تفسير سورة يونس

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة يونس من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سُورَةُ يُونُس
فيهَا آيَاتٌ سِت

الْآيَةُ الْثانية : قَوْله تَعَالَى :﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : تَفْسِيرُ التَّحِيَّةِ : وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْمُلْكُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الْبَقَاءُ قَالَ الْمُعَمَّرُ :
أَبَنِيَّ إنْ أَهْلَكَ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ بَنِيَّهْ
وَتَرَكْتُكُمْ أَوْلَادَ سَا*** دَاتٍ زِنَادُكُمْ وَرِيَّهُ
وَلَكُلُّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ إلَّا التَّحِيَّهْ
يَعْنِي الْبَقَاءَ.
الثَّالِثُ : أَنَّهَا السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَلَكَ يَأْتِيهِمْ بِمَا يَشْتَهُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ؛ أَيْ سَلِمْتُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَكَلُوهُ قَالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى تَحِيَّتِهِمْ تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْخَبَرِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ فَقَالَ : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ : وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ : هَذِهِ تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ وَبَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ هَاهُنَا أَنَّهَا تَحِيَّتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَهِيَ تَحِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الْخِلْقَةِ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ :﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ﴾ ؛ أَيْ هَذَا السَّلَامُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ تَتَقَابَلُونَ بِهِ. وَالْقَوْلَانِ مُحْتَمَلَانِ، وَهَذَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ ﴾.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَرَّ هُوَ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَالْبَحْرَ هُوَ الْمَاءُ.
الثَّانِي : أَنَّ الْبَرَّ الْفَيَافِي، وَالْبَحْرَ الْأَمْصَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا يَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ قَوْلٍ مُقَدَّمٍ لَهُ أَوْ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا :﴿ حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾. فَهَذَا نَصٌّ بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَحْرِ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَقَرِينَتُهَا الْمُبَيِّنَةُ لَهَا قَوْلُهُ :﴿ حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾، وَقَوْلُهُ :﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴾، فَقَوْلُهُ :﴿ مِنْ الْفُلْكِ ﴾ هُوَ لِلْبَحْرِ، وَقَوْلُهُ :( " الْأَنْعَامِ " ) هُوَ لِلْبَرِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قُرِئَ ﴿ يُسَيِّرُكُمْ ﴾ بِالْيَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَنَنْشُرُكُمْ بِالنُّونِ وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَرَادَ الْيَحْصُبِيُّ يَبْسُطُكُمْ بَرًّا وَبَحْرًا، وَأَرَادَ غَيْرَهُ مِنْ السَّيْرِ، وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ طَرِيقَيْنِ :
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ ( رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ قَالَ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ).
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ ( رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَنَامَ عِنْدَهَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ لَهُ : مَا يُضْحِكُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ. قَالَتْ : فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُضْحِكُك ؟ قَالَ : نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، كَمَا قَالَ فِي الْأُولَى. قَالَتْ، فَقُلْت : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ : أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ ). . . الْحَدِيثَ.
فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ بِهِ وَسَطَ الْأَرْضِ، فَانْفَلَقَتْ، وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعُدْوَتَيْنِ، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَلَا يُوصَلُ إلَى جَلْبِهَا إلَّا بِشَقِّ الْبَحْرِ لَهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ، وَعَلَّمَهَا نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِرَاثَةً فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَالَ لَهُ : صَوِّرْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ، فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ، وَالْمَاءُ فِي اسْتِفَالِهِ لِلسَّفِينَةِ نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي اعْتِلَائِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا الْقُرْآنُ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ جَلَبْنَاهُمَا فَيَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ فِي الْغَزْوِ، وَهِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَجَازَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ السَّلَامَةُ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ لَا حَاصِرَ لَهُمْ، وَاَلَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ ) :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهَما : يَرْكَبُونَ ظَهْرَهُ عَلَى الْفُلْكِ رُكُوبَ الْمُلُوكِ الْأَسِرَّةَ عَلَى الْأَرْضِ.
الثَّانِي : يَرْكَبُونَ الْفُلْكَ لِسَعَةِ الْحَالِ وَالْمِلْكِ كَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ.
وَيُعَارِضُ هَذَا قَوْله تَعَالَى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ بِالْمُلْكِ وَوَصَفَ اللَّهَ هَؤُلَاءِ بِالْمَسْكَنَةِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَرَّ قَوْمٌ فَقَالُوا : إنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ.
وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْمَسْكَنَةِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْبَحْرِ وَضَعْفِ الْحِيلَةِ فِيهِ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ عِيَانًا فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَسْكَنَتَهُمْ كَانَتْ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : لِدُخُولِهِمْ الْبَحْرَ.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ وَلَا مِلْكٌ إلَّا السَّفِينَةُ، وَهُمْ لَا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ بِالْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالْعَزْمِ وَالشِّدَّةِ، يَقْصِدُونَ الْغَلَبَةَ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لِلْمُلْكِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، لِمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، إذْ لَمْ يَرَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا رَكِبَهُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْحَبَشَةِ لِلضَّرُورَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي الْفِرَارِ مِنْ نِكَايَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْآخِرُ فَلِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَوْنِ مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا حَصَلَ الْمَرْءُ فِي ارْتِجَاجِ الْبَحْرِ وَغَلَبَتِهِ وَعَصْفِهِ وَتَعَابُسِ أَمْوَاجِهِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ ﴿ الْحَقِّ ﴾ :
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " فِي تَسْمِيَةِ الْبَارِي تَعَالَى بِهِ. وَلُبَابُهُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْوُجُودُ، وَالْوُجُودُ عَلَى قِسْمَيْنِ : وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ، وَوُجُودٌ شَرْعِيٌّ. فَأَمَّا الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ فَلَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُك الْحَقُّ، وَوَعْدُك الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ). فَأَمَّا اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَوُجُودُهَا هُوَ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ. وَأَمَّا لِقَاءُ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ سَبَقَهُ عَدَمٌ، وَيَعْقُبُهُ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا حَقَّانِ، سَبَقَهُمَا عَدَمٌ، وَلَا يَعْقُبُهَا فَنَاءٌ، لَكِنَّ مَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ أَعْرَاضٌ. وَأَمَّا الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الَّذِي يُحَسِّنُهُ الشَّرْعُ، وَهُوَ وَاجِبٌ وَغَيْرُ وَاجِبٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَاطِلِ : وَهُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَالضِّدُّ رُبَّمَا أَظْهَرَ حَقِيقَةَ الضِّدِّ، فَإِذَا قُلْنَا : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، فَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَعَنْهُ عَبَّرَ الَّذِي يَقُولُ :
*أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ*
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَقَّ هُوَ الْحَسَنُ شَرْعًا فَالْبَاطِلُ هُوَ الْقَبِيحُ شَرْعًا، وَمُقَابَلَةُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عُرِفَ لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾. كَمَا أَنَّ مُقَابَلَةَ الْحَقِّ بِالضَّلَالِ عُرِفَ أَيْضًا لُغَةً وَشَرْعًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ ﴾، وَقَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْحَقِّ. فَأَمَّا حَقِيقَةُ الضَّلَالِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَهُوَ الذَّهَابُ عَنْ الْحَقِّ، أُخِذَ مِنْ ضَلَالِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنْ سَمْتِ الْقَصْدِ، وَخُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْعِبَارَةِ عَنْ الْعُدُولِ عَنْ السَّدَادِ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ الْأَعْمَالِ. وَمِنْ غَرِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ إذَا قَابَلَهُ غَفْلَةً، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِعَدَمِهِ جَهْلٌ أَوْ شَكٌّ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ :﴿ وَوَجَدَك ضَالًّا فَهَدَى ﴾. الَّذِي حَقَّقَهُ قَوْلُهُ :﴿ مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ ﴾ ؟ فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْ الضَّلَالِ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ : سُئِلَ - يَعْنِي مَالِكًا- عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ : لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَاللَّعِبُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاطِلِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِذِي الْعَقْلِ أَنْ تَنْهَاهُ اللِّحْيَةُ وَالشَّيْبُ عَنْ الْبَاطِلِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَسْلَمَ فِي شَيْءٍ : أَمَا تَنْهَاك لِحْيَتُك هَذِهِ ؟ قَالَ أَسْلَمُ : فَمَكَثْت زَمَانًا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهَا سَتَنْهَانِي. فَقِيلَ لِمَالِكٍ لِمَا كَانَ عُمَرُ لَا يَزَالُ يَقُولُ فَيَكُونُ. فَقَالَ : نَعَمْ فِي رَأْيِي. وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَلْعَبُ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي بَيْتِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ : مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّعِبُ ؛ يَقُولُ اللَّهُ :﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ ﴾، وَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ.
وَرَوَى مُخلد بْنُ خِدَاشٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ. رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجُهَنِيُّ ؛ قَالَ : قُلْت لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : أَدْعُو الرَّجُلَ لِعَبَثِي. فَقَالَ مَالِكٌ : أَذَلِكَ مِنْ الْحَقِّ ؟ قُلْت : لَا. قَالَ : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَلْفَاظِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، فَقَالَ : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّهِ هُوَ الضَّلَالُ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا :﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ ﴾ فَهَذَا فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَعْنِي لَيْسَ فِي الْأَعْمَالِ.
وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَالَ : إنَّ الْكُفْرَ تَغْطِيَةُ الْحَقِّ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى. هَذَا مُنْتَهَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَحَرَّمَ، فَالْحَرَامُ ضَلَالٌ، وَالْمُبَاحُ هُدًى ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ حَقًّا كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَالشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمُبَاحِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَبَاحَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ ضَالٌّ، وَإِنْ كَانَ الشِّطْرَنْجُ خَارِجًا مِنْ الْمُبَاحِ فَيَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الضَّلَالِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُخَالِفُ النَّرْدَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إكْدَادَ الْفَهْمِ، وَاسْتِعْمَالَ الْقَرِيحَةِ، وَالنَّرْدُ قِمَارٌ غَرَرٌ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ لَهُ فِيهِ، كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَقَدْ غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ ) يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ الشِّطْرَنْجِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَشْغَلُ عَنْ ذَكَرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَالْفَهْمُ يُكَدُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِيهِ.
وَأَمَّا لَعِبُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ بِالْأَرْبَعِ عَشَرَةَ فَالْمُمْتَنِعُ لَا تَفْتَرِقُ فِيهِ الْمَرْأَةُ تَكُونُ لِلرَّجُلِ وَلَا الْأَجْنَبِيِّ مِنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْعَبَ مَعَهَا بِالنَّرْدَشِيرِ لِعُمُومِ النَّهْيِ فِيهِ، وَالْأَرْبَعَ عَشَرَةَ قِمَارٌ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الْغِنَاءُ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الْمُهَيِّجِ لِلْقُلُوبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
أَمَّا إنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ دَلِيلًا عَلَى إبَاحَتِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ حَادِيَتَانِ مِنْ حَادِيَاتِ الْأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ بِهِ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :﴿ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ ﴾ فَلَوْ كَانَ الْغِنَاءُ حَرَامًا مَا كَانَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ. وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِ الرُّخْصَةِ وَالرِّفْقِ بِالْخَلِيقَةِ فِي إجْمَامِ الْقُلُوبِ ؛ إذْ لَيْسَ جَمِيعُهَا يَحْمِلُ الْجِدَّ دَائِمًا. وَتَعْلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ دَوَامِهِ، وَرُخْصَتِهِ فِي الْأَسْبَابِ كَالْعِيدِ، وَالْعُرْسِ، وَقُدُومِ الْغَائِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ الْمُفْتَرِقِينَ وَالْمُفْتَرِقَاتِ عَادَةً. وَكُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي التَّحْرِيمِ أَوْ آيَةٍ تُتْلَى فِيهِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ سَنَدًا، بَاطِلٌ مُعْتَقَدًا، خَبَرًا وَتَأْوِيلًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْغِنَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ ابْنِ وَدِيعَةَ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾.
وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَا يَكُونَانِ عَقْلًا وَلَا تَشَهِّيًا ؛ وَإِنَّمَا الْمُحَرِّمُ وَالْمُحَلِّلُ هُوَ اللَّهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا بُشْرَى اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِهِ الْكَرِيمِ، فِي قَوْلِهِ :﴿ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، ﴿ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وَقَوْلِهِ :﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ ﴾ وَنَظَائِرِهِ.
الثَّانِي : مَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ :" هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ ". قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : سَأَلْت أَبَا الدَّرْدَاءِ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :﴿ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ فَقَالَ : مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا ؛ ( سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ عَنْهَا ؛ فَقَالَ : مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ عَنْهَا غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ ؛ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ ).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَطَلْحَةَ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهَا طَرِيقٌ وَلَكِنَّهَا حِسَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَابِ :( الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ ). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ بَدِيعٌ، قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَسَيَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي الْقِبْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِهَا :
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ شَرْعًا لِمُوسَى فِي صَلَاتِهِ وَلِقَوْمِهِ، وَلَمْ تَخْلُ الصَّلَاةُ قَطُّ عَنْ شَرْطِ الطَّهَارَتَيْنِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَوْقَرُ لِلْعِبَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ :﴿ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ﴾ : يَعْنِي : بَيْتَ الْمَقْدِسِ، أُمِرُوا أَنْ يَسْتَقْبِلُوهَا حَيْثُمَا كَانُوا، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ قِبْلَةً، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ دُونَ بِيَعِكُمْ إذَا كُنْتُمْ خَائِفِينَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مَا دَامُوا عَلَى أَمْنٍ، فَإِذَا خَافُوا فَقَدْ أَذِنَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ دَعْوَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.
سورة يونس
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (يونُسَ) من السُّوَر المكية، وقد بُدِئت بالتنويه بالقرآن وعظَمتِه، وأصَّلتْ لكثير من مسائلِ التوحيد والاعتقاد، ودعَتْ إلى الالتجاء إلى الله وحده، وجاءت على ذِكْرِ حالِ الدنيا، وتعامُلِ الناس معها، وفيها ذِكْرُ قِصص بعض الأنبياء عليهم السلام في دعوةِ أقوامهم، وما عانَوْهُ ولاقَوْهُ من المصاعب؛ لتُثبِّتَ المسلمين، وعلى رأسهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في طريق الدعوة إلى الله عز وجل؛ فإنَّ اللهَ ناصرٌ دِينَه، ومُعْلٍ كتابَه لا محالةَ.

ترتيبها المصحفي
10
نوعها
مكية
ألفاظها
1889
ترتيب نزولها
51
العد المدني الأول
109
العد المدني الأخير
109
العد البصري
109
العد الكوفي
109
العد الشامي
110

سُمِّيتْ سورة (يونُسَ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ قوم (يونُسَ) عليه السلام.


احتوَتْ سورة (يونُسَ) على عدة موضوعات؛ وهي:

1. إنكار موقف المشركين من الوحي (١-٢).

2. تفرُّد الله بالخَلق والقدرة، وإثبات البعث والجزاء (٣-٦).

3. جزاء المؤمنين والكفار (٧-١٠).

4. حِلْمُ الله مع المستعجِلين للعذاب، وسُنَّته بإهلاك الظالمين (١١-١٤).

5. مطالبة المشركين بتبديل القرآن (١٥-١٨).

6. اختلاف الناس وحرصُهم على الحياة الفانية (١٩-٢٤).

7. الترغيب في الجزاء الإلهي (٢٥- ٣٠).

8. إثبات التوحيد والبعث بدليل الفطرة (٣١-٣٦).

9. نفيُ التهمة عن القرآن، وانقسام المشركين حوله (٣٧-٤٤).

10. سرعة زوال الدنيا، وعذاب المشركين في الدارين (٤٥-٥٦).

11. خصائص القرآن، وخَصوصية الله بالتشريع (٥٧-٦١).

12. قواعد الجزاء (٦٢-٧٠).

13. نصرُ الله لأوليائه من الأنبياء وأتباعه (٧٠-١٠٠).

14. قصة (نوح) مع قومه (٧٠-٧٤).

15. قصة (موسى) (٧٥-٩٣).

16. صدقُ القرآن وقصة (يونس) (٩٤-١٠٠).

17. الدعوة إلى الدِّين الحق، واتباع الإسلام (١٠١-١٠٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /303).

بدأت السُّورةُ بالإشارة إلى مقصدِها العظيم؛ وهو إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدَلالة عَجْزِ المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبَّه عليها بأسلوب تعريضيٍّ دقيق، بُنِيَ على الكناية بتهجية (الحروف المقطَّعة) في أول السورة، ووصفِ الكتاب بأنه من عند الله؛ لِما اشتمل عليه من الحكمة، وأنه ليس إلا من عنده سبحانه؛ لأنَّ غيرَه لا يَقدِر على شيء منه؛ وذلك دالٌّ - بلا ريب - على أنه واحد في مُلْكِه، لا شريكَ له في شيءٍ من أمره.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /164)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (11 /87).