ﰡ
مكية، وهي إحدى وثلاثون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ... (١) هل بمعنى قد مع الاستفهام أي: أقد. كقوله:أَهل رَأَونا بِسَفح القاعِ ذي الأَكَمِ
والمعنى: على التقرير والتقريب. (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) طائفة من الزمن الممتد غير المحدود. (لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) شيئاً يعتد به ويُذكر، بل متقلّباً في الأطوار: نطفة وعلقة ومضغة. والمراد به بنوا آدم؛ لقوله تعالى:
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) ذكر الوعد والوعيد بعد ذكر الشاكر والكفور وقدّم الوعيد مع تأخر الكفور؛ لأن الإنذار أهمّ، وليكون فتح الكلام وختمه مع المؤمنين. قرأ نافع والكسائي وأبو بكر وهشام. " سلاسلاً " منوناً؛ ليناسب " أغلالاً ". وحمزة وقتبل: بإسكان اللام في الوقف، وكذا حفص وابن ذكوان والبزي في وجه؛ لمنعها من الصرف.
(إِنَّ الْأَبْرَارَ... (٥) جمع برّ، كأرباب جمع ربٍّ. (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) هو الزجاج ما دام فيه الخمر، ويطلق على الخمر وهو المراد؛ لقوله: (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) أي: ماء كافور وهو عين في الجنة، وقيل: نخلق فيه رائحة الكافور وبرده، وقيل: يمزج خمرهم بالكافور.
(عَيْنًا... (٦) بدل من (كَافُورًا) على الأول، وعلى الآخرين من محلّ (مِنْ كَأسٍ) على تقدير مضاف كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص.
(يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) المقربون. أي: يمزجون الخمر بمائها. كقوله: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ). هذا إن جعل " كَافورًا " اسم عين. والألف والباء مزيدة. (يُفَجِّرُونَهَا) حيث شاءوا من منازلهم. (تَفْجِيرًا) سهلاً بلا تعبٍ.
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ... (٨) أي: حب الطعام والاحتياج؛ لقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وقيل: على حب اللَّه. وفي قوله: " لوجه اللَّه " غنية عن هذا.
(مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) مدح لهم على اختيار موضع الصدقة، فإنها كالبذر لا تنبت إلا في أرض طيبة. ويدخل في الأسير: المسلم والكافر والغريم والمملوك. وفي الحديث. " غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ". وكان يؤتى بالأسير إلى رسول اللَّه فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول: " أحسن إليه ".
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ... (٩) يقولونه بلسان الحال، أو بلسان المقال؛ منعاً لمن أحسنوا إليه عن المكافآت والثناء، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) توكيد للأولى.
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا... (١٠) عذاب يوم. أي: إنما أردنا بالإطعام وجه اللَّه؛ لأنا نخاف جزاء ذلك اليوم، ومن خاف ذلك لازم الإخلاص، أو لم نرد منكم على الصدقة مكافأة؛ خوفاً من عقاب اللَّه على طلب المكافأة. (عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) شديد العبوس. من
(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ... (١١) لما قدموا له من البر. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) بهجة في وجوههم. (وَسُرُورًا) في قلبهم.
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) ليأكلوا الهنيء، ويلبسوا البهيّ. وما نقلوه عن عليّ لا يصح؛ لأن السورة مكية.
(مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ... (١٣) على هيئة المترفين. نصب على الحال. (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) أي: لا حرَّ ولا برد؛ لاعتدال الهواء. وعن ثعلب الزمهرير: القمر بلغة طي. وأنشد:
قطَعتهَا وَالزَمْهَريرُ مَا زَهَرْ | وَلَيْلَةٍ ظَلَامُهَا قَدِ اعتكرْ |
(وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا... (١٤) عطف على الجملة الحالية؛ لأنَّها في تأويل المفرد، والواو؛ للدلالة على اجتماع الأمرين لهم. كأنه قيل: جامعين في الجنة بين البعد عن الحرّ، ودنو الظلال عليهم. ويجوز أن يجعل " متكئين " وما بعده صفات لـ " جنة " على مذهب من لا يوجب إبراز الضمير في صفة جرت على غير من هي له؛ لكون " متكئين " كذلك، أو عطف على " جنة " على أنهم وعدوا جنتين كقوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) أي: لا تمتنع على القِطاف، بل يقطفون كما شاءوا. عطف على دانية. وإيثار الفعلية لقصد التجدد؛ لأنَّ القطوف بحسب الحاجة. أو صفة مثلها، أو حال من ضميرها.
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ... (١٥) أباريق بلا عرى. (كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ... (١٦) القارورة: ما يكون من الزجاج، استعيرت لما كان من فضة بجامع الصفاء والشفيف فجاءت حسنة بديعة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص:
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (١٧) لأن العرب تستلذ طعمه. قال الأعشي:
كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْلَ | بائناً بها وأَرْياً مَشُورا |
(إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً | (٢٢) على أعمالكم. والمشار إليه الثواب المذكور. |
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) كرِّر الضمير، وأكده بـ (إنَّا) مع إيثار التنزيل الدال على التفريق الذي هو مقتضى الحكمة؛ ليدل على أنَّ قوله:
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... (٢٤) صادر عن حكمة بالغة، وأنَّ تأخير نصره لما فيه من الحكم الخفية. (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أي: كل واحد منهما؛ ولذلك آثر " أو " لئلا يتوهم الجمع. وهم وإن كانوا كلهم كفرة إلا أنَّ منهم من كان يدعوه إلى الإثم، ومنهم من يدعوه إلى الكفر. وقيل الآثم: عتبةُ، والكفور: الوليد؛ لأنَّ ذلك كان غالباً في الفسوق، وهذا في الكفر.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) طرفي النهار؛ لتنال به حلاوة تذهب عنك مرارة الصبر. وخصّ طرفي النهار؛ لشرفهما. وقيل. داوم على صلاة الفجر والظهر والعصر، فإنَّ الأصيل يتناولهما.
(وَمِنَ اللَّيْلِ... (٢٦) بعض الليل. (فَاسْجُد لَهُ) فإنه وقت الاقتراب إليه؛ لدنو رحمته، وخلو الوقت للمناجاة. وقيل: صلاتي المغرب والعشاء. ويؤيده: (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي: نزهه، أو صلِّ له تطوّعاً.
(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ... (٢٨) الأسر: الربط الوثيق بالأسار. والمراد: توصيل عظامهم بعضها مع بعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب. (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي: أهلكناهم وأنشأناهم نشأة أخرى. فالتبديل في الصفات؛ لأنَّ المعاد هو للبتدأ. أو بدلنا مكانهم قوماً آخرين كقوله. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ). و " إذا " مع أنَّ ذلك أمر فرضي؛ للدلالة على تمام الاقتدار.
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ... (٢٩) السورة والآيات القريبة. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) موصلاً إليه تقرب بالطاعة إليه.
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٣٠) مشيئكم؛ لأنَّ المفعول المحذوف وهو ما دل عليه المذكور كقولك: لو شئت لقتلت زيداً أي: ولو شئت قتله. وفي إثبات المشيئتين بطلان الجبر والاعتزال (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) وقرأ نافع
(يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ... (٣١) بالهداية والتوفيق (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) نصب " الظالمين " على شريطة التفسير بما يلائم المفسر. نحو: أوعد وكافأ.
* * *
تمّت سورة الإنسان، والحمد للواحد المنان، والصلاة على صفوة الإنسان، وآله وصحبه إلى آخر الزمان.
* * *
سورة الإنسان
سورة (الإنسان) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الرحمن)، وقد ذكَّرتِ الإنسانَ بأصل خِلْقته، وقدرة الله عليه؛ ليتواضعَ لأمر الله ويستجيب له؛ فاللهُ هو الذي جعل هذا الإنسانَ سميعًا بصيرًا؛ فالواجب المتحتم عليه أن تُجعَلَ هذه الجوارحُ كما أراد لها خالقها وبارئها؛ ليكونَ بذلك حسَنَ الجزاء يوم القيامة، ومَن كفر فمشيئة الله نافذةٌ في عذابه إياه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤها في فجرِ الجمعة.
ترتيبها المصحفي
76نوعها
مكيةألفاظها
243ترتيب نزولها
98العد المدني الأول
31العد المدني الأخير
31العد البصري
31العد الكوفي
31العد الشامي
31* سورة (الإنسان):
سُمِّيت سورة (الإنسان) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بذكرِ الإنسان وخَلْقِه من عدمٍ.
* سورة {هَلْ أَتَىٰ} أو {هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ}:
سُمِّيت بذلك؛ لافتتاحها به.
كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (الإنسان) في فجرِ الجمعة:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قرَأَ في صلاةِ الغداةِ يومَ الجمعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ}». أخرجه مسلم (٨٧٩).
1. نعمة الخَلْق والهداية (١-٣).
2. مصير الكفار (٤).
3. جزاء الأبرار (٥-٢٢).
4. توجيهٌ للنبي عليه السلام (٢٣-٢٦).
5. وعيدٌ للمشركين (٢٧-٢٨).
6. مشيئة الله تعالى نافذة (٢٩-٣١).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /511).
مقصود السورة الأعظمُ تذكيرُ الناس بأصل خِلْقَتِهم، وأنَّ الله أوجَدهم من عدم، وبَعْثُهم بعد أن أوجَدهم أسهَلُ من إيجادهم؛ ففي ذلك أكبَرُ دلالةٍ على قدرة الله على إحياء الناس وحسابهم.
وفي ذلك يقول ابن عاشور رحمه الله: «محورها التذكيرُ بأنَّ كل إنسان كُوِّنَ بعد أن لم يكُنْ، فكيف يَقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه؟
وإثبات أن الإنسان محقوقٌ بإفراد الله بالعبادة؛ شكرًا لخالقه، ومُحذَّرٌ من الإشراك به.
وإثبات الجزاء على الحالينِ، مع شيءٍ من وصفِ ذلك الجزاء بحالتيه، والإطنابِ في وصفِ جزاء الشاكرين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /371).