قال تعالى
«إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» من حيث لم يروه ولم يشاهدوا عذابه وآمنوا بما أخبرهم رسله
«لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم عنده جزاء إيمانهم به وبما جاء في كتابه وذكرته رسله من غير معاينة
«وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» ١٢ على ذلك وعلى أعمالهم الصالحة التي دعموا بها إيمانهم. وبعد أن ذكر جل ذكره ما للفريقين في الآخرة التفت إلى المشركين الذين كانوا ينالون من حضرة الرسول فأنزل فيهم قوله العظيم
«وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ» أيها الكفرة في حق الرسول
«أَوِ اجْهَرُوا بِهِ» فهو على حد سواء عند الله
«إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» ١٣ ودخائلها وما خبىء فيها مما حدث أو سيحدث، ثم أكد قوله بقوله
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» الخلق ما يقوله خلقه، وهذا استفهام إنكاري ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى الواقع من قبل خلقه، أي ألا يعلم ذلك من أوجد جميع الموجودات بحكمته التي هم من جملتها؟ بلى يعلم بكل ما يقع في ملكه
«وَهُوَ» أي ذلك البليغ علمه هو
«اللَّطِيفُ» العالم بدقائق الأشياء
«الْخَبِيرُ» ١٤ بحقائقها. ثم طفق يعدد نعمه على عباده بقوله عز قوله
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا» بحيث سهلها وجعلها صالحة لا يمتنع المشي عليها بأن يسّر وعرها وحزنها وغليظها وأوديتها وجبالها
«فَامْشُوا فِي مَناكِبِها» في جوانبها وفجاجها لبرزق والنزهة والزيارة
«وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» المخلوق لكم فيها أيها الناس في هذه الدنيا
«وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» ١٥ في الآخرة من القبور إلى المحشر. ثم طفق يخوف الكفرة بقوله عز قوله
«أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ» خاطبهم جل خط به بحسب اعتقادهم لأنهم من المشبهة أو من أشباههم إذ يعتقدون أنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، تعالى الله عن المكان
«أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بقارون وغيره
«فَإِذا هِيَ تَمُورُ» ١٦ تضطرب من شدة حركتها من أثر الخسف المسائل
«أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» ريحا شديدة قاصفة ذات حجارة يرجمكم فيها كما فعل بقوم لوط وغيرهم
«فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» ١٧ إذا عاينتم العذاب وإذا علمتم أن لا أمان لكم من أحد فلماذا تتمادون على الكفر
«وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل قومك يا محمد
396
وهم الأمم السابقة أنبياءهم
«فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» ١٨ عليهم بإنزال العذاب على غاية من الهول والفظاعة، أي هل وجدوا إنذاري الذي أنذروا به على لسان رسلي في الأمر والنهي ونكيري على منكري البعث والجزاء حقا أم لا؟ بل وجدوه حقا، وقرىء بالياء فيهما وبحذفها اكتفاء بالكسرة. قال تعالى
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ» أجنحتها باسطتها في الهواء في جو السماء
«وَيَقْبِضْنَ» أجنحتها إذا ضربن بها جنوبهن
«ما يُمْسِكُهُنَّ» حالتي البسط والقبض من الوقوع في الأرض
«إِلَّا الرَّحْمنُ» الذي شملت رحمته كل شيء
«إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» ١٩ يعلم كيف خلق وكيف دبر خلقه، راجع الآية ٧٩ من سورة النحل المارة، وهذه الآية والتي بعدها تنبيه على قدرة الله تعالى على الخسف وإرسال الخاصب الذي خوفهم به في الآيتين المتقدمتين
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ» إن أراد بكم إيقاع العذاب؟ الجواب لا أحد
«إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» ٢٠ مما ينفخ الشيطان في صدورهم ويمنيّهم بأن لا عذاب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ» الله
«رِزْقَهُ» عليكم؟ كلا، لا أحد أبدا، وتراهم عند الإمساك يتركون أوثانهم ويرجعون إلى ربهم
«بَلْ لَجُّوا» ضجوا وتمادوا بالغي والعناد فلم يتأثروا ولم يرتدعوا بل صاحوا وظلوا
«فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» ٢١ في نبو عن الحق وشراد وتباعد عنه. قال تعالى
«أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى» له وأولى
«أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٢٢ وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن الذي كان مطاطئا رأسه في الضلالة والجهالة، والمؤمن الرافع رأسه في الهدى والرشد
«قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ٢٣ الله على هذه الجوارح التي لولاها لكنتم مثل البهائم وقد ضيعتم نعمتها بصرفها لغير ما خلقت لها فحرمتم من الثواب المقدر لذلك
«قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» خلقكم وبثكم فيها في الدنيا لتفكروا بآلاء الله
«وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ٢٤ في الآخرة لتحاسبوا وتكافؤا على أعمالكم الخير بأحسن منه والشر بمثله، وتراهم يا سيد الرسل معرضين عن كل ذلك
«وَيَقُولُونَ»
397
لك
«مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به وتهددنا فيه أنت وأصحابك
«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ٢٥ أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على أعمالنا ونثاب أو نعاقب.
مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة:
«قُلْ» لهم يا سيد الرسل
«إِنَّمَا الْعِلْمُ» بوقته ونوعه
«عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ٢٦ فقط لا أعلم ما هو ومتى يأتيكم، وما علي إلا أن أبلغكم ما أتلقاه من ربي وأخوفكم نزوله، لأنه من الغيب ولا يعلمه إلا الله
«فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً» قريبا منهم في الدنيا أو في الآخرة، وقد جاء بالماضي مع أنه مستقبل لتحقق وقوعه
«سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» وعلتها الكآبة وغشيتها الفترة وعمّتها الغبرة حين رؤيته
«وَقِيلَ» لهم من قبل ملائكة الموت في الدنيا وفي الآخرة من قبل الخزنة الموكلين بالعذاب أو من قبل الملائكة الموكلين بتدبير الأرض أو الملائكة الموكلين بإنزال العذاب من السماء على أهل الأرض
«هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ» من قبل في الدنيا
«تَدَّعُونَ» ٢٧ وقوعه وتطلبون نزوله وتتمنون قربه وتسألون تعجيله وهو الذي كنتم تدعون كذبه وتكذبون من أنذركم به
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الكفرة
«أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ» من المؤمنين
«أَوْ رَحِمَنا» بتأخير آجالنا لأننا ننتظر إحدى الحسنيين البقاء مع النصر عليكم والظفر بكم أو الموت ودخول الجنة، لأن الله يأخذ بيد المؤمنين ويجيرهم
«فَمَنْ «يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» ٢٨ لا تطيقه أجسامهم ولا بد لهم منه إذا ماتوا على كفرهم، والمراد بالكافرين المخاطبون في هذه الآية، أي ماذا تصنعون إذا حل بكم عذاب الله ومن هو الذي يجيركم منه وأنتم على كفركم، ويدخل في هذه الآية كل من هو على شاكلتهم
«قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ» الذي أدعوكم إليه أيها الناس هو الله ربنا الذي
«آمَنَّا بِهِ» نحن
«وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» في كل أمورنا فهو مجيرنا من كل سوء لإيماننا به وأنتم لا مجير لكم البتة لإصراركم على الكفر وتفويض أمركم إلى أوثانكم
«فَسَتَعْلَمُونَ» غدا
«مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٢٩ نحن أم أنتم وهل يشفع لنا ربنا أم تشفع لكم أوثانكم، وهذه الآية جارية مجرى التهديد، ثم ذكرهم ببعض نعمه على طريق الاحتجاج بقوله عز قوله
«قُلْ» لهم
398
يا خاتم الرسل
«أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» ذاهبا في الأرض غائرا فيها لوصفه بالمصدر كعدل وعادل وهو سبب حياتكم لأنكم تشربون منه
«فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» ٣٠ جار على وجه الأرض أو راكد فيها تناله أيديكم ودلائكم، فسيقولون لك حتما الله يأتينا به، فقل لهم إذا لم تشركون فيه من لا يقدر على شيء؟ فتلزمهم الحجة. قالوا تليت هذه الآية عند محمد بن زكريا المتطبب وهو ملحد فقال يأتي به المعول والفأس، فأذهب الله ماء عينه في تلك الليلة أعاذنا الله من الغرور وحفظنا من الاتكال على أنفسنا وزادنا بصيرة في مكوناته.
ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بمثل هذه اللفظة، وتسمى سورة المجادلة لأنها تجادل عن قارئها ملائكة العذاب، والمنجية لا دخار ثوابها عند الله، والمانعة لأنها تمنع من يواظب على قراءتها العذاب في الآخرة وتنجيه من عذاب القبر، والواقية لأنها تقيه مجادلة الملكين ومن العذاب الأخروي. أخرج الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك. وإنما قال تبارك لأن سورة السجدة وسورة الفجر المارتين كل منهما ثلاثون آية لعدم الالتباس. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباء على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر. وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال بلى، قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر.
واعلم أن هذه الأحاديث وشبهها من قبيل الإخبار بالغيب مما أطلع الله تعالى رسوله على بعض أحوال القيامة وأنه يكون حال من يقرأها أو السور الأخرى الواردة فيها من هذا القبيل كما أخبر وإلا فدفع العذاب والحساب ودخول الجنة أو النار يكون في القيامة لا في الدنيا، راجع آخر سورة الواقعة في ج ١ وآخر السجدة
399