بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأحزابوهي مدنية في قول الجميع
ﰡ
وَقيل أَيْضا فِي الْآيَة: ﴿اتَّقِ الله﴾ أَي: استكثر من أَسبَاب التَّقْوَى، وَالتَّقوى: هِيَ الْعَمَل بِطَاعَة الله رَجَاء رَحْمَة الله على نور من الله، وَترك مَعْصِيّة الله خوف عَذَاب الله على نور من الله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبا الْأَعْوَر السّلمِيّ قدمُوا الْمَدِينَة فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وطلبوا من رَسُول الله أَشْيَاء كريهة؛ فهم رَسُول الله والمسلمون أَن يقتلوهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله﴾ يَعْنِي: لَا تنقض الْعَهْد الَّذِي بَيْنك وَبينهمْ، ذكره الضَّحَّاك.
وَقَوله: ﴿وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ﴾ أى: الْكَافرين من أهل مَكَّة، وَالْمُنَافِقِينَ من أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله: ﴿إِن الله كَانَ عليما حكيما﴾ أَي: عليما بخلقه قبل أَن يخلقهم، حكيما فِيمَا دبره لَهُم.
وَقَوله: ﴿إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا﴾ أَي: خَبِيرا بأعمالكم.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِاللَّه وَكيلا﴾ أَي: وَكفى بِاللَّه حَافِظًا لَك، وَيُقَال: وَكفى بِاللَّه كَفِيلا يرزقك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا يَقُولُونَ: لمُحَمد قلبان؛ قلب مَعكُمْ، وقلب مَعَ أَصْحَابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَأخْبر أَنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا قلب وَاحِد.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: إِن لي نفسا تَأْمُرنِي بِالْخَيرِ، ونفسا تَأْمُرنِي بِالشَّرِّ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر أَنه لَيْسَ لأحد إِلَّا نفس وَاحِدَة وقلب وَاحِد، وَإِنَّمَا الْأَمر بِالْخَيرِ بإلهام الله، وَالْأَمر بِالشَّرِّ بإلهام الشَّيْطَان.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه أَي: مَا جعل لرجل أبوين، وَقد احْتج بِهِ الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة القائفة، وَقَالَ هَذَا: لِأَن زيد بن حَارِثَة كَانَ ينْسب إِلَى النَّبِي بِالنُّبُوَّةِ، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿مَا جعل الله لرجل﴾ أبوين أَي: هُوَ ابْن حَارِثَة، وَلَيْسَ بِابْن النَّبِي.
وَقَوله: ﴿وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم﴾ وَالظِّهَار هُوَ أَن يَقُول الرجل لزوجته: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، وَقد كَانُوا يعدونه طَلَاقا، فَإِن قيل: كَيفَ
وَقَوله: ﴿وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم﴾ فِي الْآيَة نسخ التبني، وَقد كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يتبنى الرجل ويجعله ابْنا لَهُ مثل الابْن الْمَوْلُود، وعَلى ذَلِك تبنى رَسُول الله زيد بن حَارِثَة، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم﴾ أَي: هُوَ قَول لَا حَقِيقَة لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَالله يَقُول الْحق﴾ أَي: قَوْله الْحق بِمَا نهى من التبني.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ يهدي السَّبِيل﴾ أَي: يرشد إِلَى طَرِيق الْحق.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك مكي بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ أخبرنَا مُعلى بن أَسد، عَن عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار عَن مُوسَى ابْن عقبَة.. الحَدِيث.
وَقَوله: ﴿هُوَ أقسط عِنْد الله﴾ أَي: أعدل عِنْد الله.
وَقَوله: ﴿فَإِن لم تعلمُوا آبَاءَهُم فإخوانكم فِي الدّين﴾ أَي: سموهم بأسماء إخْوَانكُمْ فِي الدّين، وَذَلِكَ مثل، عبد الله، وَعبد الْكَرِيم، وَعبد الرَّحْمَن، وَعبد الْعَزِيز، وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿ومواليكم﴾ هَذَا قَول الرجل للرجل: أَنا أَخُوك ومولاك، أَو يَقُول: أَنا أَخُوك ووليك، وَيُقَال: إخْوَانكُمْ فِي الدّين من كَانُوا فِي الأَصْل أحرارا ومواليكم من أعتقوا، وَيُقَال: مواليكم من أسلم على أَيْدِيكُم.
وَقَوله: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ﴾ الْخَطَأ فِي هَذَا أَن يَقُول لغيره: يَا بن فلَان، وَهُوَ يظنّ أَنه ابْنه، ثمَّ يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ بِابْنِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: الْخَطَأ هَا هُنَا هُوَ مَا فعلوا قبل النَّهْي، والتعمد مَا فَعَلُوهُ بعد النَّهْي.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ أَي: ستورا عطوفا.
وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أَنا أولى بِكُل مُؤمن ومؤمنة من نَفسه، فَمن ترك مَالا فلورثته وَمن ترك دينا أَو ضيَاعًا فَإِلَيَّ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: أَن الرَّسُول إِذا دَعَاهُ إِلَى شَيْء، وَنَفسه دَعَتْهُ إِلَى شَيْء، فَيتبع الرَّسُول وَلَا يتبع النَّفس، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ يخرج إِلَى الْجِهَاد، فَيَقُول قوم: يَا رَسُول الله، نَذْهَب فنستأذن من آبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾ أَي: فِي الْحُرْمَة خَاصَّة دون النّظر إلَيْهِنَّ وَالدُّخُول عَلَيْهِنَّ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَأبي: " وأزواجه امهاتهم وَهُوَ أَب لَهُم ".
وَاخْتلفُوا فِي الْمَرْأَة الَّتِي فَارقهَا النَّبِي قبل الْوَفَاة على ثَلَاثَة أوجه: فأحد الْوُجُوه: أَنَّهَا مُحرمَة أَيْضا، وَالْوَجْه الآخر: أَنَّهَا لَيست بمحرمة، وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنَّهَا إِن كَانَ دخل بهَا فَهِيَ مُحرمَة، وَإِن لم يكن دخل بهَا فَلَيْسَتْ بمحرمة.
وَاخْتلف الْوَجْه أَيْضا فِي أَنَّهُنَّ هَل يكن أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات، فأحد الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات كَمَا أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَالْوَجْه الآخر: انهن أُمَّهَات الرِّجَال دون النِّسَاء، وروى أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: يَا أُمَّاهُ، فَقَالَت: أَنا أم رجالكم دون نِسَائِك.
وَأما أخوة أَزوَاج النَّبِي فليسوا بأخوال الْمُؤمنِينَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَات أَزوَاج النَّبِي لستن خالات الْمُؤمنِينَ.
وَقد روى أَنه كَانَت عِنْد الزبير أَسمَاء بنت أبي بكر، فَقَالَت الصَّحَابَة: عِنْد الزبير أُخْت أم الْمُؤمنِينَ، وَلم يَقُولُوا: عِنْده خَالَة الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ﴿وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله﴾ أَي: أولى بَعضهم بِبَعْض مِيرَاثا فِي حكم الله، وَقد كَانُوا يتوارثون بِالْهِجْرَةِ، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك إِلَى التَّوَارُث بِالْقَرَابَةِ. وروى أَن النَّبِي آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَكَانَ يَرث بَعضهم بَعْضًا "، ثمَّ نسخ ذَلِك.
وَقَوله: ﴿من الْمُؤمنِينَ والمهاجرين﴾ دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يَرث الْكَافِر، وَالْكَافِر لَا يَرث الْمُؤمن.
وَقَوله: ﴿والمهاجرين﴾ دَلِيل على أَن المُهَاجر لَا يَرث من غير الْمُهَاجِرين، وَلَا غير المُهَاجر من المُهَاجر.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن توصوا وَصِيَّة لغير الأقرباء الَّذين هم أهل دينكُمْ، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه نسخ ميراثهم، وَأبقى جَوَاز الْوَصِيَّة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْوَصِيَّة للْكفَّار، فَالْمَعْنى على
وَقَوله: ﴿كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا﴾ أَي: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَيُقَال: فِي الْقُرْآن وَسَائِر كتب الله.
وَقَوله: ﴿ومنك وَمن نوح﴾ اخْتلف القَوْل فِي تَقْدِيم النَّبِي، فأحد الْقَوْلَيْنِ: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنا أول النَّبِيين خلقا وَآخرهمْ بعثا ".
وَعَن قَتَادَة قَالَ: بَدَأَ بِهِ فِي الْخلق، وَختم بِهِ فِي الْبَعْث، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْوَاو توجب الْجمع، وَلَا توجب تَقْدِيمًا وَلَا تَأْخِيرا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخذنَا من هَؤُلَاءِ النَّبِيين ميثاقهم، وَخص هَؤُلَاءِ لأَنهم كَانُوا أَصْحَاب الشَّرَائِع وهم: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى [ابْن مَرْيَم]، وَمُحَمّد. وَأما معنى الْمِيثَاق: قَالَ أهل التَّفْسِير: أَخذ عَلَيْهِم أَن يعبدوا الله ويدعوا إِلَى عبَادَة الله، وَيصدق بَعضهم بَعْضًا، وينصحوا النَّاس، وَيُقَال: أَخذ على نوح أَن يبشر بإبراهيم، وعَلى إِبْرَاهِيم أَن يبشر بمُوسَى، [وعَلى مُوسَى أَن يبشر بِعِيسَى]، وَهَكَذَا إِلَى مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا﴾ قد بَينا من قبل.
وروى عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَخذ ذُرِّيَّة آدم من ظهر آدم، والنبيون فيهم،
وَيُقَال: ليسأل الصَّادِقين عَن عَمَلهم لله، وَقيل: ليسأل الصَّادِقين بأفواههم عَن صدقهم فِي قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وَأعد للْكَافِرِينَ عذَابا أَلِيمًا﴾ قد تمّ الْكَلَام الأول، وَهَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿إِذْ جاءتكم جنود﴾ المُرَاد من الْجنُود هم الْأَحْزَاب الَّذين تحزبوا على رَسُول الله وهم: قُرَيْش عَلَيْهِم أَبُو سُفْيَان، وَأسد عَلَيْهِم طليحة بن (خويلد)، وغَطَفَان عَلَيْهِم عُيَيْنَة بن حصن، وَكَانَت عدتهمْ بلغت اثْنَي عشر ألفا، (وَرَئِيس الْجَمَاعَة) أَبُو سُفْيَان، وقصدوا استئصال النَّبِي وَأَصْحَابه، وَدخل يهود قُرَيْظَة مَعَهم وَأمرهمْ مَعَهم، وَنَقَضُوا الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي فِي قصَّة طَوِيلَة؛ فَلَمَّا بلغ النَّبِي أَمرهم حفر الخَنْدَق حول الْمَدِينَة، [وَهَذِه هِيَ] غَزْوَة الخَنْدَق وَجمع الْأَحْزَاب.
وَقَوله: ﴿فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أرسل عَلَيْهِم ريح الصِّبَا حَتَّى هزمتهم، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد، بالدبور ". وَكَانَت الرّيح تقلع فساطيطهم، وتقلب قدورهم، وتسف التُّرَاب فِي وُجُوههم، وجالت خيلهم بَعْضًا فِي بعض؛ فَانْهَزَمُوا ومروا، وَكفى الله أَمرهم.
وَقَوله: ﴿وجنودا لم تَرَوْهَا﴾ أَي: الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَمن أَسْفَل مِنْكُم﴾ هم قُرَيْش وكنانة. وَيُقَال: الَّذين جَاءُوا من فَوْقهم قُرَيْظَة، وَمن أَسْفَل مِنْكُم قُرَيْش وغَطَفَان.
وَقَوله: ﴿وَإِذ زاغت الْأَبْصَار﴾ أَي: شخصت الْأَبْصَار، وَفِي الْعَرَبيَّة معنى زاغت: مَالَتْ، فَكَأَنَّهَا مَالَتْ شاخصة، فَهَذَا من الرعب وَالْخَوْف.
وَقَوله: ﴿وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر﴾ أَي: بنت عَن أماكنها وَارْتَفَعت، قَالَ قَتَادَة: لَو وجدت مسلكها لَخَرَجت من الْحَنَاجِر، وَلكنهَا ضَاقَتْ عَلَيْهَا. وَالأَصَح من الْمَعْنى أَن هَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل، وَالْعرب تَقول: بلغ قلب فلَان حنجرته، أَي: من الرعب وَالْخَوْف والحنجرة حرف الْحُلْقُوم وَهُوَ كلمة عبارَة عَن شدَّة الْفَزع.
وَقَوله: ﴿وتظنون بِاللَّه الظنونا﴾ أَي: وَدخلت الْألف لموافقة (أَوَاخِر) الْآيَات فِي السُّورَة.
قَالَ الشَّاعِر:
(أقلى اللوم عاذل والعتابا | وَقَوْلِي إِن أصبت لقد أصابا) |
وَقَوله: ﴿وزلزلوا زلزالا شَدِيدا﴾ أَي: حركوا حَرَكَة شَدِيدَة، وَقُرِئَ: " زلزالا " بِفَتْح الزَّاي، وَالْأَشْهر بِكَسْر الزَّاي " زلزالا "، وَهُوَ الْأَصَح فِي الْعَرَبيَّة. وَمن الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: أَن رجلا قَالَ لِحُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: رَأَيْت رَسُول الله وصحبته، وَالله لَو رَأَيْنَاهُ حملناه على أعناقنا. فَقَالَ حُذَيْفَة: أخْبرك أَيهَا الرجل أَنا كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي غَزْوَة الخَنْدَق، فَبلغ بِنَا الْجهد والجوع وَالْخَوْف مَا الله بِهِ أعلم، فَقَالَ رَسُول الله من مِنْكُم يذهب فَيَأْتِي بِخَبَر الْقَوْم، وَالله يَجعله رفيقي فِي الْجنَّة؟ فَمَا أَجَابَهُ منا أحد من شدَّة الْأَمر، ثمَّ قَالَ ثَانِيًا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد، ثمَّ قَالَ ثَالِثا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد فَقَالَ: يَا حُذَيْفَة، فَلم أستطع أَن لَا أُجِيب فَجِئْته، فَقَالَ: اذْهَبْ وأتنى بِخَبَر الْقَوْم، وَلَا تحدثن أمرا حَتَّى تَأتِينِي، وَدَعَانِي فَذَهَبت، وأتيته بِخَبَر الْقَوْم فِي قصَّة.. ".
وَإِنَّمَا أَرَادَ حُذَيْفَة بِهَذِهِ الرِّوَايَة أَن لَا يتَمَنَّى ذَلِك الرجل مَا لم يُدْرِكهُ، فَلَعَلَّهُ لَا يصبر على الْبلوى إِن أَدْرَكته.
(سأهدي لَهَا فِي كل عَام قصيدة | وأقعد مكفيا بِيَثْرِب مكرما). |
وَقَوله: ﴿لَا مقَام لكم﴾ وَقُرِئَ " لَا مقَام لكم " بِرَفْع الْمِيم، فَقَوله: ﴿لَا مقَام لكم﴾ أَي: لَا إِقَامَة لكم، وَقَوله: ﴿لَا مقَام لكم﴾ بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا منزل لكم.
وَقَوله: ﴿فَارْجِعُوا﴾ أَي: ارْجعُوا عَن أَتبَاع مُحَمَّد، وخذوا أمانكم من الْمُشْركين.
وَقَوله: ﴿ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي﴾ هَؤُلَاءِ بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة، وَقيل: غَيرهم.
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة﴾ أَي: ذَات عَورَة، وَقيل: معورة يسهل عَلَيْهَا دُخُول السراق، وَيُقَال: إِن بُيُوتنَا عَورَة أَي: ضائقة، وَقَالَ الْفراء: عَورَة ذليلة الْحِيطَان، وَلَيْسَت بحريزة، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " عَورَة " بِفَتْح الْعين وَكسر الْوَاو، وَالْمعْنَى يرجع إِلَى مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَة﴾ يَعْنِي: إِنَّهُم كاذبون فِي قَوْلهم، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْفِرَار، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ وأنشدوا فِي الْعَوْرَة:
(حَتَّى إِذا أَلْقَت يدا فِي كَافِر | وأجن عورات الثغور ظلامها) |
(قضى نحب الْحَيَاة وكل حَيّ | إِذا يَدعِي لميتته أجابا) |
(بطخفة جالدنا الْمُلُوك وخلينا | عَشِيَّة بسطَام جرين على نحب) |
وَقَوله: ﴿وَمَا بدلُوا تبديلا﴾ أَي: لم يتْركُوا مَا قبلوه وعاهدوا عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم﴾ فيهديهم للْإيمَان.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ أَي: ستورا عطوفا.
وَقَوله: ﴿لم ينالوا﴾ أَي: لم يظفروا بِمَا أَرَادوا.
وَقَوله: ﴿ [خيرا] وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال﴾ أَي: بِمَا أرسل من الرّيح عَلَيْهِم، وَفِي بعض الرِّوَايَات الغريبة عَن ابْن عَبَّاس: وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال أَي: لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ قتل عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ رَأْسا من رُءُوس الْكفَّار كَبِيرا فيهم، وضربه عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم على رَأسه
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا﴾ أَي: قَوِيا فِي ملكه، عَزِيزًا فِي انتقامه.
وَقَوله: ﴿من صياصيهم﴾ أَي: من حصونهم، وَمِنْه صياصي الْبَقر أَي: قُرُونهَا لِأَنَّهَا تمْتَنع بهَا.
وَقَوله: ﴿وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب﴾ أَي: الْخَوْف.
وَقَوله: ﴿فريقا تقتلون﴾ قتل رَسُول الله من قُرَيْظَة أَرْبَعمِائَة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سِتّمائَة، وَفِيهِمْ حييّ بن أَخطب وسادتهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا ذبح كتبه الله على بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله: ﴿وتأسرون فريقا﴾ أسر مِنْهُم سَبْعمِائة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سَبْعمِائة
وَقَوله: ﴿وأرضا لم تطئوها﴾ أظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا خَيْبَر، وَقَالَ عِكْرِمَة: جَمِيع مَا فتح الله تَعَالَى ويفتحه من أَرَاضِي الْمُشْركين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم فَارس وَالروم.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا﴾ أَي: قَادِرًا.
وَأما قصَّة قتل قُرَيْظَة [فَهُوَ على] مَا روى " أَن النَّبِي لما رَجَعَ من الخَنْدَق إِلَى بَيته وَوضع لامته أَي: درعه واغتسل جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على فرس وَدعَاهُ، فَلَمَّا خرج من بَيته قَالَ: أتضع سِلَاحك وَلم تضع الْمَلَائِكَة أسلحتكم! وَكَانَ الْغُبَار على وَجهه وَوجه فرسه، وَقَالَ: يَا جِبْرِيل، إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى قُرَيْظَة "، " فَخرج النَّبِي وَخرج أَصْحَابه إِلَى قُرَيْظَة، ونادى فِي أَصْحَابه: لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي [بني] قُرَيْظَة، فَلم يصلوا حَتَّى غربت الشَّمْس، فبعضهم صلى الْعَصْر، وَبَعْضهمْ لم يصل حَتَّى وصل، فَلم يعنف وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ " وحاصرهم إِحْدَى وَعشْرين لَيْلَة، ونزلوا على حكم سعد بن معَاذ، وَكَانُوا حلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة وَسعد بن معَاذ سيد الْأَوْس، وَسعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج فَلَمَّا نزلُوا على حكمه، وَكَانَ سعد مَرِيضا بِالْمَدِينَةِ فِي بَيته برمية أَصَابَت أكحله يَوْم الخَنْدَق، وَكَانَ الدَّم لَا يرقأ، فَدَعَا الله تَعَالَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ أبقني حَتَّى تريني مَا يقر عَيْني فِي قُرَيْظَة، فرقأ الدَّم.
فَلَمَّا نزلُوا على حكمه استحضره رَسُول الله، فجَاء على حمَار موكف وَقد حف بِهِ قومه، وَجعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: حلفاؤك ومواليك، فَقَالَ سعد: قد آن لسعد أَن لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للْأَنْصَار: قومُوا إِلَى سيدكم، ثمَّ إِنَّه حكم بِأَن يقتل الْمُقَاتلَة، وتسبى الذُّرِّيَّة، وَيقسم المَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: حكمت بِحكم الْملك. وروى أَنه قَالَ: حكمت بِحكم الله من فَوق عَرْشه، ثمَّ إِنَّه فعل بهم مَا حكم، ثمَّ إِن سَعْدا قَالَ لما قتلوا: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت حَربًا بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فأبقني لَهَا، وَإِن كنت قد وضعت الْحَرْب بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فاقبضني إِلَيْك، فانفجر كَلمه فِي الْحَال، فَلم يرعهم إِلَّا وَالدَّم يسيل إِلَيْهِم، وَتوفى فِي ذَلِك رَضِي الله عَنهُ.
وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن الضَّحَّاك: أَن زينت بنت جحش سَأَلته ثوبا ممصرا، وَهُوَ الْبرد المخطط، ومَيْمُونَة سَأَلته حلَّة يَمَانِية، وَأم حَبِيبَة سَأَلته ثوبا من ثِيَاب خضر، وَجُوَيْرِية سَأَلته معجرا، وَعَن بَعضهنَّ: أَنَّهَا سَأَلته قطيفة، وَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك. وَحكى أَنَّهُنَّ قُلْنَ: لَو كُنَّا عِنْد غَيره كَانَ لنا حليا وثيابا، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير. وَقد ثَبت أَن النَّبِي آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل فِي غرفَة فِي قصَّة
وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيت حَفْصَة فتشاجرا، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله: أجعَل بيني وَبَيْنك رجلا، أَتُرِيدِينَ أَبَاك؟ قَالَت: نعم، فَدَعَا عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا دخل قَالَ النَّبِي لحفصة: تكلمي.
فَقَالَت حَفْصَة: يَا رَسُول الله، تكلم وَلَا تقل إِلَّا حَقًا. فَرفع عمر يَده وَضرب وَجههَا، وَقَالَ: يَا عدوة نَفسهَا، أتقولين هَذَا لرَسُول الله؟ ثمَّ إِن رَسُول الله آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل، وَأنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، فَلَمَّا أنزل الله آيَة التَّخْيِير بَدَأَ بعائشة رَضِي الله عَنْهَا.
وَقد ثَبت هَذَا بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة أَن النَّبِي بَدَأَ بهَا لما أنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، قَالَت عَائِشَة: فَدخل عَليّ وَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِنِّي ذَاكر لَك أمرا فَلَا عَلَيْك أَن تعجلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، وَقد علم أَن أَبَوي لَا يأمرانني بِفِرَاقِهِ، ثمَّ تَلا على الْآيَة، فَقلت: أَفِي هَذَا أَستَأْمر أبواي؟ لقد اخْتَرْت الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، ثمَّ عرض ذَلِك على سَائِر نِسَائِهِ؛ فَقُلْنَ مثل ذَلِك ". وروى هَذَا الْخَبَر البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان، عَن شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ، والإسناد كَمَا بَينا من قبل، وَأما أَزوَاجه اللَّاتِي خيرهن فَكُن تسعا، خَمْسَة قرشيات هن: عَائِشَة بنت أبي بكر، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم سَلمَة بنت أُميَّة، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأما غير الْقُرَشِيَّات: فزينب بنت جحش الأَسدِية، وَصفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة.
وَاخْتلف الصَّحَابَة فِي الرجل يَقُول لإمرأته: اخْتَارِي. فَتَقول: اخْتَرْت نَفسِي، فَذهب عمر إِلَى أَنَّهَا لَو اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون شَيْئا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها.
وَقَالَ عَليّ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَلَا يملك الزَّوْج رَجعتهَا، وَذهب إِلَى أَنَّهَا إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث، وَقد قيل غير هَذَا. وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة هِيَ الْمَعْرُوفَة، وَقد ذهب إِلَى كل قَول من هَذِه الْأَقْوَال جمَاعَة من الْعلمَاء، وَالدَّلِيل على أَنَّهَا إِذا اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون طَلَاقا أَن عَائِشَة قَالَت: خيرنا رَسُول الله فاخترناه، أَفَكَانَ طَلَاقا؟ !
وَقَوله: ﴿فتعالين أمتعكن﴾ أَي: مُتْعَة الطَّلَاق، وَقد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وأسرحكن سراحا جميلا﴾ السراح الْجَمِيل هُوَ الْمُفَارقَة الجميلة، وَذَلِكَ من غير تعنيف وَلَا أَذَى.
وَقَوله: ﴿أجرا عَظِيما﴾ وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خيرهن بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَبَين الْجنَّة وَالنَّار، فاخترن الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَالْجنَّة على النَّار.
جَوَاب آخر: أَنه قد حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة هَا هُنَا بِمَعْنى النُّشُوز وَسُوء الْخلق.
وَقَوله: ﴿يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين﴾ وَقُرِئَ: " يضعف " من التَّضْعِيف، وَقُرِئَ: " نضعف " بالنُّون، فَقَوله ﴿نضعف﴾ بالنُّون ظَاهر الْمَعْنى، وَهُوَ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى نَفسه، وَقَوله: " يضعف " و " يُضَاعف " خبر.
وَقَوله: ﴿ضعفين من الْعَذَاب﴾ أَي: مثلي عَذَاب غَيرهَا، فَإِن قيل: وَلم تسْتَحقّ مثلي عَذَاب غَيرهَا؟ قُلْنَا: لشرف حَالهَا بِصُحْبَة النَّبِي، وَهَذَا كَمَا أَن الْحرَّة تحد مثلي حد الْأمة لشرف حَالهَا. وَقد اسْتدلَّ أَبُو بكر الْفَارِسِي فِي أَحْكَام الْقُرْآن بِهَذِهِ الْآيَة على أَنَّهُنَّ أشرف نسَاء الْعَالم.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا﴾ أَي: هينا، وَقد ذكر بَعضهم أَن قَوْله: ﴿يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب﴾ يقتضى ثَلَاثَة أعذبة؛ لِأَن ضعف الْوَاحِد مثلاه، وَالأَصَح هُوَ الأول.
وَقَوله: ﴿وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ﴾ أَي: مثلي أجر غَيرهَا، وَهَذَا على
وَقَوله: ﴿وأعتدنا لَهَا رزقا كَرِيمًا﴾ أَي: الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿إِن اتقيتن﴾ التَّقْوَى هِيَ الِاحْتِرَاز عَن الْمعاصِي، والحذر عَمَّا نهى الله عَنهُ.
وَقَوله: ﴿فَلَا تخضعن بالْقَوْل﴾ أَي: لَا تلن فِي القَوْل، وَلَا ترققن فِيهِ. وَيُقَال: الخضوع فِي القَوْل أَن تَتَكَلَّم على وَجه يَقع بِشَهْوَة الْمُرِيب.
وَقَوله: ﴿فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض﴾ قَالَ قَتَادَة: أَي النِّفَاق، وَقَالَ عِكْرِمَة: شَهْوَة الزِّنَا.
وَقَوله: ﴿وقلن قولا مَعْرُوفا﴾ أَي: قولا يُوجِبهُ الدّين وَالْإِسْلَام بِصَرِيح وَبَيَان.
وَقَوله: ﴿وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى﴾ قَالَ الْمبرد: التبرج هُوَ أَن تظهر من
وَأما الْجَاهِلِيَّة الأولى فَقيل: هِيَ زمَان نمروذ، وَقد كَانَت الْمَرْأَة تخرج وَعَلَيْهَا قَمِيص من لُؤْلُؤ ثمَّ تخيط جانباه، وَعَن بَعضهم: مَا بَين نوح وَإِدْرِيس، وَعَن الشّعبِيّ: مل بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُقَال: إِن أول مَا ظهر من الْفَاحِشَة فِي بني آدم أَنه كَانَ بطْنَان من بني آدم أَحدهمَا يسكنون الْجَبَل، وَالْآخر يسكنون السهل، وَكَانَ رجال الْجَبَل صباحا، وَفِي النِّسَاء دمامة، وَنسَاء السهل صبيحات، وَفِي الرِّجَال دمامة، فاحتال إِبْلِيس حِيلَة حَتَّى أَتَّخِذ عيدا، وَجمع بَينهم فارتكب بَعضهم من بعض الْفَاحِشَة. وَذكر بَعضهم أَن فِي الْجَاهِلِيَّة الأولى [كَانَت الْمَرْأَة تكون] بَين رجلَيْنِ، فنصفها الْأَسْفَل لأَحَدهمَا والأعلى للْآخر، فيجتمع على الْمَرْأَة زَوجهَا وحبها، وَقَالَ فِي ذَلِك بَعضهم شعرًا:
(أترغب فِي البدال أَبَا جُبَير | وأرضى بالكواعب والعجوز) |
وَقَوله: ﴿وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت﴾ فِي الْآيَة أَقْوَال: روى سعيد بن جُبَير عَن أبن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي نسَاء النَّبِي، وَقد [قَالَه] عِكْرِمَة وَجَمَاعَة.
وروت أم سَلمَة " أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيتهَا وَعِنْده عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فجللهم بكساء وَقَالَ: اللَّهُمَّ؛ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي. قَالَت أم سَلمَة: فَقلت: يَا رَسُول الله، وَأَنا من أهل بَيْتك، فَقَالَ: إِنَّك إِلَى خير ". ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.
وروى أَيْضا بطرِيق أنس " أَن النَّبِي كَانَ يمر بعد نزُول هَذِه الْآيَة على بَيت فَاطِمَة بِسِتَّة أشهر، وَيَقُول: إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا ".
وَاسْتدلَّ من قَالَ بِهَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس﴾ وَلم يقل: " عنكن "، وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ نسَاء النَّبِي لقَالَ: " عنكن " أَلا ترى أَنه فِي الإبتداء والإنتهاء لما كَانَ الْخطاب مَعَ نسَاء النَّبِي خاطبهن بخطاب الْإِنَاث.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْكل، وَهَذَا أحسن الْأَقَاوِيل، فآله قد دخلُوا فِي الْآيَة، ونساؤه قد دخلن فِي الْآيَة. وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن نِسَاءَهُ قد دخلن فِي الْآيَة؛ أَنه قَالَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت﴾ وَأهل بَيت الرَّسُول هن نِسَاءَهُ؛ (وَلِأَنَّهُ تقدم ذكر نِسَائِهِ)، وَالْأَحْسَن مَا بَينا من التَّعْمِيم.
وَقد روى أَن زيد بن أَرقم سُئِلَ: من آل النَّبِي. فَقَالَ: هم الَّذين حرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة. وَأما الرجس فَمَعْنَاه: مَا يَدْعُو إِلَى الْمعْصِيَة. وَقَالَ بَعضهم: عمل الشَّيْطَان. والرجس فِي اللُّغَة هُوَ كل مستقذر مستخبث.
وَقَوله: ﴿وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا﴾ أَي: من الْمعاصِي بتقوى الله تَعَالَى، وَذهب بعض (أَصْحَاب) الخواطر إِلَى أَن معنى قَوْله: ﴿وَيذْهب عَنْكُم الرجس﴾ أَي: الْأَهْوَاء والبدع ﴿وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا﴾ بِالسنةِ، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس أَي: الغل والحسد (وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) بالتوفيق وَالْهِدَايَة، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس: الْبُخْل والطمع ﴿وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا﴾ بالقناعة والإيثار، وَالتَّفْسِير مَا بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا﴾ أَي: رحِيما بهم، خَبِيرا بأعمالهم.
وَفِي رِوَايَة أَسمَاء بنت عُمَيْس: قدمت من الْحَبَشَة فَدخلت على نسَاء النَّبِي: وَقَالَت لَهُنَّ: هَل ذكر الله تَعَالَى النِّسَاء بِخَير فِي الْقُرْآن؟ قُلْنَ: لَا. قَالَت: هَذَا هُوَ
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " أَن الَّتِي قَالَت ذَلِك أم عمَارَة الْأَنْصَارِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر النِّسَاء بِخَير كَمَا ذكر الرِّجَال ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ قد بَينا معنى الْإِسْلَام وَمعنى الْإِيمَان، وَقد فرق بعض أهل السّنة بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، وَلم يفرق بَعضهم. وَالْمَسْأَلَة فِيهَا كَلَام كثير.
وَقَوله: ﴿والقانتين والقانتات﴾ المطيعين والمطيعات.
وَقَوله: ﴿والصادقين والصادقات﴾ أَي الصَّادِقين فِي إِيمَانهم، والصادقات فِي إيمانهن. يُقَال: إِن المُرَاد بِالصّدقِ هُوَ صدق القَوْل فِي جَمِيع الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ والصابرات﴾ أَي: الصابرين على الطَّاعَة، وَالصَّابِرِينَ عَن الْمعْصِيَة، وَكَذَلِكَ معنى الصابرات.
وَقَالَ قَتَادَة: الصَّبْر عَن الْمعْصِيَة أفضل من الصَّبْر على الطَّاعَة، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَقَوله: ﴿والخاشعين والخاشعات﴾ أَي: المتواضعين والمتواضعات. وَيُقَال: إِن المُرَاد بالخشوع هُوَ الْخُشُوع فِي الصَّلَاة.
وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْخُشُوع فِي الصَّلَاة أَلا يعلم من على يَمِينه وَلَا من على
وَقَوله: ﴿والمتصدقين والمتصدقات﴾ أَي: المتصدقين على الْفُقَرَاء والمتصدقات عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿والصائمين والصائمات﴾ مَعْلُوم. وروى عَن بَعضهم: من صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي كل شهر فَهُوَ من الصائمين والصائمات، وَمن تصدق فِي كل أُسْبُوع بدرهم فَهُوَ من المتصدقين، وَمن لم يلْتَفت فِي صلَاته فَهُوَ من الخاشعين، أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: ﴿والحافظين فروجهم والحافظات﴾ أَي: من ارْتِكَاب الْفَوَاحِش.
وَحكى النقاش: أَن من لم يزن فَهُوَ من الحافظين لفروجهم.
وَقَوله: ﴿والحافظات﴾ أَي: والحافظاتها.
وَقَوله: ﴿والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات﴾ أَي: والذاكراته، قَالَ الشَّاعِر:
(فكمتا مدماة كَأَن متونها | جرى فَوْقهَا واستشعرت لون مَذْهَب) |
وَأما الذّكر الْكثير، فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: لَا يكون العَبْد من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا حَتَّى يذكرهُ قَائِما وَقَاعِدا ومضطجعا.
وروى الضَّحَّاك بن مُزَاحم، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " من قَالَ سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، كتب من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا، وتحات عَنهُ خطاياه كَمَا يتحات الْوَرق عَن الشّجر، وَنظر الله إِلَيْهِ، وَمن نظر إِلَيْهِ (لم) يعذبه ".
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيّمَا رجل أيقظ
وَقَوله: ﴿أعد لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما﴾ أَي: مغْفرَة للذنوب، وَأَجرا عَظِيما: هُوَ الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا﴾ أَي: أَرَادَ الله وَرَسُوله أمرا، وَذَلِكَ هُوَ نِكَاح زيد لِزَيْنَب.
وَقَوله: ﴿أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم﴾ أَي: يكون لَهُم الِاخْتِيَار، وَالْمعْنَى: أَن يُرِيد غير مَا أَرَادَ الله، أَو يمْتَنع مِمَّا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا﴾ أَي: أَخطَأ خطأ ظَاهرا؛ فَلَمَّا سمعا ذَلِك سلما الْأَمر، وَزوجهَا رَسُول الله من زيد بن حَارِثَة.
وَقَوله: ﴿وأنعمت عَلَيْهِ﴾ أَي: بِالْعِتْقِ، وَهُوَ زيد بن حَارِثَة، وَقد كَانَ جرى عَلَيْهِ سبي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَاشْتَرَاهُ رَسُول الله وَأعْتقهُ وتبناه على عَادَة الْعَرَب.
وَقَوله: ﴿أمسك عَلَيْك زَوجك﴾ أَي: امْرَأَتك، وَأما سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة: " أَن النَّبِي لما زوج زَيْنَب من زيد وَمَضَت على ذَلِك مُدَّة، دخل عَلَيْهَا رَسُول الله يَوْمًا فرآها قَائِمَة، وَكَانَت بَيْضَاء جميلَة ذَات خلق، وَهِي فِي درع وخمار، فَلَمَّا رَآهَا وَقعت فِي قلبه وَأَعْجَبهُ حسنها، وَقَالَ: سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب. وَسمعت ذَلِك زَيْنَب، وَخرج رَسُول الله وَفِي قلبه مَا شَاءَ الله، فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا زيد ذكرت ذَلِك لَهُ ". وَفِي بعض التفاسير: " أَن زيدا جَاءَ يشكو زَيْنَب، وَكَانَت امْرَأَة لسنة، فَذهب رَسُول الله ليعظها، فَكَانَ الْأَمر على مَا ذكرنَا، ثمَّ إِن زيدا أَتَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك سوء خلق زَيْنَب، وَإِن فِيهَا كبرا، وَإِنِّي أُرِيد أَن أطلقها، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: أمسك عَلَيْك زَوجك أَي امْرَأَتك وَاتَّقِ الله فِي أمرهَا ".
وَقَوله: ﴿وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه﴾ قَالَ قَتَادَة: هُوَ محبته لَهَا. وَقَالَ الْحسن: ود النَّبِي طَلاقهَا وَلم يظهره. وَذكر عَليّ بن الْحُسَيْن أَن معنى الْآيَة: هُوَ أَن الله تَعَالَى كَانَ أخبرهُ أَن زيدا يطلقهَا وَهُوَ يتَزَوَّج بهَا، فَالَّذِي أخفاه هُوَ هَذَا، وَهَذَا القَوْل هُوَ الأولى وأليق بعصمة الْأَنْبِيَاء. وَمِنْهُم من قَالَ: الَّذِي أُخْفِي فِي نَفسه هُوَ أَنه لَو طَلقهَا زيد تزوج بهَا، وَهَذَا أَيْضا قَول حسن.
وَقَوله: ﴿وتخشى النَّاس﴾ أَي: تَسْتَحي من النَّاس، وَيُقَال: تخشى مقَالَة النَّاس ولائمتهم، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّه تزوج بِامْرَأَة ابْنه.
وَقَوله: ﴿وَالله أَحَق أَن تخشاه﴾ فَإِن قيل: هَذَا يدل على أَنه لم يخْش الله فِيمَا سبق مِنْهُ فِي هَذِه الْقِصَّة. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: ﴿وَالله أَحَق أَن تخشاه﴾ ابْتِدَاء كَلَام فِي جَمِيع الْأَشْيَاء، وَقد أَمر الله تَعَالَى جَمِيع عباده بالخشية فِي عُمُوم الْأَحْوَال.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنَّك أضمرت شَيْئا وَلم تظهره، فَإِن خشيت الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره فاخشه فِي إضماره. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه لَا خشيَة إِلَّا من الله فِيمَا تظهر و [إِلَّا] فِيمَا تضمر، فَلَا تراقب النَّاس.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ قد ود أَن يطلقهَا كَيفَ قَالَ أمسك عَلَيْك زَوجك؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَاك الود ود طبع وميل نفس، والبشر لَا يَخْلُو عَنهُ.
وَأما قَوْله: ﴿أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله﴾ أَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْم فِيمَا يَقع فِي قلبه من غير اخْتِيَاره، وعَلى أَنا قد ذكرنَا سوى هَذَا من الْأَقْوَال، وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَسْرُوق عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: " لَو كتم النَّبِي شَيْئا من الْوَحْي لكَتم هَذِه الْآيَة "، وروى أَنه لم تكن آيَة أَشد عَلَيْهِ من هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا قضي زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا﴾ فِي التَّفْسِير: أَن زيدا لما أخبر
وَلَيْسَ فِي أَكثر التفاسير ذكر عدَّة، وَلَا ذكر تَزْوِيج من ولي، وَإِنَّمَا الْمَنْقُول أَن زيدا طَلقهَا، وَأَن الله زَوجهَا مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا﴾ وَقَوله: ﴿وطرا﴾ أَي: حَاجَة، وَهُوَ بُلُوغ مُنْتَهى مَا فِي النَّفس، قَالَ الشَّاعِر:
(أَيهَا الرايح الْمجد ابتكارا | قد قضى من تهَامَة الأوطار) |
(وَبَان الخليط غَدَاة الجناب | وَلم تقض نَفسك أوطارها) |
وروى " أَن النَّبِي لما أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا بعث زيدا يخطبها، فَدخل عَلَيْهَا زيد وخطبها لرَسُول الله، فَقَالَت: حَتَّى أوآمر رَبِّي، وَقَامَت إِلَى مَسْجِدهَا، وَأنزل الله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا﴾ " وَهَذَا خبر مَعْرُوف، قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَلما نزلت هَذِه الْآيَة جَاءَ رَسُول الله وَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بالخبز وَاللَّحم ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي مَا أولم على أحد من نِسَائِهِ مَا أولم على زَيْنَب بنت جحش، أشْبع النَّاس من الْخبز وَاللَّحم ". وَمن فَضَائِل زَيْنَب " أَن النَّبِي قَالَ لنسائه عِنْد الْوَفَاة: " أَسْرَعكُنَّ بِي لُحُوقا أَطْوَلكُنَّ،
وَهِي أَيْضا أول من اتخذ عَلَيْهَا النعش، فَإِنَّهُ روى أَنَّهَا لما مَاتَت فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت امْرَأَة خَلِيقَة، كره عمر أَن تخرج كَمَا يخرج الرِّجَال؛ فَبعثت أَسمَاء بنت عُمَيْس النعش فَأمر عمر حَتَّى (اتخذ) ذَلِك، وأخرجت فِي النعش، وَقَالَ عمر: نعم خباء الظعينة هَذَا، فجرت السّنة على ذَلِك إِلَى يَوْمنَا هَذَا. قَالُوا: وَقد كَانَت أَسمَاء رَأَتْ ذَلِك بِالْحَبَشَةِ.
وَقَوله: ﴿لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج﴾ أَي: إِثْم.
وَقَوله: ﴿فِي أَزوَاج أدعيائهم﴾ أَي: فِي نسَاء يتبنونهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تعد ذَلِك حَرَامًا، فنسخ الله التبني، وَأحل امْرَأَة (المتبنين).
وَقَوله: ﴿إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا﴾ قد ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا﴾ أَي: كَانَ حكم الله نَافِذا لَا يرد.
وَقَوله: ﴿ [لَهُ] سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل﴾ أَي: كَسنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل، فَلَمَّا نزع (الْخَافِض انتصب)، وَقيل: إِنَّه نصب على الإغراء كَأَنَّهُ قَالَ: الزموا سنة الله.
أما قَوْله: ﴿فِي الَّذين خلوا من قبل﴾ أَي: دَاوُد وَسليمَان، فقد بَينا عدد مَا كَانَ
قَوْله: ﴿وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا﴾ أَي: قَضَاء مقضيا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله﴾ أَي: غير الله، وَمَعْنَاهُ: أَنهم لَا يراقبون أحدا فِيمَا أحل لَهُم. وَفِي بعض (الْآثَار) : من لم يستح مِمَّا أحل الله لَهُ خفت مُؤْنَته.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِاللَّه حسيبا﴾ أَي: حَافِظًا، وَيُقَال: محاسبا، تَقول الْعَرَب: (أحسبني) الشَّيْء أَي: كفاني.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لِلْحسنِ بن عَليّ: " إِن ابْني هَذَا سيد يصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين ".
وَفِيه إِشَارَة إِلَى الصُّلْح الَّذِي وَقع بَين أهل الْعرَاق وَأهل الشَّام حِين بَايع الْحسن مُعَاوِيَة وَسلم إِلَيْهِ الْأَمر، والقصة مَعْرُوفَة. وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن
﴿رجالكم وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما (٤٠) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا الله ذكرا كثيرا (٤١) وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي﴾ معنى قَوْله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم﴾ أَي: أَبَا رجل لم يلده، وَلم يكن ولد زيد بن حَارِثَة؛ فَلم يكن أَبَاهُ، وَقد كَانَ لَهُ أَوْلَاد ذُكُور ولدهم وهم: الْقَاسِم، وَالطّيب، والطاهر، وَإِبْرَاهِيم رَضِي الله عَنْهُم وَجعل بَعضهم بدل الطَّاهِر المطهر.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه قَالَ: ﴿من رجالكم﴾ وَهَؤُلَاء كَانُوا صغَارًا، وَالرِّجَال اسْم يتَنَاوَل الْبَالِغين. وروى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى لما حكم أَنه لَا نَبِي بعده لم يُعْطه ولدا ذكرا يصير رجلا، وَلَو أعطَاهُ ولدا ذكرا يصير رجلا لجعله نَبيا.
وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: لَيْسَ هَذَا بمستنكر، وَيجوز أَن يكون لَهُ ولد رجل وَلَا يكون نَبيا، وَمَا ذَكرْنَاهُ محكى عَن ابْن عَبَّاس، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين﴾ وَقُرِئَ: " خَاتم " بِنصب التَّاء، فَأَما قَوْله: ﴿وَخَاتم النَّبِيين﴾ بِالْفَتْح أَي: آخر النَّبِيين، وَأما بِالْكَسْرِ أَي: ختم بِهِ النَّبِيين.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما﴾ أَي: عَالما، وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي قَالَ: " مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء قبلي كَمثل رجل بنى دَارا فأكملها وأحسنها إِلَّا مَوضِع لبنة مِنْهَا، فَجعل كل من يدْخل الدَّار يَقُول: مَا أحْسنهَا وأكملها لَوْلَا مَوضِع اللبنة، فَأَنا اللبنة، وَلَا نَبِي بعدِي ".
وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يبْعَث دجالون كذابون قَرِيبا من ثَلَاثِينَ، كلهم يزْعم أَنه نَبِي، وَلَا نَبِي بعدِي ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي﴾ قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك! فَمَا لنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته﴾.
وَقَوله: ﴿ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ أَي: من ظلمَة الضَّلَالَة إِلَى نور الْهِدَايَة، وَمن ظلمَة الْكفْر إِلَى نور الْإِيمَان، وَقيل: من ظلمَة النَّار إِلَى نور الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما﴾ يَعْنِي: لما حكم لَهُم من السَّعَادَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: " يلقونه " أَي: ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد وَردت الْكِنَايَة عَن غير مَذْكُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن. قَالَ الْبَراء بن عَازِب: مَا من مُؤمن إِلَّا وَيسلم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت إِذا أَرَادَ قبض روحه. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا بعثوا سلم عَلَيْهِم مَلَائِكَة الله وبشروهم بِالْجنَّةِ.
وَقَوله: ﴿وَأعد لَهُم أجرا كَرِيمًا﴾ أَي: الْجنَّة، وَاعْلَم أَنه قد ورد أَخْبَار فِي الْحَث على ذكر الله تَعَالَى؛ مِنْهَا مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي ".
وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: إِذا ذَكرنِي العَبْد فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُم.. " الْخَبَر.
وَفِي بعض المسانيد أَن النَّبِي قَالَ: " من عجز عَن اللَّيْل أَن يكابده، وَجبن عَن الْعَدو أَن يجاهده، وبخل بِالْمَالِ أَن يُنْفِقهُ، فَعَلَيهِ بِذكر الله تَعَالَى ".
وَقَوله: ﴿وَمُبشرا﴾ أَي: بِالْجنَّةِ، وَقَوله: ﴿وَنَذِيرا﴾ أَي: من النَّار.
وَقَوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ أَي: بأَمْره. وَقَوله: ﴿وسراجا منيرا﴾ أَي: ذَا سراج مُنِير، والسراج الْمُنِير هُوَ الْقُرْآن. وَقيل: وسراجا هُوَ الرَّسُول؛ سَمَّاهُ سِرَاجًا لِأَنَّهُ يَهْتَدِي بِهِ كالسراج يستضاء بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الرَّسُول لنُور يستضاء بِهِ | مهند من سيوف الله مسلول) |
(تمخضت الْمنون لَهُ بِيَوْم | أَنى وَلكُل حاملة تَمام) |
وَقَوله: ﴿فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: نزلت الْآيَة فِي الثُّقَلَاء. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: من عرف أَنه ثقيل فَلَيْسَ بثقيل.
وَقَوله: ﴿وَلَا مستأنسين لحَدِيث﴾ أَي: لَا يقعدوا فِي بَيت النَّبِي بعد الْفَرَاغ من الطَّعَام يتحدثون مستأنسين بِالْحَدِيثِ.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فيستحي مِنْكُم﴾ أَي: يستحي من إخراجكم.
وَقَوله: ﴿وَالله لَا يستحي من الْحق﴾ أَي: لَا يتْرك بَيَان الْحق [وَذكره] حَيَاء.
وَقَوله: ﴿وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا﴾ أَي: حَاجَة.
وَقَوله: ﴿فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب﴾ أَي: من وَرَاء ستر. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يكن يحل بعد آيَة الْحجاب لأحد أَن ينظر إِلَى امْرَأَة من نسَاء النَّبِي، منتقبة كَانَت أَو غير منتقبة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿من وَرَاء حجاب﴾ وروى أَن عَائِشَة كَانَت إِذا طافت ستروا وَرَاءَهَا.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن﴾ أَي: أطهر من الريب.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: لما نزلت آيَة الْحجاب وَمنع الرِّجَال من الدُّخُول فِي بيُوت النَّبِي، قَالَ رجل من الصَّحَابَة: مَا بالنا نمْنَع من الدُّخُول على بَنَات أعمامنا، وَالله لَئِن حدث أَمر لأَتَزَوَّجَن عَائِشَة، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْقَائِل لهَذَا طَلْحَة بن عبيد الله، وَكَانَ من رَهْط أبي بكر الصّديق.
وَقَوله: ﴿وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا إِن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما﴾ أَي: ذَنبا عَظِيما.
وَقَوله: ﴿أَو تُخْفُوهُ﴾ وَالَّذِي أُخْفِي هُوَ إضماره نِكَاح عَائِشَة بعد النَّبِي، وروى أَنه لم يقل هَذَا، وَلكنه أضمر.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما﴾ أَي: عَالما. فِي تَفْسِير النقاش: أَن النَّبِي خطب بعد نزُول هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله فضلني على سَائِر الرِّجَال، وَفضل نسَائِي على سَائِر النِّسَاء، وَإِن الله حرمهن عَلَيْكُم وجعلهن كأمهاتكم، فَلَا تَعْتَدوا حُدُوده فسيحتكم بِعَذَاب أَلِيم، أَلا وَإِن صفوتي من نسَائِي عَائِشَة بنت أبي بكر إِلَّا مَا كَانَ من خَدِيجَة بنت خويلد، وَإِن فَاطِمَة سيدة نسَاء الْعَالمين إِلَّا مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان، وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا سيدا شباب أهل الْجنَّة، وَإِن أَبَا بكر وَعمر سيدا كهول أهل الْجنَّة مَا خلا النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ ".
وَقَوله: ﴿وَلَا نسائهن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من نسائهن المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل لم يكن يجوز لليهوديات والنصرانيات الدُّخُول عَلَيْهِنَّ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وَلَا نسائهن﴾ عَام فِي المسلمات وَغير المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل إِنَّمَا قَالَ: ﴿وَلَا نسائهن﴾ لِأَنَّهُنَّ من أجناسهن، وعَلى القَوْل الأول قَالَ: ﴿وَلَا نساءهن﴾ لِأَن نسائهن المسلمات دون غير المسلمات.
وَقَوله: ﴿وَلَا مَا ملكت أيمانهن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَا ملكت أيمانهن هن الْإِمَاء، قَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا يَغُرنكُمْ قَوْله: ﴿وَلَا مَا ملكت أيمانهن﴾ فَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ الْإِمَاء دون العبيد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ العبيد وَالْإِمَاء.
وَاخْتلف القَوْل أَن العبيد إِلَى مَاذَا يحل لَهُم النّظر على هَذَا القَوْل؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه يحل لَهُم النّظر إِلَى مَا يحل للمحارم.
وَالْقَوْل الآخر: أَنه يحل [النّظر] إِلَى مَا يَبْدُو فِي الْعَادة من الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ والقدمين، وَلَا يحل النّظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، هَذَا هُوَ الْأَحْوَط.
وَقَوله: ﴿واتقين الله﴾ هَذَا خطاب لِأَزْوَاج النَّبِي حَتَّى لَا يبرزن وَلَا يكشفن السّتْر عَن أَنْفسهنَّ.
وَقَوله: ﴿إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا﴾ أَي: شَاهدا.
قَالَ ثَعْلَب: قَول الْقَائِل: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد أى: زده بركَة وَرَحْمَة، وأصل الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء، وَقد بَينا من قبل. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا)).
وَفِي بعض الْأَخْبَار: ((أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما نزل بِهَذَا سجد الرَّسُول الله شكرا)).
وَقد ثَبت بِرِوَايَة كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: يارسول الله، قد عرفنَا السَّلَام عَلَيْك، فَكيف نصلي عَلَيْك؟ فَقَالَ: ((قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد)).
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا صليتم على رَسُول الله فَأحْسنُوا الصَّلَاة عَلَيْهِ؛ فلعلها تعرض عَلَيْهِ؛ قَالُوا لَهُ: فَعلمنَا. قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد عَبدك وَنَبِيك، سيد الْمُرْسلين، وَإِمَام الْمُتَّقِينَ، وَخَاتم النَّبِيين، إِمَام الْخَيْر، وقائد الْخَيْر، وَرَسُول الرَّحْمَة، اللَّهُمَّ ابعثه الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي يغبطه بِهِ الْأَولونَ
﴿الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا﴾ وَالْآخرُونَ.
وروى الْأَصْمَعِي قَالَ: سَمِعت الْمهْدي وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر المنصوري على مِنْبَر الْبَصْرَة يَقُول: إِن الله تَعَالَى أَمركُم بِأَمْر بَدَأَ فِيهِ بِنَفسِهِ، وثنى بملائكته، فَقَالَ: ﴿إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا﴾.
وَأما السَّلَام على الرَّسُول فَهُوَ أَن تَقول: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، هَذَا فِي حق أَصْحَاب رَسُول الله، وَكَانَت السّنة لَهُم أَن يواجهوا الرَّسُول على هَذَا الْوَجْه، فَأَما فِي حق سَائِر الْمُؤمنِينَ فَفِي التَّشَهُّد يَقُول على مَا هُوَ الْمَعْرُوف.
وَقد ذكر بعض الْعلمَاء أَنه يَقُول فِي التَّشَهُّد: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَلَا يَقُول: عَلَيْك.
وَالصَّحِيح مَا بَينا، وَإِنَّمَا خَارج الْمصلى، فَإِنَّهُ يَقُول: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
ويستدل بِهَذِهِ الْآيَة فِي وجوب الصَّلَاة على النَّبِي إِذا صلى، على مَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَوجه الِاسْتِدْلَال: أَن الله تَعَالَى أمرنَا بِالصَّلَاةِ على النَّبِي، وَأولى مَوضِع بِوُجُوب الصَّلَاة فِيهِ هُوَ الصَّلَاة. فَوَجَبَ فِي الصَّلَاة، أَن يُصَلِّي على رَسُول الله.
وَقَالَ بَعضهم: ﴿إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله﴾ أَي: أَوْلِيَاء الله.
وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ أَن قَوْله: ﴿يُؤْذونَ الله﴾ على طَرِيق الْمجَاز، وَأما على الْحَقِيقَة فَلَا يلْحقهُ أَذَى من قبل أحد.
وَقَوله: ﴿لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ أَي: طردهم وأبعدهم من رَحمته.
وَقَوله: ﴿وَأعد لَهُم عذَابا مهينا﴾ أَي: يهينهم ويخزيهم.
وَذكر [هُنَا] مقَاتل أَن الْآيَة نزلت فِي قوم كَانُوا يُؤْذونَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَذكر الْكَلْبِيّ أَن الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُنَافِقين كَانُوا يَمْشُونَ فِي الطَّرِيق ويغمزون النِّسَاء.
وَقَوله: ﴿فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي رِوَايَة: أَنهم كَانُوا يتعرضون للإماء، وَلَا يتعرضون للحرائر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن﴾ أَي: يشتملن بالجلابيب، والجلباب
قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: تتغطى الْمَرْأَة بجلبابها فتستر رَأسهَا ووجهها وَجَمِيع بدنهَا إِلَّا إِحْدَى عينيها.
وروى أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة اتخذ نسَاء الْأَنْصَار أكيسة سَوْدَاء واشتملن بهَا فخرجن كَأَن رءوسهن الْغرْبَان.
وَقَوله: ﴿ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين﴾ أَي: يعرفن أَنَّهُنَّ حرائر ﴿فَلَا يؤذين﴾ أَي: لَا يتَعَرَّض لَهُنَّ.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ قد بَينا من قبل.
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا رأى أمة قد تقنعت وتجلببت علاها بِالدرةِ، وَيَقُول: أتتشبهين بالحرائر.
وَقَوله: ﴿والمرجفون فِي الْمَدِينَة﴾ قد كَانَ قوم من الْمُنَافِقين يكثرون الأراجيف، وَكَانَ إِذا خرجت سَرِيَّة أَو غَازِيَة، قَالُوا: قد هزموا وَقتلُوا، ويوقعون بَين الْمُسلمين أَمْثَال هَذِه الْأَشْيَاء؛ لتضعف قُلُوبهم ويحزنوا.
وَقَوله: ﴿لنغرينك بهم﴾ أَي: نسلطنك عَلَيْهِم، ونحملنك على قَتلهمْ.
وَفِي بعض التفاسير: أَن قوما منن الْمُنَافِقين هموا بِإِظْهَار الْكفْر، فَأمر الله تَعَالَى رَسُوله أَن يقتلهُمْ إِذا أظهرُوا.
وَقَالَ السّديّ: من تتبع امْرَأَة فِي طَرِيق وكابرها قتل مُحصنا كَانَ أَو غير مُحصن لهَذِهِ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا﴾ أَي: فِي الْمَدِينَة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ أَي: إِلَّا وقتا قَلِيلا.
وَقَوله: ﴿أَيْنَمَا ثقففوا﴾ مَعْنَاهُ: أَيْنَمَا صدفوا ووجدوا.
وَقَوله: ﴿أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا﴾ فَقَوله: قتلوا تقتيلا، قَالَ السّديّ: (مَا قَالَ)
وَقَوله: ﴿وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا﴾ أَي: تغييرا.
وَقَوله: ﴿قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله﴾ أَي: علم قِيَامهَا عِنْد الله.
وَقَوله: ﴿وَمَا يدْريك﴾ أَي: وَمَا يعلمك؟ أَي: لَا تعلم وَقت قِيَامهَا.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا﴾ أَي: قريبَة.
وَقَوله: ﴿وَأعد لَهُم سعيرا﴾ أَي: نَارا مسعرة.
قَوْله تَعَالَى: { [لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا]
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا﴾ أَي: الرَّسُول، وَذكر الرسولا على مُوَافقَة رُءُوس الْآي على مَا بَينا من قبل.
قَوْله: ﴿فأضلونا السبيلا﴾ أَي: السَّبِيل، وَمَعْنَاهُ: صدونا عَن طَرِيق الْحق.
وَقَوله: ﴿والعنهم لعنا كَبِيرا﴾ أَي: مرّة بعد مرّة، وَقُرِئَ: " كثيرا " بالثاء، وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَالثَّانِي: مَا روى أَنه قسم غنيمَة فَقَامَ رجل وَقَالَ: اعْدِلْ، فَإنَّك لم تعدل، فَقَالَ النَّبِي: " رحم الله مُوسَى؛ لقد أوذي بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبر ".
وَأما الَّذِي أوذي بِهِ مُوسَى فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير مَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " كَانَ مُوسَى رجلا حييا، وَكَانَ لَا يغْتَسل إِلَّا وَحده، وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل يغتسلون عُرَاة ينظر بَعضهم إِلَى (عَورَة
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله: " وَكَأَنِّي بِالْحجرِ ندبا من أثر ضربه أَرْبعا أَو خمْسا ". وَالْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ ".
وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أنزل فِي هَذَا قَوْله [تَعَالَى] :﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى﴾ الْآيَة.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن الْحجر قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى، لم تضربني، إِنَّمَا أَنا عبد مَأْمُور.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: صعد هَارُون ومُوسَى الْجَبَل، فَمَاتَ هَارُون وَنزل مُوسَى وَحده، فَقَالَت لَهُ بَنو إِسْرَائِيل: أَنْت قتلت هَارُون، وَقد كَانَ أَلين جانبا مِنْك وَأحب إِلَيْنَا، فَبعث الله الْمَلَائِكَة حَتَّى حملُوا هَارُون مَيتا إِلَيْهِم، وَتَكَلَّمُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سمعُوا بني إِسْرَائِيل ذَلِك، ثمَّ إِن الْمَلَائِكَة حملُوا هَارُون ودفنوه فَلم يعرف أحد مَوضِع قَبره إِلَّا الرخم، فَجعله الله تَعَالَى أَصمّ أبكم.
وَقَوله: ﴿فبرأه الله مِمَّا قَالُوا﴾ أَي: طهره الله مِمَّا قَالُوا.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ عِنْد الله وجيها﴾ أَي: بتكليمه إِيَّاه، والوجيه فِي اللُّغَة هُوَ ذُو الجاه.
وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ بَعضهم: سديدا، أَي: مُسْتَقِيمًا، يُقَال: سدد أَي: اسْتَقِم، قَالَ زُهَيْر:
(فَقلت لَهُ سدد وَأبْصر طَرِيقه | وَمَا هُوَ فِيهِ عَن وصاتي شاغله) |
وَقَوله: ﴿وَيغْفر لكم ذنوبكم﴾ أَي: يَسْتُرهَا ويعف عَنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما﴾ أَي: ظفر بِالْخَيرِ كُله.
وَأولى الْأَقَاوِيل مَا ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقَول الضَّحَّاك وَأبي الْعَالِيَة قريب من ذَلِك. وَفِي بعض التفاسير: أَن أول مَا خلق الله تَعَالَى من ابْن آدم فرجه وأتمنه عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِن حفظته حفظتك.
وَعَن أبي حَمْزَة السكرِي أَنه قَالَ: إِنِّي أعلم من نَفسِي أَنِّي أؤدي الْأَمَانَة فِي مائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار إِلَى أَن يَنْقَطِع النَّفس، وَلَو باتت عِنْدِي امْرَأَة وأتمنت عَلَيْهَا خفت أَلا أسلم مِنْهَا.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من الْأَمَانَة أَدَاء الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت، والصدق فِي الحَدِيث، وَقَضَاء الدّين، وَالْعدْل فِي المكاييل والموازين، قَالَ: وَأَشد من هَذَا كُله الودائع. وَهَذَا القَوْل قريب من قَول ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ أهل الْعلم: الْأَمَانَة قطب الْإِيمَان، قَالَ النَّبِي: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ ".
وَمن الْأَمَانَة أَن يكون الْبَاطِن مُوَافقا للظَّاهِر، فَكل من عمل عملا يُخَالف عقيدته فقد خَان الله وَرَسُوله. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم﴾ نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر، وَقد كَانَ وضع أُصْبُعه على حلقه، يُشِير إِلَى بني النَّضِير إِنَّكُم إِن نزلتم فَهُوَ الذّبْح، وَقد بَينا.
وَقَوله: ﴿على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال﴾ فِيهِ أَقْوَال:
الأول: وَهُوَ قَول أَكثر السّلف، وَهُوَ المحكي عَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة التَّابِعين: هُوَ أَن الله تَعَالَى عرض أوامره على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال عرض تَخْيِير لَا عرض إِلْزَام، وَقَالَ لَهُنَّ: أتحملن هَذِه الْأَمَانَة بِمَا فِيهَا؟ قُلْنَ: وَمَا فِيهَا؟ ! فَقَالَ: إِن أحسنتن جوزيتن، وَإِن عصيتن عوقبتن، فَقُلْنَ: لَا نتحمل الْأَمَانَة، وَلَا نُرِيد ثَوابًا وَلَا عقَابا، وعرضها على آدم فتحملها بِمَا فِيهَا. وَفِي بعض التفاسير: أَنه قَالَ: بَين أُذُنِي وعاتقي.
قَالَ ابْن جريج: عرض على السَّمَاء، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني سقفا مَحْفُوظًا، وأجريت فِي الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَمَالِي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، ثمَّ عرضهَا على الأَرْض، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني بساطا ممدودا، وأجريت فِي الْأَنْهَار، وَأنْبت فِي الْأَشْجَار، وَمَا لي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، وَذكر عَن الْجبَال قَرِيبا من هَذَا، وجملها آدم وَأَوْلَاده. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال أَن يحملوا الْأَمَانَة، وجملها آدم فَمَا كَانَ بَين أَن حملهَا وخان فِيهَا وَأخرج من الْجنَّة إِلَّا مَا بَين الظّهْر وَالْعصر.
وَحكى النقاش بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: مثلت الْأَمَانَة كصخرة ملقاة،
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرضهَا على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، وَهِي لَا تعقل شَيْئا؟ قُلْنَا: قد بَينا الْجَواب عَن أَمْثَال هَذَا من قبل. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: يحْتَمل أَن الله تَعَالَى خلق فِيهَا عقلا وتمييزا حِين عرض الْأَمَانَة عَلَيْهِنَّ حَتَّى أعقلت الْخطاب، وأجابت بِمَا أجابت.
وَأما قَوْله: ﴿فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا﴾ أَي: لم يقبلُوا حمل الْأَمَانَة وخافوا مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَحملهَا الْإِنْسَان﴾ يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: ظلوما لنَفسِهِ، جهولا بربه، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس. وَالْقَوْل الثَّانِي: ظلوما لنَفسِهِ بِأَكْل الشَّجَرَة، جهولا بعاقبة أمره.
وَعَن جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن المُرَاد بالظلوم الجهول هُوَ الْمُنَافِق والمشرك. وَقد حكى هَذَا عَن الْحسن فِي رِوَايَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي، فِي أصل الْآيَة أَن المُرَاد من الْعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال هُوَ الْعرض على أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض وَأهل الْجبَال وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ أَي: أهل الْقرْيَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث ذكره الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي قَالُوا: إِن الله تَعَالَى ائْتمن آدم وَأَوْلَاده على شَيْء، وأتمن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال على شَيْء، فَأَما الْأَمَانَة فِي حق بني آدم مَعْلُومَة، وَأما الْأَمَانَة فِي حق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَهُوَ بِمَعْنى الخضوع وَالطَّاعَة. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أوكرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾.
وَحكى السُّجُود عَن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب، وَذكر فِي الْحِجَارَة قَوْله: ﴿وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله﴾.
وَقَوله: ﴿فأبين أَن يحملنها﴾ أَي: أدين الْأَمَانَة فِيهَا، يُقَال: فلَان لم يتَحَمَّل الْأَمَانَة أَي: لم يخن فِيهَا.
وَقَوله: ﴿وأشفقن مِنْهَا﴾ أَي: أدين الْأَمَانَة خوفًا مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَحملهَا الْإِنْسَان﴾ أَي: خَان فِيهَا وأثم، يُقَال: فلَان حمل الْأَمَانَة أَي: أَثم فِيهَا بالخيانة، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم﴾ وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا﴾ قد بَينا، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَقد أحسن وأجاد أَبُو إِسْحَاق الزّجاج فِي هَذَا القَوْل وَأثْنى عَلَيْهِ، وَقَول السّلف مَا بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ أَي: يهْدِيهم ويرحمهم إِذا أَدّوا الْأَمَانَة. وَعَن ابْن قُتَيْبَة قَالَ مَعْنَاهُ: ليظْهر الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات، ويعذبهم على الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَيظْهر الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بأَدَاء الْأَمَانَة.
وَقَوله: ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (١) يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج﴾تَفْسِير سُورَة سبأ
وَهِي مَكِّيَّة.
سورة الأحزاب
سورةُ (الأحزاب) من السُّوَر المدنيَّة، وقد تعرَّضتْ لذِكْرِ كثيرٍ من الأحداث والأحكام؛ على رأسِ تلك الأحداثِ قصةُ غزوة (الأحزاب)، وما تعلق بها مِن عِبَرٍ وعِظات؛ كحُسْنِ الظن بالله، والاعتماد عليه، مشيرةً إلى غَدْرِ اليهود، وأخلاقهم الشائنة، كما اشتملت السورةُ على ذكرِ آية الحِجاب، وذكرِ آداب الاستئذان، والدخول على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخُتِمت السورةُ بكثيرٍ من التوجيهات والعِظات للمؤمنين.
ترتيبها المصحفي
33نوعها
مدنيةألفاظها
1303ترتيب نزولها
90العد المدني الأول
73العد المدني الأخير
73العد البصري
73العد الكوفي
73العد الشامي
73* قوله تعالى: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اْللَّهِۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي اْلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]:
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ أبا حُذَيفةَ بنَ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمسٍ - وكان ممَّن شَهِدَ بَدْرًا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم - تَبنَّى سالمًا، وأنكَحَه بنتَ أخيه هندَ بنتَ الوليدِ بنِ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ، وهو مولًى لامرأةٍ مِن الأنصارِ؛ كما تَبنَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَن تَبنَّى رجُلًا في الجاهليَّةِ، دعَاه الناسُ إليه، ووَرِثَ مِن ميراثِه، حتى أنزَلَ اللهُ: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ} إلى قولِه: {وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]؛ فرُدُّوا إلى آبائِهم؛ فمَن لم يُعلَمْ له أبٌ، كان مولًى وأخًا في الدِّينِ، فجاءت سَهْلةُ بنتُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو القُرَشيِّ ثم العامريِّ - وهي امرأةُ أبي حُذَيفةَ بنِ عُتْبةَ - النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا نرى سالمًا ولدًا، وقد أنزَلَ اللهُ فيه ما قد عَلِمْتَ...» فذكَر الحديثَ. أخرجه البخاري (5088).
* قوله تعالى: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23]:
عن حُمَيدٍ الطَّويلِ، عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «غابَ عَمِّي أنسُ بنُ النَّضْرِ عن قتالِ بَدْرٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، غِبْتُ عن أوَّلِ قتالٍ قاتَلْتَ المشرِكين، لَئِنِ اللهُ أشهَدَني قتالَ المشرِكين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنَعُ، فلمَّا كان يومُ أُحُدٍ، وانكشَفَ المسلمون، قال: اللهمَّ إنِّي أعتذِرُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني أصحابَه -، وأبرَأُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني المشرِكين -، ثم تقدَّمَ، فاستقبَلَه سعدُ بنُ مُعاذٍ، فقال: يا سعدُ بنَ مُعاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أجدُ رِيحَها مِن دُونِ أُحُدٍ، قال سعدٌ: فما استطَعْتُ يا رسولَ اللهِ ما صنَعَ». قال أنسٌ: «فوجَدْنا به بِضْعًا وثمانينَ ضَرْبةً بالسَّيفِ، أو طَعْنةً برُمْحٍ، أو رَمْيةً بسَهْمٍ، ووجَدْناه قد قُتِلَ، وقد مثَّلَ به المشرِكون، فما عرَفَه أحدٌ إلا أختُه ببنانِه». قال أنسٌ: كنَّا نُرى أو نظُنُّ أنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ فيه وفي أشباهِه: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23] إلى آخرِ الآيةِ». وقال: «إنَّ أختَه - وهي تُسمَّى الرُّبَيِّعَ - كسَرتْ ثَنِيَّةَ امرأةٍ، فأمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصاصِ، فقال أنسٌ: يا رسولَ اللهِ، والذي بعَثَك بالحقِّ، لا تُكسَرُ ثَنِيَّتُها، فرَضُوا بالأَرْشِ، وترَكوا القِصاصَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن عبادِ اللهِ مَن لو أقسَمَ على اللهِ لَأبَرَّه»». أخرجه البخاري (٢٨٠٥).
* قوله تعالى: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]:
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، قال: «شغَلَنا المشرِكون يومَ الخَنْدقِ عن صلاةِ الظُّهْرِ حتى غرَبتِ الشَّمْسُ، وذلك قبل أن يَنزِلَ في القتالِ ما نزَلَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]، فأمَرَ بِلالًا فأذَّنَ وأقامَ فصلَّى الظُّهْرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العصرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى المغربَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العِشاءَ». أخرجه النسائي (٦٦١).
* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْلْحَيَوٰةَ اْلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَاْلدَّارَ اْلْأٓخِرَةَ فَإِنَّ اْللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 28-29]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لم أزَلْ حريصًا على أن أسألَ عُمَرَ رضي الله عنه عن المرأتَينِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَينِ قال اللهُ لهما: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]، فحجَجْتُ معه، فعدَلَ وعدَلْتُ معه بالإداوةِ، فتبرَّزَ حتى جاءَ، فسكَبْتُ على يدَيهِ مِن الإداوةِ فتوضَّأَ، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، مَن المرأتانِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتانِ قال اللهُ عز وجل لهما: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]؟ فقال: واعجبي لك يا بنَ عبَّاسٍ! عائشةُ وحَفْصةُ، ثمَّ استقبَلَ عُمَرُ الحديثَ يسُوقُه، فقال:
إنِّي كنتُ وجارٌ لي مِن الأنصارِ في بني أُمَيَّةَ بنِ زيدٍ، وهي مِن عوالي المدينةِ، وكنَّا نتناوَبُ النُّزولَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيَنزِلُ يومًا وأنزِلُ يومًا، فإذا نزَلْتُ جِئْتُه مِن خَبَرِ ذلك اليومِ مِن الأمرِ وغيرِه، وإذا نزَلَ فعَلَ مِثْلَه، وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على الأنصارِ إذا هم قومٌ تَغلِبُهم نساؤُهم، فطَفِقَ نساؤُنا يأخُذْنَ مِن أدبِ نساءِ الأنصارِ، فصِحْتُ على امرأتي، فراجَعتْني، فأنكَرْتُ أن تُراجِعَني، فقالت: ولِمَ تُنكِرُ أن أُراجِعَك؟! فواللهِ، إنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُراجِعْنُه، وإنَّ إحداهنَّ لَتهجُرُه اليومَ حتى اللَّيلِ، فأفزَعَني، فقلتُ: خابَتْ مَن فعَلَ منهنَّ بعظيمٍ، ثم جمَعْتُ عليَّ ثيابي، فدخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: أيْ حَفْصةُ، أتُغاضِبُ إحداكنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليومَ حتى اللَّيلِ؟ فقالت: نَعم، فقلت: خابَتْ وخَسِرتْ! أفتأمَنُ أن يَغضَبَ اللهُ لغضَبِ رسولِه صلى الله عليه وسلم فتَهلِكِينَ؟! لا تَستكثري على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تُراجِعيه في شيءٍ، ولا تهجُريه، واسأليني ما بدا لكِ، ولا يغُرَّنَّكِ أن كانت جارتُك هي أوضأَ منك، وأحَبَّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -.
وكنَّا تحدَّثْنا أنَّ غسَّانَ تُنعِلُ النِّعالَ لغَزْوِنا، فنزَلَ صاحبي يومَ نَوْبتِه، فرجَعَ عِشاءً، فضرَبَ بابي ضربًا شديدًا، وقال: أنائمٌ هو؟! ففَزِعْتُ، فخرَجْتُ إليه، وقال: حدَثَ أمرٌ عظيمٌ، قلتُ: ما هو؟ أجاءت غسَّانُ؟ قال: لا، بل أعظَمُ منه وأطوَلُ، طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: قد خابَتْ حَفْصةُ وخَسِرتْ، كنتُ أظُنُّ أنَّ هذا يُوشِكُ أن يكونَ، فجمَعْتُ عليَّ ثيابي، فصلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدخَلَ مَشرُبةً له، فاعتزَلَ فيها، فدخَلْتُ على حَفْصةَ فإذا هي تَبكِي، قلتُ: ما يُبكِيكِ؟ أوَلَمْ أكُنْ حذَّرْتُكِ؟! أطلَّقَكنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! هو ذا في المَشرُبةِ، فخرَجْتُ، فجِئْتُ المِنبَرَ، فإذا حَوْلَه رَهْطٌ يَبكِي بعضُهم، فجلَسْتُ معهم قليلًا، ثم غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ المَشرُبةَ التي هو فيها، فقلتُ لغلامٍ له أسوَدَ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فدخَلَ، فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم خرَجَ، فقال: ذكَرْتُك له فصمَتَ، فانصرَفْتُ حتى جلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ، فذكَرَ مِثْلَه، فجلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ الغلامَ، فقلتُ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فذكَرَ مِثْلَه، فلمَّا ولَّيْتُ منصرِفًا، فإذا الغلامُ يَدْعوني، قال: أَذِنَ لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدخَلْتُ عليه، فإذا هو مضطجِعٌ على رمالِ حصيرٍ ليس بَيْنه وبَيْنه فِراشٌ قد أثَّرَ الرِّمالُ بجَنْبِه، متَّكِئٌ على وسادةٍ مِن أَدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ، فسلَّمْتُ عليه، ثم قلتُ وأنا قائمٌ: طلَّقْتَ نساءَك؟ فرفَعَ بصَرَه إليَّ، فقال: «لا»، ثم قلتُ وأنا قائمٌ أستأنِسُ: يا رسولَ اللهِ، لو رأَيْتَني وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على قومٍ تَغلِبُهم نساؤُهم، فذكَرَه، فتبسَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم قلتُ: لو رأَيْتَني، ودخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: لا يغُرَّنَّكِ أنْ كانت جارتُكِ هي أوضأَ منكِ وأحَبَّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -، فتبسَّمَ أخرى، فجلَسْتُ حينَ رأَيْتُه تبسَّمَ، ثم رفَعْتُ بصَري في بيتِه، فواللهِ ما رأَيْتُ فيه شيئًا يرُدُّ البصَرَ غيرَ أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلتُ: ادعُ اللهَ فَلْيُوسِّعْ على أُمَّتِك؛ فإنَّ فارسَ والرُّومَ وُسِّعَ عليهم، وأُعطُوا الدُّنيا وهم لا يعبُدون اللهَ، وكان متَّكِئًا، فقال: «أوَفِي شكٍّ أنتَ يا بنَ الخطَّابِ؟! أولئك قومٌ عُجِّلتْ لهم طيِّباتُهم في الحياةِ الدنيا»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، استغفِرْ لي، فاعتزَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ ذلك الحديثِ حينَ أفشَتْهُ حَفْصةُ إلى عائشةَ، وكان قد قال: «ما أنا بداخلٍ عليهنَّ شهرًا»؛ مِن شِدَّةِ مَوْجِدتِه عليهنَّ حينَ عاتَبَه اللهُ، فلمَّا مضَتْ تِسْعٌ وعشرون، دخَلَ على عائشةَ، فبدَأَ بها، فقالت له عائشةُ: إنَّك أقسَمْتَ ألَّا تدخُلَ علينا شهرًا، وإنَّا أصبَحْنا لِتِسْعٍ وعِشْرينَ ليلةً أعُدُّها عدًّا؟! فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرون»، وكان ذلك الشَّهْرُ تِسْعًا وعِشْرينَ، قالت عائشةُ: فأُنزِلتْ آيةُ التَّخييرِ، فبدَأَ بي أوَّلَ امرأةٍ، فقال: «إنِّي ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتى تَستأمري أبوَيكِ»، قالت: قد أعلَمُ أنَّ أبوَيَّ لم يكُونا يأمُرانِي بفِراقك، ثم قال: «إنَّ اللهَ قال: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ} [الأحزاب: 28] إلى قولِه: {عَظِيمٗا} [الأحزاب: 29]»، قلتُ: أفي هذا أستأمِرُ أبوَيَّ؟! فإنِّي أريدُ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ، ثم خيَّرَ نساءَه، فقُلْنَ مِثْلَ ما قالت عائشةُ». أخرجه البخاري (٢٤٦٨).
* قوله تعالى: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ وَاْلْقَٰنِتِينَ وَاْلْقَٰنِتَٰتِ وَاْلصَّٰدِقِينَ وَاْلصَّٰدِقَٰتِ وَاْلصَّٰبِرِينَ وَاْلصَّٰبِرَٰتِ وَاْلْخَٰشِعِينَ وَاْلْخَٰشِعَٰتِ وَاْلْمُتَصَدِّقِينَ وَاْلْمُتَصَدِّقَٰتِ وَاْلصَّٰٓئِمِينَ وَاْلصَّٰٓئِمَٰتِ وَاْلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَاْلْحَٰفِظَٰتِ وَاْلذَّٰكِرِينَ اْللَّهَ كَثِيرٗا وَاْلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اْللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةٗ وَأَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 35]:
عن أُمِّ عطيَّةَ نُسَيبةَ بنتِ كعبٍ رضي الله عنها: أنَّها أتت النبيَّ ﷺ، فقالت: «ما أرى كلَّ شيءٍ إلا للرِّجالِ، وما أرى النِّساءَ يُذكَرْنَ بشيءٍ»؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ} [الأحزاب: 35] الآيةَ. أخرجه الترمذي (٣٢١١).
* قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «جاء زيدُ بنُ حارثةَ يشكو زَيْنَبَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ عليك أهلَك»؛ فنزَلتْ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]». أخرجه ابن حبان (٧٠٤٥).
* قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ هذه الآيةُ في زَيْنَبَ بنتِ جحشٍ {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]، قال: فكانت تَفخَرُ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تقولُ: زوَّجَكنَّ أهلُكنَّ، وزوَّجَني اللهُ مِن فوقِ سَبْعِ سمواتٍ». أخرجه الترمذي (3213).
* قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]:
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كنتُ أغارُ على اللاتي وهَبْنَ أنفُسَهنَّ لرسولِ اللهِ ﷺ، وأقولُ: تَهَبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]، قالت: قلتُ: واللهِ، ما أرى رَبَّك إلا يُسارِعُ في هواك». أخرجه البخاري (٤٧٨٨).
* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَاْدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَاْنتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَـْٔنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اْلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِۦ مِنكُمْۖ وَاْللَّهُ لَا يَسْتَحْيِۦ مِنَ اْلْحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اْللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اْللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]:
عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ، دعَا القومَ، فطَعِموا ثمَّ جلَسوا يَتحدَّثون، وإذا هو كأنَّه يَتهيَّأُ للقيامِ، فلَمْ يقُوموا، فلمَّا رأى ذلك قامَ، فلمَّا قامَ قامَ مَن قامَ، وقعَدَ ثلاثةُ نفَرٍ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيدخُلَ فإذا القومُ جلوسٌ، ثمَّ إنَّهم قاموا، فانطلَقْتُ فجِئْتُ فأخبَرْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قد انطلَقوا، فجاءَ حتى دخَلَ، فذهَبْتُ أدخُلُ، فألقى الحِجابَ بَيْني وبَيْنه؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيةَ». أخرجه البخاري (٤٧٩١).
* سورةُ (الأحزاب):
سُمِّيت سورةُ (الأحزاب) بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ أحزابِ المشركين مِن قُرَيشٍ وغطَفانَ وبعضِ العرب، الذين تَحزَّبوا واجتمعوا لغَزْوِ المسلمين بالمدينة، فردَّ اللهُ كيدهم في غزوة (الأحزاب) المعروفة.
اشتمَلتْ سورةُ (الأحزاب) على الموضوعات الآتية:
1. أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، والتوكل عليه (١-٣).
2. تصحيح مفاهيمَ اجتماعية خاطئة (٤-٥).
3. وَلاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم العامة، وأخذُ اللهِ الميثاقَ من النبيِّين عليهم السلام (٦-٨).
4. قصة غزوة (الأحزاب) (٩-٢٠).
5. الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة الحسنة، وأصحابه نجومٌ يُهتدى بها (٢١-٢٤).
6. نتيجة المعركة، وغدر اليهود (٢٥-٢٧).
7. النبي مُحمَّد صلى الله عليه وسلم (٢٨-٥٩) .
8. مع زوجاته رضوان الله عليهم (٢٨-٣٤) .
9. المساواة بين الرجال والنساء في التكليف والجزاء (٣٥).
10. قصته صلى الله عليه وسلم مع زينبَ رضي الله عنها (٣٦-٣٩).
11. خاتمُ النبيِّين وبعض صفاته (٤٠-٤٨) .
12. خصائصه في أحكام الزواج (٤٩-٥٢).
13. آداب دخول بيته، والأمر بالحِجاب (٥٣-٥٥).
14. مكانتُه، وحرمة إيذائه (٥٦- ٥٨).
15. حِجاب زوجاته والمرأة المسلمة (٥٩).
16. جزاء المنافقين والكفار (٦٠-٦٨).
17. توجيهاتٌ وعِظات للمؤمنين (٦٩-٧١).
18. عظمة تكليف الإنسان، وحملُه الأمانة (٧٢-٧٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /68).
حثَّتْ سورةُ (الأحزاب) على حُسْنِ الظنِّ بالله، والتوكُّلِ عليه؛ فالله هو صاحبُ الحِكْمة والقوَّة والقُدْرة، وهو المتصرِّفُ في الكون، يَعلَم ما يصلحُ للخلائق، ويُدبِّر لهم أحسَنَ تدبير؛ فيُعلِي شأنَ من يشاء، ويَخفِض شأنَ من يشاء.
وتسميتُها بـ(الأحزاب) أوضحُ دليلٍ على ذلك؛ بتأمُّل القصة التي أشارت إليها، ودلَّتْ عليها.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /370).