ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. رُوِيَ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى قَوْلِهِ:" جُرُزاً"، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَرُوِيَ فِي فَضْلِهَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَ بِهَا أُعْطِيَ نُورًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَوُقِيَ بِهَا فِتْنَةَ الْقَبْرِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سُورَةٍ شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَلَأَ عِظَمُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِتَالِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" سُورَةُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مَنْ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةَ غُفِرَ لَهُ الْجُمْعَةُ الْأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأُعْطِيَ نُورًا يَبْلُغُ السَّمَاءَ وَوُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ" ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَالْمَهْدَوِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ. وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ". وَفِي رِوَايَةٍ" مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ". وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ" فَمَنْ أَدْرَكَهُ- يَعْنِي الدَّجَّالَ- فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ". وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. قَالَ: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ حِفْظًا لَمْ تَضُرْهُ فِتْنَةُ الدَّجَّالِ". وَمَنْ قَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكهف (١٨): الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارٍ يَهُودَ وقالوا لهما:
(٢). أي لم يقل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن شاء الله.
(٣). أرجف القوم: خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن وفى ج: أوجف وهو الاضطراب، ولعله وهو من الناسخ.
أَلَا أي هذا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ | بِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ |
(٢). مطلعها:
لمية أطلال بحزوى دوائر | عفتها السواقي بعدنا والمواطر |
كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ | دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ «١» |
طَوَى النَّحْزُ وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا | فَمَا بَقِيَتْ إِلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ «٣» |
وَمُسْتَقَرُّ الْمُصْحَفِ الْمُرَقَّمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ «٤». قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً". ثُمَّ قَالَ:" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ" أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَرِ" إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً" أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالشَّطَطُ الْغُلُوُّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقِّ. قَالَ أَعْشَى [بنى «٥»] قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
أَتَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ والفتل |
(٢). مطلعها:
أعن ترسمت من خرقاء منزله | ماء الصبابة عن عينيك مسجوم |
(٤). مطلعها:
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي | بسمسم أو عن يمين سمسم |
«٣»
جَدْبُ الْمُنَدَّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ | يَنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ العشنزر |
إِلَى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفِ | شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنَّ الْفَوَارِسُ «٥» |
أَلْبَسْتَ قَوْمَكَ مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً | حَتَّى أُبِيحُوا وَحَلُّوا فَجْوَةَ الدَّارِ |
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ | وَهَلْ تُطِيقُ وداعا أيها الرجل |
(٣). قبله:
ودون ليلى بلد سمهدر
وبلد سمهدر: بعيد مضلة واسع. والمندى: حيث يرتع ساعة من النهار. والأزور: الطريق المعوج. وأنضى البعير: هزله بكثرة السير. والخمس (بكسر السين) من إظماء الإبل، أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع. والعشنزر: الشديد.
(٤). يعنى بالبيتين هنا شطري الرجز.
(٥). القوز (بالفتح): العالي من الرمل كأنه جبل. والفوارس: رمال بالدهناء.
(٦). مطلعها:
ألم تسأل اليوم الرسوم الدوارس | بحزوى وهل تدرى القفار البسابس |
بأرض فلاة لا يسد وصيلاها | عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ |
(٢). راجع سيرة ابن هشام ص ١٩٢ طبع أوروبا وج ١ ص ٣٢١ طبع مطبعة الحلي.
. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عِوَجٌ، أَيْ عَيْبٌ، أَيْ لَيْسَ مُتَنَاقِضًا مختلفا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «٣» " وَقِيلَ: أَيْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى" قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ" «٤» قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ مقاتل:" عِوَجاً" اختلافا و. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَدُومُ بِوُدِّي لِلصِّدِّيقِ تَكَرُّمًا | وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي الْوُدِّ أَعْوَجَا |
مِنْ لَدُ لِحْيَيْهِ إِلَى مُنْحُورِهِ
الْمَنْحُورُ لغة الْمَنْحَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أَيْ بِأَنَّ لَهُمْ. (أَجْراً حَسَناً) وهى الجنة. (ماكِثِينَ) دَائِمِينَ. (فِيهِ أَبَداً) لَا إِلَى غَايَةٍ. وَإِنْ حَمَلْتَ التَّبْشِيرَ عَلَى الْبَيَانِ لَمْ يُحْتَجْ إِلَى الْبَاءِ فِي" بِأَنَّ". وَالْأَجْرُ الْحَسَنُ: الثَّوَابُ الْعَظِيمُ الذي يؤدى إلى الجنة.
(٢). راجع ج ٤ ص ١٥٤.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٨٨.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٥ (٢٥٢) هذا عجز بيت لغيلان بن حريث. وصيره كما في اللسان:
يستوعب البوعين من جريرة
والمنحور (بالحاء المهملة وضم الميم) لغة في النحر، وهو الصدر. وقد وردت هذه الكلمة في الأصول وصحاح الجوهري واللسان مادة" نخر"، ولدن" بالخاء المعجمة، وهو الأنف. وقد استدرك عليه ابن برى فقال: وصواب إنشاده كما أنشده سيبويه" إلى منحورة" بالحاء. وصف الشاعر بعيرا أو فرسا بطول العنق، فجعله يستوعب من حبله الذي يوثق به مقدار بأعين فيما بين لحييه ونحره: الباع. والجرير: الحبل.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٤ الى ٥]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) هم الْيَهُودُ، قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقُرَيْشٌ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. فَالْإِنْذَارُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عَامٌّ، وَهَذَا خَاصٌّ فِيمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلَدٌ. (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) " مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ الْقَوْلِ عِلْمٌ، لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدَةٌ قَالُوهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. (وَلا لِآبائِهِمْ) أَيْ أَسْلَافِهِمْ. (كَبُرَتْ كَلِمَةً) " كَلِمَةً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ، أَيْ كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" كَلِمَةً" بِالرَّفْعِ، أَيْ عَظُمَتْ كَلِمَةٌ، يَعْنِي قَوْلَهُمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارٍ. يُقَالُ: كَبُرَ الشَّيْءُ إِذَا عَظُمَ. وَكَبُرَ الرَّجُلُ إِذَا أَسَنَّ. (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أَيْ ما يقولون إلا كذبا.
[سورة الكهف (١٨): آية ٦]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) " باخِعٌ" أَيْ مُهْلِكٌ وَقَاتِلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ." آثارِهِمْ" جَمْعُ أَثَرٍ، وَيُقَالُ إِثْرٌ. وَالْمَعْنَى: عَلَى أَثَرِ تَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أَيِ الْقُرْآنِ. (أَسَفاً) أَيْ حُزْنًا وَغَضَبًا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَانْتَصَبَ على التفسير.
[سورة الكهف (١٨): آية ٧]
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) فِيهِ مسألتان:
(٢). أي يتطلع إليه وطمع فيه. [..... ]
الأولى : قوله تعالى :" إنا جعلنا ما على الأرض زينة " " ما " و " زينة " مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض، فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد بالزينة الرجال، قاله مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى :" إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها " قال : العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة : أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم.
الثانية : معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر١ كيف تعملون ). وقوله صلى الله عليه وسلم :( إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا ) قال : وما زهرة الدنيا ؟ قال :( بركات الأرض ) خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري. والمعنى : أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة الله إلا [ أن ] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام :( فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف٢ نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع ). وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها، وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله ؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية : كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله " أحسن عملا " : أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه.
قلت : هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية : غيرك. قال :( قل آمنت بالله ثم استقم ) خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري :" أحسن عملا " أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني :" أحسن عملا " أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد، فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء، قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا : وصدق رضي الله عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم : بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم : ترك الدنيا كلها هو الزهد، أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال : حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا : علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم : لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها ؛ قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم : الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك، قاله ابن المبارك. وقالت فرقة : الزهد حب الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى.
٢ أي يتطلع إليه وطمع فيه..
[سورة الكهف (١٨): آية ٨]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
تَقَدَّمَ «١» بَيَانُهُ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: تُرَابًا لَا نَبَاتَ بِهِ، كَأَنَّهُ قُطِعَ نَبَاتُهُ. وَالْجُرُزُ: الْقِطَعُ، وَمِنْهُ سَنَةٌ جَرَزٌ «٢». قَالَ الرَّاجِزُ:
قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السِّنُونُ الاجراز
(٢). في ج: وسيف جراز. وفى اللسان: سيف جراز بالضم قاطع.
[سورة الكهف (١٨): آية ٩]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ" أَمْ" إِذَا جَاءَتْ دُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ وَأَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ الْمُنْقَطِعَةُ. وَقِيلَ:" أَمْ" عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي" فَلَعَلَّكَ"، أَوْ بِمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْإِنْكَارِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ تَقْرِيرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِسَابِهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ كَانُوا عَجَبًا، بِمَعْنَى إِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يَعْظُمُ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عَظَّمَهُ عَلَيْكَ السَّائِلُونَ مِنَ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ سَائِرَ آيَاتِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ قِصَّتِهِمْ وَأَشْيَعُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ فُقِدُوا، وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ، وَأَبْطَأَ الْوَحْيُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَحَسِبْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا، أَيْ لَيْسُوا بِعَجَبٍ مِنْ آيَاتِنَا، بَلْ فِي آيَاتِنَا مَا هُوَ أعجب من خبرهم. الكلبي: خلق السموات وَالْأَرْضِ أَعْجَبُ مِنْ خَبَرِهِمْ. الضَّحَّاكُ: مَا أَطْلَعْتُكَ عله مِنَ الْغَيْبِ أَعْجَبُ. الْجُنَيْدُ: شَأْنُكَ فِي الْإِسْرَاءِ أَعْجَبُ. الْمَاوَرْدِيُّ: مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْيُ، أَيْ مَا حَسِبْتَ لَوْلَا إِخْبَارُنَا. أَبُو سَهْلٍ: اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، أَيْ أَحَسِبْتَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ عَجَبٌ. وَالْكَهْفُ: النَّقْبُ الْمُتَّسِعُ فِي الْجَبَلِ، وَمَا لَمْ يَتَّسِعْ فَهُوَ غَارٌ. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: الْكَهْفُ الْجَبَلُ، وَهَذَا غَيْرُ شَهِيرٍ فِي اللُّغَةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرَّقِيمِ، فَقَالَ ابن عباس: كل شي فِي الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا أَرْبَعَةً: غِسْلِينٌ وَحَنَانٌ والأواه والرقيم. وسيل مَرَّةً عَنِ الرَّقِيمِ فَقَالَ: زَعَمَ كَعْبٌ أَنَّهَا قرية خرجوا
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٥٤.
(٣). راجع صحيح مسلم ج ٨ ص ٨٩ طبع الاستانة. وشرح القسطلاني على صحيح البخاري ج ٤ ص ٢١٧، ج ٥ ص ٥٠٩ وج ٩ ص ٥ طبع بولاق.
[سورة الكهف (١٨): آية ١٠]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) رُوِيَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَبْنَاءِ أَشْرَافِ مَدِينَةِ دَقْيُوسَ الملك الكافر، [يقال فيه: دقلوس «٢» [. ويقال فيه: دقنيوس: وروى أنهم كانوا
(٢). من ج.
(٢). في ج: في مجلسه.
(٢). في ج: الدخول بها.
(٣). في ج: ما قدمناه. راجع ص ١٥٩ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٤٣ وما بعدها. [..... ]
(٢). يعجب: كيسمع، أي يرضى منه ويثيبه.
(٣). الشظية (بفتح الشين وكسر الظاء): قطعة مرتفعة في رأس الجبل
(٤). أي إذا نزل به مهم أو أصابة غم. وفى الأصول:" إذا أحزنه" والتصويب عن كتب الحديث.
[سورة الكهف (١٨): آية ١١]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١)عِبَارَةٌ عَنْ إِلْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى النَّوْمَ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ مِنْ فَصِيحَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَقَرَّتِ الْعَرَبُ بِالْقُصُورِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَنَعْنَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْمَعُوا، لِأَنَّ النَّائِمَ إِذَا سَمِعَ انْتَبَهَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، أَيْ سَدَدْنَا آذَانَهُمْ عَنْ نُفُوذِ الْأَصْوَاتِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ" أَيْ فَاسْتَجَبْنَا دُعَاءَهُمْ، وَصَرَفْنَا عَنْهُمْ شَرَّ قَوْمِهِمْ، وَأَنَمْنَاهُمْ. وَالْمَعْنَى كُلُّهُ مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: هَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ ضَرَبَ الْأَمِيرُ عَلَى يَدِ الرَّعِيَّةِ إِذَا مَنَعَهُمُ الْفَسَادَ، وَضَرَبَ السَّيِّدُ عَلَى يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِذَا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ. قَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ وَكَانَ ضَرِيرًا:
وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ أَنَّنِي | ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ «١» |
[سورة الكهف (١٨): آية ١٢]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أَيْ مِنْ بَعْدِ نَوْمِهِمْ. وَيُقَالُ لِمَنْ أُحْيِيَ أَوْ أُقِيمَ مِنْ نَوْمِهِ: مَبْعُوثٌ، لِأَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا من الانبعاث والتصرف.
[سورة الكهف (١٨): آية ١٣]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) لَمَّا اقْتَضَى قَوْلُهُ تَعَالَى" لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى " اخْتِلَافًا وَقَعَ فِي أَمَدِ الْفِتْيَةِ، عَقَّبَ بِالْخَبَرِ عَنْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْحَقِّ الَّذِي وَقَعَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) أَيْ شَبَابٌ وَأَحْدَاثٌ حَكَمَ لَهُمْ بِالْفُتُوَّةِ حِينَ آمَنُوا بِلَا وَاسِطَةٍ، كَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللِّسَانِ: رَأْسُ الْفُتُوَّةِ الْإِيمَانُ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْفُتُوَّةُ بَذْلُ النَّدَى وَكَفُّ الْأَذَى وَتَرْكُ الشَّكْوَى. وَقِيلَ: الْفُتُوَّةُ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاسْتِعْجَالُ الْمَكَارِمِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ يَعُمُّ بِالْمَعْنَى جَمِيعَ مَا قِيلَ فِي الْفُتُوَّةِ.
[سورة الكهف (١٨): آية ١٤]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ عَزْمٍ وَقُوَّةِ صَبْرٍ، أَعْطَاهَا اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى قَالُوا بَيْنَ يَدَيِ الْكُفَّارِ:" رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً". وَلَمَّا كَانَ الْفَزَعُ وَخَوَرُ النَّفْسِ يُشْبِهُ بِالتَّنَاسُبِ الِانْحِلَالَ حَسُنَ فِي شِدَّةِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ التَّصْمِيمِ أَنْ يُشْبِهَ الرَّبْطَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ، إِذَا كَانَ لَا تَفْرَقُ نَفْسُهُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَالْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. وَمِنْهُ الرَّبْطُ عَلَى قَلْبِ أُمِّ مُوسَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قامُوا فَقالُوا) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قامُوا فَقالُوا) يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: أَحَدُهَا- أَنْ يَكُونَ هَذَا وَصْفَ مَقَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْكَافِرِ- كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَقَامٌ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّبْطِ عَلَى الْقَلْبِ حَيْثُ خَالَفُوا دِينَهُ، وَرَفَضُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ هَيْبَتَهُ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِيمَا قِيلَ: إِنَّهُمْ أَوْلَادُ عُظَمَاءِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجُوا وَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ أَسَنُّهُمْ: إِنِّي أَجِدُ فِي نفسي أن ربى رب السموات وَالْأَرْضِ، فَقَالُوا وَنَحْنُ كَذَلِكَ نَجِدُّ فِي أَنْفُسِنَا. فَقَامُوا جَمِيعًا فَقَالُوا:" رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً".
[سورة الكهف (١٨): آية ١٥]
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا أَيْ أَهْلُ عَصْرِنَا وَبَلَدِنَا، عَبَدُوا الْأَصْنَامَ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ. (لَوْلا) أَيْ هَلَّا. (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الصَّنَمَ. وَقِيلَ:" عَلَيْهِمْ" رَاجِعٌ إِلَى الْآلِهَةِ، أَيْ هَلَّا أَقَامُوا بَيِّنَةً عَلَى الأصنام في كونها آلهة، فقولهم" لَوْلا" تَحْضِيضٌ بِمَعْنَى التَّعْجِيزِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ لع يجب أن يلتفت إلى دعواهم.
(٢). راجع ص ٢٦٠ من هذا الجزء.
[سورة الكهف (١٨): آية ١٦]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاءوا إِلَى الْكَهْفِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ رَئِيسِهِمْ يمليخا، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْغَزْنَوِيُّ: رَئِيسُهُمْ مَكْسَلْمينَا، قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، أَيْ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَا يَعْبُدُونَ. ثُمَّ اسْتَثْنَى وَقَالَ (إِلَّا اللَّهَ) أَيْ إِنَّكُمْ لَمْ تَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّ أَهْلُ الْكَهْفِ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ الْأَصْنَامَ فِي أُلُوهِيَّتِهِمْ فَقَطْ. وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ لَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ أَصْنَامَهُمْ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، لِأَنَّ الِاعْتِزَالَ وَقَعَ فِي كُلِّ مَا يَعْبُدُ الْكُفَّارُ إِلَّا فِي جِهَةِ اللَّهِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ". قَالَ قَتَادَةُ هَذَا تَفْسِيرُهَا. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قوله تعالى:" وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" قَالَ: كَانَ فِتْيَةٌ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً فَاعْتَزَلَتِ الْفِتْيَةُ عِبَادَةَ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَلَمْ تَعْتَزِلْ عِبَادَةَ اللَّهِ. ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى مَا قَالَ قَتَادَةُ تَكُونُ" إِلَّا" بمنزلة غير، و" ما" من قوله" وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول" اعْتَزَلْتُمُوهُمْ". وَمُضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ لِبَعْضٍ: إِذَا فَارَقْنَا الْكُفَّارَ وَانْفَرَدْنَا بِاللَّهِ تَعَالَى فَلْنَجْعَلِ الْكَهْفَ مَأْوًى وَنَتَّكِلْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ سَيَبْسُطُ لَنَا رَحْمَتَهُ، وَيَنْشُرُهَا عَلَيْنَا، وَيُهَيِّئُ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مِرْفَقًا. وَهَذَا كُلُّهُ دُعَاءٌ بِحَسَبِ الدُّنْيَا، وَعَلَى ثِقَةٍ كَانُوا مِنَ اللَّهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِمْ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ صَيَاقِلَةً «١»، وَاسْمُ الْكَهْفِ حَيُومُ. (مِرفَقاً) قُرِئَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، وَهُوَ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ وَكَذَلِكَ مِرْفَقُ الْإِنْسَانِ وَمَرْفَقُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يجعل" المرفق" بفتح الميم [وكسر الفاء من الامر، والمرفق من الإنسان، وقد قيل: الْمَرْفَقَ بِفَتْحِ الْمِيمِ «٢»] الْمَوْضِعَ كَالْمَسْجِدِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
(٢). من ج...
[سورة الكهف (١٨): الآيات ١٧ الى ١٨]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أَيْ تَرَى أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَمِيلُ عَنْ كَهْفِهِمْ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَهُمْ كَذَا، لَا أن المخاطب رآهم على التحقيق." تَتَزاوَرُ" تَتَنَحَّى وَتَمِيلُ، مِنْ الِازْوِرَارِ. وَالزَّوْرُ الْمَيْلُ. وَالْأَزْوَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَائِلُ النَّظَرِ إِلَى نَاحِيَةٍ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَجَنْبِي خِيفَةَ الْقَوْمِ أَزْوَرُ «١»
وَمِنَ اللَّفْظَةِ قول عنترة:
ازور مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ «٢»
وَفِي حَدِيثِ غَزْوَةِ موتة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ جَعْفَرٍ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو" تَزَّاوَرُ" بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الزَّايِ، وَالْأَصْلُ" تَتَزَاوَرُ". وَقَرَأَ عَاصِمٌ وحمزة والكسائي" تَتَزاوَرُ" مخففة الزاي.
وخفض عنى الصوت أقبلت مشية ال | حباب وشخصي خشية الحي أزور |
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت | مصابيح شبت بالعشاء وأنور |
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه | وروّح رعيان ونوّم سمر |
وشكا إلى بعبرة وتحمم
واللبان (بالفتح): الصدر. والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصهيل.
" أَيْ يُصِيبُهُمْ يَسِيرٌ مِنْهَا، مَأْخُوذٌ مِنْ قارضة الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَيْ تُعْطِيهِمُ الشَّمْسُ الْيَسِيرَ مِنْ شُعَاعِهَا. وَقَالُوا: كَانَ فِي مَسِّهَا لَهُمْ بِالْعَشِيِّ إِصْلَاحٌ لِأَجْسَادِهِمْ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آوَاهُمْ إِلَى كَهْفٍ هَذِهِ صِفَتُهُ لَا إِلَى كَهْفٍ آخَرَ يَتَأَذَّوْنَ فِيهِ بِانْبِسَاطِ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ النَّهَارِ. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ الشَّمْسِ عَنْهُمْ بِإِظْلَالِ غَمَامٍ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حِفْظِهِمْ عَنْ تَطَرُّقِ الْبَلَاءِ وَتَغَيُّرِ الْأَبْدَانِ وَالْأَلْوَانِ إِلَيْهِمْ، وَالتَّأَذِّي بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْكَهْفِ وَالْفَجْوَةُ الْمُتَّسَعُ، وَجَمْعُهَا فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، مِثْلُ رَكْوَةٍ وَرِكَاءٍ وَرَكَوَاتٍ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَنَحْنُ مَلَأْنَا كُلَّ وَادٍ وَفَجْوَةٍ | رِجَالًا وَخَيْلًا غَيْرَ مِيلٍ «١» وَلَا عُزْلِ |
(٢). زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(٣). في حياة الحيوان:" سلام على نوح".
(٤). زيادة من كتاب حياة الحيوان.
(٥). في ج: تبر.
(٦). من ج.
(٢). في بعض نسخ الأصل بعد قوله" طليعة لهم":" قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضوع" ونراها غير لازمة. والذي في حياة الحيوان للدميري في اسم الكلب:" وقالت فرقة: كأن أحدهم وكان قد فعد عند باب الغار طليعة يهم، فسمى باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس كَمَا سُمِّيَ النَّجْمُ التَّابِعُ لِلْجَوْزَاءِ كَلْبًا لِأَنَّهُ منها كالكلب من الإنسان، وهذا القول يضعفه... " إلخ.
(٣). الجبار: اسم الجوزاء.
بِأَرْضٍ فَضَاءٍ لَا يُسَدُّ وَصِيدُهَا | عَلَيَّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ |
(٢). في ج: قاله ابن عطية.
وَإِذْ فَتَكَ النعمان بالناس محرما | فملّئ مِنْ كَعْبِ بْنِ عَوْفٍ سَلَاسِلُهُ |
[سورة الكهف (١٨): الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
قَوْلُهُ تعالى: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) الْبَعْثُ: التَّحْرِيكُ عَنْ سُكُونٍ. وَالْمَعْنَى: كَمَا ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَقَلَّبْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ أَيْضًا، أَيْ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِمْ مِنْ هَيْئَتِهِمْ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَفَتَيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ | فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عَاثٍ وَنَشْوَانِ «١» |
(٢). زيادة يقتضيها السياق.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٥٨.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٥٦.
(٤). الترقوة: العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق.
[سورة الكهف (١٨): آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أَيْ أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ وَأَظْهَرْنَاهُمْ. وَ" أَعْثَرَ" تَعْدِيَةُ عَثَرَ بِالْهَمْزَةِ، وَأَصْلُ الْعِثَارِ فِي الْقَدَمِ. (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يَعْنِي الْأُمَّةَ الْمُسْلِمَةَ الَّذِينَ بُعِثَ أَهْلُ الْكَهْفِ عَلَى عَهْدِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ دِقْيَانُوسَ مَاتَ وَمَضَتْ قُرُونٌ وَمَلَكَ أَهْلَ تِلْكَ الدَّارِ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ بَلَدِهِ فِي الْحَشْرِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنَ الْقُبُورِ، فَشَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ وَاسْتَبْعَدُوهُ وَقَالُوا: إِنَّمَا تُحْشَرُ الْأَرْوَاحُ وَالْجَسَدُ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُبْعَثُ الرُّوحُ وَالْجَسَدُ جَمِيعًا، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ وَبَقِيَ حَيْرَانَ لَا يَدْرِي كَيْفَ يَتَبَيَّنُ أَمْرَهُ لَهُمْ، حَتَّى لَبِسَ الْمُسُوحَ وَقَعَدَ عَلَى الرَّمَادِ وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، فَأَعْثَرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكَهْفِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا بَعَثُوا أَحَدَهُمْ بِوَرِقِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَأْتِيَهُمْ بِرِزْقٍ مِنْهَا اسْتُنْكِرَ شَخْصُهُ وَاسْتُنْكِرَتْ دَرَاهِمُهُ «٣» لِبُعْدِ الْعَهْدِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَلِكِ وَكَانَ صَالِحًا قَدْ آمَنَ مَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣١٧.
(٣). في ج: ورقة.
(٢). في ج:" عن عبيد بن عمير".
(٣). من الجمل عن المصنف.
. وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِارْتِفَاعَ الْمَأْمُورَ بِإِزَالَتِهِ هُوَ مَا زَادَ عَلَى التَّسْنِيمِ، وَيَبْقَى لِلْقَبْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيُحْتَرَمُ، وَذَلِكَ صِفَةُ قَبْرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَى مَا ذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ- وَقَبْرِ أَبِينَا آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا رواه الدارقطني
(٢). أي في حالة الطرح والكشف. [..... ]
(٣). أي يحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل صنيع اليهود بقبور أنبيائهم.
(٤). قوله" ألا" بتشديد اللام التحضيض. وقيل: بفتحها للتنبيه.
(٥). لاطئة: لاصقة بالأرض.
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) الضَّمِيرُ فِي" سَيَقُولُونَ" يُرَادُ بِهِ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَمَعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك أنهم اختلفوا عَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْمَنْصُوصُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ النَّصَارَى، فَإِنَّ قَوْمًا مِنْهُمْ حَضَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَجْرَانَ فَجَرَى ذِكْرُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَقَالَتِ الْيَعْقُوبِيَّةُ: كَانُوا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ. وَقَالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ: كَانُوا خَمْسَةً سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانُوا سَبْعَةً ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَمَرُوا الْمُشْرِكِينَ بِمَسْأَلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أصحاب الكهف. والواو في قول" وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ" طريق النحو بين أَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ دَخَلَتْ فِي آخِرِ إِخْبَارٍ عَنْ عَدَدِهِمْ، لِتَفْصِلَ أَمْرَهُمْ، وَتَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا غَايَةُ «٣» مَا قِيلَ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَصَحَّ الْكَلَامُ. وَقَالَتِ فِرْقَةٌ مِنْهَا ابْنُ خَالَوَيْهِ: هِيَ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقُولُ فِي عَدَدِهَا سِتَّةً سَبْعَةً وَثَمَانِيَةً، فَتُدْخِلُ الْوَاوَ فِي الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال:
(٢). من ج.
(٣). في ج: نهاية.
وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ | وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ «٥» |
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٨٤.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٩٣.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٤٥.
(٥). البين من معلقة زهير.
(٦). راجع ص ٣ من هذا الجزء.
(٧). راجع ج ١٣ ص... [..... ]
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا «٢»
وَلَمْ يُبِحْ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُمَارِيَ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ" إِلَّا مِراءً" اسْتِعَارَةٌ مِنْ حَيْثُ يُمَارِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ. سُمِّيَتْ مُرَاجَعَتُهُ لَهُمْ مِرَاءً ثُمَّ قُيِّدَ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَفَارَقَ الْمِرَاءَ الْحَقِيقِيَّ الْمَذْمُومَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ" فِيهِمْ" عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الكهف. وفى قَوْلِهِ:" مِنْهُمْ" عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَارِضِينَ. وَقَوْلُهُ:" فَلا تُمارِ فِيهِمْ" يَعْنِي فِي عِدَّتِهِمْ، وجذفت الْعِدَّةُ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْقَوْلِ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ نَصَارَى نَجْرَانَ عَنْهُمْ فَنُهِيَ عن السؤال. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مراجعة أهل الكتاب في شي من العلم.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
(٢). هذا عجر بيت لابي ذؤيب. وصدره:
وعيرها الواشون أنى أحبها
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٥]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥)
هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" وَقَالُوا لَبِثُوا". قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا فِيمَا مَضَى لَهُمْ مِنَ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْإِعْثَارِ عَلَيْهِمْ إِلَى مُدَّةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ لَبِثُوا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي كَوْنِهِمْ نِيَامًا، وَأَنَّ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ لِلْبَشَرِ. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا" لَبِثُوا" الْأَوَّلُ يُرِيدُ في نوم الكهف، و" لَبِثُوا" الثَّانِي يُرِيدُ بَعْدَ الْإِعْثَارِ «٣» إِلَى مُدَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِلَى وَقْتِ عَدَمِهِمْ بِالْبَلَاءِ. مُجَاهِدٌ: إِلَى وَقْتِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. الضَّحَّاكُ: إِلَى أَنْ مَاتُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ" وَازْدَادُوا تِسْعاً" لَمْ يَدْرِ النَّاسُ أَهِيَ سَاعَاتٌ أَمْ أَيَّامٌ أَمْ جُمَعٌ أَمْ شُهُورٌ أَمْ أَعْوَامٌ. وَاخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي التِّسْعِ، فَهِيَ عَلَى هَذَا مُبْهَمَةٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهَا أَعْوَامٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَامُوا وَدَخَلُوا الْكَهْفَ بَعْدَ عيسى
(٢). في ى: أي صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها.
(٣). في ج: بعد الانتشار.
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) قِيلَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ، عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. أَوْ إِلَى أَنْ مَاتُوا، عَلَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ. أَوْ إِلَى وَقْتِ تَغَيُّرِهِمْ بِالْبِلَى، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: بِمَا لَبِثُوا فِي الْكَهْفِ، وَهِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْيَهُودِ وَإِنْ ذَكَرُوا زِيَادَةً وَنُقْصَانًا. أَيْ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ عَلَّمَهُ ذَلِكَ (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
(٢). في ج وى: الأمم. ولعل هذا أوجه لان الأمم لا تستعمل إلا الشمسية.
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٧]
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قِيلَ: هُوَ مِنْ تَمَامِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، أَيِ اتَّبِعِ الْقُرْآنَ فَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَا خُلْفَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا مُغَيِّرَ لِمَا أَوْعَدَ بِكَلِمَاتِهِ أَهْلَ مَعَاصِيهِ وَالْمُخَالِفِينَ لِكِتَابِهِ. (وَلَنْ تَجِدَ) أَنْتَ (مِنْ دُونِهِ) إِنْ لَمْ تَتَّبِعِ الْقُرْآنَ وَخَالَفْتَهُ. (مُلْتَحَداً) أَيْ مَلْجَأً. وَقِيلَ مَوْئِلًا وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ وَمَنْ لَجَأْتَ إِلَيْهِ فَقَدْ مِلْتَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ: وَهَذَا آخِرُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَلَمَّا غَزَا مُعَاوِيَةُ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ وَكَانَ مَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَانْتَهَى إِلَى الْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ مَنَعَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:" لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً" فَقَالَ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، وَبَعَثَ قَوْمًا لِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُرِيَهُ إِيَّاهُمْ، فَقَالَ إِنَّكَ لَنْ تَرَاهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِمْ أَرْبَعَةً مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِكَ لِيُبَلِّغُوهُمْ رِسَالَتَكَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَبْعَثُهُمْ؟ فَقَالَ: ابْسُطْ كِسَاءَكَ وَأَجْلِسْ عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ عُمَرَ وَعَلَى الثَّالِثِ عُثْمَانَ وَعَلَى الرَّابِعِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ ادْعُ الرِّيحَ الرُّخَاءَ الْمُسَخَّرَةَ لِسُلَيْمَانَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُهَا أَنْ تُطِيعَكَ، فَفَعَلَ فَحَمَلَتْهُمُ الرِّيحُ إِلَى بَابِ الْكَهْفِ، فَقَلَعُوا مِنْهُ حَجَرًا، فَحَمَلَ الْكَلْبُ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا رَآهُمْ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَبَصْبَصَ بِذَنَبِهِ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِرَأْسِهِ أَنِ ادْخُلُوا فَدَخَلُوا الْكَهْفَ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى الْفِتْيَةِ أَرْوَاحَهُمْ فَقَامُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَقَالُوا: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَعْشَرَ الْفِتْيَةِ، إِنَّ النَّبِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ، فَقَالُوا: وَعَلَى محمد رسول الله السلام ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَعَلَيْكُمْ بِمَا أَبْلَغْتُمْ، وَقَبِلُوا
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ"" الْأَنْعَامِ: «١» " وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَالَ سَلْمَانُ الفارسي رضى الله عنه: جاءت المؤلف قُلُوبُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عيينة بن حصن والافرع بْنُ حَابِسٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَنَحَّيْتَ عَنَّا هَؤُلَاءِ وَأَرْوَاحَ جِبَابِهِمْ- يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَأَبَا ذَرٍّ وَفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ عَلَيْهِمْ جِبَابُ الصُّوفِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا- جَلَسْنَا إِلَيْكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأَخَذْنَا عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ"
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا | نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا |
(٢). في كتاب روح المعاني:" وقرا الحسن (ولا تعد عينيك) بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة، من أعداء، ونصب العينين. وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرءوا (ولا تعد عينيك) بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة، من عداه يعديه" ونصب العينين أيضا.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٧٦.
[سورة الكهف (١٨): آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) " الْحَقُّ" رُفِعَ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ الْمُضْمَرِ، أَيْ قُلْ هُوَ الْحَقُّ. وَقِيلَ: هُوَ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ في قوله:
يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ | سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودُ |
هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ | صُدُورُ الْفُيُولُ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ |
(٢). كذا في الأصل واللسان، واستدرك عليه صاحب اللسان بأنه الكذب الحرمازي، وتابعه على هذا سيبويه والأعلم الشنتمرى. مدح الراجز أحد بنى المنذر بن الجارود العبدى، وحكم هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمي جده الجارود لأنه أعار على قوم فاكتسح أموالهم: فشبه بالسيل الذي يجرد ما مر به.
(٣). بفتح الواو وكسرها، ملك من ملوك الفرس.
(٤). راجع ج ١٩ ص ١٦٠.
(٥). راجع ج ١٧ ص ٢١٢.
(٢). الدردي (بالضم): ما يبقى في الأسفل.
(٣). راجع ج ٩ ص ٥١ ٣.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٢٣٦.
قَالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ أَلَا فَتًى | يَسُوقُ بِالْقَوْمِ غَزَالَاتِ الضحا «١» |
نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقَا «٢» | كَأَنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَدْبُوحٌ |
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
لَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ مِنَ الْهَوَانِ ذَكَرَ أَيْضًا مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثَّوَابِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أي نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ عَمَلًا، فَأَمَّا مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَعَمَلُهُ محبط." عَمَلًا" نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِنْ شِئْتَ بِإِيقَاعِ" أَحْسَنَ" عليه. وقيل:
(٢). رواية الديوان:" مشتجرا" والمشتجر: الذي قد شجر نفسه ووضع يده تحت شجرة على حنكه أو على فمه. والشجر: ما بين اللحيين. ومذبوح،. شقوق.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٨.
(٣). راجع ج ١٤ ص...
(٤). راجع ج ١٩ ص ١٤١. [..... ]
(٥). راجع ج ١٦ ص ١٠٠.
تَرَاهُنَّ يَلْبَسْنَ الْمَشَاعِرَ مَرَّةً | وَإِسْتَبْرَقُ الدِّيبَاجِ طَوْرًا لِبَاسُهَا |
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤)
(٢). في ج وى: يستأجر.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٨٤ ٢ فما بعد.
(٣). كذا في الأصول والصحاح للجوهري وقد نقله عنه صاحب اللسان. وكان الاولى أنى قال:" فإذا وليه اسم ظاهر... ".
فِي كِلْتَ رِجْلَيْهَا سُلَامَى «١» وَاحِدَهْ | كِلْتَاهُمَا مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ |
كِلَا يَوْمَيْ أُمَامَةَ يَوْمُ صَدٍّ «٢» | وَإِنْ لَمْ نَأْتِهَا إِلَّا لِمَامَا |
(٢). كذا في الأصول واللسان مادة" كلا". وفى ديوانه المطبوع:" يوم صدق". والبيت من قصيدة مطلعها:
ألا حي المنازل والخيا | ما وسكنا طال فيها ما أقاما |
(٢). راجع ج ٧ ص ٤٩. [..... ]
(٣). من ج وفى ى: حدثنا.
(٤). في هذا الكلمة اثنا عشر لغة: نعم عين ونعمة ونعام ونعيم (بفتحتين) ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة (بضمهن) ونعمة ونعام (بكسرها). وتنصب الكل بإضمار الفعل، أي أفعل ذلك أنعاما لعينك وإكراما.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)قوله تَعَالَى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) قِيلَ: أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يَطِيفُ بِهِ فِيهَا وَيُرِيهِ إِيَّاهَا. (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أَيْ بِكُفْرِهِ، وَهُوَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَمَنْ أَدْخَلَ نَفْسَهُ النَّارَ بِكُفْرِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. (قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أَنْكَرَ فَنَاءَ الدَّارِ. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أَيْ لَا أَحْسِبُ الْبَعْثَ كَائِنًا. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) أَيْ وَإِنْ كَانَ بَعْثٌ فَكَمَا أَعْطَانِي هَذِهِ النِّعَمَ فِي الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه، وهو معنى قوله: (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لَمَّا دَعَاهُ أَخُوهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. وَفِي مَصَاحِفِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالشَّامِ" مِنْهُمَا". وَفِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ" مِنْهَا" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالتَّثْنِيَةُ أَوْلَى، لِأَنَّ الضَّمِيرَ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّتَيْنِ.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٣٧ الى ٣٨]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨)
قوله تعالى: (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) يَهُوذَا أَوْ تَمْلِيخَا، عَلَى الْخِلَافِ فِي اسْمِهِ. (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) وَعَظَهُ وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ أبدع من الإعادة. و" سَوَّاكَ رَجُلًا" أَيْ جَعَلَكَ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ وَالْخَلْقِ، صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ ذَكَرًا. (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) كَذَا قَرَأَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ" لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ" بِمَعْنَى لَكِنَّ الْأَمْرَ هُوَ اللَّهُ رَبِّي، فَأَضْمَرَ اسْمَهَا فِيهَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" لكِنَّا" بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ،
لَهِنَّكَ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ | عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٌ مَنْ يَقُولُهَا |
وَتَرْمِينَنِي «٢» بِالطَّرْفِ أَيْ أَنْتَ مُذْنِبُ | وَتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إِيَّاكَ لَا أَقْلِي |
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي | حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا |
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالَ الْقَوَافِي | بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًا |
(٢). في ج وى: ويرميني بالطرف أي أنت مذنب. ويقليني لكن إياه لا أقلي.
(٣). هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد. وهذه النسبة إلى مسيله (كسفينة) بلدة بالقطر الجزائري.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٤٠.
(٥). راجع ج ٢٠ ص ٢٤٤.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
قَوْلُهُ تعالى: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قوله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أو أَيْ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ وَوَصِيَّةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ لِلْكَافِرِ وَرَدٌّ عَلَيْهِ، إِذْ قَالَ" مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً" و"ما" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الْجَنَّةُ هِيَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَيِ الْأَمْرُ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مُضْمَرٌ، أَيْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَا يَشَاءُ لَا يَكُونُ." لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" أَيْ مَا اجْتَمَعَ لَكَ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ لَا بِقُدْرَتِكَ وَقُوَّتِكَ، وَلَوْ شَاءَ لَنَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْهُ فَلَمْ يَجْتَمِعْ. الثَّانِيَةُ- قَالَ أَشْهَبُ قَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هذا. وقال ابن وهب وقال لِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ: رَأَيْتُ عَلَى بَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَكْتُوبًا" مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ". وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:" أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ- أَوْ قَالَ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ" قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ" لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِذَا قَالَهَا الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
و" أَقَلَّ" خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ النُّونُ وَالْيَاءُ، إِلَّا أَنَّ الْيَاءَ حُذِفَتْ لِأَنَّ الْكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَإِثْبَاتُهَا جَيِّدٌ بَالِغٌ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و (فَعَسى) بِمَعْنَى لَعَلَّ أَيْ فَلَعَلَّ رَبِّي. (أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ فِي الدُّنْيَا. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أَيْ عَلَى جَنَّتِكَ. (حُسْباناً) أَيْ مَرَامِي مِنَ السَّمَاءِ، وَاحِدُهَا حُسْبَانَةٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْقُتَبِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَالْحُسْبَانَةُ السَّحَابَةُ، وَالْحُسْبَانَةُ الْوِسَادَةُ، وَالْحُسْبَانَةُ الصَّاعِقَةُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْحُسْبَانُ (بِالضَّمِّ): الْعَذَابُ. وَقَالَ أَبُو زِيَادٍ الْكِلَابِيُّ: أَصَابَ الْأَرْضَ حُسْبَانٌ أَيْ جَرَادٌ. وَالْحُسْبَانُ أَيْضًا الْحِسَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «١» " وَقَدْ فُسِّرَ الْحُسْبَانُ هُنَا بِهَذَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُسْبَانُ مِنَ الْحِسَابِ، أَيْ يُرْسِلُ عَلَيْهَا عَذَابُ الْحِسَابِ، وَهُوَ حِسَابُ مَا اكْتَسَبَتْ يَدَاكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ. وَالْحُسْبَانُ أَيْضًا: سِهَامٌ قِصَارٌ يُرْمَى بِهَا فِي طَلْقٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ مِنْ رَمْيِ الْأَكَاسِرَةِ. وَالْمَرَامِي مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ." فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً" يَعْنِي أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا يَنْبُتُ فِيهَا نَبَاتٌ وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا قَدَمٌ، وَهِيَ أَضَرُّ أَرْضٍ بَعْدَ أَنْ كانت جنة أنفع أرض، و" زَلَقاً" تأكيد لوصف الصعيد، أي وتزل عَنْهَا الْأَقْدَامُ لِمَلَاسَتِهَا. يُقَالُ: مَكَانٌ زَلَقٌ (بِالتَّحْرِيكِ) أَيْ دَحْضٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: زَلِقَتْ رِجْلُهُ تَزْلَقُ زَلَقًا، وَأَزْلَقَهَا غَيْرُهُ. وَالزَّلَقُ أَيْضًا عَجُزُ الدَّابَّةِ. قَالَ رُؤْبَةُ:
كَأَنَّهَا حَقْبَاءُ بَلْقَاءُ الزَّلَقُ
وَالْمَزْلَقَةُ وَالْمُزْلَقَةُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَدَمٌ. وَكَذَلِكَ الزَّلَّاقَةُ. وَالزَّلْقُ الْحَلْقُ، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه، قال الْجَوْهَرِيُّ. وَالزَّلِقُ الْمَحْلُوقُ، كَالنَّقْضِ وَالنَّقَضُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحًا عَلَيْهِ | مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونًا |
هَرِيقِي مِنْ دُمُوعِهِمَا سِجَامًا | ضُبَاعُ وَجَاوِبِي نَوْحًا قِيَامًا |
أَغَارَتْ عَيْنُهُ أَمْ لَمْ تَغَارَا
وَغَارَتِ الشَّمْسُ تَغُورُ غِيَارًا، أَيْ غَرَبَتْ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةً وَنَهَارُهَا | وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا |
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٢]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢)
قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مُضْمَرٌ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْفُوضُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَمَعْنَى" أُحِيطَ بِثَمَرِهِ" أَيْ أُهْلِكُ مَالُهُ كُلُّهُ. وَهَذَا أَوَّلُ مَا حَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى به إنذار أخيه. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي فأصبح الكافر يضرب إحدى
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٣]
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) " فِئَةٌ" اسم" تَكُنْ" و" لَهُ" الْخَبَرُ." يَنْصُرُونَهُ" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ فِئَةٌ نَاصِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" يَنْصُرُونَهُ" الْخَبَرُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ" لَهُ". وَأَبُو الْعَبَّاسِ يُخَالِفُهُ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" «٣». وقد أجاز سيبويه الآخر. و" يَنْصُرُونَهُ" عَلَى مَعْنَى فِئَةٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَقْوَامٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى اللَّفْظِ لَقَالَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةً تَنْصُرُهُ، أَيْ فِرْقَةً وَجَمَاعَةً يَلْتَجِئُ إِلَيْهِمْ. (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أَيْ مُمْتَنِعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: مُسْتَرِدًّا بَدَلَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ الْفِئَةِ فِي" آلِ عِمْرَانَ «٤» ". وَالْهَاءُ عوض من الياء التي نقصت
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢١٦ فما بعد.
(٣). راجع ج ٢٠ ص ٣٤٤. فما بعد.
(٤). راجع ج ٤ ص ٢٤.
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٤]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) اخْتُلِفَ فِي الْعَامِلِ فِي قَوْلِهِ" هُنالِكَ" وَهُوَ ظَرْفٌ، فَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ" وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ" وَلَا كَانَ هُنَالِكَ، أَيْ مَا نُصِرَ وَلَا انْتَصَرَ هُنَالِكَ، أَيْ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ" مُنْتَصِراً". وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ" هُنالِكَ":" الْوَلايَةُ". وَتَقْدِيرُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ: الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُنَالِكَ، أَيْ فِي الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ" الْحَقُّ" بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوِلَايَةِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ" الْحَقِّ" بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّهِ ذِي الْحَقِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ" الْحَقَّ" بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالتَّوْكِيدِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا لَكَ حَقًّا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" الْوِلَايَةُ" بِكَسْرِ الْوَاوِ، الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَالرَّضَاعَةِ وَالرِّضَاعَةِ. وَقِيلَ: الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ مِنَ الْمُوَالَاةِ، كَقَوْلِهِ" اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «١» "." ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا" «٢». وَبِالْكَسْرِ يَعْنِي السُّلْطَانَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِمَارَةَ، كَقَوْلِهِ" وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «٣» " أَيْ لَهُ الْمُلْكُ وَالْحُكْمُ يَوْمئِذٍ، أَيْ لَا يُرَدُّ أَمْرُهُ إِلَى أَحَدٍ، وَالْمُلْكُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِلَّهِ وَلَكِنْ تَزُولُ الدَّعَاوَى وَالتَّوَهُّمَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهَا بِفَتْحِ الْوَاوِ لِلْخَالِقِ، وَبِكَسْرِهَا لِلْمَخْلُوقِ. (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) أَيِ اللَّهُ خَيْرٌ ثَوَابًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّ غَيْرُ يُرْجَى مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ فِي ظَنِّ الْجُهَّالِ، أَيْ هُوَ خَيْرٌ مَنْ يُرْجَى. (وَخَيْرٌ عُقْباً) قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى" عُقْباً" سَاكِنَةُ الْقَافِ، الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ هُوَ خَيْرٌ عاقبة لِمَنْ رَجَاهُ وَآمَنَ بِهِ. يُقَالُ: هَذَا عَاقِبَةُ أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٣٤.
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢٤٧.
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أَيْ صِفْ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ سألوك طرد فقواء الْمُؤْمِنِينَ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ شَبَهَهَا. (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أَيْ بِالْمَاءِ. (نَباتُ الْأَرْضِ) حَتَّى اسْتَوَى. وَقِيلَ: إِنَّ النَّبَاتَ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَاءُ، لِأَنَّ النَّبَاتَ إِنَّمَا يَخْتَلِطُ وَيَكْثُرُ بِالْمَطَرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" يُونُسَ «١» " مُبَيَّنًا. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: إِنَّمَا شَبَّهَ تَعَالَى الدُّنْيَا بِالْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَقِرُّ فِي مَوْضِعٍ، كَذَلِكَ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى عَلَى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَبْقَى وَيَذْهَبُ كَذَلِكَ الدُّنْيَا تَفْنَى، وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَهُ وَلَا يَبْتَلَّ كَذَلِكَ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ دَخَلَهَا مِنْ فِتْنَتِهَا وَآفَتِهَا، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا كَانَ بِقَدْرٍ كَانَ نَافِعًا مُنْبِتًا، وَإِذَا جَاوَزَ الْمِقْدَارَ كَانَ ضَارًّا مُهْلِكًا، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا الْكَفَافُ مِنْهَا يَنْفَعُ وَفُضُولُهَا يَضُرُّ. وَفِي حَدِيثِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ، قَالَ:" ذَرِ الدُّنْيَا وَخُذْ مِنْهَا كَالْمَاءِ الرَّاكِدِ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا يَكْفِي وَالْكَثِيرَ مِنْهَا يُطْغِي". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا أَتَاهُ". (فَأَصْبَحَ) أَيِ النَّبَاتُ (هَشِيماً) أَيْ مُتَكَسِّرًا مِنَ الْيُبْسِ مُتَفَتِّتًا، يَعْنِي بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ، فَحُذِفَ ذَلِكَ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْهَشْمُ: كَسْرُ الشَّيْءِ الْيَابِسِ. وَالْهَشِيمُ مِنَ النَّبَاتِ الْيَابِسُ الْمُتَكَسِّرُ، وَالشَّجَرَةُ الْبَالِيَةُ يَأْخُذُهَا الْحَاطِبُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا فُلَانٌ إِلَّا هَشِيمَةُ كَرْمٍ، إِذَا كَانَ سَمْحًا. وَرَجُلٌ هَشِيمٌ: ضَعِيفُ الْبَدَنِ. وَتَهَشَّمَ عليه فلان إذا تعطف. واهتشم
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ | وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ |
فَقُلْتُ لَهُ صَوِّبْ وَلَا تَجْهِدَنَّهُ | فَيُذْرِكَ «٢» مِنْ أُخْرَى الْقَطَاةُ فَتَزْلَقِ |
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وَيَجُوزُ" زِينَتَا" وَهُوَ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْإِفْرَادِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ فِي الْمَالِ جَمَالًا وَنَفْعًا، وَفِي الْبَنِينَ قُوَّةً وَدَفْعًا، فَصَارَا زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَكِنَّ معقرينة الصفة للمال
(٢). في كتاب سيبويه:" فيدنك" وهى رواية أخرى في البيت. وقد نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار الطائي. ومعنى صوب: خذ القصد في السير وارفق بالفرس ولا تجهد. وأخرى القطاة: آخرها والقطاة: وقعد الرديف. (أي مؤخر الظهر حيث يكون ردف الراكب) يقول هذه لغلامه وقد حمله على فرسه ليصيد له. (راجع الشنتمرى على كتاب سيبويه).
«١» وَقَالَ تَعَالَى:" إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «٢» ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أَيْ مَا يَأْتِي بِهِ سَلْمَانُ وَصُهَيْبٌ وَفُقَرَاءُ المسلمين من الطاعات. (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أَيْ أَفْضَلُ. (وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي أفضل مِنْ ذِي الْمَالِ وَالْبَنِينَ دُونَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَيْسَ فِي زِينَةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِ:" أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «٣» ". وَقِيلَ: خَيْرٌ فِي التَّحْقِيقِ مِمَّا يَظُنُّهُ الْجُهَّالُ أنه خير في ظنهم. واختلف العلماء في" الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَيْسَرَةَ وَعَمْرُو ابْنُ شُرَحْبِيلَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: إِنَّهَا كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَبْقَى لِلْآخِرَةِ. وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا بَقِيَ ثَوَابُهُ جاز أن يقال له هذا. وقال لي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَرْثُ حَرْثَانِ فَحَرْثُ الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْبَنُونَ، وَحَرْثُ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَقَدْ يَجْمَعُهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ الْكَلِمَاتُ الْمَأْثُورُ فَضْلُهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ: إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. أَسْنَدَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٤٠.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢١ ص فما بعد.
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٧]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: التَّقْدِيرُ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ أَجْلِ الْوَاوِ وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاذْكُرْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، أَيْ نُزِيلُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَنُسَيِّرهَا كَمَا نُسَيِّرُ السَّحَابَ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى" وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «٣» " ثُمَّ تُكْسَرُ فَتَعُودُ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ:" وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «٤» ". وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ" وَيَوْمَ تُسَيَّرُ" بِتَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ. وَ" الْجِبالَ" رَفْعًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَمُجَاهِدٌ" وَيَوْمَ تَسِيرُ الْجِبَالُ" بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفًا مِنْ سَارَ." الْجِبَالُ" رَفْعًا. دَلِيلُ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو" وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ «٥» ". وَدَلِيلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ" وَتَسِيرُ الْجِبَالَ سَيْرًا «٦» ". وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى" نُسَيِّرُ" بِالنُّونِ لِقَوْلِهِ" وَحَشَرْناهُمْ". وَمَعْنَى" بارِزَةً" ظَاهِرَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهَا مِنْ جَبَلٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا بُنْيَانٍ، أَيْ قَدِ اجْتُثَّتْ ثِمَارُهَا وَقُلِعَتْ جِبَالُهَا، وَهُدِمَ بُنْيَانُهَا، فَهِيَ بَارِزَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ:" وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً" أَيْ بَرَزَ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَاتِ، كما قال
(٢). راجع ج ٢١١ ص ٣٣ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٣ ص...
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٩٤ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٩ ص ٢٢٥ فما بعد. [..... ]
(٦). راجع ج ١٧ ص ١٩٤ فما بعد.
غَادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أَوْصَالُهُ | وَالْقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ وَمُجَدَّلِ |
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٨]
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
قوله تعالى: َ- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)
"فًّا
" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يُعْرَضُونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ كَالصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، كُلُّ أُمَّةٍ وَزُمْرَةٍ صَفًّا، لَا أَنَّهُمْ صَفٌّ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: جَمِيعًا، كَقَوْلِهِ" ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «٣» " أَيْ جَمِيعًا. وَقِيلَ قِيَامًا. وَخَرَّجَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ غَيْرِ فَظِيعٍ يَا عِبَادِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ يَا عِبَادِي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أَحْضِرُوا حُجَّتَكُمْ وَيَسِّرُوا جَوَابًا فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ مُحَاسَبُونَ. يَا مَلَائِكَتِي أَقِيمُوا عِبَادِي صُفُوفًا عَلَى أَطْرَافِ أَنَامِلِ أَقْدَامِهِمْ لِلْحِسَابِ". قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَمِنْهُ نَقَلْنَاهُ وَالْحَمْدَ لِلَّهِ. َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا حُفَاةً عُرَاةً، لَا مَالَ مَعَكُمْ وَلَا وَلَدًا. وَقِيلَ فُرَادَى، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «٤» ". وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ بَعَثْنَاكُمْ كَمَا خلقناكم. َلْ زَعَمْتُمْ)
هذا خطاب لمنكري
(٢). راجع ج ٢٠ ص ١٤٧.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢١٥ فما بعد.
(٤). راجع ج ٧ ص ٤٢
[سورة الكهف (١٨): آية ٤٩]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَوُضِعَ الْكِتابُ) " الْكِتابُ" اسْمُ جِنْسٍ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا كُتُبُ الْأَعْمَالِ فِي أَيْدِي الْعِبَادِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الثَّانِي- أَنَّهُ وُضِعَ الْحِسَابُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، فَعَبَّرَ عَنِ الْحِسَابِ بِالْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْمَكْتُوبَةِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ أَوْ أَبُو الْحَكَمِ- شَكَّ نُعَيْمٌ- عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! حَدِّثْنَا مِنْ حَدِيثِ الْآخِرَةِ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رُفِعَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ إِلَّا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى عَمَلِهِ- قَالَ- ثُمَّ يُؤْتَى بِالصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ فَتُنْثَرُ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها" قَالَ الْأَسَدِيُّ: الصَّغِيرَةُ مَا دُونَ الشِّرْكِ، وَالْكَبِيرَةُ الشِّرْكُ، إِلَّا أَحْصَاهَا- قَالَ كَعْبٌ، ثُمَّ يُدْعَى الْمُؤْمِنُ فَيُعْطَى. كِتَابُهُ بِيَمِينِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِذَا حَسَنَاتُهُ بَادِيَاتٌ لِلنَّاسِ وَهُوَ يَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ لِكَيْلَا يَقُولَ كَانَتْ لِي حَسَنَاتٌ فَلَمْ تُذْكَرْ فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُرِيَهُ عَمَلَهُ كُلَّهُ حَتَّى إِذَا اسْتَنْقَصَ مَا فِي الْكِتَابِ وجد في آخر
[سورة الكهف (١٨): آية ٥٠]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٧٠.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١٧٥.
(٤). راجع ج ٥ ص ١٥٨.
حققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش
تم الجزء العاشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء تعالى الجزء الحادي عشر، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى" مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"
بسم الله الرحمن الرحيم
[تتمة تفسير سورة الكهف][سورة الكهف (١٨): الآيات ٥١ الى ٥٣]
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ، أَيْ لَمْ أُشَاوِرْهُمْ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ. وَقِيلَ: مَا أَشْهَدْتُ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ خلق السموات وَالْأَرْضِ" وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ" أَيْ أَنْفُسِ الْمُشْرِكِينَ فَكَيْفَ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي؟. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ:" مَا أَشْهَدْتُهُمْ" تَرْجِعُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الْآيَةُ الرَّدَّ عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالْمُتَحَكِّمِينَ مِنَ الْأَطِبَّاءِ وَسِوَاهُمْ مِنْ كُلِّ من يتخوض «١» فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمِعْتُ أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ الْفَقِيهَ أبا عبد الله محمد «٢» بن معاذ المهدوي بِالْمَهْدِيَّةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْحَقِّ الصِّقِلِّيَّ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَتَأَوَّلُ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا رَادَّةٌ عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ. وَذَكَرَ هَذَا بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَقُولُ: إِنَّ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ أَوَّلًا بِالْآيَةِ هُمْ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَتَّجِهُ الرَّدُّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَى الْكُهَّانِ وَالْعَرَبِ وَالْمُعَظِّمِينَ لِلْجِنِّ، حِينَ يَقُولُونَ: أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي، إِذِ الْجَمِيعُ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ مُتَعَلِّقُونَ بِإِبْلِيسِ وَذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ أَضَلُّوا الْجَمِيعَ، فَهُمُ الْمُرَادُ الْأَوَّلُ بِالْمُضِلِّينَ، وَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الطَّوَائِفُ فِي مَعْنَاهُمْ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ" مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" رَدٌّ عَلَى الْمُنَجِّمِينَ أَنْ قَالُوا: إِنَّ الْأَفْلَاكَ تُحْدِثُ فِي الْأَرْضِ وَفِي بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ:" وَالْأَرْضِ" رَدٌّ عَلَى أَصْحَابِ الْهَنْدَسَةِ حيث قالوا:
(٢). في ك: أبا عبد الله بن عبد الله.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٣٣.
وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ | يَصُنْ عِرْضَهُ مِنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مُوبِقِ |
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ
(٢). الزيادة من ك و (إعراب القرآن) للنحاس.
(٣). هو دريد بن الصمة، وتمام البيت:
سراتهم في الفارسي المسرد
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
(٢). الزيادة من تفسير (البحر المحيط).
(٢). من ج.
أَبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الْوَفَاءَ فَهِبْتَهُ | وَحِدْتَ كما حاد البعير عن الدحض |
(٢). هذه قراءة (نافع) التي كان يقرأ بها المفسر رحمه الله تعالى.
(٣). في ك: كأنه.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٥٨. [..... ]
(٥). تحل: تقع ويؤذن فيها وهو (بكسر الحاء) وقيل: (بضمها). النووي.
(٢). راجع ص ٢٦٩ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٨٢.
(٤). راجع ج ١٩ ص ٨٠.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٢٧١.
(٦). راجع ج ٥ ص ٢٤٥.
(٧). راجع ج ٧ ص ١١.
(٨). راجع ج ٩ ص ٣٢٨.
لَا وَأَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَهَا | لِلْعَامِرِيَّيْنِ وَلَمْ تُكْلَمِ |
وَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ الْبَيْتِ غَفْلَتَهُ | وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ |
[سورة الكهف (١٨): آية ٦٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠)
(٢). هذه قراءة الجمهور كما في البحر وغيره.
(٣). من ك.
(٤). من ك.
(٥). ضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها وأتت الناقة على مضربها: أي على الزمن والوقت الذي ضربها الفحل فيه جعلوا الزمان كالمكان. [..... ]
وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللَّهُ قَوْمِي | بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقًا مُجِيدَا |
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٧٠ فما بعد.
(٣). هو خداش بن زهير يقول: لا أزال أجنب فرسي جوادا ويقال: إنه أراد قولا يستجاد في الثناء على قومي وفي (اللسان): (على الاعداء) يدل (بحمد الله).
(٤). الكر والرس: نهران.
(٥). في ج وك: إنما رسم له بحرتا.
(٢). الزيادة من كتب التفسير.
(٣). في ج وك: فكيف.
(٤). في البحر: الحقب السنون.
(٢). راجع ج ٩ ص ١٩٤ وص ١٧٦ وص ٢٢٢.
(٣). راجع ج ٩ ص ١٩٤ وص ١٧٦ وص ٢٢٢.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٦١ الى ٦٥]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:" بَيْنِهِما" لِلْبَحْرَيْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. والسرب المسلك، قاله مجاهد [أيضا] «١». وَقَالَ قَتَادَةُ: جَمَدَ الْمَاءُ فَصَارَ كَالسَّرَبِ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْحُوتَ بَقِيَ مَوْضِعُ سُلُوكِهِ فَارِغًا، وَأَنَّ مُوسَى مَشَى عَلَيْهِ مُتَّبِعًا لِلْحُوتِ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ الطَّرِيقُ إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَفِيهَا وَجَدَ الْخَضِرَ. وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ وَالْكِتَابِ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَدَ الْخَضِرَ فِي ضِفَّةِ الْبَحْرِ وَقَوْلُهُ:" نَسِيا حُوتَهُما" وَإِنَّمَا كَانَ النِّسْيَانُ مِنَ الْفَتَى وَحْدَهُ فَقِيلَ: الْمَعْنَى، نَسِيَ أَنْ يُعْلِمَ مُوسَى بِمَا رَأَى مِنْ حَالِهِ فَنَسَبَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِمَا لِلصُّحْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ" «٢» [الرحمن: ٢٢] وإنما يخرج من الملح، وقوله:"امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ١٣٠
" «٣» وَإِنَّمَا الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ لَا مِنَ الْجِنِّ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: فَقَالَ لِفَتَاهُ لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ: مَا كَلَّفْتَ كبيرا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ٦٠" يُوشَعَ بْنِ نُونٍ- لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدٍ «٤» - قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ «٥» إِذْ تَضَرَّبَ «٦» الْحُوتُ وَمُوسَى نَائِمٌ
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٦١. [..... ]
(٣). راجع ج ٧ ص ٨٥.
(٤). أي قال ابن جريج- هو أحد رواة الحديث- ليست تسمية الفتى عن سعيد بن جبير. (قسطلاني).
(٥). ثريان: يقال مكان ثريان وأرض ثريا إذا كان في ترابهما بلل وندى.
(٦). تضرب: اضطرب وتحرك إذ حيي في المكمل.
(٢). من ج وك وى.
(٣). الطاق: عقد البناء.
(٤). الأغمار جمع غمر (بالضم): وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور.
(٥). راجع ج ٢ ص ٤١١ فما بعد.
(٢). سقط من ك وى: ليست.
(٢). في الأصول: (نبغي) بالياء وهي قراءة (نافع).
(٣). في ك: لما مر الحوت وفقده. [..... ]
(٤). الذي في كتاب (العرائس) للثعلبي. (فقال أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قَالَ يَا مُوسَى لَقَدْ كَانَ لَكَ فِي بني إسرائيل شغل... إلخ) ولعل ما هنا زيادة في بعض النسخ.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٦٦ الى ٧٠]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
(٢). راجع ج ٦ ص ٣٦٥.
(٣). راجع ج ١٤ ص ١٨٥.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٧١ الى ٧٣]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) [فِيهِ مَسْأَلَتَانِ] الْأُولَى- فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ: (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يُفْجَأْ [موسى «١»] إلا والخضر قد قلع لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُّومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا" لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا) قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فوقع على حرف السفينة فنقر نقر فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورِ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. قَالَ علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شي طَرَفُهُ، [وَمِنْهُ حَرْفُ الْجَبَلِ «٢»] وَهُوَ أَعْلَاهُ الْمُحَدَّدُ. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال:
(٢). الزيادة من كتب اللغة.
قَدْ لَقِيَ الْأَقْرَانُ مِنِّي نُكْرَا | دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرًا |
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٥٢.
(٣). الزيادة من كتب اللغة.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ،" قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ" لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ «١»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَصَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ: ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرَ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى:" أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً" قَالَ «٢» وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى." قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي (التَّفْسِيرِ): إِنَّ الْخَضِرَ مَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ «٣» غُلَامًا لَيْسَ فِيهِمْ أَضْوَأُ مِنْهُ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ، فَقَتَلَهُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ يَرَهُ إِلَّا مُوسَى، وَلَوْ رَأَوْهُ لَحَالُوا بَيْنَهُ وبين الغلام.
(٢). هو سفيان بن عيينة كما في القسطلاني. وقيل: كانت هذه أشد من الاولى لما فيها من زيادة (لك).
(٣). في ك وى: بيد غلام.
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا | غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا |
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي | غُلَامٌ إِذَا هوجيت لست بشاعر |
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة | تتبع أقصى دائها فشفاها |
(٢). في ك وى: التلوم. ولعله الأشبه.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٧٧ الى ٧٨]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
(٢). في ج وك وى: ترك الحرمة.
(٢). في ك: متبعا.
(٣). في ك: والقوة.
(٤). في ك: للجهال من المتصوفة.
وَإِنْ رُدِدْتُ فَمَا فِي الرَّدِّ مَنْقَصَةٌ | عَلَيْكَ قَدْ رُدَّ مُوسَى قَبْلُ وَالْخَضِرُ |
(٢). هو صاحب المقامات المشهورة والبيت الذي لمح فيه إلى الآية من مقامته (الصعدية)، في ك: تسخف.
(٣). الكدية: تكفف الناس.
(٤). الحديث في مخاصمة الزبير لرجل من الأنصار في سيول شريج الحرة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" أراد ما دفع حول المزرعة كالجدار.
أَتَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ «١» | كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفُتُلُ |
يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاءٍ | وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِي عَقِيلِ |
إِنَّ دَهْرًا يُلِفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ | لَزَمَانِ يَهُمُّ بِالْإِحْسَانِ |
فِي مَهْمَهٍ فلقت به هاماتها | فلق الفئوس إِذَا أَرَدْنَ نُصُولًا |
لَوْ أَنَّ اللُّؤْمَ يُنْسَبُ كَانَ عَبْدًا | قَبِيحَ الْوَجْهِ أَعْوَرَ مِنْ ثَقِيفِ |
فَازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ الْقَنَا بِلَبَانِهِ | وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ |
لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى
وَهَذَا فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: إِنَّ دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلَانٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا). وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى مَنْعِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُمْ أَبُو إسحاق الاسفرايني وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَلَامَ رَسُولِهِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بِذِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ، لِأَنَّهُ يَقُصُّ الْحَقَّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ أَنْ قَالُوا: لَوْ خَاطَبْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَجَازِ لَزِمَ وَصْفُهُ بأنه متجوز
(٢). أي عنترة وتمام البيت:
ولكان لو علم الكلام مكلمي
[..... ]
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٨.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٦.
(٤). راجع ج ١٨ ص ٢٨٦ فما بعد.
(٥). ليعذر: بالبناء للفاعل من الاعذار والمعنى: ليزيل الله عذره من قبل نفسه.
(٦). الزيادة من صحيح الترمذي.
(٧). زيادة يقتضيها السباق. وفي الأصول: (أدخل قرآنا... إلخ).
أَلْوَى «٢» بِهَا شَذْبُ الْعُرُوقِ مُشَذَّبٌ | فَكَأَنَّمَا وَكَنَتْ عَلَى طِرْبَالِ |
(٢). ألوى: ذهب بها حيث أراد. شذب العروق: ظاهر العروق لقلة اللحم، من قولهم: رجل مشذب أي خفيف قليل اللحم.
(٢). في الأصول: (دانيال) وهو تحريف.
(٣). من ج وك وى.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٣٥٧.
(٥). في ك وى: أن يعرفه. [..... ]
(٢). وقيل: أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي
(٣). قال القسطلاني: هذا وهم، وإنما هو خال عاصم لان أم عاصم جميلة بنت ثابت
(٤). فدفد: رابية مشرفة
(٥). الرجل الآخر هو عبد الله بن طارق
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا | عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي |
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ | يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ |
(٢). من ج وى.
(٣). في ك: لطولتهما.
(٤). الدبر: الزنابير أو ذكور النحل.
(٥). في ج وى: الشهيد.
(٦). القحف: الجمجمة.
(٢). حرة: أرض ذات حجارة سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله.
(٣). المسحاة: المجرفة من الحديد. [..... ]
(٤). راجع ج ١٣ ص ٢٦٧.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
(٢). من ج وك وى: أي على شرف هلاك أو خوف. في ط الاولى قلة وليست بصواب.
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي | وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا |
(٢). الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
(٣). راجع ج ١٦ ص ١٥٩.
(٤). من ج وك وى.
(٥). هو سوار بن المضرب.
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٩ وص ١٣٧.
(٣). من ج وك وى.
(٤). الزيادة من صحيح البخاري.
وَكَيْفَ بِظُلْمِ جَارِيَةٍ | وَمِنْهَا اللِّينُ وَالرُّحُمُ |
يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلَى إِدْرِيسَا | وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبليسا |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤. [..... ]
(٣). القرية هي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى أكلها القرى ما يفتح على أيدي أهلها من المدن ويصيبون من غنائمها.
(٤). راجع ج ٨ ص ١٢٣.
(٥). دنية: لحا وهو الأب الأقرب.
(٦). في روح المعاني: دهنا.
(٧). في ى: النحاس.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٤٢.
(٣). في ج وك: سفينته.
(٤). راجع ج ١٣ ص ١١٠.
(٢). راجع ج ٤ ص ٥٥.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٣٤ فما بعد.
(٤). كذا في الأصول وهو واضح.
(٥). في ج وك وى: رسالاته. [..... ]
(٢). هذه قراءة نافع التي كان يقرأ بها المفسر. راجع ج ٧ ص ٧٩.
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٠.
(٤). من ج وك وى.
(٥). من ج وك وى.
(٦). من ج وك وى.
(٧). من ج وك وى.
(٨). الحديث كما في الأصول تصحيحه بما يأتي بعد.
(٢). من ج وى.
(٣). منفوسة: مولودة.
(٤). في ج وى: بعض العمر.
(٥). الجساسة: دابة الأرض التي تخرج آخر الزمان وسميت جساسة لتجسسها الاخبار للدجال.
(٢). الزيادة والتصويب من (عقد الجمان) للعينى نقلا عن الثعلبي. وفي ج وك وى: روى محمد بن المتوكل عن ضمرة عن عبد الله بن سوار".
(٣). في ج وك وى: يقال
(٤). كذا في اوك وفي ج: يوقفه
(٥). راجع ج ١٥ ص ١١٥.
(٢). في ج: عرف اسمه.
(٣). في ك: إلى نفسه.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٨٣ الى ٩١]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
قوله تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُ، فَمُدَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ حَتَّى انْتَهَى مِنَ الْبِلَادِ إِلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، لَا يَطَأُ أَرْضًا إِلَّا سُلِّطَ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى انْتَهَى مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى مَا ليس وراءه شي مِنَ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنِ الْأَعَاجِمِ فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ [رجلا «١»] من أهل مصر اسمه مرزبان ابن مَرْدُبَةَ الْيُونَانِيُّ مِنْ وَلَدِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ
(٢). في ج: عفوا.
(٣). كذا في الأصول وفي قصص الأنبياء الثعلبي (رفائيل) وفي الدر المنثور (زرافيل).
(٤). الساهرة: أرض يجددها الله يوم القيامة.
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا | شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ |
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٨٩. [..... ]
(٢). راجع ج ١٥ ص ٦٤.
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ قَبْلِي مُسْلِمًا | مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَسْجُدْ |
بَلَغَ الْمَغَارِبَ وَالْمَشَارِقَ يَبْتَغِي | أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدْ |
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا | فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدْ «٣» |
(٢). من ك.
(٣). حرمد (بالفتح والكسر) كجعفر وزبرج.
(٢). في ك: هود. ولعله خطأ من الناسخ.
أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أَيْ شَدِيدًا فِي جهنم. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي تاب من الكفر: (وَعَمِلَ صالِحاً) قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: (إِنَّ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ فِي (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قَالَ: وَلَوْ رَفَعْتَ كَانَ صَوَابًا بِمَعْنَى فَإِمَّا هُوَ، كَمَا قَالَ:
فَسِيرَا فَإِمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا | وَإِمَّا مُقِيلٌ صَالِحٌ وَصَدِيقُ |
أَوْ بِالِاسْتِقْرَارِ. وَ" الْحُسْنى " فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ وَيُحْذَفُ التَّنْوِينُ لِلْإِضَافَةِ، أَيْ لَهُ جَزَاءُ الْحُسْنَى عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَأَضَافَ الْجَزَاءَ إِلَى الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ:
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٢٥ فما بعد.
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٠٠
(٣). كذا في ك وى.
(٤). في ك: إنهم.
(٥). في ج: جابرلقا. جابرسا. [..... ]
(٦). كذا في الأصول. وتقدم تأويل. ولعل هذا تحريف من النساخ.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٩٢ الى ٩٨]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦)فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
قَوْلُهُ تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) وَهُمَا جَبَلَانِ مِنْ قِبَلِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ. رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" بَيْنَ السَّدَّيْنِ" الْجَبَلَيْنِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أَيْ مِنْ وَرَائِهِمَا: (قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا). وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" يُفْقِهُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ مِنْ أَفْقَهَ إِذَا أَبَانَ أَيْ لَا يُفْقِهُونَ غَيْرَهُمْ كَلَامًا. الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ، أَيْ يَعْلَمُونَ. وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ، فَلَا هُمْ يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم. قوله تعالى: (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أَيْ قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الْإِنْسِ صَالِحَةٍ: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قَالَ الْأَخْفَشُ: مَنْ هَمَزَ" يَأْجُوجَ" فَجَعَلَ الْأَلِفَيْنِ مِنَ الْأَصْلِ يَقُولُ: يَأْجُوجَ يَفْعُولَ وَمَأْجُوجَ مَفْعُولَ كَأَنَّهُ مِنْ أَجِيجِ النَّارِ. قَالَ: وَمَنْ لَا يَهْمِزُ وَيَجْعَلُ الْأَلِفَيْنِ زَائِدَتَيْنِ يَقُولُ:" يَاجُوجَ" مِنْ يَجَجْتُ وَمَاجُوجَ مِنْ مَجَجْتَ وَهُمَا غَيْرُ مَصْرُوفَيْنِ، قَالَ رُؤْبَةُ:
لَوْ أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مَعًا | وَعَادَ عَادٌ وَاسْتَجَاشُوا تُبَّعَا |
كِلَا الصَّدَفَيْنِ يَنْفُذُهُ سَنَاهَا | تَوَقَّدُ مِثْلَ مِصْبَاحِ الظَّلَامِ |
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ | فَقَدْ تركتك ذا مال وذا نشب |
(
هَلْ غَيْرُ غَادٍ دَكَّ غَارًا فَانْهَدَمْ
(٢). وقال النحاس: لا يقدر أحد أن يتعلق بها، لان السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة، وقال سيبويه: هذا محال.
(٣). راجع ٢٠ ص ٥٤.
[سورة الكهف (١٨): الآيات ٩٩ الى ١١٠]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
(٢). في ك وى: من صدر الآية.
(٣). في ج: بفتح الباء.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٣٤.
(٣). راجع ج ٧ ص ١٩١ فما بعد وص ١٦٥.
(٤). راجع ج ٧ ص ١٩١ فما بعد وص ١٦٥. [..... ]
(٥). حمش الساق: دقيقها.
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً | فِيهَا الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ |
وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يَزِينُهُ | مَعَ الْجِيدِ لَبَّاتٌ لَهَا وَمَعَاصِمُ |
" «١» [فصلت: ٣١] و" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" «٢» [الحجر: ٩] " وإنا لنحن نحيي ونميت" «٣» [الحجر: ٢٣] وكذلك" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ١٢٠" «٤» [النحل: ١٢٠] لِأَنَّهُ نَابَ مَنَابَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: أَيْ مَا نَفِدَتِ الْعِبَارَاتُ وَالدَّلَالَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَفْهُومَاتِ مَعَانِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ إِنْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ صِفَاتُ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ ثَوَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ:" وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ" «٥» [لقمان: ٢٧]. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) ١١٠ أَيْ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا يُعَلِّمُنِي اللَّهُ تَعَالَى، وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُحْصَى، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ١١٠ أَيْ يَرْجُو رُؤْيَتَهُ وَثَوَابَهُ وَيَخْشَى عِقَابَهُ (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ١١٠ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأُرِيدُ به وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت
(٢). راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(٥). راجع ج ١٣ ص ٧٦.
(٢). راجع ج ٥ ص ١٨٠ فما بعد.
(٣). من ج وك وى.
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٣٢.
(٣). في ك: قال.
(
تَفْسِيرُ سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَهِيَ تِسْعُونَ وَثَمَانِ آيَاتٍ وَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَقَتَلَ اللَّهُ فِيهَا صَنَادِيدَ الْكُفَّارِ، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ، فَبَعَثَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وعبد الله ابن أَبِي رَبِيعَةَ، فَسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْثِهِمَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
سورة الكهف
سورةُ (الكهف) من السُّوَر المكية العظيمة التي اهتمت بالعقيدةِ، والاعتصامِ بحبل الله المتين، وأنْ لا ملجأَ من اللهِ إلا إليه، وقد أصَّلتِ السورةُ لفكرة التمسك بالعقيدة والتوحيد من خلالِ ضربِ الأمثلة، وقَصِّ القَصص، واشتملت السورةُ على أربعِ قِصَصٍ: قصةِ (فِتْيةِ الكهف)، وقصةِ (صاحب الجنَّتَينِ)، وقصةِ (موسى والخَضِرِ عليهما السلام)، وقصةِ (ذي القَرْنَينِ)، وتدعو كلُّ هذه القِصص إلى الاعتصام بالكتاب والسُّنة وأمرِ الله عز وجل، وقد احتوت السورةُ على الكثير من العِبَر والعظات، وحاجةُ المسلم إليها في زمن الفِتَن كبيرة؛ لتُثبِّتَه على هذا الدِّين وتُصبِّرَه، وقد ثبَت فضلُها وفضل قراءتها في كلِّ جمعة، وكذا فإن مَن حَفِظ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ منها عُصِم من فتنة الدَّجَّال؛ كما صح في الخبر.
ترتيبها المصحفي
18نوعها
مكيةألفاظها
1584ترتيب نزولها
69العد المدني الأول
105العد المدني الأخير
105العد البصري
111العد الكوفي
110العد الشامي
106* سورةُ (الكهف):
سُمِّيتْ سورةُ (الكهف) بذلك؛ لاحتوائها على قصَّةِ (أصحاب الكهف)، وهي أبرَزُ ما ورَد في هذه السورة.
مما جاء في فضلِ سورة (الكهف):
* نزولُ الملائكةِ مستمِعةً لها:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «قرَأَ رجُلٌ الكهفَ وفي الدَّارِ الدَّابَّةُ، فجعَلتْ تَنفِرُ، فسلَّمَ، فإذا ضَبابةٌ أو سحابةٌ غَشِيَتْهُ، فذكَرَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «اقرَأْ فلانُ؛ فإنَّها السَّكينةُ نزَلتْ للقرآنِ، أو تنزَّلتْ للقرآنِ»». أخرجه البخاري (3614)، ومسلم (795).
* مَن حَفِظ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ منها عُصِم من فتنة الدَّجَّال:
عن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: «ذكَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذاتَ غَداةٍ، فخفَّضَ فيه ورفَّعَ، حتى ظنَنَّاه في طائفةِ النَّخلِ، فلمَّا رُحْنا إليه عرَفَ ذلك فينا، فقال: ما شأنُكم؟ قُلْنا: يا رسولَ اللهِ، ذكَرْتَ الدَّجَّالَ غَداةً، فخفَّضْتَ فيه ورفَّعْتَ، حتى ظنَنَّاه في طائفةِ النَّخلِ، فقال: غيرُ الدَّجَّالِ أخوَفُني عليكم، إن يخرُجْ وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دُونَكم، وإن يخرُجْ ولستُ فيكم فامرؤٌ حَجِيجُ نفسِه، واللهُ خليفتي على كلِّ مسلِمٍ، إنَّه شابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُه طافئةٌ، كأنِّي أُشبِّهُه بعبدِ العُزَّى بنِ قَطَنٍ، فمَن أدرَكَه منكم فَلْيَقرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ ...». أخرجه مسلم (٢٩٣٧).
وقريبٌ منه ما صحَّ عن أبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سورةِ الكهفِ، عُصِمَ مِن الدَّجَّالِ». أخرجه مسلم (٨٠٩).
* مَن قرَأها يوم الجمعة أضاءت له ما بين الجمعتَينِ:
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَن قرَأَ سورةَ الكهفِ يومَ الجُمُعةِ، أضاءَ له مِن النُّورِ ما بين الجُمُعتَينِ». أخرجه البيهقي (6209).
جاءت موضوعاتُ سورة (الكهف) على الترتيب الآتي:
1. الحمد الله /التبشير والإنذار (١-٨).
2. قصة أصحاب الكهف (٩-٣١).
3. قصة صاحب الجنَّتَينِ (٣٢-٤٤).
4. تعقيب على صاحب القصة (٣٢-٤٤).
5. من مشاهد يوم القيامة (٤٥-٤٩).
6. فتنة إبليس (٥٠-٥٣).
7. الاعتصام بالكتاب والسُّنة (٥٤-٥٩).
8. رحلة موسى والخَضِر (٦٠-٨٢).
9. قصة ذي القَرْنَينِ (٨٣-٩٨).
10. جزاءُ مَن غَرِق في الفِتَن ومَن نجا منها (٩٩-١١٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /289).
افتُتِحت السورة بمقصدٍ عظيم؛ وهو وصفُ الكتاب بأنه قيِّمٌ؛ لكونه زاجرًا عن الشريك الذي هو خلافُ ما قام عليه الدليلُ في سورةِ (سُبْحانَ).
ومِن المقاصد العظيمة لهذه السورةِ: الاعتصامُ بحبلِ الله المتين، وبالاعتقادِ الصحيح في زمنِ الفتن؛ وقد وصَّلتِ السورةُ هذا المقصدَ عن طريقِ قَصِّ مجموعةٍ من القِصَص، على رأسها قصةُ (فتية الكهف).
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /243).