورة (الإنسان):
سُمِّيت سورة (الإنسان) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بذكرِ الإنسان وخَلْقِه من عدمٍ.
* سورة {هَلْ أَتَىٰ} أو {هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ}:
سُمِّيت بذلك؛ لافتتاحها به.
كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (الإنسان) في فجرِ الجمعة:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قرَأَ في صلاةِ الغداةِ يومَ الجمعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ}». أخرجه مسلم (٨٧٩).
1. نعمة الخَلْق والهداية (١-٣).
2. مصير الكفار (٤).
3. جزاء الأبرار (٥-٢٢).
4. توجيهٌ للنبي عليه السلام (٢٣-٢٦).
5. وعيدٌ للمشركين (٢٧-٢٨).
6. مشيئة الله تعالى نافذة (٢٩-٣١).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /511).
مقصود السورة الأعظمُ تذكيرُ الناس بأصل خِلْقَتِهم، وأنَّ الله أوجَدهم من عدم، وبَعْثُهم بعد أن أوجَدهم أسهَلُ من إيجادهم؛ ففي ذلك أكبَرُ دلالةٍ على قدرة الله على إحياء الناس وحسابهم.
وفي ذلك يقول ابن عاشور رحمه الله: «محورها التذكيرُ بأنَّ كل إنسان كُوِّنَ بعد أن لم يكُنْ، فكيف يَقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه؟
وإثبات أن الإنسان محقوقٌ بإفراد الله بالعبادة؛ شكرًا لخالقه، ومُحذَّرٌ من الإشراك به.
وإثبات الجزاء على الحالينِ، مع شيءٍ من وصفِ ذلك الجزاء بحالتيه، والإطنابِ في وصفِ جزاء الشاكرين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /371).