ﰡ
[الجزء الثالث]
[خطبة الكتاب]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نحمدك يا من وفقتنا لهذا الخير الجسيم، ونشكرك أن سخرتنا للقيام بهذا السفر الكريم، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإني أشرع بالجزء الثاني من هذا التفسير متيمنا بفضله ولطفه، سائلا منه المعونة والتيسير على إتمامه، إنه بالإجابة جدير، وهو على كل شيء قدير.
تفسير سورة يونس عدد ١- ٥١- ١٠
نزلت بمكة بعد سورة الإسراء عدا الآيات ٤٠، ٩٤، ٩٥، ٩٦ فإنها نزلت بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات وألف وثمنمئة واثنتان وثلاثون كلمة، وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال الله تعالى: «الر» تقدم البحث مستوفيا أول سورة الأعراف في ج ١، ويوجد في القرآن خمس سور مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ويوسف وهود والحجر وابراهيم. قال سعيد بن جبير:الراء وحم ون حروف الرحمن مقطعه. وبه قال ابن عباس. وقال غيرهما كل حرف مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، ولا يعلم المراد منها على الحقيقة إلا الله تعالى. لذلك فأحسن قول في تفسير هذه الحروف المبدوءة بها سور القرآن العظيم أن يوكل علمها إلى الله «تِلْكَ» الآيات المنزلة عليك يا أكرم الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ١» الذي أودع الله فيه الحكم كلها، فلا رطب ولا يابس إلا في هذا القرآن يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، لأنه مأخوذ من علم الله المحيط بكل شيء، ولوحه المكنون الحاوي جميع المكوّنات، وهذه
«أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ» منزلة ومكانة «صِدْقٍ» سابقة رفيعة أي قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرّمة:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة | لهم قدم معروفة ومفاخر |
لأن القدم كل ما قدمت من خير وهو كناية عن العمل الذي يتقدم فيه الإنسان، وأطلق لفظ القدم على هذا المعنى لأن السعي والسبق يحصل به، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وفي إضافة القدم إلى الصدق التنبيه على زيادة الفضل. وقال بعض المفسرين المراد به الشفاعة وأنشد:
صل لذي العرش واتخذ قدما | ينجيك يوم العار والزلل |
والقدم هو العضو المخصوص، وقد يراد منه التقدم المعنوي أي المنازل الشريفة قال حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلقنا | لأولنا في طاعة الله تابع |
لكم قدم لا ينكر الناس أنها | مع الحسب العادي طمّت على البحر |
وأحسن منك لم تر قط عيني | وأجمل منك لم تلد النساء |
خلقت مبرأ من كل عيب | كأنك قد خلقت كما تشاء |
ولو صوّرت نفسك لم تزدها | على ما فيك من كرم الطباع |
فمبلغ العلم فيه أنه بشر | وأنه خير خلق الله كلهم |
ولكن من رزق الحجى حرم الغنى | ضدان مفترقان أي تفرق |
هذا وإن التعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء خلاف العادة، وقد زعموا أن ضيرورة اليتيم الفقير نبيأ لم تجر به العادة فأنزل الله تعالى هذه الآية تهكما بهم.
قال تعالى يا أيها الناس «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» تقدم البحث فيها في الآية ٥٩ من سورة الفرقان في ج ١، وله صلة في الآية ٩ من سورة فصلت الآتية إن شاء الله «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» المبسوط القابل لانعكاس أشعة أسمائه تعالى وصفاته، واستولى عليه استيلاء يليق بذاته، بلا أين ولا كيف ولا كم، بصرف النظر عما يتصور من معنى ثم في تراخي الزمن والمهلة، وقد تقدم تفسيره وما يتعلق به مفصلا في الآية ٥١ من سورة طه في ج ١، «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» كله فيهما مما يتعلق في جميع مكوناته العلوية والسفلية فلا يخرج شيء عن قضائه وتقديره مما يقع فيهما، ومن جملة ذلك اختيار سيدنا محمد ﷺ للرسالة ومعنى التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها وما ينتج عنها لتقع على الوجه المحمود، قال عليه الصلاة والسلام إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته، والمراد هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل «ما مِنْ شَفِيعٍ» يشفع لأحد «إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» لذلك الشفيع الذي يرتضيه ولا يشفع إلا لمن يرضاه راجع الآية ١٠٩ من سورة طه في ج ١، وله صلة في الآية ٢٥٥ من سورة البقرة في ج ٣، وهذا الشفيع عام يشمل الأنبياء والملائكة فمن دونهم، وقد جاء في معرض الرد لقول الكفرة بشفاعة الأوثان، فإذا كان الأنبياء فمن دونهم من كرام الخلق على الله لا يشفعون إلا بإذنه، وإلا لمن يرضاه، فكيف يتمنّى القول بشفاعة الأوثان التي كونتها أيديهم من أحجار وأخشاب وغيرها «ذلِكُمُ» الإله العظيم خالق السموات والأرض ومدبر أمورهما ومن فيهما المستولي
و «قَدَّرْناهُ مَنازِلَ» يتنقل فيها بنظام بديع لا يتغير راجع الآية ٣٩ من سورة يس في ج ١ تعرف المنازل وغيرها، وإنما أعاد الضمير للقمر وحده لأن سيره في المنازل أسرع من سير الشمس، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين المعتبرة شرعا لابتنائها على الأهلة، وما قيل إنه يرجع إلى الشمس والقمر معا، وإنما وحده مع أنه عائد لهما للإيجاز اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) الآية ٦٨ من التوبة في ج ٣ بدل ترضوهما إيجازا
مطلب السنين الشمسية والقمرية وما يتعلق بهما:
والمراد بالسنين هنا القمرية التي هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وثماني ساعات، وثمان وأربعون دقيقة، راجع الآية ٣٢ من الأعراف في ج ١، على أنه لا مانع من أن تشمل جملة آية السنين والحساب السنة الشمسية أيضا التي هي ثلاثمائة وخمس وستون يوما، وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة أيضا، والفرق بينهما عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة بمقتضى الرصد الأليخاني، وكل من السنتين تكون بسيطة وكبيسة ولهذا يكون شهر شباط في كل أربع سنين تسعا وعشرين يوما إذ ينضم إليه فروق ثلاث سنين لانتظام الحساب الجاري، والأشهر العربية تكون ثلاثين، وتسعا وعشرين يوما للسبب نفسه، فتكون السنة القمرية بانقضاء اثنى عشر شهرا قمريا، والشمسية عند وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من البروج الاثني عشر التي ذكرناها أول سورة البروج المارة في ج ١، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ١٦ من سورة الحجر الآتية إن شاء الله «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ» الضياء في الشمس والنور في القمر وجعل منهما معرفة السنين والحساب، وما أظهر ما أظهر منها وأوجد ما أوجد في عالمي للغيب والشهادة من مظاهر أسمائه وصفاته «إِلَّا بِالْحَقِّ» الموافق للحكمة البالغة، إظهارا لقدرته وبرهانا لوحدانيته وجعلها دلائل على عظمته، فلم يخلق ذلك باطلا ولا عبثا بل هي حق لا مرية فيه كسائر مخلوقات ذلك الخالق الجليل الذي «يُفَصِّلُ الْآياتِ» تفصيلا وافيا ويكررها تكريرا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٥» الحكمة التكوينية لهذا الكون العظيم المهمول فيستدلون على شئون مبدعها ويستنبطون منها البراهين على باهر قدرته ووحدانيته «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» من كون أحدهما مضيئا والآخر مظلما، وكون كل منهما يخلف صاحبه فيجيء وراءه متصلا به دون فاصلة ما، وأخذ أحدهما من الآخر بصورة تدريجية ساعات ودقائق، ثم يتلوه صاحبه فيرجع إليه
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من الذاريات الآتية.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» ولا يتوقعون حصوله ولا يخطرونه ببالهم لتوغلهم بالغفلة عن لتفطن إلى الحقائق الراعنة، لأنهم لا يعتقدون بالثواب والعقاب لإنكارهم اليوم الآخر فلا يخافون وعيدنا وتهديدنا الواقع على لسان رسلنا «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» المستعارة الموقتة دار البلاء والمحن التي لم تدم ولم تصف لأحد بدلا من الآخرة الدائم نعيمها دار السعادة والصفاء، وآثروا الأدنى الفاني الخسيس، على الأعلى الباقي النفيس «وَاطْمَأَنُّوا بِها» وركنوا إليها ومالوا بكليتهم عليها وسكنت لها قلوبهم سكون من لا براح له عنها، آمنين من اعتراء المزعجات غافلين عما أعد لهم من العذاب، فبنوا القصور الفخمة القوية، وأملوا الآمال المغوية البعيدة، فأزال ذلك كله الوجل من قلوبهم وصرفها في الملاذ والملاهي حتى أنساهم ذكر الله زخارفها، وصاروا بحالة لم يصل معها إلى قلوبهم ما يسمعون من الإنذار والتخويف والوعيد «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ٧» لا يتفكرون
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. أي لم يخفه والمراد من لقاء الله الرجوع إليه بالبعث بعد الموت والحساب المترتب عليه الجزاء بحسب الأعمال. قال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في هذه الدنيا «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ» في الآخرة إلى الجنات العالية «بِإِيمانِهِمْ» الخالص المؤدي إلى ذلك، فتراهم على الطريق السوي في الدنيا مدة لبثهم فيها، ويجعلون بسببه في الآخرة بمكان «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» أي من تحت منازلهم ومن بينها لينظروا إليها من أعالي أصرّتهم وشرفات قصورهم. وقيل إنها تجري بين أيديهم وليس لشيء إلا أن يراد ما بين أيديهم (أمامهم) فإنه شيء يعتدّ به. وقيل يهديهم نور أعمالهم لما جاء في الحديث أن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، فيقول له أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار.
وفي هذه الآية دليل على أن مجرد الإيمان منج، إذ قال بإيمانهم دون أن يضم إليه العمل الصالح، وهو لا شك ينجي من التخليد بالنار ويدخل الجنة من لم يتمكن من العمل كمن أسلم ومات قبل أن يقدم عملا صالحا، فإذا أمكنه تقديم العمل
قال تعالى «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ» الذي يدعونه على أنفسهم فيجيب دعاءهم فيه ومنه قول أهل مكة (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية ٣٢ من سورة الأنفال في ج ٣، ومنه قولهم عند سماع الآيات التي فيها الوعيد (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية ٤٨ من سورة يس المارة في ج ١، ومثلها الآية ٣٨ الآتية وهي مكررة في القرآن كثيرا، قال ابن عباس المراد في هذه الآية دعاء الرجل على أهله وولده عند الغضب مثل قوله لعنك الله، لا بارك الله فيك، وكذا المرأة تقول لولدها قصف عمرك أعماك الله كسرك لا وفقك وشبهه، وقال قتادة المراد دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه. راجع الآية ١١ من سورة الإسراء في ج ١ أي لو يعجل الله للناس استجابة دعاءهم بالشر «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» أي كطلبه وإرادة إجابته «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ» حالا ولفرغ من إهلاكهم من كثرة ما تلوكه ألسنتهم من ذلك الدعاء السيء لكن الله تعالى بمنه وكرمه، قد يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له بالشرّ، قال ابن قتبية إن الناس عند الضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة، فلو بدلوا الدعاء حال الغضب بالشرّ على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، بالخير، لهم لكان أولى وأنفع لهم تحاشيا عن حصول الشر والوقوع بالملامة إذا صادقت الدعوة ساعة إجابة، حفظنا الله من ذلك. والتفسير الأول أولى وأحسن انطباقا على المعنى، لأن المراد بالناس في هذه الآية- والله أعلم- المذكورون في قوله تعالى (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الآية السابقة، ويؤيد هذا ما جاء أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث أحد رؤساء قريش مكة القائل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) الآية المارة آنفا، وعليه يكون المعنى ولو يعجل الله لهؤلاء الكافرين العذاب كما يعجل لهم الخير في المال والولد لعجل قضاء آجالهم فأماتهم جميعا، ويدل على هذا أيضا قوله تعالى تتمة هذه الآية «فَنَذَرُ» نترك ونهجر «الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» السابق
قال رسول الله ﷺ أللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وتقربة بها إليك يوم القيامة، واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة. ولا يقال إن هذه الآية أي (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) إلخ لم تنزل بعد، فلا يصح أن تكون الآية المفسرة سببا للنزول في حق القائل لأن الكفرة كانوا يتقولون بما في معناها كلما سمعوا آية وعيد أو تهديد أو تخويف من حضرة الرسول ﷺ بدليل طلبهم استعجال العذاب مثل قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية المنوه بها آنفا وأمثالها، ولأن آية الأنفال لم يكن نزولها في المدينة المنورة كي يحتج بها هذا القائل لأنها نزلت بمكة منفردة عن سورتها وليست هي وحدها بل ما قبلها وما بعدها من الآية ٢٠ إلى ٢٦ نزلت بمكة حكاية عن حالتهم السابقة وتهكم بهم كما سنأتي على ذكرها وسببها عند تفسيرها في القسم المدني إن شاء الله وقد أعمي الله قلب النضر المذكور عن أن يقول اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه ووفقنا له بدلا من أن يقول (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) إلخ، ولكن توغله في الضلال وتماديه في العناد أداء إلى قوله ذلك، لأن اللسان ينطق بما يتلقاه عن القلب والدنّ ينضح بما فيه من خذلان الله إياه، قال تعالى «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ» الشدة والضنك «دَعانا لِجَنْبِهِ» مضجعا «أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» أي أنه يثابر على الدعاء في جميع أحواله وحالاته «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ» الذي أنهكه بعد أن التجأ إلينا ودعانا «مَرَّ» مضى واستمر على حالته الأولى من الإعراض عنا ونسي حالة الجهد والبلاء ولم يركن إلينا ويدعنا شكرا على رحمتنا به وإجابتنا لدعائه، وصار من شدة غفلته وعمهه وإعراضه وانهماكه في زخارف الدنيا وشهواتها
ومما يليق بالكامل أن يتضرع إلى مولاء في السراء والضراء فهو أرجى للإجابة، وأن يكثر الخوف حالة الرخاء والصحة، والرجاء حالة الفاقة والمرض، فهو أجدر بالخضوع إلى الله. جاء عن أبي الدرداء: أدع الله تعالى يوم صرائك يستجب لك يوم ضرائك. وعن أبي هريرة: من صره أن يستجاب له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية ٨٣ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعه. والمراد بالإنسان هنا من حيث اللفظ والمعنى الكافر بقطع النظر عن كونه معينا فتشمل الآية من نزلت فيه وغيره من كل من هذه صفته من الكافرين والعاصين غير المبالين بما يفعلون، لأن أل فيه للجنس ويدخل تحت الجنس عموم أفراده. هذا، واعلم أن المزين في الحقيقة للعمل هو الله تعالى، لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيفما شاء وأراد. راجع قوله تعالى:
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الآية ٥٧ من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٦ من سورة الصافات، وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الآية ١٣٥ من الأنعام أيضا، وإذا كان للشيطان سبب ظاهرى فيكون بإقدار الله تعالى إياه، وإلّا فهو عاجز أيضا عن أن يقسر الإنسان على فعل شيء أو عدمه، راجع قوله تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الآية ٧٦ من سورة النساء في ج ٣، والآية ٣١ من سورة إبراهيم الآتية، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في تفسير الآية ١٢١ من سورة طه المارة في ج ١، وفيها ما يرشدك
واعلم أن كلمة كيف منصوبة بتعلمون لا بننظر قبلها لأن معنى الاستفهام فيه يمنع تقدم عامله وعليه يكون المعنى أنكم أيها الناس بنظر منّا وتحت مراقبتنا فانظروا كيف تعملون أتعتبرون بمن قبلكم فتفوزون بالنجاح، أم تعترون بما أنتم عليه فتهلكون، والله تعالى لا ريب عالم بما يقع منهم قبل وقوعه ناظر إليه قبل شروعهم فيه، وإنما قال لهم ذلك إظهارا لقوله سبحانه لعباده بأن يعاملهم معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه على حد قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الآية الثانية من سورة تبارك الملك الآتية فيظهره لخلقه ليتيقنوا أن من يعمل صالحا يجازى بأحسن منه، ومن يقترف طالحا يجازى بمثله.
مطلب ذم الدنيا وحالة الرسول وعمر فيها:
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله ﷺ قال إن الدنيا
فتدبر قوله هذا، واعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها. قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا» المعنيون بالآيات السابقة، وقد وضع الموصول فيها موضع الضمير إشعارا بالذّم لهم أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو محمد ﷺ إن كنت تريد أن نؤمن بك «ائْتِ» لنا «بِقُرْآنٍ» ليس فيه عيب آلهتنا ولا ترك عبادتها «غَيْرِ هذا» الذي تتلوه علينا المملوء بما نكره المحشو بتنديد ما نعبده «أَوْ بَدِّلْهُ» بأن تجعل الآية المشتملة على سب آلهتنا آية أخرى في مدحها، ومن هؤلاء الخبثاء عبد الله بن أمية المخزومي والوليد ابن المغيرة ومكرز بن حفص وعمر بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام، وقد قالوا هذا لحضرة الرسول على طريق التجربة والامتحان ليعلموا صدق قوله وعدمه، فأجابهم الله تعالى عن التبديل لأنه في طوق البشر بقوله «قُلْ يا محمد لهؤلاء العتاة «ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي» لأني لم آت به من جهة نفسي كي أتمكن من تبديل شيء منه، ولا ينبغي لي أن أفعل هذا «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» من ربي فلا أقدر أن أزيد فيه شيئا ولا أنقص البتة «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بالإقدام على تبديل
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ وهو ابن أربعين سنة (أي بعد كما لها لأن النزول بدأ في الإحدى والأربعين من عام ولادته ﷺ فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه (أي القرآن إلا شهورا) ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث فيها عشر سنين (أي يوحى إليه أيضا) ثم توفي صلى الله عليه وسلم، فيكون عمره الشريف ثلاثا وستين سنة وهو الصحيح من أقوال ثلاثة، لأن من قال إن عمره ستون سنة اقتصر على العقود وترك الكسر وهو ما بين العقدين وكل عشر سنين يسمى عقدا، ومن قال خمس وستون حصل له اشتباه في مدة الإقامة بمكة والمدينة من حساب السنة مرتين، قال تعالى «فَمَنْ أَظْلَمُ» لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم ذنبا «مِمَّنِ افْتَرى» اختلق من تلقاء نفسه «عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فنسب إليه ما لم يكن من الشريك والصاحبة والولد «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» المنزلة على أنبيائه فكان مجرما بافترائه هذا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ١٧» المقترفون أوزارا توجب هلاكهم في الدنيا وإهلاكهم في الآخرة وإذا كان كذلك، فاعلموا يا قوم أن من أعظم الإجرام أن آتيكم بشيء ليس من عند الله وأقول لكم هذا من عنده فكيف يسوغ لي أن أجرؤ على ذلك أو يتسنى لي الإقدام عليه كلا لا يجوز لي ذلك أبدا فأكون مفتريا على الله مزورا عليكم بهتا واختلافا، ولكنكم أنتم افتريتم على الله تعالى فنسبتم له شريكا وصاحبة وولدا وهو منزه عن كله، ونسبتم لي الافتراء والسحر والكهانة والتعليم من الغير، وأنا بريء من ذلك كله، فكنتم مجرمين مستحقين عذاب الله، قال تعالى «وَيَعْبُدُونَ» هؤلاء الكفرة المكذبون أوثانا «مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ» إن تركوا
أن أغوى إبليس قابيل فقتل أخاه هابيل «فَاخْتَلَفُوا» بعد هذه الحادثة الأولى من نوعها لأنه أول شر وقع على وجه الأرض، فتفرقوا من أجلها، إذ أن قابيل أخذ أخته وهرب من وجه أبيه، وبقي آدم ومن معه على عبادة الله وطاعته، وكفر قابيل ومن معه، فصاروا قسمين مؤمنين وكافرين، وهذا التفسير أولى من القول بأن الناس كانوا أمة واحد متفقين على الكفر والمكر من زمن نوح عليه السلام، مستدلا بقوله تعالى (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية ١٣ من سورة البقرة في ج ٣، لأن هذه الآية تنطبق على قوم نوح عليه السلام إذ بعث فيهم وكلهم كافرون، ولذلك عمهم الله بالعذاب ولم يبق على وجه الأرض منهم أحدا إلا نوحا ومن آمن به، كما فصلناه في الآية ٥٨ من الأعراف في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٤ من سورة هود الآتية. هذا إذا كان المراد بالناس على الإطلاق فيجوز أنهم كانوا كذلك وتفرقوا ببعثته عليه السلام، إذ خالفوا أمره واختلفوا فيما بينهم على إجابة دعوته، هذا إذا كان المراد بالناس العرب خاصة، فيكون المعنى أنهم كانوا على دين الإسلام من عهد إسماعيل عليه السلام، إذ أن أباه إبراهيم عليه السلام سمى أتباعه المسلمين كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣، وبقوا مسلمين إلى أن غيرّه عمرو بن لحى، إذ سن لهم عبادة الأوثان، وهو أول من عبدها، إذ أنهم كانوا على الفطرة السليمة الصحيحة أول الخلق، ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه والمراد بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام لأنه دين الفطرة دين الحق والصدق.
والتفسير الأول أولى، لأن الاختلاف وقع بعد حادثة ابني آدم عليه السلام كما ذكرناه آنفا. وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول ﷺ إذ يخبره ربه عز وجل بأن لا مطمع لصيرورة الناس كلهم على دين واحد كما يريد لأن الله أراد ذلك كما سيأتي في الآيتين ١١٧/ ١١٨ من سورة هود الآتية، قال تعالى «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» وهي جعله لكل أمة أجلا وقضى بسابق أزله تأخير العذاب عن
قال تعالى «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً» من خصب وسعة وصحة وجاه «مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ» قحط وفقر ومرض وذلة «مَسَّتْهُمْ» حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، أسند جل شأنه ضمير إذاقة الرحمة إليه وضمير الضراء إليهم ليتعلمّ الناس الأدب بتعاليم الله تعالى المبينة في هذا القرآن، فيسندوا كل ما يدل على الخير إليه تعالى وما يدل على الشر إليهم أنفسهم، وليتأدبوا أيضا بعضهم مع بعضهم بمقتضى تفضيل الله
مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة:
أخرج في الصحيحين عن زيد ابن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي مطر وسمي سماء لأنه يقطر منها) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم، قالوا الله ورسوله أعلم، قال قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. والنوء جمع أنواء وهي منازل القمر عند العرب فإذا طلع نجم سقط نظيره فيستدلون من ذلك على وجود مطر أو ريح كالمنجمين، فمنهم من ينسب ما يحدث من المطر والريح إلى تأثير الطالع، ومنهم ينسبه إلى تأثير الغارب، ومعلوم أن العلماء استحدثوا الإبرة التي تتأثر من وجود الريح والمطر وغيره في الجو قبل وصوله إلى المحل الذي فيه الإبرة، فيخبرون بما يرون من تأثيرها من تموجات الجو، وقد أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله جل قوله: (هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الآية ٥٧ من الأعراف المارة فراجعها تعلم حقيقة قوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من الأنعام الآتية، روي أن الله تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة، حتي كادوا يهلكون، ثم رحمهم الله تعالى بالحيا أي المطر، قال الأبوصيري:
إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم. فلما رحمهم وخصبت أراضيهم وكثر عليهم الخير، طفقوا يطعنون بآيات الله ويعادون رسوله ويكذبونه ويقولون لم نمطر بدعائه ولا ببركته، وإنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية.
لحكم الشرعي: هو أن من يعتقد أن للنجوم والأنواء تأثيرا فعليا بإنزال المطر
بمن يمشي عليها ويتجاوزون عليهم ويعملون بغير ما أمروا وأخلفوا ما وعدوا الله به من الشكر والإيمان، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ» الباغون المتجاوزون
مطلب البغي ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا وحكمه:
ولما كان البغي قد يكون بحق مثل هدم دور الكفرة والمعاندين وقطع أشجارهم وحرق زروعهم عند ما يستولي المسلمون عليها عنوة، كما فعل رسول الله ﷺ في يهود بني قريظة الآتية قصتهم في الآية ٢٦ من سورة الأحزاب، والآية ٥ من سورة الحشر، ويكون بغير حق كأخذ مال الغير ظلما ومجاوزة حدود الله تعالى عتوا، قيّد تبارك وتعالى البغي في هذه الآية بغير الحق لأنه مذموم، وقد يكون البغي ممدوحا وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع، والقصاص إلى العفو، والحق إلى السماح، لأن معناه اللغوي مجاوزة الحد مطلقا، وقد تكون هذه المجاوزة في الخير كما ذكرنا فيكون ممدوحا، وقد يكون في الباطل فيكون مذموما، وهو بمعناه هذا من أعظم منكرات الذنوب، لأن معناه الاصطلاحي الإفساد والتجاوز على أموال الناس وأنفسهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، وقد نظم بعضهم معنى هذه الجملة في بيتين من الشعر وكان الخليفة المأمون العباسي رحمه الله يتمثل بهما وهما:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه | فارجع فخير مقال المرء أعدله |
فلو بغى جبل يوما على جبل | لا ندك منه أعاليه وأسفله |
لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا | جنوده ضاق عنها السهل والجبل |
إن يعد ذو بغي عليك فخله | وارقب زمانا لانتقام باغي |
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى | جبل على جبل لدك الباغي |
على العاقل أن يكون مع السلطان كراكب سفينة، إن سلم جسمه من الفرق لم يسلم قلبه من الخوف. أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث هنّ على أهلها المكر والنكث والبغي، ثم تلا عليه الصلاة والسلام هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إلخ، وتلا (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الآية ٤٣ من سورة فاطر المارة في ج ١، وتلا (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الآية ١٠ من سورة الفتح في ج ٣. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وأخرج أيضا من طريق بلال بن بردة عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: لا يبغي على الناس إلّا ولد بغي أو فيه عرق منه.
هذا، وقرىء متاع بالرفع على أنه كلام مبتدأ أي بغي بعضكم على بعض باطلا هو متاع الحياة الدنيا، ولا يصلح لزاد الآخرة. وقراءة الفتح التي جرينا عليها تبعا لما في المصاحف أولى، لأن الكلام متصل بما قبله، ولأن المعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيا إلا أياما قليلة، فأقلعوا عنه خير لكم، قال تعالى «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا» في زوالها وفنائها وقصر مدة التمتع فيها، والمثل ما شبه مضربه بمورده أي يؤتى بما وقع على ما لم يقع ويستعار للأمر العجيب المستغرب أي إنما حالها في سرعة تقضّيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها «كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ» بذلك الماء «نَباتُ الْأَرْضِ» اشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا لأن الماء كالغذاء للنبات فيجري فيه مجرى الدم من ابن آم «مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ» كالبقول والزروع والحشيش والمراعي «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها» حسنها ونضارتها وبهجتها باختلاف
كأذيال خود أقبلت في غلائل | مصبّغة والبعض أقصر من بعض |
ويطلق على اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وله أوجه في الإعراب والبناء، راجع فيه شذور الذهب في علم النحو، وفيه أن المكسور قد يراد به مطلق اليوم، أي لا يختص باليوم الذي قبل يومك. ضرب الله تعالى هذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وتكبر على أهلها وأعرض عن الآخرة وازدرى الداعي إليها بنبات برز في الأرض ضعيفا فقوي بالماء وحسن واكتسى كمال رونقه، ففاجأته صاعقة أو برد أو ريح عاصف فجعلته حصيدا كأن لم يكن زرع أصلا، ونظير هذه الآية الآية ٤٥ من سورة الكهف الآتية وقد شاهدنا مرارا عند ما يقع البرد على الزرع يترك محله أرضا يابسة كأنها لم تزرع، وكذلك الطاغي الباغي مهما بلغ من زهو الدنيا وعظمتها، فإن أجله يفاجئه على حين غفلة فتقصفه قصفا على غرة، ويكون كأن لم يكن وجد في الدنيا «كَذلِكَ» كما فصلنا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفناكم مصيرها «نُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالة على قدرتنا المنبهة على أحوال الدنيا وعواقبها «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤» فيها ويعتبرون بما فيها فيقفون على حقائقها ويفقهون معانيها، وخص المفكرين لأن غيرهم لا ينتفع بها ولا يتوصل إلى إزالة الشك والشبعة التي تحوك في القلب لما رسب فيها من الرين والصدأ المتكاثف الذي حجبها عن التفكر في ملكوت الله، قال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الآية ١٥ من سورة المطففين الآتية وأمثال هؤلاء هم الذين حكى الله عنهم بقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) الآية ٦ من سورة فصلت الآتية قال تعالى «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ» من كل مكروه دار الأمان من كل مخوف التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهي الجنة التي يسلم الله تعالى وملائكته فيها على أهلها، وهذه الدار هي الموصوفة بقوله عزّ قوله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) الآية ٢٧ من الواقعة المارة في ج ١، وهذه هي التي يدعوكم إليها ربكم أيها الناس لا إلى
جاء عن جابر قال: جاءت ملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا إن لصاحبكم مثلا فاضربوا له مثلا.
وفي رواية خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما للآخر نضرب له مثلا، فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المائدة. فقالوا أولوها ليفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان، فقال بعضهم الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. قال تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا» العمل وعبدوا الله حق عبادته لأن حضرة الرسول فسّر الإحسان الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب بما نصه: قال أي الرجل الموصوف أول الحديث وهو جبريل عليه السلام، أخبرنى عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك. فهؤلاء الذين هذه صفتهم لهم «الْحُسْنى» الجنة سميت حسنى إذ لا أحسن منها البتة وعرفت فانصرفت إلى المعهود السابق في قوله تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) «وَزِيادَةٌ» على الحسنى هي رؤية الله تعالى التي لا توازيها رؤية، وهي عند أهل الجنة أحسن من كل شيء.
مطلب معنى الزيادة ورؤية الله تعالى:
ولا زائد على نعيم الجنة إلّا رؤية الله تعالى المنعم بها، يدل على هذا ما رواه صهيب أن رسول الله ﷺ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر
فينسون النعيم إذا رأوه | فيا خسران أهل الاعتزال |
مطلب الأوثان وما يقع بين العابدين والمعبودين:
قال تعالى «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» مؤمنهم وكافرهم إذ نجمعهم من كل ناحية إلى موضع واحد وهو موقف الحساب، فتدخل المؤمنين الجنة بدليل قوله تعالى «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا» بعد أن نعزلهم عن المؤمنين في المحشر بقوله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» الآية ٧٠ من سورة يس المارة في ج ١ ما معناه الزموا «مَكانَكُمْ» لا تبرحوه «أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا لتسألوا عن عبادتهم بحضورهم «فَزَيَّلْنا» فرقنا بينهم بعد ما أمرناهم بالثبات في مواضعهم وباعدنا «بَيْنَهُمْ» بين العابدين والمعبودين وقطعنا ما بينهم من التواصل بتمييز بعضهم عن بعض، وسألنا المعبودين على حدة، فأنكروا تصدرهم للعبادة، ثم جمعناهم وسألناهم، فأجابوا بمواجهة العابدين ما ذكره الله بقوله عز قوله «وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ٢٨» وهذا جواب تبر عن عبادتهم وردّ لقول العابدين إنا كنا نعبدكم، ولا يقال كيف نطقت، لأن منها ما هو جماد وهي إما أن تكون منحوتة من حجر أو خشب أو معمولة من طين أو غيره، فلا يتسنى لها النطق ولا يتيسر، لأن الله تعالى الذي حشرها لهذه الغاية أهّلها في ذلك اليوم للنطق بذلك، وكذلك الحيوانات والكواكب، قال مجاهد تنتصب لهم الآلهة فتقول لهم والله ما كنا نسمع دعاءكم، ولا نبصر عبادتكم،
هذا إذا كانت الملائكة وعزير والمسيح عالمين بعبادة العابدين لهم يكون جوابهم على نحو ما ذكر آنفا، أما إذا لم يكونوا عالمين بها وهو أولى لأن الله تعالى لما سأل الملائكة عن الأسماء قالوا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) الآية ٣٢ من سورة البقرة، وكان ﷺ يسأل جبريل عن أشياء أحيانا فيقول له لا أعلم، ولقول عيسى عليه السلام جوابا لربه أيضا (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١١٥ من المائدة في ج ٣، مما يدلّ على عدم شعورهم لعبادة عابديهم، وعلى هذا يكون معنى غافلين بحقهم أيضا مثل معناه في حق الأصنام لتساويهم في عدم العلم. ولا يخفى أن الملائكة الذين عبدوا غير الحفظة الملازمين لبني آدم. وهنا سؤال وهو هل يفني الله الأوثان بعد حشرها وسؤالهم أم لا؟ والجواب والله أعلم عدم إفنائها أي عدم صيرورتها ترابا كالحيوانات، وإنما تحشر وتسأل عن عبادتها فتنكر وتتبرأ مما أسند إليها كما هو صريح الآيات، إذ بضع الله فيها قوة النطق والدفاع، ثم إنها تدخل النار مع عابديها وتحترق معهم بدليل قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) الآية ٩٨ من سورة الأنبياء الآتية ولا اعتراض على أفعاله تعالى من أنها لم تعقل الاحتراق ولم تحس به لأن الذي جعل فيها قوة النطق يجعل فيها قوة الإحساس لا يسأل عما يفعل، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أما الحيوانات فقد دلّ النص على فنائها كما سيأتي آخر سورة عمّ الآتية، ولهذا البحث صلة في الآية ٢٢ من سورة الأنعام الآتية «هُنالِكَ» في ذلك الموقف العظيم والهول العميم
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) الآية ١١ من سورة محمد في ج ٣، كما أنها تأتي بمعنى السيد وبمعنى العبد قال:
ولن يتساوى سادة وعبيدهم | على أن أسماء الجميع موالي |
«قُلْ» هؤلاء المشركين «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» غيثا ونباتا أأوثانكم أم الله «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ» فلا يقدر أن يسمع أحدكم صاحبه إلا بإذن الله «وَالْأَبْصارَ» فلا يستطيع أن يبصر أحدكم صاحبه بها إلا بأمر الله لأنه هو الملك الحقيقي المالك لجوارح الإنسان والحيوان وهو الذي يحميها من الآفات والطوارئ إن شاء الله مدة الحياة مع ما هي عليه من اللطافة، إذ يؤذيها كل شيء، ومن يقدر على خلقها وتسويتها على هذه الصورة العجيبة والهيئة البديعة إلا الله، وإن من يقف على علم التشريح يرى ما يبهر العقل كما بيناه في الآية ٢٨ من سورة فاطر المارة في ج ١ ويحيّر اللبيب، فسبحان الإله الفعال النادر. وليعلم أن علم التشريح يزيد في الإيمان ويقوي العقيدة لمن يريد الله هدايته «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» المؤمن من الكافر، والفرخ من البيضة، والزرع من الحبة في الأرض والإنسان والحيوان من النطفة في الرحم «وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» الكافر من المؤمن، والبيضة من الطير، والحب من الزرع، والنطفة من الإنسان والحيوان «وَمَنْ يُدَبِّرُ
في هذا الكون الجسيم علويه وسفليه آلله أم أوثانكم؟ «فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» أي أنهم يجيبونك اضطرارا بأن الفاعل لذلك كله هو الله «فَقُلْ» لهم إذا «أَفَلا تَتَّقُونَ ٣١» هذا الرب الكبير الفعال لهذه الأشياء وغيرها وكيف تعبدون غيره مما لا يعقل شيئا وهو عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرّ عنها. وليعلم أنه لا يوجد نص صريح على أن الله تعالى هو في السماء أو الأرض، وأما ما جاء من أنه جل جلاله في السماء على المعنى اللائق به تعظيما لشأنه لا على ما نتصوره نحن، وأن قوله ﷺ في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قل لها أين الله؟ أعتقها فإنها مؤمنة، وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام كم تعبد يا حصين؟ فقال سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض، فقال ﷺ فمن الذي أعددته لزغبتك ورهبتك؟
فقال الإله الذي في السماء. على ما يقتضيه الظاهر. ومن جملة تنزيهه تعالى نسبته للعلو، ولذلك يرفع الإنسان يديه نحو السماء في الدعاء أي إلى الخزانة المشار إليها في قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية ٢٢ من سورة الذاريات الآتية فراجعها، لا لكونه جل جلاله فيها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ١٣ من سورة طه المارة في ج ١، ولهذا البحث صلة في الآية ١٨ من سورة الأنعام الآتية، قال تعالى «فَذلِكُمُ» الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو «اللَّهُ رَبُّكُمُ» أيها الناس الإله «الْحَقُّ» الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة وحده «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ» الصريح الثابت أيها الناس «إِلَّا الضَّلالُ» الباطل، إذ لا واسطة بين الحق والباطل، وكذلك لا واسطة بين الإيمان والكفر ولا الجنة والنار، فالذي يتصف به العبد إما حقّا أو باطلا ومن أخطأ أحدهما وقع في الآخر لا محالة، لأن من وقاه الله من النار أدخله الجنة، ومن خصه بالإيمان عصمه من الكفر، وهكذا «فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٣٢» عن الحق إلى الضلال ومن التوحيد إلى الشرك؟ سئل مالك رحمه الله عن شهادة لاعب الشطرنج والنرد، فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة، يقول الله تعالى (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا كله في الضلال.
والصارف في الحقيقة هو الله تعالى، والإنكار والتعجب متوجهان إلى منشأ الصرف،
فلا بدلي من جهلة في وصاله | فمن لي بخل أودع الحلم عنده |
إن تك عمن أحسن الصنيعة مأ | فوكأ ففي آخرين قد أفكوا |
قليل التشكي في المصيبات حافظ | من اليوم أعقاب الأحاديث في غد |
مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن:
والفرق بين هذه الآية وآية البقرة عدد ٢٣ في ج ٣ واضح، لأن المراد هنا بسورة مثل القرآن والمراد بآية البقرة فأتوا بسورة من رجل مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وما قيل إن من هناك زائدة، قيل لا قيمة له، إذ لا زائد في القرآن، فكل قيل بزيادة حرف أو قصه في القرآن قيل غير سديد، وقائله قد زاد في حده وهو عن الحقيقة بعيد، فهنا تحداهم الله تعالى على الإتيان بسورة مثل القرآن بأحكامه وأخباره وبلاغته وفصاحته، وهناك على الإتيان بمثله من رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة معروف عندهم مثل محمد، لأنه أتى به على أميته المحققة عندهم، فكان معجزا بنفسه، كما أن الفرق بين هاتين الآيتين وآية هود الآتية بيّن، لأن تلك تحداهم بها للإتيان بعشر سور منه والإتيان من المخاطبين جميعهم أميهم وقارئهم، لأنه بعد أن تحداهم بكله في هذه الآية وفي آية الإسراء ٨٩ المارة في ج ١ وظهر عجزهم تحداهم بأقلّ منه بأن طلب منهم الإتيان بعشر سور منه فقط، ولم يأتوا ولن يأنوا، فظهر من هذا أن كل آية مختصة بشيء لا تشمله الآية الأخرى «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» لتستعينوا به على ذلك من أمثالكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تمدكم في المهمات وتلجأون إليها في المهمات «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٣٨» في قولكم، لأنه يستلزم الإتيان بمثله من أفرادكم ويستلزم قدرتكم عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدّى به على لسان ربه عز وجل مصاقع العرب بسورة ما منه، فلم يأتوا بذلك، وليعلم أن مجموع ما نزل حين هذا التحدي واحد وخمسون سورة، وقد تحداهم على الإتيان بمثلها، فلم يقدروا
والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته «وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ» لشقائه الأولي «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠» استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من الكافرون في ج ١، وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٥ من سورة سبأ الآتية «أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ» لا يصل وإليكم من جزائه شيء «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ٤١» لا يصل إليّ من جزائه شيء.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه الله وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل، إذ يقول الله تعالى «وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ٤٢» فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب الله عقولهم مع أسماعهم، لأن الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي
شهوات ولذات قانية، فصارت كالعدم «يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة، ويعرض الحبيب عن حبيبه، والزوج عن زوجته، والابن عن أبيه، والأخ عن أخيه، والأم عن ولدها، قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات ٣٥ فما بعدها من سورة عبس في ج ١، وقال تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الآية ١١ من سورة المعارج الآتية، وقال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية ١٠٣ من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم، فلا ينظر أحدهم للآخر، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ٤٥» في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى، قال تعالى «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» فيها، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ٤٦» من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم. وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية ٩٤ من المؤمنين الآتية وغيرها،
شيء من الأمر كله «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن يملكنيه بتقديره إياي على فعله، لأن إنزال العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء لا يكونان إلا بتقدير الله تعالى وقضائه لا قدرة للبشر على شيء من ذلك. وإن علم الساعة التي يكون فيها ذلك العذاب الموعود به من خصائصه أيضا لا علم لأحد بوقت قيامها، لأنه لم يطلع أحدا من خلقه على غيبه ولكن «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» معين عند الله، شرا كان أو خيرا ف «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» المحتم لنجاتهم أو عذابهم، واستوفوا ما قدره لهم من البقاء في هذه الدنيا كاملا نزل بهم، وإذ ذاك «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً» عنه ولا لحظة «وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ٤٩» عنه، وليس المراد هنا بالساعة الساعة الزمانية، راجع الآية ٣٣ من سورة الأعراف المارة في ج ١ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الباحثين عن حتفهم نطلقهم «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ» هذا الذي أوعدكم به «بَياتاً» ليلا وأنتم غافلون في فرشكم «أَوْ نَهاراً» بأن باغتكم به على حين غرّة وأنتم قائمون بأعمالكم وقد عمكم به «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ» وأي شيء يريد به «الْمُجْرِمُونَ ٥٠» إذا وقعوا فيه، وما الذي يستعجلون من أنواعه فكله مكروه لا يرغب بنوع من أنواعه فكيف تردون حلوله بكم وهو مر المذاق شديد الخناق
«أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ» فيكم ذلك العذاب ورأيتم ألمه وشدته «آمَنْتُمْ بِهِ» وصدقتم بنزوله من قبل الله وأردتم الإيمان بالله فلا يقبل منكم، لأن وقت نزوله وقت بأس لا تقبل فيه التوبة والرجوع إلى الله، وسيقال لكم «آلْآنَ» تؤمنون وقد فاتكم وقت الإيمان «وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ٥١» لأنكم لا تصدقون أن هناك عذابا وتسخرون بالرسل حينما يخوفونكم به «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بتكذيب الرسل وإنكارهم الإله من قبل ملائكة العذاب «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» الدائم
ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بين الأنبياء وأممهم، وهذه بين بعضهم بعضا، وقد جاءت هذه الأفعال بلفظ الماضي مع أنها في القيامة وأحوالها، وهي من الأمور المستقبلة لأنها واجبة الوقوع ومحققة فيها، فلذلك جعل الله تعالى مستقبلها كالماضي. واعلم أن كلمة أسرّ التي مصدرها الإسرار من الأضداد، إذ تكون بمعنى الإخفاء ولإظهار، ولذلك اختلف المفسرون فيها، فمنهم من قال أظهروا الندامة وأعلنوها على ما فاتهم، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تصبّر وتصنّع كي يظهروا خلاف ما يبطنون، وهو الأولى، لأن استعمال أسر غالبا في الكتمان وهو ما ينصرف إليه الذهن بادىء الرأي، وهو أنسب بالمقام، ومنهم من قال أخفوا أسفهم وندامتهم لئلا يلاموا عليها من قبل غيرهم فيجتمع عليهم عذابان العذاب واللوم أيضا، وعلى هذا يكون المراد بمن يخفي الندامة رؤساء الكفر خشية لومهم من أتباعهم.
هذا، وقد خاطب الله عز وجل رسوله سيد المخاطبين بقوله بعد ذلك «قُلْ» لهؤلاء الجهلة ليس الفرح الذي تطمئن له النفس بحطام الدنيا ولذتها الفانية، وإنما الفرح الدائم المحمود العاقبة يكون «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ» وهو الإسلام والإيمان والقرآن وطاعة الرسول «فَبِذلِكَ» الأمر العظيم الحسن العاقبة إذا أرادوا الفرح بمعناه، المبهج للوجوه، المثلج للصدور «فَلْيَفْرَحُوا» إذا فقهوا ونظروا إلى عاقبة الأمر، فلا شيء أحق أن يفرح به غير ذلك، فمن أعطي تلك الأمور الأربعة وعمل بما تفرع عنها فقد أعطي الخير كله لأنه «هُوَ» المشار إليه من الفضل والرحمة «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ٥٨» من متاع الدنيا، لأن ما آتاهم الله تعالى في الإسلام والإيمان والقرآن ومحمد ﷺ والانتفاع بها وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه لا يقاس بالدنيا وما فيها. واعلم أن الفرح لذة في القلب تظهر على الجوارح عند إدراك المحبوب والمشتهى من كل ما يؤمله الرجل، وأكثر ما يستعمل في اللذات البدنية الدنيوية، واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الأمور الأخروية، قال بعض المحققين إن في هذه الآية إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها: الأولى تهذيب الظاهر من فعل كل ما لا ينبغي، وإليها الإشارة بالموعظة الحسنة، لأن فيها الزجر عن المعاصي، وإذا انزجرت النفس عن المعاصي جنحت إلى الطاعات ففازت بالرضى، الثانية تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية، وإليها الإشارة بشفاء لما في الصدور، الثالثة تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى، الرابعة تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن وذلك المشار إليه بقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ) إلخ الآية، هذا ومما يدل على تفسير الآية بما ذكرنا ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله، ولا يكون من أهله إلا من هو مسلم مؤمن. وروى ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري، وجاء عن جمع أن الفضل القرآن، والرحمة الإسلام. وقيل إن المراد بالرحمة محمد ﷺ لقوله تعالى
وأخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل محمد ﷺ والرحمة علي عليه السلام وهو كرم الله وجهه وإن كان رحمة جليلة لهذه الأمة إلا أن المقام لا يناسب التفسير بذلك، كما أن الله تعالى لم يطلق الفضل على رسوله محمد بالقرآن، ولهذا فالأولى بالتفسير هو ما ذكرناه والله أعلم. وفي هذه الآية دلالة على الاستشفاء بالقرآن العظيم، ولا شك أنه بركة جليلة قد يذهب الله تعالى به الأمراض الحسية والمعنوية، وهذا مما لا ينكره أحد إلا قليل الاعتقاد، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية ٨٢ من سورة الإسراء المارة في ج ١، «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ» هذا عامّ في كل ما نزل من السماء أو خرج من الأرض أو كان مما بينهما أو حصل من حيوان وطير وحوت وسائر ما به نفعكم أيها الناس «فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا» بأن بعضتموه وقسمتموه، وهو ما ذكره الله تعالى فى الآيات من ١٣٦- ١٤٠ من سورة الانعام الآتية من تخصيص بعض الحيوان والحرث لأناس دون غيرهم وتحريم بعض الحيوان كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها من تلقاء أنفسهم، كما ستجد تفصيله بمحله إن شاء الله، فيا أكمل الرسل «قُلْ» لهؤلاء المستبدين بالتحليل والتحريم والتخصيص والإباحة «آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ» بذلك أم تلقيتموه عن رسوله أم من كتابه «أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ٥٩» فتنسبونه إليه دون أن يأذن لكم به، وبما أنه تعالى لم يأمر بذلك ولم ينزّل به شيئا على رسوله فأنتم كاذبون مختلقون لزعمكم في قولكم (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) كما مر في الآية ٢٧ من سورة الأعراف المارة في ج ١.
مطلب الحرام رزق مثل الحلال وقول المعتزلة فيه والرد عليهم.
هذا، وإن ما استدلت به المعتزلة في هذه الآية بأن الحرام ليس برزق لا مستند له، لأن المقدّر للانتفاع هو الحلال، فيكون المذكور في هذه الآية قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام. قال في بدء الأمالي:
وإن السحت رزق مثل حل | وإن يكره مقالي كل قالي |
وعالم بعلمه لم يعملن | معذّب من قبل عابد الوثن |
روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه. فيجب على المتقي الورع أن يجتنب الحريم والمحرم لأن المحرم حرام لعينه، والحريم محرم، لأنه يت؟ رج به إلى الحرام، فمن كانت هذه صفاتهم. َهُمُ الْبُشْرى»
بالنجاة من كل سوء والفوز بكل حسنِ ي الْحَياةِ الدُّنْيا»
قال أكثر المفسرين البشرى في هذه الآية الرؤيا الصالحة الصادقة، أخرج الترمذي عن عبادة ابن الصامت قال: سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالىَ هُمُ الْبُشْرى)
قال هي الرؤيا الصالحة يراعا المؤمن أو ترى له. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا وما البشرات؟ قال الرؤيا الصالحة. وروى البخاري ومسلم عنه أيضا أن رسول الله ﷺ قال إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. هذا لفظ البخاري ولمسلم إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من
هذا، وقيل إن البشرى هي الثناء الحسن في الدنيا والجنة في الأخرى، أخرج مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله ﷺ أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه، قال تلك عاجل بشرى المؤمن، قال العلماء هذه البشرى المعجلة له بالخير في الدنيا دليل للبشرى المؤجلة له في الآخرة المشار إليها بقوله تعالى:
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية ١٢ من سورة الحديد في ج ٣، وهذه البشرى المعجلة دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبّته له وتحبببه إلى خلقه، وقال الزهري وعطاء وابن عباس وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند نزول الموت بدليل قوله سبحانه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) وتقول لهم (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) من هول القبر والقيامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) الآية ٣٧ من فصلت الآتية، وفي الآخرة أيضا بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله ويبشر برضوان الله. وقال الحسن هي ما بشر الله به المؤمن في كتابه من جنّته وكريم ثوابه يدل عليه قوله تعالى تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ»
ولا إخلاف لمواعده التي وعد بها عباده المخلصين العارفين في كتابه وعلى لسان رسله ولا تغيير لشيء من لِكَ»
أي تبشير المؤمن بما فيه سعادته في الدارينُ وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
٦٤» الذي لا أعظم منه، وهذه الآيات الثلاث واقعة كالمعترضة بين ما قبلها وهو (وَما تَكُونُ) إلخ، وبين ما بعدها وهو «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» في شأنك من التخويف والتهديد ولا يسؤك تكذيبهم وتعزيزهم بكثرة الأموال والأولاد «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» فالغلبة والقهر على الأعداء بالقدرة من خصائص
الآية ٤٥ من سورة الروم الآتية، وقال تعالىَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ)
الآية ١٧ من الصافات الآتية، ولهذا فإنه تعالى قادر على سلبهم ما يتعززون به عليك بإهلاك أموالهم وأولادهم وذوبهم وإدلالهم وإهانتهم وإظهار عزك عليهم بالنصر و «هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالهم ودعائك «الْعَلِيمُ ٦٥» بنواياهم وأحوالك، والدليل على أن الآية السابقة معترضة الالتفات إلى الخطاب لتكون معطوفة على (وَما تَكُونُ) التي هي خطاب لحضرة الرسول أيضا، والحذف أي لو حذفتها ووصلت ما قبلها بما بعدها لصح المعنى شأن الآيات المعترضة والآيات المدنية بالسور المكية وبالعكس، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه حذف شيء من ترتيب القرآن بالقراءة للوصل المذكور ولا لغيره قطعا، ويحرم إلا الاتباع لما هو محرر في المصاحف لا تبديل لكلمات الله، قال تعالى قوله «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» كل آية تصدّر بأداة التنبيه كهذه فيها تنبيه للسامع على النظر لمعناها ومغزاها، فهذه تنبه القارئ أن لا ملك لأحد في هذين الهيكلين العظيمين وما فيهما إلا الله، وأن كل من يدعي العزّة على غيره ولم يرد الله عزّه لا ينالها، لأنه جل شأنه لا يسخر أحدا له مما بين السماء والأرض ينصره ويقويه، وإذا علم هذا فكل أحد ذليل إلا من أعزه الله، وكل أحد ضعيف إلا من قواه الله، وكل أحد مهان إلا من أكرمه الله، فمن أراد عزّه سخر له ما يدعو إلى ذلك من خلقه الذين هم في السموات والأرض، فيكون عزيزا بعزّة الله، ولا تكرار في هذه الآية لأن الآية المتقدمة عدد ٥٥ جاءت بلفظ (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ، وكذلك الآية الآتية عدد ٦٨ وكل ما صدر بما يكون لغير العاقل غالبا، وما صدر بمن
قال تعالى «وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ» مفعول يدعون قبله، ومفعول يتبع مقدر تقديره شيئا غير أهواءهم وتسميتهم لأن شركة الله تعالى في ربوبيته محالة، وهذا على أن ما في يتبع نافية وهو الأولى في المقام والأنسب في المعنى، وقد ذكر صاحب الجمل رحمه الله وجوها أخرى في معنى ما، وتفسير هذه الآية. وجعل الشربيني عفا الله عنه مفعول وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء أيضا، وصدر قوله هذا بقوله (وكان حقه وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) شركاء وأراه متجاوزا في قوله هذا، لأن الحق ما قاله ربه لا ما جرى عليه هو وغيره، راجع الآية ٥ من سورة الحج والآية ١٠٨ من سورة التوبة في ج ٣، وهو خلافا لما جرينا عليه من أن مفعول يتبع الذي قدرناه تبعا لغيرنا (شيئا) إذ يدل عليه قوله تعالى «إِنَّ» أي ما «يَتَّبِعُونَ» في الحقيقة «إِلَّا الظَّنَّ» على توهم شفاعتها لهم «وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ٦٦» يحزرون ويقدرون شركة الله تعالى تقديرا باطلا وكذبا محضا، فتبّا لما يتبعون، وتعسا لما يزعمون، وقبحا لما يفعلون، ويؤسا لما يكذبون، وإفكا بحتا لما يفترون.
ثم نبه جل شأنه على عظيم قدرته وشمول نعمته وأنه الذي يستحق العبادة وحده بقوله «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ» فتستربحوا من أتعابكم التي قاسيتموها في النهار «وَالنَّهارَ» جعله «مُبْصِراً» لتنصرفوا فيه إلى أعمالكم وتأمين معاشكم والنهار يبصر فيه لا يبصر هو إلا أن معناه مفهوم في كلام العرب فخاطبهم بلغتهم، قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى | ونمت وما ليل المطي بناثم |
قال تعالى «وَاتْلُ» يا محمد «عَلَيْهِمْ» أي قومك «نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» هم بنو قابيل أول رجل أهرق الدم على وجه الأرض وسن القتل الذي لم يعرف قبل، إذ قتل أخاه هابيل وعصى أباه، كما ستأتي قصتهما في الآية ٢٧ من سورة المائدة في ج ٣.
قال ﷺ من سن حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة. وهو أول من انشق على أهله ومنه بدأ الخلاف، لأمر أراده الله، قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» الآية ١١٨ من سورة هود الآتية، وفائدة هذه القصص إخبار حضرة الرسول بأحوال الأمم السابقة مع أنبيائهم، وإعلامه بأنه ليس هو وحده قاصى شدة بإرشاد قومه بل إخوانه الأنبياء كانوا كذلك، فإنهم كذبوا وأهينوا وطردوا وقتلوا، ليتسلى بذلك ويهون عليه. ما يلاقيه من قومه، قال تعالى حاكيا حاله معهم «يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ» ثقل وعظم وشق «عَلَيْكُمْ مَقامِي» بين أظهركم إذ طال أمده فيهم إذ لبث بعد تشرفه بالنبوة معهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كما سنبينه في الآية ١٤ من سورة العنكبوت الآتية، وهو يدعوهم خلالها إلى الله ولينبذوا الكفر فلم ينجع بهم «وَتَذْكِيرِي»
يصعب عليكم ووعظي إياكم «بِآياتِ اللَّهِ» وبيان حججه وبراهينه طلبا لهدايتكم لما به نفعكم، ولقاء هذا تعزمون على طردي وقتلي، فافعلوا ما شئتم «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ»
يؤيد هذا التفسير قول من جعل الواو بمعنى مع، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم.
وما قيل إن المراد بالشركاء هنا الأوثان، مخالف للظاهر ومناف للسياق، وإذا صحت الحقيقة فلا مجال للعدول عنها إلى المجاز «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» هما وكربا بل اجعلوه سهلا ويسرا «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ذلك الأمر الذي أجمعتم عليه وأهلكوني، وتخلصوا مني، واطرحوا عنكم ثقلي عليكم، وتخلصوا من مقامي بينكم، ولا تلتفتوا لتذكيري «وَلا تُنْظِرُونِ ٧١» لا تمهلوني إن استنظرتكم بل عجلوا بما تريدونه. هذا وإن تفسير الغمة بالستر والخفاء والإبهام كما ذكره بعض المفسرين لا يناسب المقام، إذ يكون المعنى على هذا التفسير ليكن أمركم ظاهرا منكشفا، أخذا من غم الهلال إذا خفي والتبس أمره على الناس، وعليه حديث وائل بن حجر: لا غمة في فرائض الله. أو لا تستر ولا تخفي بل تظهر وتعلن، فالمشي على هذا الوجه فيه بعد عن المعنى المراد والله أعلم «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» عن نصحي، وأدبرتم عني وأعرضتم عن تذكيري، فذلك شأنكم، أما أنا «فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» على إرشادي حتى يؤدي نصحي إلى توليكم عني أو تتهموني بالطمع «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» لا على أحد غيره. فإن أطعتموني فهو حظكم وسعادتكم، وإلا فلا ضرر عليّ من عدم قبولكم نصحي المؤدي إلى حرمانكم من الإيمان بالله الموصل إلى نعيمه الدائم، ولكن آسف عليكم والله يثيبني على نيتى آمنتم أو توليتم «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ٧٢» لله المستسلمين لأمره ونهيه، فإني لا أخالف أمره ولا أخاف سواء، هذا آخر كلام نوح عليه السلام لقومه وقد بلغ الغاية في النصح لهم، وأظهر عدم مبالاته بما يريدونه به من العزم على قتله، وقد بلغ النهاية من درجات التوكل والوثوق بالله عز وجل مبينا عدم خوفه منهم ومما أجمعوا عليه به، وصارحهم بأن مكرهم مهما كان فإنه لا يصل إليه لاعتماده على ربه «فَكَذَّبُوهُ» وقابلوا مبالغة نصحه لهم والتصلب
وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل رسول أرسل إلى قومه خاصة، وإيذان بعموم رسالة محمد ﷺ وهذ متفق عليه في بداية كل نبي ونهايته فيما عدا نوح عليه السلام إذ اختلف العلماء في بعثته، هل هي لأهل الأرض عامة أو لصنع مخصوص، وينبني على هذا الخلاف الخلاف في أن الطوفان هل عم وجه الأرض كله أو بعضه؟
قال ابن عطية: الراجح الثاني المؤيد بكثير من الآيات والأحاديث، ولأن كثيرا من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الطوفان. هذا أصح ما قالوه في بداية رسالة نوح، أما نهايتها فهي عامة، إذ أجاب الله دعاءه بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية ٢٦ من سورة نوح الآتية، فالذي لم يهلك بالطوفان هلك بغيره إذ ثبت أنه لم يبق بعد الطوفان على وجه الأرض سوى من كان معه بالسفينة لعموم الآية المستشهد بها والآية المفسرة قبل وظاهر الآيات الأخر والأحاديث الواردة في هذا الشأن، وعلى هذا فالفرق بين رسالة محمد ورسالته عليهما الصلاة والسلام خصوص رسالة نوح ابتداه وعمومها انتهاء، وعموم رسالة محمد ابتداء وانتهاء، وان رسالة نوح مقصورة في زمنه، ورسالة محمد مستمرة إلى آخر الدوران، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية المذكورة من سورة نوح الآتية، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ»
أي الأنبياء المذكورين وغيرهم ممن لم يذكرهم الله في كتابه «مُوسى وَهارُونَ» صدر هذه الآية ينفي القول بعدم رسالة هرون عليه السلام، كما ذكر في التوراة الموجودة الآن، لأن صريح بعثة هرون كبعثة موسى، راجع الآية ٣٤ من القصص المارّة في ج ١، وهذه من جملة الآيات المحرفة بالتوراة وهي كثيرة، وسنبين منها كل ماله مناسبة ومساس في تفسير الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» أشراف قومه، ويندرج فيهم بقية قومه، لأنهم تبع لهم، ولذلك خصهم وسمى الملأ ملأ لأن رؤيتهم تملأ العين رواء والنفوس جلالا وبهاء إذ كانوا يمتازون على العامة باللباس والسكن والمأكل والمشرب والمركب وغيره، وهم أهل الحل والعقد في الملك وهم خاصة الملك ومرجع أمره، وعززناهما «بِآياتِنا» المعجزات المار ذكرها في الآية ١٣٣ فما بعدها
والمكان الذي اتفقا عليه كما مرت الإشارة إليه في سورة الشعراء وطه في الآيات ٣٧/ ٧٥ فما بعدها المارات في ج ١ «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ٨٠» تقدم سبب تقديمهم له في السورتين المذكورتين، وهو بإلهام من الله، لأن سحرهم لا يؤثر بعصا موسى لو ألقاها أولا بخلاف ما لو ألقاها بعدهم، لأنها تؤثر في سحرهم، ولولا هذا التقديم لقال الجهال، وكلهم إذ ذاك جهال ما غلب موسى السحرة فقط
«فَلَمَّا أَلْقَوْا» ما معهم من الحبال والعصي المطلية بالزئبق والمحشوة به قبل طلوع الشمس حتى رآها الناس على حالها، ثم صاروا يدمدمون عليها حتى طرقتها حرارة الشمس، فصارت تتحرك كما مرت الإشارة إليه في تلك السورتين والآية ١٢٦ من الأعراف المارة في ج ١ أيضا، وبهذه الصورة موهوا على الناس بأنها انقلبت حيات وجبالا «قالَ مُوسى» مخاطبا للسحرة بعد أن ألقى عصاه، وصارت تلقف الزئبق المطلي بعصيّهم وحبالهم بقدرة الله تعالى الذي جعل فيها قوة جاذبة لذلك الزئبق كالمغناطيس في جذب الحديد «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» هو الشيء الباطل بعينه «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ» ويفضحكم بمحقه بالكلية حتى يكون لا أثر ولا عين بالحق الذي آتانيه ربي قطعا لمادة الفساد «إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ٨١» لا يحسنه ولا يقوّيه ولا يثبته ولا يؤيده وقدمنا في الآية ٥٢ من سورة الشعراء ما يتعلق بالسحر فراجعه «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ» يثبته ويقوّيه ويجعله ما حقا للباطل ومرهقا لأهله، ويظهره «بِكَلِماتِهِ» التي وعد بها أنبياء بالنصر وإعلاء الكلمة «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ٨٢» ذلك، فإنه يوقعه فيهم ويوجبه عليهم قال تعالى «فَما آمَنَ لِمُوسى» بعد ظهور هذه المعجزات الواضحة على يده وخيبة ما أمله فرعون من سحرته الذين آمنوا بموسى لما عرفوا
خير منا فيتعنّتوا بذلك، ويزدادوا كفرا وطغيانا فتكون مسخرين «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٨٥» المتمادين في الظلم ولا تهلكنا بذنوبنا أو ذنوبهم «وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ٨٦» ومن قبح جوارهم وسوء صنيعهم بعد أن تخلصنا من ظلمهم وبغيهم ولهذا عبر عنهم بالكفر بعد الظلم ووضع المظهر موضع المضمر أي القوم الكافرين بدل منهم هذا ولا جرم أن الله تعالى أجاب دعاهم، وقبل توكلهم، فنجاهم مما يخافون وأهلك عدوهم، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن تستجاب دعوته فليخلص لربه ويرفض ما سواء ويحسن ظنه به، فإنه عند حسن ظن عبده به قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا» اتخذا واجعلا «لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً» للصلاة يرجعون إليها بعبادتهم لإقامة شعائر الدين فيها «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» تستقبلونها في صلاتكم وكلوا أي الأنبياء، عليهم السلام في ذلك الزمن يستقبلون الكعبة، كما روى عن ابن عباس قال قال بنو إسرائيل لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأن يجعلوها قبل القبلة، لأن موسى وهارون كانوا يستقبلونها لكونها قبلة أبيهم إبراهيم عليهم السلام، وكانوا يصلون خفية لئلا يؤذيهم كفرة القبط، كما كان محمد وأصحابه في بداية الإسلام، فإنهم كانوا يخفون صلاتهم وعبادتهم خشية اذية قريش
وقيل في هذا المعنى:
وأموالنا لذوي الميراث نجمعها | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
ثم أنه لما رأى موسى عليه السلام إصرارهم على الكفر ولم ينجع فيهم نصحه، ولم يتيقظوا لصبر الله عليهم، ولم يؤثر فيهم ما أظهره لهم من المعجزات على يد رسولهم، ركن إلى الدعاء عليهم بعد أن أيس منهم، فقال «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ» أهلكها وأذهب آثارها وامحقها لأنهم يستعينون بها على معصيتك والطمس المحو وإزالة الأثر للشيء، قال قتادة بلغنا أن زروعهم وأموالهم وجواهرهم صارت حجارة. وقال ابن عباس، إن دراهمهم ودنانيرهم صارت حجارة منقوش عليها نقشها كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا. وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة وهي حجارة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة راجع الآية ١٠١ من الإسراء في ج ١ والأولى أن يراد بهذا الطمس إتلافها وذهاب منافعها وهو أولى، والله أعلم، لتدخل في جملة الآيات التسع المشار إليها في الآية المذكورة من سورة الإسراء، إذ لا يتجه عدها منها على رأي بعضهم بالمعنى الأول، أي قلبها حجارة مع بقاء وصفها، هذا وقدمنا في الآية ١٤٣ من الأعراف في ج ١ ما يتعلق بهذا فراجعها يتبين لك أن هذه ليست من الآيات التسع، وأن الآيات تسع عشرة، منها ما هو خاص بموسى، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص ببني إسرائيل قبل خروجهم من مصر وبعد خروجهم، وما قيل إن صورهم صارت حجارة لا وجه له، لأنه عليه السلام دعا على أموالهم لا عليهم، وكان عذاب القبط بالغرق لا بالمسخ. واعلم أن النبي لا يدعو على قومه ما زال يأمل إيمانهم، ولم يدع عليهم إلا بإشارة من الله تعالى، وأول من دعا على قومه نوح عليه السلام، وذلك بعد أن أوحى إليه ربه بقوله جل قوله (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الآية ٣٦ من سورة هود الآتية، فراجعها تعلم منها أنه يئس من إيمانهم فدعا عليهم، وهكذا موسى وغيره ومن قبله وبعده لأنهم أشفق على أمتهم من الأب على ولده، ولذا قال ﷺ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون حينما تعدوا عليه وآذوه
وما إيمان يأس حال بأس | بمقبول لفقد الامتثال |
لا تسألن بنيّ آدم حاجة | وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤاله | وبني آدم حين يسأل يغضب |
واعلم أن قول فرعون لا يدل على الإخلاص بل يقيد التشكيك، لأنه لم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو، ولم يقل كما قالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الآية ١٢٠ من سورة الأعراف المارة في ج ١، وأن قوله (آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) هذا دليل على عدم اعتقاده صحته، لأنه كان دهريّا ينكر الصانع الأعظم، ولذلك ادعى الربوبية على قومه الذين يعبدون الأوثان، فلم تنفعه توبته ولا إيمانه، لأنه لم يجنح إليها إلا بعد انفلاق بابهما بحضور الموت بصورة لم يبق معها له أمل بالنجاة منه، ولو أراد الله لوفقه لهما عند رؤية معجزة انفلاق البحر، إذ كان في الوقت فسحة ولكن من يرد الله خذلانه فلا هادي له.
مطلب الحكمة في عدم قبول إيمان اليائس وإخراج جثة فرعون ومعجزة القرآن:
قال تعالى «آلْآنَ» تركن إلى الإيمان وقد ضيعت وقته، لا لا سبيل لك إليه «وَقَدْ عَصَيْتَ» ربك وبغيت وتطاولت بادعائك الألوهية «قَبْلُ» هذا الوقت وقد دعيت للإيمان سنين كثيرة ولم تجب دعوة رسولنا، ولم ترجع إلينا، أما الآن وقد اضطررت في وقت اليأس من الحياة فلا سبيل لإجابة طلبك الإيمان لإعراضك عنه في وقته «وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ٩١» في أرض الله وعباده وبلاده، وأهنت رسلي وتجبرت على عبادي. والحكمة في عدم قبول إيمان اليائس هو أن الناس إذا صاروا في تلك الحالة يضطرون إلى الإيمان ليخلصوا من العذاب، فلو قبل منهم لآمن كل أتباع الرسل المتقدمين، ولما أهلك الله منهم أحدا فتتعطل الحكمة المرادة من تعذيب الكافر وتنعيم المؤمن، لأنه إذا قبل إيمان الكافر عند آخر رمق من حياته يتساوى مع المؤمن بنعيم الجنة، وهذا مخالف لإرادة الله ووعده ووعيده، ولهذا اقتضت إرادته الأزلية بعدم الانتفاع بإيمان اليائس، وعند نزول العذاب الذي لا محيد عنه لتحصل ثمرة التفاوت بين المؤمن والكافر، وكذلك
ولا بعد في هذا لأن الله أرسل إلى داود من استفتاه بشأن المرأة التي أخذها كما مرّ في الآية ٢٤ من سورة ص في ج ١، فحكم على نفسه بنفسه وهو نبي مرسل فلأن يرسل إلى هذا الخبيث لتحق عليه الكلمة بفعله القبيح من باب أولى.
وروي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لما أغرق الله فرعون قال (آمَنْتُ) إلخ قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حبال البحر فأذسه في فيه مخافة أن تتداركه الرحمة- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن-. وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ذكر أحدهما عن النبي ﷺ أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله، أو خشية أن يرحمه الله- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-. وبما أن هذا الحديث مشكل في ظاهره فيحتاج إلى إيضاح في صحته ومعناه، أما صحته فقد ورد من طريقين مختلفين عن ابن عباس، الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو شيخ نبيل صالح صادق، ولكنه كان سيء الحفظ ويغلط، ولهذا ضعفه يحيى بن معين وغيره، والحديث الثاني إنما يضعف إذا لم يتابع عليه أو إذا خالفه الثقات، وكلا هذين الأمرين منتف فيه لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير، وهو إسناد على شرط البخاري، ورواه أيضا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، وعطاء ثقة قد أخرج له مسلم وما تكلم في عطاء من قبل اختلاطه انما يخاف منه إذا انفرد به أو خولف فيه، وكلاهما منتف أيضا، فعلم أن هذا الحديث له أصل ثابت وأن رواته ثقات (وليس في قول ذكر أحدهما عن النبي ﷺ شك في رفعه) وإنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه، وشك شعبة في تعيينه بأنه هل هو عطاء أو عدي، وبما أن كلا منهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك الآخر في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث، وكلمة حبال البحر في الأول وطينه في الثاني لا تكون مباينة، لأن حبال البحر طينه، فالمعنى في الروايتين واحد، فلا يصح الاعتراض عليه بعد
(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) الآية ١٥٥ من سورة النساء في ج ٣، وقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية ١١١ من سورة الأنعام الآتية، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الآية ١٠١ من الأعراف المارة في ج ١، وهكذا فعل جل شأنه بفرعون إذ منعه عن الإيمان جزاء تركه إياه، ودس الطين في فمه من قبل جبريل عليه السلام من جنس الطبع والختم على القلب، ففعله هذا مع فرعون عليه اللعنة من هذا القبل، ولم يكن إلا بإرادة الله الملك الجليل، وغاية ما فيه أن يقال إن الله منع فرعون من الإيمان عقوبة على كفره السابق، وما قيل إنه لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل كان عليه أن يعينه عليها، هو قيل قد يكون سديدا إذا كان جبريل مكلفا مثلنا يجب عليه ما يجب علينا، أما إذا كان ليس كذلك وإنما يفعل ما أمره الله به وهو الذي منع فرعون من الإيمان، وإنما جبريل منفذ لأمره ليس إلا، فكيف لا يجوز له منع من منعه الله وكيف يجب عليه اعانة من لم يعنه الله، وقد أخبر عنه بأنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، وقد قضت حكمته أن لا يقبل الإيمان في مثل حالة فرعون، ولما كان في أفعال الله تعالى قولان أحدهما أنها لا تعلل وأن تعليلها محال، فعلى هذا لا يرد شيء من هذا أصلا، ولم يبق إشكال في معنى الحديث، والقول الثاني أن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح، فعلها لأجلها، وكذا أوامره ونواهيه، لها غاية محمودة لأجلها أمر بها، ونهى عنها، وعلى هذا يقال لما قال فرعون (آمَنْتُ) إلخ، وقد علم جبريل بإعلام الله إياه أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب، وأن الوقت المقبول فيه الإيمان نفد، وأن إيمانه في غير الوقت المحدد له لا ينفعه، دسّ الطين في فيه لتعجيل ما قد قضى عليه، وسد الباب عنه سدا محكما بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ، ولا يبقى من
على أن الرضاء بالكفر إنما يكون كفرا بحقنا لأننا مأمورين بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفرا بحقنا مخالفتنا ما أمرنا به، وإن من ليس بمأمور كأمرنا، ولا مكلفا تكليفنا، بل يفعل ما يأمره سيده ربه كالملائكة، فإنه إذا نفذ ما أمره به ربه لم يكن راضيا بالكفر ولا يكون كفرا بحقه، وما قيل كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بمنع فرعون من الإيمان فقول سخيف لأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل، فإذا علم هذا ويقول كيف فهو سخيف، وإذا لم يعلم فهو جاهل جهلا مركبا، هذا وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ قال لي جبريل عليه السلام ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى مثل ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد، وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتعصم بكلمة الإخلاص فينجو، فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال (آلْآنَ) إلخ، قال تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا» وطنّا وأنزلنا «بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ» منزلا محمودا صالحا مرضيا وصفه بالصدق، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق فتقول رجل صدق وقدم صدق، راجع الآية الثانية من هذه السورة، وذلك أن الشيء إذا كان كاملا لا بد وأن يصدق الظن به، وهذا المكان هو مصر والشام والقدس والأردن، وهي بلاد الخصب والبركة، ومن أحسن بقاع الأرض وأخيرها نتاجا، فالكامل فيها لا يضاهيه كامل في غيرها، ولهذا كانت مهبط الأنبياء ومهاجرهم ومدافنهم فيها، وناهيك به شرف «وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» اللذائذ الحلال من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن ومركوب «فَمَا اخْتَلَفُوا»
مطلب معنى الشك المخاطب به محمد ﷺ ومعنى الصدق والأراضي المباركة والآيات المدنيات:
«فَإِنْ كُنْتَ» يا سيد الرسل «فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» في هذا القرآن على سبيل الفرض والتقدير، لأن الشك في ذلك لا يتصور منه وقوعه لا نكشاف الغطاء له صلى الله عليه وسلم، ولذا عبّر بان التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل غالبا فيما لا تحقق له ولا جزم بوقوعه، حتى إنها تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) الآية ٨٢ من سورة الزخرف الآتية، وقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الآية ٢٦ من سورة الانعام الآتية ولم يعبّر في هذه الآيات بإذا لأنها تفيد الجزم بوقوع الشرط بعدها، وصدق القضية الشرطية لا يتوقف على وقوعها، أي إن كنت في شك مما قصصناه عليك من قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» وهم الأخبار والعلماء والربانيون العارفون بالتوراة والإنجيل والزبور، فإنه محقق عندهم لا مرية فيه لأنها مدونة في كتبهم بعضا باللفظ وبعضا بالمعنى وأخرى بالإشارة وطورا بالعبارة وتارة بالرمز ومرة بالامارة، وخص هذا السؤال بالقصص لأن الأحكام القرآنية قد تخالف ما عند أهل الكتاب، لانها ناسخة لكثير منها ومغايرة لها، إذ جاءت موافقة لعصره ﷺ فما بعده إلى يوم القيامة، بخلاف الأحكام الموجودة في كتبهم، إذ لم تكن صالحة لذلك، والشك لغة خلاف اليقين وهو اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة، وهو ضرب من الجهل وأخص منه،
محمد بشر وليس كالبشر | بل هو جوهرة والناس كالحجر |
وهاتان الآيتان على حد قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما سيأتي في الآية ١٠٤ من هذه السورة، وما قدمناه في الآية ١٧ من سورة القصص المارة فهي من جملة الخطابات المراد بها غيره صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من الشك والمرية والتكذيب، كما ثبت لك مما تقدم وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن العظيم، وأحسن الأقوال في تفسيرها ما ذكرناه لك في تفسير هذه الآية، فتمسك بها واحذر أن تكون ممن يشملهم قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ»
بالعذاب الداخلين في قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية ١٢٠ من سورة هود الآتية المحكوم عليهم بذلك بمقتضى قضائه الأزلي وقدره السابق في علمه المسجل في لوحه المحفوظ «لا يُؤْمِنُونَ» البتة إذ لا يمكن نقض قضاء أبرمه وتخلف إرادة قضاها، وهكذا كل من قطع الله بعدم إيمانه لا يؤمن مهما جاءه من الرسل والكتب ومهما أظهر له من الآيات والمعجزات بدليل قوله تعالى «وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ» من آيات الرسل الأقدمين وغيرها، لأنهم لا ينتفعون بها ولا يتدبرون حكمها ولا يعقلون معناها لصرفهم جوارحهم إلى غير ما خلقت لها، لذلك قطع الأمر بموتهم كفارا وتخليدهم بالنار، لأنهم مثل فرعون لا يؤمنون «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ٩٦» الذي لا آلم منه ولا مرد له ولا نجاة منه، وإذا آمنوا حينذاك لا ينفعهم إيمانهم للإتيان به في غير محله كما مرّ تفصيله في الآية ٩٠ آنفا وهذه آخر الآيات المدنيات، قال تعالى «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ» أي أهلها من اطلاق المحل وإرادة الحال فيه، كما تقول سال الوادي، وجرت الساقية، وهذا كثير في القرآن أيضا وهو من محسنات الكلام. «آمَنَتْ» عند معاينة العذاب «فَنَفَعَها إِيمانُها» حال اليأس، ولا يرد على هذا عدم قبول إيمان فرعون، لأنه لم يفارقه النبي الذي أرسل لإرشاده حتى أدركه الغرق، أما هؤلاء فإن نبيهم بعد أن أنذرهم بنزول العذاب تركهم كما سيأتي في القصة.
وقد سبق في علم الله تعالى صدق نيتهم في توبتهم قبل إحاطة العذاب فيهم، كما سنوضحه لك قريبا، بخلاف فرعون لأنه في تلك الحالة الرهيبة لم يزل شاكا كما تقدم في الآية ٩٠ المارة حتى مات «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ» استثناء متصل، لأن الجملة في معنى النفي، أي ما آمنت قرية من القرى الهالكة فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا نفعهم إيمانهم، وقوم منصوب على أصل الاستثناء وإذا رفعت (قوم) على القراءة الأخرى كان الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى لكن قوم يونس نفعهم إيمانهم «لَمَّا آمَنُوا» إيمانا خالصا لا يشم منه رائحة شك أو غيره ولذلك «كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ» الذلّ والهوان «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بخلاف غيرهم إذ استأصلناهم بالعذاب لعدم صدق نيتهم وصحة إخلاصهم، وقد سبق في علم الله أن الذين استؤصلوا لو أجاب دعاءهم ورفع عنهم العذاب لردوا إلى ما نهوا عنه، أما هؤلاء فكان في علمه الأزلي إخلاصهم لله في توبتهم، لذلك رفعنا عنهم العذاب «وَمَتَّعْناهُمْ» في الدنيا بعده «إِلى حِينٍ ٩٧» انقضاء أجلهم المقدر لمكثهم فيها، وهو الأجل المبرم المقدّر على حسن توبتهم ونيتهم ولولا ذلك لأهلكوا بالأجل المعلق المقدر على عدم توبتهم ورجوعهم إلى الله، راجع الآية ٢ من سورة الأنعام الآتية. ، وهؤلاء خصوا من بين الأمم بحسب قضاء الله الأزلي، وتنطبق عليهم القاعدة ما عموم إلا وخص منه البعض، كقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية الأخيرة من سورة القصص المارة، وقوله تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٦٩ من الزمر الآتية، وقوله تعالى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الآية ٨٨ من سورة النمل المارة في ج ١. هذا ولا يقال إنهم آمنوا قبل نزول العذاب لمخالفته للآية لأن الكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو بعد قرب وقوعه، لأنه وقع قبل إحاطته بهم وبعد مشاهدتهم له، والله أعلم. وخلاصة القصة على ما ذكره الأخباريون هي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى بأرض الموصل، وكانوا مشركين فدعاهم لتوحيد الله تعالى ورفض سواء من الآلهة، فأبوا عليه وأصروا
الرجل دون بيّنة قتلوه، وانصرف مغاضبا. وسنأتي على بقية هذه القصة في الآية ١٣٩ فما بعدها من سورة الصافات الآتية حتى لا تتكرر
مطلب المشيئة عند أهل السنة والمعتزلة ومعنى الآية فيها:
قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ» على الإحاطة والشمول «جَمِيعاً» تأكيد بعد تأكيد بحيث لا يتخلف منهم أحد البتة، ولكن الله جل شأنه لم يشأ ذلك، لأنه لا يشاء إلا ما يعلمه ولا يعلم إلا ماله ثبوت في نفسه في لوحه، فما لا ثبوت له أصلا لا يعلم، وما لا يعلم لا يشاء، ولا يشاؤه لكونه مخالفا لحكمته التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. وفي هذه الآية إشارة إلى تحقيق دوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، وإعلام بكمال قدرته ونفوذ مشيئته، وحجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها، وقرية لا يجوز التخلف عنها، وحملوا ما في الآية على الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة إلجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا، لكنه لم يشأ، بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيارا له ولضده، وفوض الأمر إليهم، محتجين بقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٢٩ من سورة الكهف الآتية، وهذا ديّنهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقيد مع أن قوله تعالى «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٩٨» يأباه قياسهم لأن المعنى ليس لك الأمر بإكراه الناس على الإيمان، وإنما أنت مبلغ ومنذر، فلا تحرص على إيمان من لم يؤمن، لأنه لا يكون إلا بالتصديق والإقرار ولا يمكن الإكراه على التصديق.
والهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة والفاء للتفريع والمقصود تفريع الإنكار.
ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفريع الإنكار وقيل الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء أفأنت يا محمد تكرههم على الإيمان، والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على مشيئته تعالى، والإباء هو الإباء، فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها،
وقيل السخط والعذاب وأصله الشيء الفاسد المستقذر، وعبّر عن الكفر بالرجس لأنه علم في الفساد والاستقذار، راجع الآية ١٢٨ من سورة الأنعام الآتية.
وقرىء بنون العظمة ونجعل الرجس «عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ٩٩» أوامر الله ونواهيه فلا يفقهون مغازيها حتى يعوها ويتعظوا فيها، فيا أكرم الرسل
«قُلِ» لهؤلاء الكفرة «انْظُرُوا» نظر اعتبار واستدلال وتفكر وتدبر «ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من الآيات العظام الدالة على عظم صانعها، ففي السموات الشمس والقمر والنجوم السيارات والساكنات مما عرفه البشر ومما لم يعرفه بعد، وإن كابر بعضهم وقال بمعرفة كل ما في السموات حتى أنه أحصاها عدا فإن هناك من الأفلاك والبروج السائرة والواقفة الطالعة والغارية الظاهرة والخفية والتي يحصل بها الليل والنهار والإنضاج والرطوبة واليبوسة والتطعيم والتلوين وتأثيرات كثيرة وضعها الله تعالى فيها ومنافع تكون منها بإرادته تعالى للبشر والحيوان والطير والحوت والنبات والجماد، وفي الأودية والجبال والبحار والأنهار والعيون والأشجار
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
إن كنتم تريدون الإيمان بمبدعها «وَما تُغْنِي الْآياتُ» مهما كانت جليلة ونادرة «وَالنُّذُرُ» مهما كثروا وتعبوا في نصح البشر «عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ١٠٠» حالا ومستقبلا لأن الله طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهم الذين لا يعقلون المنوه بهم آنفا الذين سبق لهم في الأزل الشقاء «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ» هؤلاء الكفار الذين لا يعقلون آيات الله ويطلبون الآيات من الرسل «إِلَّا» أياما سودا «مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ» بأن بوقع الله بهم مثل ما أوقعه عليهم من الغرق والخسف والريح والصيحة وغيرها من أنواع العذاب الذي صبّ على أسلافهم، وقد أطلقت الأيام على الوقائع الشديدة، لأن العرب تسمي النقم أياما كما هنا والنعم أياما كما في قوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الآية ٥ من سورة ابراهيم الآتية، فإذا كانوا ينتظرون إهلاكا مثل إهلاكهم لأنهم سائرون على شاكلتهم، فيا حبيبي «قُلْ» لهم «فَانْتَظِرُوا» ذلك لا تستعجلونه فإنه آت «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ١٠٢» له وإني مترقب إهلاككم فيه ونجاتي ومن معي لقوله عز قوله «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا» من ذلك العذاب المنتظر «كَذلِكَ» مثل ما أنجينا الرسل الذين بعثناهم إلى الذين قبلكم وأهلكنا من كذبهم من أمثالكم لأنا نرى «حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ١٠٣» أنت ومن آمن بك يا محمد ونهلك المشركين الذين كذبوك. واعلم أن حروف هذه الآية من كلمة كذلك إلخ ١٤٦٨ بحساب الجمل وان الآيتين من سورة الصافات ١٧١/ ١٧٢ والآية ٥١ من سورة المؤمن لها مساس في مغزى هذه الآية فراجعها وراجع الآية ٤٧ من سورة الروم الآتية أيضا، وإنا مثلما نفّذنا وعيدنا بإهلاك الكفرة ننجز وعدنا بنصرة الرسل وفوز المؤمنين بهم، وهذا مما أوجبه الله تعالى على ذاته المقدسة من الحق هو من حيث الوعد والحكم لا من حيث الاستحقاق، لأنه تبارك وتعالى ما عليه واجب
وإلهابا لقلوب الناس وحثهم على التوحيد والكف عما هم عليه والرجوع إلى الله تعالى كما قدمناه في الآية ٩٤ المارة من هذه السورة. قال تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» من مرض وفقر وشدة وذلة «فَلا كاشِفَ لَهُ» عنك «إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ» صحة وعافية ورفاه وجاه «فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» على عباده من أحد ما «يُصِيبُ بِهِ» بكل من الضر والخير «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» مؤمنهم وكافرهم وقد قطع جل شأنه في هذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه، وسبيل الاعتماد في الأمرين وغيرهما إلا عليه، وقد رجح سبحانه جانب الخير في هذه الآية على جانب الشر لأنه لما ذكر إمساس الضربين أن لا كاشف له إلا هو، فيدل هذا على أنه يزبل جميع المضار ويكشفها، لأن الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير قال (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي أن جميع الخيرات منه لا يقدر أحد على ردها، لأنه هو مفيضها على عباده، ولذلك عضدها بقوله «وَهُوَ الْغَفُورُ» لذنوب عباده الساتر لها «الرَّحِيمُ ١٠٧» بهم الرءوف كثير الشفقة عليهم ومن رحمته لا يؤاخذهم بما يفعلون بحسب لطفه بهم، ويرزقهم وهم له جاحدون بمقتضى رأفته بهم، قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية الأخيرة من سورة فاطر المارة في ج ١، وقال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ... ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الآية ٦٢ من سورة النحل الآتية، فأكثروا من شكره أيها الناس واحمدوه وعظموه ومجّدوه، فهو المختص بالحمد بالدنيا والآخرة وهو المالك له فلا يقدر أحد أن يحمد أحدا إلا بتقديره «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ» هو كتاب الله الذي فيه هديكم «مِنْ رَبِّكُمْ» ومالك أمركم على لسان رسولكم الذي هو منكم «فَمَنِ اهْتَدى» به وصدقه وآمن بما أنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» لأن نفع هداه يرجع إليها «وَمَنْ ضَلَّ» عن سلوك طريق هداه ولم يسترشد به وكذب من أنزله عليه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» لأن وبال ضلاله عائد عليه نفسه،
سأصبر حتى يجزع الصبر عن صبري | وأصبر حتى يحكم الله في أمري |
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني | صبرت على شيء أمر من الصبر |
يبيت يريني الدهر كيف انقلابه | أبيت أريه الصبر كيف يكون |
سورة يونس
سورةُ (يونُسَ) من السُّوَر المكية، وقد بُدِئت بالتنويه بالقرآن وعظَمتِه، وأصَّلتْ لكثير من مسائلِ التوحيد والاعتقاد، ودعَتْ إلى الالتجاء إلى الله وحده، وجاءت على ذِكْرِ حالِ الدنيا، وتعامُلِ الناس معها، وفيها ذِكْرُ قِصص بعض الأنبياء عليهم السلام في دعوةِ أقوامهم، وما عانَوْهُ ولاقَوْهُ من المصاعب؛ لتُثبِّتَ المسلمين، وعلى رأسهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في طريق الدعوة إلى الله عز وجل؛ فإنَّ اللهَ ناصرٌ دِينَه، ومُعْلٍ كتابَه لا محالةَ.
ترتيبها المصحفي
10نوعها
مكيةألفاظها
1889ترتيب نزولها
51العد المدني الأول
109العد المدني الأخير
109العد البصري
109العد الكوفي
109العد الشامي
110سُمِّيتْ سورة (يونُسَ) بذلك؛ لأنها جاءت على ذِكْرِ قوم (يونُسَ) عليه السلام.
احتوَتْ سورة (يونُسَ) على عدة موضوعات؛ وهي:
1. إنكار موقف المشركين من الوحي (١-٢).
2. تفرُّد الله بالخَلق والقدرة، وإثبات البعث والجزاء (٣-٦).
3. جزاء المؤمنين والكفار (٧-١٠).
4. حِلْمُ الله مع المستعجِلين للعذاب، وسُنَّته بإهلاك الظالمين (١١-١٤).
5. مطالبة المشركين بتبديل القرآن (١٥-١٨).
6. اختلاف الناس وحرصُهم على الحياة الفانية (١٩-٢٤).
7. الترغيب في الجزاء الإلهي (٢٥- ٣٠).
8. إثبات التوحيد والبعث بدليل الفطرة (٣١-٣٦).
9. نفيُ التهمة عن القرآن، وانقسام المشركين حوله (٣٧-٤٤).
10. سرعة زوال الدنيا، وعذاب المشركين في الدارين (٤٥-٥٦).
11. خصائص القرآن، وخَصوصية الله بالتشريع (٥٧-٦١).
12. قواعد الجزاء (٦٢-٧٠).
13. نصرُ الله لأوليائه من الأنبياء وأتباعه (٧٠-١٠٠).
14. قصة (نوح) مع قومه (٧٠-٧٤).
15. قصة (موسى) (٧٥-٩٣).
16. صدقُ القرآن وقصة (يونس) (٩٤-١٠٠).
17. الدعوة إلى الدِّين الحق، واتباع الإسلام (١٠١-١٠٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /303).
بدأت السُّورةُ بالإشارة إلى مقصدِها العظيم؛ وهو إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بدَلالة عَجْزِ المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبَّه عليها بأسلوب تعريضيٍّ دقيق، بُنِيَ على الكناية بتهجية (الحروف المقطَّعة) في أول السورة، ووصفِ الكتاب بأنه من عند الله؛ لِما اشتمل عليه من الحكمة، وأنه ليس إلا من عنده سبحانه؛ لأنَّ غيرَه لا يَقدِر على شيء منه؛ وذلك دالٌّ - بلا ريب - على أنه واحد في مُلْكِه، لا شريكَ له في شيءٍ من أمره.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /164)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (11 /87).