ﰡ
مدنية، وآياتها أربع وعشرون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) سبق الكلام عليه.(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ... (٢) لا أنتم.
المراد بنو النضير. وذلك أن رسول اللَّه - ﷺ - لما جاء إلى المدينة، ودعاهم إلى الإيمان وأبوا، عاهدهم أن لا يكونوا لا له ولا عليه، حتى قَتَلَ عمرو بن أمية رجلَيْن من بني عامر خطأ،
فالعدول إلى المنزل؛ لما في تقديم الخبر ثم إسناد الجملة إلى الضمير من الدلالة على أن ظنهم قارب اليقين، لا كظن المؤمنين. (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي: بأسه. ولم يكن ذلك في حسابهم؛ لاعتمادهم على شدة بأسهم، وحصانة حصونهم. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف الذي يملأ الصدر. وأكده بلفظ القذف الدال على القوة.
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) عن قتادة: كانوا يخربونها ليصلحوا به ما انهدم من السور. أو كانوا ييفعلون ذلك لئلا يبقى للمسلمين جنَّة. (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم تسببوا لذلك.
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ولا تخالفوا أمر اللَّه ورسوله؛ أولا تعتمدوا على قواكم، واتكلوا
(وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ... (٣) الذي هو أشق. (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالقتل وسبي الذراري كما فعل ببني قريظة. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) الذي القتل والجلاء عنده أهون شيء.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٤) أي: ذلك الغضب الذي أورثهم عذاب الدارين لأجل أنهم عادوا رسول اللَّه وكذبوه. وذكراللَّه تعالى؛ للدلالة على أن مشاقة رسوله مشاقته، ولذلك اكتفى به في قوله: (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفيه تهديد لغيرهم.
وهانَ عَلى سَراةِ بَني لُؤَي | حريقٌ بِالبُوَيرَةِ مستَطيرُ |
(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى... (٧) لم يدخل العاطف؛ لأنه بيان الأول شامل لمال بني النضير، ولسائر أموال الفيء إلى يوم القيامة. (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) هذه مصارف مال الفيء وهي مصارف خمس الغنيمة.
فلما قطع عنه مطامح أنظار أهل الغزو، أمره أن يضعها هذه المواضع، فكان رسول اللَّه - ﷺ - يأخذ من ذلك قوت سنته وأهله، ثم يصرف الباقي في هذه المصارف. وكذلك فعلت الخلفاء مع أمهات المؤمنين. وذكر اللَّه؛ للتعظيم. وقيل: يصرف سهمه في عمارة الكعبة شرفها اللَّه، ولسائر المساجد. وذهب الشافعى إلى أن المصروف في هذه المصارف في زمانه كان أربعة أخماس الخمس، وأما الأخماس الأربعة مضافاً إليها خمس الخمس، كانت خالصة رسول اللَّه يأخذ منه نفقة أهله، ويَصرف الباقي إلى الكِراع والسلاح، وهي الآن تصرف
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ... (٨) بدل من ذوي القربى بإعادة الجار لا من الرسول وما عطف عليه، لخروجه عنهم بقوله: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ولكونه أجلّ من أن يطلق عليه اسم الفقير، ولأن المبدل في حكم السقوط وذلك مخلّ بتعظيم الله؛ لأن الاسم الأعظم وإن كان مذكوراً توطئة وتمهيداً إلا أنه لا يليق أن يقال أنه في حكم السقوط. ألا يُرى أنه لا يقال له علامة لمكان التاء؟ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) استولى عليها المشركون.
(يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) الجنة. (وَرِضْوَانًا) ورضاه. حال مقيدة. (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) دينهما، (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دعوى الإيمان؛ لتنور دعواهم بالبرهان.
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ... (٩) هم الأنصار عطف على المهاجريين. أي: دار الهجرة ودار الإيمان. فاللام في الأول يغني غناء الإضافة وحذف المضاف من الثاني.
أو أخلصوا الإيمان كقوله:
عَلَفتُها تِبناً وَماءً بارِداً
وإطلاق بها الدار حينئذ؛ للتنويه كأنها الدار التي يحق لها أن تسمى داراً. (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرة المهاجرين. وقيل: سبقوا المهاجرين بالتبوء والإيمان. إذ سبق الأنصار بالإيمان على كل من هاجر غير مسلم. ولا يستقيم إلا بتقدير الإضافة. (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) ولا يعدونه كَلًّا. قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف - وكان رسول اللَّه - ﷺ - آخى بينهما كما آخى بين المهاجرين والأنصار -: أشاطرك مالي، وانظر أيّ زوجيَّ أعجبتك، أطلقها فتزوجها. (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) مما أعطي المهاجرون. وذلك أن
(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ... (١٠) أي: من بعد الفريقين، وهم الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. وقيل: الذين هاجروا بعد السابقين الأولين. وفيه أنه لا يستوعب مستحق الفيء. ويرده قوله: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)؛ لأن اللاحق هجرة يجوز أن يكون أسبق إيماناً، (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) غشاً وحقداً. من الغلل: وهو الماء بين الأشجار. وعن مالك: أن سابَّ السلف، لا يستحق من الفيء شيئاً، لعدم اتصافه بما في الآية. (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) حقيق بإجابة دعائنا.
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ... (١٢) فرضاً وتقديراً (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) انهزاماً (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) أي: المنافقون بل يقتلون لظهور نفاقهم. وقيل: الضمير لليهود، وليس بوجه؛ لأن سوق الكلام لذم المنافقين.
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ... (١٣) أي: مرهوبية، والمعنى: يخافونكم في السر أكثر من تخوفهم من اللَّه. أو من إظهارهم الخوف من اللَّه لكم إذ لم يكن لهم خوف من اللَّه. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) عظمة اللَّه، ليعلموا أنه الحقيق بأن يخاف.
(لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا... (١٤) المنافقون واليهود (إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ)، لضعف قلوبهم، واستيلاء الجبن عليها، (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) جمع جدار. كحمر وحمار. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو جدار مفرداً؛ لقصد الجنس، أو إرادة السور الجامع. والجمع أظهر وأوفق بالقرى (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) إذا تقاتلوا، وأما إذا حاربوا اللَّه ورسوله " أجبن من صافر "
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... (١٥) أي: مثل اليهود في محاربة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كمثل المشركين يوم بدر. وعن ابن عباس: بنو قينقاع أجلاهم رسول اللَّه قبل هؤلاء (قَرِيبًا) أي: في زمان قريب. وانتصابه على الحال أي: وجد مثل هؤلاء مثل وجود مثل أولئك قريباً لم ينطمس بعد أثره، فكان لهم عبرة فيهم. (ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) بيان للمشبه به يقرره، وفيه زيادة تجهيل لليهود. الوبال: سوء العاقبة، من قولهم: مرعى وبيل أي:
وخيم. (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (كَمَثَلِ الشَيْطَانِ | (١٦) لما مثّل حال اليهود بحال أهل بدر مثّل المنافقين بحال الشيطان يوم بدر، جاءهم في صورة سراقة سيد |